رواية قارب الموت الفصل التاسع 9 - بقلم مريم الجنيدي
«٩- إختناق»
هل تعلم شعور أنك في فقعة من الهواء ألوانها تسحر العين تطير بك فوق أرض الأحلام تجعل لعينك تتسع انبهارًا لكن بدون سابق إنذار تتلاشى الفقعة و تسقطك بدلاً من أرض الأحلام إلى أرض الأشواك و السراب و يتحول لونها المبهج إلى رمادي لا معنى له باهت و اسود كئيب هذا ما حدث بكل اختصار هذا هو شعوري
أغمض أعينه بألم وقد تهدلت اكتافة بخيبة على الرغم من توقعه بأن هذا ما سيحدث لكن تظل صفعة الحقيقة مؤلمة أكتر من ألف فكرة في الخيال
نظر للريس أمامه بألم وحاول إخراج الكلمات من فمه لكنها تخرج كأنصال حادة تذبح حلقه
"مش هعرف أجيب فلوس"
أبتسم الريس ببرود وهو يردف
"يبقى نرميك فى البحر للقروش و نفضي مكان لغيرك"
ترتجف جسد عمار من مجرد التخيل، هل ينتهي به الطريق طعام للقروش!!!
انتفض يقول بارتجاف
"لا استنى ثواني هعمل مكالمة تانية هتصرف أرجوك"
شعر بالذل من الترجي و انكسار كرامتة فقط ليعيش !
أردف الريس ببرود "معاك دقيقتين و بس"
ابتلع عمار لعابه بوجل و أطرافه ترتجف بخوف يرتعد داخله
ضغط الأرقام و كل رقم ينحر قلبه دون رحمة
و أخيراً بعد عذاب كتابة الأرقام ضغط إتصال و أنتظر الثواني التي مرت كانت بالنسبة له كالقطار الذي يدهش خلاياها حتى أخيرا أستمع لصوتها الحذر
"الو مين"
أين صوته هل هرب صوته مفأر جبان!!
حاول بكل جهده أن يخرج الكلمات من فمه، لتخرج متقطعة متلعثمة
"أنا عمار يا سحر"
"أنت ليك عين تتصل بيا يا بجح بعد اللي عملته"
أسرع يقول بارتباك مرتجف
"سحر سحر اسمعيني ارجوكي مفيش وقت أنا هموت"
"موت ولا غور في ستين داهية عايز اى بعد ما فضحتني في الشارع و فرجت الناس عليا ووقفت حالي منك لله يا عمار منك لله"
مسح على وجهه بنفاذ صبر وهو يدور حول نفسه
"سحر أنا اخوكي هتسبيني أموت، افتكري حاجة حلوة عملتهالك و بعدين أنا عملت كدا لما شوفت اللي بتعمليه دمي حمى و مقدرتش اسكت أنتِ شيفاني بقرون!!"
"دة على أساس أنك شريف أوي أنت مطرود من البيت بفضيحة و كله عارف أنت كنت بتعمل أى"
"سحر ممكن تسمعيني من فضلك أنا فى مشكلة كبيرة والله محتاج فلوس يا إما هموت، ساعديني"
ضحكت ساخرة
"والله وانا المفروض أصدق، حتى لو حقيقي اجبلك فلوس منين أساساً!!"
يكره نفسه لقول ذلك يشعر بالعار و الرخص لكنه مضطر لقول ذلك لإنقاذ حياته
"من فلوس التيك توك اللي بتاخديها"
رددت الكلمات بسخرية أصابته كأسهم قاتلة هشمت المتبقي من كرامته المبعثرة
"دلوقتي دمك بقا بارد ولا طلعلك قرون!!"
