رواية حتى اقتل بسمة تمردك (1) الفصل الحادي و العشرون 21 - بقلم مريم غريب
ركضت"داليا"مهرولة خارج محيط القصر و هي تفر كالعمياء لتختفي عن متناوله تماما ، كان الليل قد أرخي سدوله ، لكن القمر أضاء لها مواطئ قدميها علي الطريق أمامها ، و هكذا مضت تعدو مهرولة و لم تتوقف إلا مرة واحدة لكي تنزع حذائها الضيق الذي كان يعرقل خطواتها لدي ركضها علي الحصي المنتشر و المتداخل بين الرمال ..
لم تدرك مدي حماقة هروبها إلا حين هطل عليها المطر الغزير و هي وحيدة تماما بالطريق ، شعرت بشيء من الخوف يحثها علي العودة ، لكن جاء رد عقلها عنيفا آمرا إياها بمواصلة ما عزمت علي تنفذيه ، ثم فجأة أصدر هاتفهها نغمته الصاخبة معلنا عن وصول رسالة جديدة ، أخرجته من جيب كنزتها الصوفية بيد مرتعشة ، ثم فتحت الرسالة ، كان هو المرسل ، رسالته وجيزة و مقضتبة ، و منها علمت"داليا"كم هو غاضب و خطير الأن .. كانت الرسالة مقتصرة علي كلمتين"انتي فين" ..
بعد أن قرأت الرسالة فكرت مذعورة بأنه محتمل جدا وصوله إليها بأي لحظة ، شعرت أنه سيلحق بها خلال لحظات و هي ما زالت علي بعد مسافة قصيرة من القصر ، تحاملت علي نفسها و إندفعت راكضة من جديد ، كانت تزداد قوة كلما تذكرت تلك الرسالة التي وصلتها من"جومانة"منذ قليل ، و التي كانت تحتوي علي صورة لها مع"عز الدين"في وضع مخزي ، حيث كانا يتبادلان القُبل بحرارة ، ثم فجأة لم تستطع أن تري شيئا ، إذ غمرت الدموع عينيها ، فتعثرت قدمها لتنكفأ أرضا علي وجهها ، تلطخت ثيابها بالوحل كما تلطخت بشرتها أيضا ، لم تستطع الحراك ، إذ أن البرودة التي شعرت بها جراء الجو الماطر و العاصفة المهيبة جمدت الدماء بعروقها ، حيث تصلب جسدها بهلع ، أطلقت نشيجا مختنقا و أخذت تتضرع إلي الله بأن لا يتمكن"عز الدين"من العثور عليها ...
و كأن أبواب السماء فُتحت توا لتلبية دعائها ، إذ أنها سمعت صوت إحدي السيارات مقبلة نحوها ، إرتعد جسدها بضعف فهي توقعت أنه وصل إليها ، كان المطر قد توقف عن الهطول ، بينما أدارات رأسها بضعف شديد ، ثم إنتظرت حتي إتضحت الرؤية ، فوجدت إمرأة في أواسط العمر منحنية عليها بإهتمام شديد ، قالت المرأة و هي تمسح الشعر المبلل عن وجه"داليا":
-لا حول و لا قوة إلا بالله .. انتي كويسة يا حبيبتي ؟ مالك ايه اللي حصل ؟ انتي هنا و لا ايه حكايتك بالظبط ؟؟
فشلت"داليا"في إخراج كلمة واحدة من حنجرتها ، فأرخت رأسها تعبة ، فيما أمسكت بها المرأة دون تفكير و ساعدتها بجهد كبير إلي أن وقفت علي قدميها ، فسارت بها حتي وصلا إلي السيارة ، فأجلستها بالمقعد الخلفي ، ثم إستدارت و أخذت مكانها علي المقعد الأمامي خلف المقود ثم شغلت المحرك قائلة:
-ماتقلقيش .. هوديكي المستشفي.
