رواية قارب الموت الفصل الرابع 4 - بقلم مريم الجنيدي
«٤-ضغط شديد»
«الحلقة٤»
حرب النظرات المتبادلة كانت كفيلة لشرح كل شئ
مراجل من لهب تغلي برأس عبدالرحمن، لقد ألقى والده الكرة بملعبه لو نفى ما قاله سيحزن والدته
عض على شفتيه وهو ينظر لوالده بغضب بينما الآخر يبتسم ببرائه و كأنه لم يفعل شئ
سحبته والدته من يده و هى تقول بحماس
"يلا عشان ننزل تعرفنى عليها"
أردف عبد الرحمن يحاول إخراج نفسه من هذا المأزق بأقل الخسائر
"أستني بس يا ماما، مش وقته دة"
قلبت والدته شفتيها وهى تردف باستعجال وهى تحاول سحبه للخارج
"مش واقته اى بس دة أنا مستنيه من ساعة ما أبوك قالى، يلا بس لازم نحسسها إننا جنبها عشان متضايقش"
مسح عبد الرحمن على وجهه بنفاذ صبر وقد وقع بين شقى الرحا دون رحمه ولا يعلم ماذا يفعل ايقول لها الحقيقة و يكون هو سبب صدمتها أم يكمل فى هذه المسرحية الهزلية التى يتلعب والده بها
لكنه قرر قول نصف الحقيقة لإجراء السلامة و إمساك العصا من المنتصف
"ماما أنتِ فهمتوا غلط، البنت دى مش اللى هتجوزها ولا حاجة، بابا بس بيحب يهزر، البنت دى ...... بابا بيعطف عليها عشان يتيمه و ملهاش حد، و بعد ما صاحب العمارة اللى هى ساكنه فيها طردها بابا قالها تقعد فى الشقة اللى تحت أكيد مش هيرميها فى الشارع"
نظر لوالده بحاجب مرفوع يتحداه أن يكذب كذبته
لكن والده أصر على موقفه محطماً أماله
"بلاش تزعل أمك يابنى"
عض عبد الرحمن على شفته السفليه ثم ابتسم بنزق وهو يحاوط كتفى والدته التى تطالعهم بعدم فهم
ليقول عبدالرحمن بمزاح مزيف
"بابا كان بيهزر معاكي يا ست الكل، مفيش جواز و لا أعرفها أصلاً"
أدمعت أعين والدته بقهر وهى تجلس على الأريكة
"كدة يا عبد الرحمن و بتقولها فى وشى بعد ما قولت خلاص هفرح بيك"
أبتسم بعدما أستطاع إخراج نفسه من هذا الفخ بأقل الخسائر فهو فى النهاية إبن أبيه و كما وضعه والده فى هذا الفخ المفخخ استطاع النجاه و التسلل منه
"يا ست الكل قولتلك لما الاقى بنت الحلال اللى ارتحلها، الحاجات دى مش بتيجى فى دقيقة يعنى"
رفعت وجهها المستدير له تسأله بشك
"طب و أى رأيك فى البنت اللى تحت دى طيب"
زفر عبد الرحمن باستياء وهو يضرب كفيه
"يادى البنت اللى تحت معرفهاش والله معرفها، يا أمى انزل اطردها طيب عشان تستريحى"
عقدت ذراعيها وهى تدير وجهها للجهه الآخر بضيق
"ولا تطردها ولا حاجة، على العموم براحتك هعملك أى يعنى اكتر من كدة"
انحنى على عقيبيه يمسك يدها و يقبلها
"متعمليش حاجة يا ست الكل، إن شاء الله هتلاقينى فى يوم داخل عليكي بواحده وبقولك هى دى"
عوجت شفتيها بحسره تقول بسخرية
" أنا لو استنيت اليوم دة طول عمرى مش هيجى، هو أنا مش عرفاك، حياتك كلها شغل شغل، و الشغل كله رجالة اصلاً يبقى هتشوف واحده فين يا حبه عينى"
"آه يا ماما الشغل كله رجالة، بس البنات منقرضتش يعنى، و بعدين خلاص من النهاردة مش هيبقى شغل شغل، هيبقى فى لحياتى المهدورة على الفاضى دى جزء و أهم جزء"
قال جملته الأخيرة بنبره ذات مغزى وهو ينظر لعرفات بطرف اعينه
"ممكن بقا تجبيلى حاجة أكلها هموت من الجوع"
نظرت له والدته بسرعة
"لا هنزل أودى للمسكينة اللى تحت دى أكل و أتعرف عليها عشان متحسش أنها لواحدها، و أنت حط الأكل لنفسك"
جز على شفتيه يغضب وهو يهمس
"برضو مصرة تروحى للمصيبة برجليكي"
===========
وقف عمار أمام بيته يترقب نزول شقيقته ولا يجروء على الإقتراب من البيت حتى لا يلمحه والده، لكن دمائه تغلي بداخله كيف لشقيقتهم أن تفعل هذا، إن كان هو حقير فليس عليه عيب هو ولد يفعل ما يشاء لكن ماذا عنها هى!!