لم يسمع بعدها شئ و لا يريد أن يسمع أى شئ
سقط الهاتف كما سقطت رجولته و نخوته اخر ذرات إحترام لنفسه تبخرت ليبتسم الريس بسخرية باردة وهو يردف بصوته العالي
"اللي بعده"
كان الحال سئ بل هو في غاية السوء
جلس باهي في أحد الأركان وهو يشعر بالإنهزام
ليشعر بجسد يرتمي بجانبه لكنه لم يبالي برفع رأسه ليرى من، حتى أسمتع لصوت بجانبة و شعر بتربيت على كتفه بمواساه
"هتعدي بإذن الله متخفش"
حرك رأسه بالنفي وهو يردف بيأس
"مش خايف، أنا مش مصدق حاسس إني في كابوس، مش عارف هفوق منه امتى!"
أبتسم عبد الرحمن بسخرية
"المشكلة إن إحنا اللي رمينا نفسنا في الكابوس دة"
رفع باهي وجهه ينظر له بحزن ليربت الآخر على كتفه
"أنا عارف أنك مقهور من اللي حصل، و خصوصاً أنك عندك بيت و إبن، يمكن أنا مش فارق معايا لأن معنديش حاجة أخاف عليها، بس أنت لازم تقاوم و تعافر متستسلمش"
"أنا مقهور أن المفروض أنا اللي أسافر و ابعتلهم فلوس، بقيت أنا الحمل الكبير عليهم و المفروض يدفعوا فلوس عشان ينقذوني و دة مش ذنبهم دة ذنبي أنا"
استند عبد الرحمن برأسه على الحائط وهو ينظر في إتجاه نسيم
"حاسس بيك، أنا كنت بهرب من حاجة، لقيت الحاجة هربانة معايا، بس دة نصيب"
رفع باهي أنظاره على صوت العراك الذي نشب بين جمال و عمار انتفض يخلص بينهم
بينما عمار اعماه الغضب وهو ينقض على جمال بصراخ
"أنت السبب، أنت كنت عارف، ما أنت اللي قايلي على الموضوع دة"
دفعه جمال بحدة وهو يردف
"و أنا مالي هو أنا ضربتك على إيدك، أنت قولتلي عايز تمشي و ابوك طاردك و مش طايقك و أنت كنت متمرمط في الشوارع الحق عليا إن قولتلك الحل؟"
صرخ عمار بقهر
"أنت أكيد كنت عارف اللي هيحصل، مستحيل تكون مش عارف و قاعد هادي كدا، أنت مليت دماغي بالكلام و قولتلي سهلة و هنقعد يوم و مركب كويسة، عملتلي البحر طحينة وأنا صدقتك، منك لله يا أخي"
رد جمال بسخرية
"و أنت اصلاً تعرف ربنا!! و بعدين أنا مالي أنا قولت اللي شوفته على النت، شايفني رايح جاي بمركب!"
دفعة باهي وهو يقول
"خلاص يا جماعة اللي حصل حصل، اهدوا بقا"
انتفض عمار يصرخ
"لا يا باهي مش ههدى لأن ال**** دة كان عارف اللي بيحصل، أنا عايز حقي، و بعدين مهو ورطك أنت كمان و لف عليك و لعب في دماغك"
رد جمال بلامبالاة
"و أنت صغير عشان تسمع كلامي!! معندكش مخ تفكر، و بعدين ما أنا متنيل محبوس معاكوا أهو"
مسح باهي وجهه بنفاذ صبر وهو يصرخ بهم ليصمتوا
"اسكتوا بقا، خلونا نشوف هنعمل أى في المصيبة دي، أهدى يا عمار إحنا كلنا متورطين"
زفر عمار بغضب وهو ينظر لجمال بحده
"أنا لو حصلي حاجة مش هيحصلي لواحدي يا جمال خليك عارف دة"
جلست بجانب شقيقها تنتفض بخوف بعدما تشابكت أحداث الماضي مع الحاضر
"عبيدة امتى هنمشي من هنا!"