أغمضت"داليا"عينيها بضعف ثم ألقت برأسها إلي الخلف ، توالت رعشاتها و شعرت بأن الحمي أصابتها ، أخذت تنتحب بصمت إلي أن توقفت السيارة بصورة تدريجية بعد مدة قصيرة ، عجزت عن فتح عينيها و لكنها جاهدت و فتحتهما قليلا ، فرأت لجنة أمنية من خلال زجاج السيارة الأمامي ، عادت تغمض عينيها بوهن من جديد و هي عاجزة تماما عن الحراك ، فيما سمعت حديث رجل الشرطة مشوش لم تستطع تمييز جملة واحدة ...
و بعد مرور عدة دقائق قليلة جدا ،شعرت فجأة بيدين تحملانها من السيارة بلطف حازم ، فتحت عينيها بجهد لتكتشف أنه أدركها أخيرا ، مهما فعلت لن تفلح محاولاتها في الهرب منه أبدا ، شعورها بالصدمة و الخوف ألجم لسانها الثقيل ، فتأوهت بخفوت و ألقت رأسها علي صدره الصلب حيث إستنشقت عطره الرجولي الذي كان له التأثير الأكبر في تهدئة أعصابها قليلا ..
بينما وقف للحظات فسمعته يشكر الشرطي الذي أجابه بلطف:
-دي اقل حاجة ممكن اعملها يا عز الدين بيه .. حمدلله علي سلامة المدام.
سمعت"داليا"صوت"عز الدين"و هو يشكر الشرطي مرة أخري علي إهتمامه بالأمر ، و عندما سار بها بإتجاه السيارة دفنت رأسها في صدره متعبة و منهكة القوي ، اللعنة .. خاطبت نفسها .. لا تزال تشعر بالدفء داخل أحضانه ، كيف ؟ .. و لكن رغم ذلك لم تنطفئ نيران الغيرة و الغضب المتأججة بصدرها تجاهه ... :
-مجنونة ! غبية.
همس في أذنها بحنق و هو يضعها في المقعد الأمامي من سيارته ، ثم أضاف مزمجرا:
-عايزاني اعمل فيكي ايه دلوقتي ؟؟
لم تجد جوابا ، بل إكتفت بالإستلقاء في مقعدها صامتة ، و طوال الطريق إلي القصر لم تكن تسمع سوي صوت تنفسه الغاضب .. و عندما حملها مرة أخري لدي وصولهم إلي القصر ، إستسلمت إليه بشعور المهزوم الضعيف الذي لا يملك حولا و لا قوة ، بينما هرعت"ياسمين"مهرولة من الداخل بإتجاه شقيقتها قائلة في وجل:
-داليا .. ايه اللي حصلك يا حبيبتي ؟ و مالك متبهدلة كده ليه ؟ ايه اللي خرجك اصلا و انتي تعبانة ؟؟
لم تستطع"داليا"الرد علي شقيقتها ، فأجاب عنها"عز الدين"في هدوء قائلا:
-ماتقلقيش يا ياسمين هتبقي كويسة.
و في غضون دقائق معدودة كانت ممدة علي الفراش عاجزة خائفة ، متوترة من عودتها إليه و قلقة من مواجهته .. وقف"عز الدين"إلي جانبها ، بينما جلست"ياسمين"قربها ثم تحسست جبهتها قائلة:
-يا خبر .. انتي حرارتك عالية اوي .. ايه اللي انتي عملتيه في نفسك ده بس ؟ يعني لو كان حصل اي حاجة للبيبي كنتي هتتبسطي ؟؟
إرتعد جسدها بقوة جراء قول شقيقتها ، فحولت نظرها إليها في صدمة متسائلة:
-بيبي !!
-ايوه يا داليا .. انتي حامل و بتصرفك ده كان ممكن تفقدي طفلك .. انا مش فاهمة ايه اللي خلاكي تعملي كده بس ! ليه سيبتي البيت فجأة ؟!
صمتت"داليا"ذاهلة ، بينما هتف"عز الدين"بصوته العميق:
-طيب انا هاسيبكوا مع بعض شوية.