ترصد لها أسفل البناية حتى وجدها تنزل و تتحرك بخطوات واسعة تكاد تطير فرحاً ليتحرك خلفها دون أن تنتبه له يراقبها بتحفز حتى يعلم ماذا تفعل و بعد وقت وجدها تسحب فلوس من صرافه فى أحد الشوارع لم يصدق أعينه وهو يرى المبلغ الكبير الذى سحبته و تحرك خلفها حتى كاد يوقفها لكنها قد استقلت سيارة أجرة ليتحرك هو بسرعة بسيارة آخرى خلفها حتى وجدها تقف على أول شارعهم لتترجل من السيارة تحرك خلفها بخطوات سريعة لينادى باسمها صوته العالى لتلتفت للخلف ثم تبتسم له وهى تقول بلهفة
"عمار وحشتنى"
لم يترك لها الفرصة وهو ينقض عليها يقبض على ذراعها بقسوه
"جبتى الفلوس دى منين، انطقي"
شحب وجهها و هى تتلعثم فى الكلام بتوتر
"فلوس اى عمار سيب إيدي إحنا فى الشارع"
أظلمت أعينه وهو يردف بحده
"آه ما أنتِ مش متعودة تظهرى و تتفضحى فى الشارع لكن تتعرى و تتفضحي فى فوضتك عادى صح، فكراني مغفل"
انقلبت أعينها من الخوف للقسوة وهى تهمس بفحيح
"لا أنت اللي مفكر نفسك ذكى، أنت جاى تعمل راجل عليا!! روح شوف بتعمل أى الأول ولا أنت مفكر نفسك إمام مسجد!"
شرست ملامحه ثم رفع كفه يصفعها بنصف الطريق و قد خرج جنونة وهو يسبها فى الشارع ليتجمع الناس محاولاً الفصل بينهم
"يلا يا ***** و كمان بتبجحي يا***"
أبتسمت بسخريه وهى تنظر له
"روح بص لنفسك فى المراية الأول و بعدين أتكلم، أنت مفكر معرفش بابا طردك لى من البيت"
صرخ بها وهو يحاول أن ينقض عليها مره أخرى
"دة أنا بقا هخليه يقتلك مش بس يطردك يا *****"
قطع سبته البذيئة صفعه والده على وجهه وهو ينظر له بذهول مما يحدث ثم ألتفت اللى ابنته ينظر لها مصعوقاً مما يحدث لتتبدل أحوالها وهى ترتمى على والدها تبكى بانهيار
"شايف يا بابا عمار بيعمل فيا أى!"
كاد عمار أن يرد ليلتفت له والده وهو يصرخ به
"أخرس مش عايز اسمع صوتك، أنت أى يا أخي معندكش دم ولا نخوه!! مش مكفيك اللى عملته!! أمشي من وشى مش عايز أشوف وشك قدامى هقتلك لو شوفتك أمشي بقولك من قدامي"
بهت عمار وهو ينظر لوالده وكاد يتحدث و يقول ما حدث لكن والده قاطعه
"مش عايز أسمع صوتك ولا أشوف وشك"
أقترب أحد الجيران وهو يحاول تهدئه الوضع
"خلاص يا أبو عمار مينفعش كدا! استهدى بالله، تعالى يا عمار بوس راس اختك و أبوك يلا"
صرخ والد عمار "ميقربش مني أنا من النهاردة معتش عندى ولد إسمه عمار، معتش حد ينادى عليا بالكنيه دى، اللي ينكر الإسلام أنكر وجوده من حياتي، من النهاردة مش عايز اشوف وشك بعد اللى عملته ومش هقول أنت عملت أى تاني"
ذُهل الجميع و من بينهم شقيقته التى رفعت أعينها تنظر له بعدم تصديق لينظر لها بحقد و غل و قد شعر ببروده تجتاح جسده و كل نظرات الناس من حوله المذهوله و المصدومة و الهمسات المستنكرة اشعرته أنه عارى، و تم ضبطته أمام الجميع يفعل فاضح
لا يعلم كيف تحركت قدماه لكن قلبه و عقله كان أمام والده مع نظراته المحفوره به يُطعَن بتلك النظره المخذوله من والده
لقد أعلنها صريحة أمام الجميع أنه يتبراء منه.