ضمها إليه أكثر بحماية وهو يردف بقنوط
"ما بعرف حبيبتي لكن لا تخافي الله بيحيمنا و بنخرج سالمين"
مالت برأسها تستند على صدره بارهاق
"تعبت اوي يا عبيدة معتش قادرة"
"هانت حبيبتي، استريحي و ما تحملي هم، أنا هون جنبك"
جلس الجميع بارهاق بعد أن استنزفت قوتهم مرت الساعات دون أى خبر بعد خروج الريس و حراسة من المكان، الخوف يظهر بوضوح على ملامح معظمهم أما البعض الآخر كانت الامبالاة هي المسيطرة عليهم و كأن ما يمروا به ليس أسوأ ما مروا به من قبل
في صباح اليوم التالي انفتح باب المستودع و دخل منه بعض الشباب الآخرين و معهم الحراس بصناديق مياة
ألقواها و خرجوا دون التفوه بحرف بينما جلس الشباب في ركن بصمت
رفعت سيلا رأسها بخوف
"عبيدة شو بيصير"
"ما بعرف خير بإذن الله لا تخافي"
اقتربت نسيم من سيلا بتردد بعد أن شعرت بالوحده و الخوف عندما اغمض عبد الرحمن أعينه لينال قسط من الراحة، شعرت بعدها أنها وحدها دون حماية أو درع
أمسكت بيد سيلا تستمد منها القوة، التفتت إليها سيلا بتساؤل لكن عندما وجدت ملامحها الشاحبة اقتربت تندس بجانبها لتعطيها بعض من الأمان فشعور أنها وحيده هنا شعور مرعب
وقف باهي و عبد الرحمن
و أقتربوا من صناديق المياة و اخرجوا زجاجات
اخذ عبد الرحمن زجاجتين بعدما تجرع من زجاجة أخرى الماء و اقترب من نسيم و دون حديث مد يده لها بواحده و الأخرى لسيلا دون حديث
رفعت نسيم أعينها له بخجل و سحبتها من يده و هي تمتم بالشكر و تتلاشى النظر له مباشرة
نظر عبد الرحمن لعبيدة يقول له بهدوء
"قوم خد مايه، دقيقتين و مش هتلاقى حاجة"
انتقل عبيدة بأعينه بينه و بين شقيقته بتردد يخشى تركها أو حتى البعد عنها لدقائق
ليردف عبد الرحمن بطمئنة
"أنا واقف مش هتحرك لحد ما ترجع"
اومات له سيلا تطمئنه وهي تربت على يده ليتحرك
سكن عبد الرحمن ثواني بعد رحيل عبيدة
ثم أردف بخفوت و نبرته يشوبها الندم
"أنا آسف إن كنت سبب في إني اخليكي في الموقف دة، أو اخليكي تهربي بالشكل دة"
رفعت أعينها له بسخرية
"وأنا كمان أسفه لو خليتك تهرب بالشكل دة"
رفع حاجبه على سخريتها ليقول بحنق
"أكيد مهربتش عشانك، أنا مهربتش اصلاً"
سخرت وهي تلتفت بوجهها للجه الأخرى
"أومال أنت هنا بتغير جو!"
اعتدل في وقفته بتبرم
"تصدقي أنا غلطان إن كلمتك اصلاً"
تركها و أبتعد دون التفوه بأي كلمه اخرى و أتجه لباهي الجالس ينظر له باستفهام ليقول عبد الرحمن وهو يجلس
"مش عايز اتكلم"
أومأ له باهي ثم نظر لعمار المنعزل عنهم ينظر للأعلى بشرود تنهد باهي وهي يستغفر الله و يضع رأسه بين يديه بعجز
مرت ثلاثه أيام دون جديد يذكر يدخلون يلقون صناديق المياة و بعض الخبز الذي يتعاركون عليه ولا يخرج واحد منهم إلا بلقيمات صغير لا تشبع ولا تثمن من جوع، متعرضين لكل أنواع المهانة و خصوصاً الفتيات في قضاء حوائجهم في غرفة لا يصلح أن يقال عليها مرحاض لا تجوز الاستعمال الآدمي
لكنهم مضطرين لذلك
في اليوم الرابع خرجت سيلا من المرحاض تبكي بقهر ليعانقها شقيقها الذي يقف أمام الباب ينتظرها
لتهمس له بتألم وهي تبكي
"مش عارفه يا عبيدة، ياريتنا ما قررنا نسافر، ياريتنا فضلنا في بيتنا"
ربت على ظهرها بحنان وهو يتمزق من بكائها ليسحبها لأحد الأركان ويجلسها بهدوء
"ربنا هيفرجها علينا يا سيلا، ما تعيطي والله دموعك بتألمني و تزيد من عجزي"
همست بخفوت "أنا تعبت أوي يا عبيدة، امتى هنرتاح!"