حولت"ياسمين"نظرها إليه قائلة:
-تمام انا هساعدها تغير هدومها و هديها علاج مخفض لحرارة.
أومأ"عز الدين"رأسه عابسا ، ثم مضي تاركا الغرفة بأكملها بعد أن أغلق الباب من خلفه .. فتنهدت"ياسمين"بعمق ثم إلتفتت إلي شقيقتها و مسحت علي شعرها قائلة:
-ايه يا داليا .. ايه اللي حصل يا حبيبتي ؟ ليه سيبتي البيت بالطريقة دي و انتي تعبانة كده ؟؟
هزت"داليا"رأسها بضعف ثم نطقت بصعوبة قائلة:
-ياسمين .. لو سمحتي انا مش قادرة اتكلم دلوقتي خالص.
زمت"ياسمين"شفتيها بقلة حيلة ثم قالت:
-ماشي يا داليا .. براحتك .. بس واضح ان في شيء خطير حصل و هو اللي دفعك للتصرف ده .. انا مش عايزة اعرف ايه اللي حصل لكن عايزاكي انتي تعرفي ان انا جنبك دايما .. عشان كده لو حصل معاكي اي حاجة تانية بعد كده ضايقتك بالشكل ده ارجوكي ماتكرريش اللي عملتيه انهاردة تاني و تعالي اتكلمي معايا .. شاركيني يا حبيبتي انا اختك و مش هضرك اي مشكلة هنحلها احنا الاتنين .. بدل ما يبقي رأي واحد و قرار واحد يبقي رأينا احنا الاتنين و قرارنا احنا الاتنين .. علي الاقل عشان ماتقلقنيش عليكي زي ماعملتي انهاردة.
تنهدت"داليا"بثقل ثم أومأت رأسها موافقة ، فمنحتها شقيقتها إبتسامة بسيطة ، ثم نهضت و ساعدتها علي الوقوف .. أخذتها"ياسمين"إلي الحمام ثم ساعدتها علي تبديل ملابسها و هي تقول:
-انتي بقي ماشوفتيش عز الدين بتاعك ده كان عامل ازاي لما اكتشف انك مش موجودة في البيت كله .. كان فاضله شوية و يتحول علي الكل بمجرد ما كان بيتخيل ان ممكن يكون حصلك حاجة وحشة لا قدر الله.
كانت"داليا"أكثر إرهاقا من أن ترد علي مداعبة"ياسمين"التي تابعت بصدق:
-كان قلقان عليكي اوي .. ماسبش حد الا و سأله عليكي و بهدل الناس الواقفين علي البوابة بصراحة قلب الدنيا لحد ما جاتله مكالمة عنك فجري عليكي بسرعة .. صحيح انتي كنتي فين ؟؟
تجاهلت"داليا"سؤالها ، بينما صمتت"ياسمين"من أجل راحة شقيقتها ، ثم عادت بها إلي الغرفة ، و عندما إستقرت"داليا"بالفراش في هدوء تحسست"ياسمين"جبينها ثم قالت:
-لأ حرارتك انخفضت الحمدلله .. مش هتحتاجي لدوا .. احسن.
دخل"عز الدين"في تلك اللحظة قائلا:
-تقدري تتفضلي انتي دلوقتي يا ياسمين .. انا هاخد بالي منها.
ألقت"ياسمين"نظرة أخيرة علي شقيقتها ثم نهضت منسحبة في هدوء ، بينما إقترب"عز الدين"منها قائلا بوجوم:
-ازيك دلوقتي ؟؟
إزدردت ريقها في توتر قائلة:
-كويسة .. طول ما انت بعيد عني.
لم يعلق علي كلامها ، بل قال بإقتضاب:
-طب قبل ما افقد اعصابي يا ريت تقوليلي سيبتي البيت منغير اذني ليه ؟ و كنتي رايحة علي فين ؟؟
ثم جلس إلي جانبها علي طرف الفراش ، فتمتمت بإرهاق:
-مهتم اوي يعني ! بلاش نضحك علي بعض و بلاش تمثل انك قلقان عليا.