و فى خصم الأحداث كان هى تنتفض بجذع بين يدى والدها تبكى بخوف مرعوب مشتت لا تعلم ما تفعله و ما فعلته، تتخيل نفسها مكان شقيقها و والدها يلقيها بعدما يعلم جُرمها هى الأخرى لتشعر برعده تتلبس أوصالها و تضرب بكهرباء فى عقلها ليضيئ بشئ واحد عزمت على تنفذه فوراً.
===============
مرت عدة شهور و الوضع كما هو عليه يزداد ضغطاً و اختناقاً
وقف باهي يصنع طبقاً جديداً لكن بوجهاً باهتناً يعمل بجمود على غير عادته
أقترب شهاب رفقيه منه يسأله مستفسرا
"مالك بقالك فترة مش كويس"
نظر له باهي يبتسم ابتسامة ميته
"و هكون كويس ازاى وهو فوق دماغي، أنا على أخري"
ربت شهاب على كتفه بمواسه وهو يشعر بحرقه صديقه على حلمه الذى تلاشى مع أمواج الحياة الغير منصفه
"أهدى و سيبها على الله كله هيبقى تمام، و بعدين متتسرعش و تعمل حاجة عشان خاطر إبنك اللى جاي فى الطريق دة"
أبتسم باهي ساخراً
"و أنت فاكر أنا لحد دلوقتي هنا عشان أى غيره بجد"
أقترب رأفت بخطوات متهدلة وهو يردف باستفزاز أشعلهم غيظاً
"انتو واقفين تتكلموا في أي دة مكان شغل، مش قهوة للحكاوي"
رفع شهاب حاجبة ورد نيابه عن صديقة الذى نال من التربية ما يكفي لعدم الرد بأسلوب يليق بهذا الأبله
"ما تقول لنفسك، أنا شايفك واخد المطبخ رايح جاي، و مفكر نفسك على كورنيش الزمالك"
أبتسم باهي وهو ينظر له بطرف أعينه بسخرية عبثية
بينما أردف رأفت بضيق
"و أنت مالك خليك في شغلك"
أقترب منه شهاب يردف بتحدي
"لما تخليك أنت فى شغلك الأول، مع أن مش شايف ليك لازمة معانا غير أنك بتعطلنا و بس"
نظر له رأفت بامتغاض ثم تركه و رحل لتتسع ابتسامه شهاب وهو يخبط على كتف باهي
"شوف خاف و مشى ازاى، أنت مبتردش عليه لي تعرفه مقامة اللى مفكر نفسه سلطع برجر دة!"
هز باهي رأسه بفتور وهو ينهي العمل على الطبق الذى أمامه
"مش ناقص اشغل دماغي معاه، فيا اللي مكفيني"
رد شهاب بمرح محاولاً التهوين على صديقه
"يا عم طلع اللى فيك عليه حد واخد منها حاجة أنت مش شايف قاعد يتمشى ازاى فى المطبخ ولا كأنه فى بيت أبوه"
أومأ له باهي ليرحل شهاب و بعد قليل أتى رأفت مره أخرى وهو يسأل باهي بتكبر
"خلصت الطلب دة!"
رد باهي دون أن يرفع وجهه عن ما يفعله
"وأنت مالك!"