ربت على رأسها كطفله صغيرة يهدهدها
"عسى الله أن يشقينا في الدنيا، ليجازينا بالجنة في الآخر"
مالت برأسها على كتفه لعها تستريح ولو قليلاً
وقفت نسيم بعيداً وهي تنظر لهم بحسرة، شعرت بالخوف يلفحها كأنها عارية في مهب الريح
وحيدة في بلاد غريب، لا تعرف مصيرها ولا متى ستتحرر؟ هل ستحرر لو سافرت أم ماذا سيكون مصيرها! هل ستكون متشردة في الطرقات، لا تعرف البلد ولا اللغه، لما فكرت بالهجرة وهي لا تعرف أي شئ عن البلد التى ستذهب لها!!
فرت الدمعات من وجهها الذي هزل و أصفر من الضعف و قله الطعام
لم يتحمل عمار الجلوس كل هذا وكأنه ينتظر إعدامه استقام يصرخ و يضرب الباب بهستيرية و قد فقد صوابه
انتفض باهي يكتف حركتة و يمنعه من ضرب الباب و الصراخ حتى لا يدخل الحراس و يقوموا بأذيته يكفي ما بهم من مشاكل و تعب
"اسكت يا عمار بقا، مش ناقصين مشاكل"
"أنا مش هموت هنا يا باهي، مش بعد كل دة هموت هنا، أنا مصدقت امشي من البيت و من البلد عشان أعيش عيشه نضيفة، مش هموت هنا"
افاقه باهي وهو يدفعه بعنف و صرخ به بغضب
"طلاما مش عايز تموت هنا يبقى تسترجل، أنت اللي جيت هنا برجليك و موافقتك و محدش ضربك على إيدك"
مسح عمار وجهه بغضب وهو يصرخ به
"مكنتش أعرف إن دة هيحصل، محدش قال إن دة هيحصل، هو اللي ضحك عليا"
أبتسم جمال ساخراً بعد أن أشار عليه عمار
"و أنا لو كنت أعرف كنت هبقى مرمي الرمية السودا دي!"
أشار له باهي بصرامة
"اسمعني كويس طلاما جيت هنا برضاك مش قدامك حل تاني غير أنك تقعد لحد ما ربنا يفرجها علينا، مسمعش صوتك، متوترناش أكتر من كدا"
مر ثلاثة أيام أخرى كل يوم يحدث نفس الشئ دون حديث، لا أحد يجيب على أي سؤال سوا بعبارة واحده الطريق غير آمن
ظهر التعب و الإجهاد عليهم جميعاً الجلوس و النوم على الأرض الصلبة كسرت عظامهم، الأكل القليل الذي يدخل جوفهم، عدم النضافة مع تعرقهم و قله حيلتهم، كان عذاب حقيقي لأكثر من مئتي شخص في مستودع صغير في هذا الحر كان الوضع كأنك تجلس على فوهة بركان ثائر تنتظر انفجاره
أعتقد البعض منهم أن الهجرة ستكون أسهل من شربه ماء بعد أن امتلئت عقولهم بصور و كلام كاذب على صفحات الهجرة الغير شرعية، اوهموهم أن الأمر بسيط لن يأخذ طرفة عين
لكن ما وجدوه على أرض الواقع كان الجحيم
في صباح اليوم العاشر دخل الحراس و معهم رئيسهم بملامح جامدة يردف الكلمات كسهام مريحة لبعضهم و لبعضهم قاتله
"أجهزوا عشان هنتحرك على المركب"
إلى اللقاء في الحلقه القادمة
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية قارب الموت) اسم الرواية