-داليا !
هتف بحدة ثم تابع:
-جاوبي علي اد السؤال .. سيبتي البيت منغير اذني ليه ؟ و كنتي رايحة علي فين ؟؟
-زي ما قلتلك قبل كده .. مابقتش طايقاك و مش عايزة اعيش معاك.
قالت محاولة إستفزازه ، فنجحت محاولتها حيث قبض علي ذراعيها بعنف قائلا بنعومة شرسة:
-ماتخلنيش اتخلي عن هدوئي و جاوبيني احسنلك.
أجابته متألمة:
-انت قاسي .. قلبك اسود و مابتحبش الا نفسك.
أغمض عينيه بقوة محاولا ضبط إنفعالاته ، بينما تابعت:
-انت عايز مني ايه تاني ؟ مش خلاص خدت اللي انت عايزه ؟ ليه بتربطني بيك اكتر ؟؟
كانت قد بدأت تتحدث دون وعي و قد إستولي عليها الإرهاق فأضافت:
-بكرهك .. انت عمرك ما احترمتني حتي .. بالعكس دايما بتوجهلي اهانات.
تنهد بثقل ثم قال:
-انا مابحبش اهينك يا داليا .. انتي اللي بضطريني بتصرفاتك.
سالت دموعها ثم هزت رأسها بمرارة قائلة:
-انت قصدت تهيني .. قصدت تذلني .. و انا كنت دايما بسكت عشان ...
صمتت فجأة ، ثم أغمضت عينيها و قالت بنعاس:
-انت ليه قاعد معايا هنا ؟ روح .. روح لجومانة .. هي مناسبة ليك اكتر مني و علي الاقل انت بتحبها و مش بتكرهها زي ما بتكرهيني.
تنهد قائلا:
-انا مش بكرهك يا داليا.
فتحت عينيها و نظرت ناعسة إلي وجهه الغامض ، ثم رفعت يدها تتحسس لحيته الخفيفة ثم همست:
-بحبك.
لمست أناملها تفاحة آدم خاصته ، ثم إنزلقت إلي صدره قبل أن تسقط إلي جانبها و قد غرقت تماما في النوم ...
بينما زفر بقوة و هو يصارع مشاعره المتأججة داخله ، ثم دثرها جيدا و مسح شفتيها بأصبعه هامسا:
-و انا كمان بحبك يا داليا.
-طب و بعدين ؟؟
وجهت"ريم"سؤالها إلي"عبير"و هي تخاطبها عبر الهاتف فأجابتها"عبير":
-مافيش جديد صدقيني .. بس من وقتها بقي يعاملني كويس شوية .. فاهمة ؟!
-فاهمة فاهمة .. في تطور يا بيرو و ده معناه انه لسا بيحبك.
-لسا بيحبني ؟ تفتكري يا ريم ؟؟
-اكيد .. اومال تفسري بإيه خوفه و قلقه عليكي ؟؟
هزت"عبير"كتفيها قائلة:
-ممكن اكون صعبت عليه .. بس مافتكرش انه لسا بيحبني يا ريم .. و مافتكرش بردو انه بيكرهني لانه لو كان بيكرهني عمره ما كان قبل يتجوزني بعد ما عرف كل جاجة.
-طب ما انتي رديتي علي نفسك اهو يا بيرو .. هو بردو لو ماكنش بيحبك ماكنش قبل يتجوزك بعد ما عرف كل حاجة.
أجابتها بحيرة:
-بس هو قالي انه اتجوزني عشان يحميني من عز الدين.
-بصي يا عبير .. هو واخد موقف زيه زي اخواتك بس لانه بيحبك من زمان و انا اكتر واحدة شاهدة علي كده ببعاملك دلوقتي بلطف رغم كل اللي حصل فطبيعي و عادي لو لاقتيه جاف معاكي في معظم الاوقات .. بس الاكيد انه بيحبك اصبري شوية و الامور كلها هتبقي تمام .. ده اول واحد هيفتح دراعته و ياخدك في حضنه يا عبير و هتقولي ريم قالت.
تنهدت"عبير"مفكرة ، و بعد أن أنهت الإتصال مع صديقتها سمعت طرقا علي باب الغرفة ، فأذنت بالدخول لينفتح الباب و يظهر"خالد" ... :
-صباح الخير.
حياها عابسا ، فإبتسمت ببساطة و حيته بدورها:
-.
-عايزك دقيقتين تحت.
أومأت رأسها باسمة ، فإنسحب في هدوء ، بينما نهضت من فراشها ثم لحقت به علي الفور ..
كان يجلس فوق مقعد وثير بقاعة الجلوس الصغيرة حين رآها ، فحدق فيها لبرهة دعاها للجلوس في هدوء قائلا:
-اقعدي.
جلست قبالته و التوتر يعصف بها فتساءلت .. تري ما الأمر ؟ .. بينما مد جسده إلي الأمام ثم تنهد قائلا:
-انا هكلم عز الدين دلوقتي .. مش هقدر اخليكي تروحيله الفترة دي .. بس هحاول اخليه يكلمك.
أبتسمت بتوتر ثم أومأت رأسها تحثه علي فعل ذلك ، فأمسك بهاتفهه ثم أجري الإتصال بـ"عز الدين"بعد أن فتح مُكبر الصوت ، ليأتي صوت"عز الدين"الصارم بعد لحظات:
-ايوه يا خالد.
فنطق"خالد"و هو يرمش بشيء من الإضطراب:
-ازيك يا عز عامل ايه ؟؟
-تمام الحمدلله .. ايه خير في حاجة ؟؟
إزدرد"خالد"ريقه بتوتر قائلا:
- عـ عبير كانت عايزة تكلمك.
مرت لحظات مشحونة بالترقب من قبل"عبير"و بالتوتر من قبل"خالد"ليقطع"عز الدين"الصمت حين صاح بغضب مزمجرا:
-عبير ماتت.
ثم أغلق الخط ، فخيم الصمت علي الأجواء المتوترة ، بينما شارفت"عبير"علي البكاء ، فهبت واقفة ثم ركضت مسرعة إلي الأعلي ، و قفت هناك في منتصف الغرفة تتذكر كلام أخيها .. تمنت في تلك اللحظة أن تخر صريعة و يتحقق كلام"عز الدين"بفناءها .. حرارة تجتاحها ، تمنت لو أنها لم تطلب من"خالد"أبدا أن يصل بينها و بين أخويها ، ليتها لم تطلب ..
تجمدت بمكانها كصنم خاليا من الروح ، و لم تكترث لنداء"خالد"الذي دلف لتوه ، بينما تقدم نحوها بخطي واسعة ثم أمسك بذراعها و أدارها إليه لتواجهه ، ليتجمد و تتلاشي الكلمات علي شفتيه ، هالته دموعها و نظرة الإنكسار بعينيها ، فأعتق ذراعها لتترنح بين ذراعيه ، و تلقي رأسها علي صدره .. إضطربت أنفاسه لوهلة بينما نطفت بنبرة مرتجفة:
-عبير ماتت !!
أصر"عز الدين"علي أن تلازم"داليا"الفراش حتي يصبح الجنين في مأمن من أي خطر قد يتعرض إليه ، و كم كانت دهشتها أنه مهتم لأمر طفلهما ، رغم أنها عارضت في البداية إستمرارية مكوثها بالغرفة و الفراش لكنها إستسلمت تماما في النهاية إلي رعاية شقيقتها و"فاطمة"إذ أن "عز الدين"أطلق عليهن آوامر صارمة بالعناية بها ، كانت تبتسم رغما عنها في معظم الأوقات عندما تتذكر كلام شقيقتها عنه ، فقد عرفت منها كيف جن جنونه عندما غادرت القصر دون أن يعرف طريقا لها ، كما كانت تشعر بالغضب و بالغيرة القاتلة عندما تتراءي لها صورته المخزية مع"جومانة" .. لولا أنها أصبحت تحمل طفله بأحشائها لكانت صممت بقوة علي مفارقته مهما كلف الأمر ، لكن بات الأمر صعب الأن ، صحيح أنها سعيدة لكونها حملت بطفله فهو الرجل الذي تحب ، هو حبيبها رغم كل شيء ، و لكنها حزينة أيضا لأنها تدرك تماما بأنه لن يتغير أبدا ، سيبقي هو كما هو ، ذلك الرجل القاس المتغطرس و الطاغية ..
و الذي آلمها في تلك اللحظة ، تفكيرها في أن علاقته بـ"جومانة"سوف تظل قائمة ، تدفقت الدماء في شرايينها و هي تحس بإنها طُعنت في صميم كرامتها و مشاعرها ، لقد أزعنت إلي كافة طلباته و رغباته و رغم ذلك جرحها ، في حين كانت تغفر له ، و لكن مهما كان الأمر ، سواء دفعتها الأقدار إلي هذا الطريق أو أن حظها العاثر هو الذي أوصلها إلي هنا ، فإنها تواجه رجلا غريبا في ماضيه و حاضره .. تساءلت بألم عميق .. ما دامت"جومانة"تثيره و ترضيه إلي ذلك الحد ، لماذا إذن لم يكتفي بها أو يطلبها للزواج ؟ .. تحول فجأة آلمها إلي نوع من اللوم و العتاب الداخلي الناتج عن شعورها بالخجل الذاتي ، كان عليها أن لا تصل إلي هذا الحد ، بل كان عليها أن لا تمنحه حتي و لو دقيقة واحدة من وقتها منذ أن طلبها بطريقة غير شرعية ، كان عليها أن تنسي أمره منذ ذلك الحين ، كان عليها أن تقسو علي قلبها و أن تتوقف عن حبه ، لطالما إعتبرت نفسها دائما فتاة ذات إرادة و شخصية قوية و لكنه أثبت لها العكس عندما إلتقت به ..
و لكن رغم كل شيء .. ليس هناك شيئا يمكن أن يزيل من ذهنها صورته مع"جومانة"في مشهد القبلة الساخنة ... !
عاد إلي المنزل باكرا ، توقع أن يجدها بالمطبخ تعد وجبة العشاء كعادتها ، و لكنه لم يجدها في أي مكان بالطابق الأسفل ، فتنهد بثقل ثم حل ربطة عنقه بضيق و صعد إلي غرفته كي يبدل ملابسه ، ثم ذهب إلي غرفتها بعد تردد ، فهو إعتاد علي رؤيتها لدي عودته من العمل في كل يوم ، طرق باب الغرفة عدة مرات و لكنها لم تجب ، فإستنتج أنها ربما تكون نائمة ، فإدار المقبض ثم دفع الباب بحذر ، و كم كانت دهشته حين رآي الغرفة خاوية .. عند ذلك دلف و جال هنا و هناك باحثا عنها ، حتي وصل إلي الحمام ، فطرق الباب و لم يحصل علي إجابة ، فحاول أن يفتحه و لكنه مغلق من الداخل .. ساوره القلق فأخذ يطرق الباب بقوة و هو يهتف بقلق متسائلا:
-عبير !!
ظل ينادي بأسمها دون فائدة فعصف القلق به ، و لم يجد سوي أن يدفع الباب بجسده حتي يُفتح ، و بالفعل دفعه عدة مرات حتي نجح الأمر ، ليقف مصدوما حين وقعت عيناه علي جسدها المنسدح أرضا و علي ذاك السيل الدامي المتدفق من شق عميق بمعصمها الأيمن ..
هرع عليها و الرعب يعصف بكافة خلايا جسده ثم جثي علي ركبتيه إلي جانبها و أمسك بذراعيها صائحا:
-عبييييير ... !!
- يتبع الفصل التالي اضغط على (حتى اقتل بسمة تمردك) اسم الرواية