سأله رأفت بسخط
"هو أى اللى أنا مالي!! إحنا مش شغالين على نفس الحاجة؟"
لم يعيره باهي إهتمام وهو يضع الطبق فى مكان تقديمة ثم ألتفت إلى رأفت يقول له بتحذير
"اسمعني كويس أنا هقول أى، أنا مش قادر لحوار قط و فار دة، أنا هنا لأسباب شخصية، و بعد اللى حصل دة مش طايق المكان اصلاً، و حقي هيرجعلي، و تعب السنين دي كلها مش هسيبها، فاقصر الشر معايا، و خليك في حالك، عشان مش عايز مشاكل، و خلي أيامك تعدي"
رفع رأفت حاجبه بعدم رضى و انتظر ابتعاد باهي لمكانه، ليقترب هو بخطوات حذره ثم أمسك قنينه الملح و رفع يده ليفسد الطبق الذى صنعه باهي بكل غل لكنه تصنم مكانه على صوته خلفه
"شكلك كنت بتتفرج على توم و چيري كتير، بس أنا مش فايق لشغل أولى أول دة والله، عشان كدة شوف حد غيري تعمل الهبل ده معاه و أبعد عن الطبق أحسنلك"
أبتعد رأفت دون أن يتحدث بشئ بينما تحرك باهي وهو يحرك رأسه بيأس
كيف يتخلص من هذه الكارثه التي سقطت فوق رأسه!!
جلس باهي فى وقت الاستراحة يحتسي القهوة وهو يحاول مراسلة زوجته لكن لا رد زفر باختناق لكنه نظر للهاتف باهتمام عندما وجد شقيقته تهاتفه رد بلهفه
"حبيبه قلبي .." أنتفض من مكانه وهو يسمع من شقيقته الكلمات السريعة عن أن زوجته تلد!
لقد مرت سبعه أشهر فقد كيف هذا!!
بدون تفكير كان يركض للخارج تحت نظرات رأفت المتعجبه
==============
دخل عبيدة البيت وعلى أكتافه تقع جبال من الهموم لا يستطيع التفكير عقله مشوش و كأن الدنيا مصممه على تلقيح روحه بالأسى
نظر للبيت الصغير بحزن و عجز لا يعلم ماذا يفعل كيف يتصرف
تنهد بقله حيلة وهو يلقي بجسدة على الأريكة الصلبة التى أحتوت جسده
"يا ربي كيف بتصرف بهاد الموقف، ساعدني أنا عبدك الضعيف"
أستمع لصوت فتح الباب و دخول شقيقته وهى تنادي عليه
"عبيدة!! أنت جيت!"
"إي سيلا أنا هون"
دخلت إليه بابتسامه كبيرة لتعقد حاجبيها وهى تسأله بتوجس
"مالك حصل حاجة!"
اعتدل في جلسته ليتيح لها مكان لتجلس ثم ربت على الأريكة بجانبه كي تجلس
"لا حبيبتي أنتِ كيفك"
اقتربت منه تعانقه بشده وهى تبتسم
"آه اتوحشتك كتير عبيدة، بقالنا فترة مقعدناش مع بعض، أى رأيك أعمل حاجة ناكلها و نشغل فيلم نشوفه مع بعض"
أبتسم لها ابتسامه باهته ثم أومأ لها بالإيجاب
"تمام يلا بساعدك و بندردش سوا"
وقف بجانبها فى المطبخ الصغير يساعدها فى عمل أكل سريع التحضير
ألتفتت تتفحصه بدقة ثم اردفت بتساؤل
"عبيدة مالك حساك حزين و مهموم، فى حاجة ولا إى!"
أبتسم لها وهو يقول بهدوء
"خلينا ناكل و بعدين بنشوف فيلم و بالاخير نتكلم، حاسس مو قادر اتكلم هالحين، محتاج أسرق من الحياة ساعتين أفرح فيهم شوية و أفصل من كل شي ممكن"
اقتربت تعانق ذراعة وهى تردف بحماس
"طبعاً ممكن بس كدة"'
جلست بجانبه على الأريكة الصغيرة التى تحتوي جسديهما نظر عبيدة لشقيقته بحنان و أعين شاردة
ليقول بحنان يحتويها
"لك اسمعي بقالنا مده ما طلعنا مشوار سوا شو رأيك نطلع مشوار نشم هوا نغير جو هيك يعني"
نظرت له وهى ترمش بأهدابها الطويله و عيونها العسلية التى تشبهه إلى حد كبير
"دة بجد! أنت فاضي اصلا أنت شغال شغلانتين"
أبتسم لها بحنو وهو يربت على شعرها
"لا تشيلي هم أنا بظبط كل شي"
عقدت حاجبيها باستفهام
"عبيدة فى حاجة حصلت، قولي حصل أى أنا مش فاهمة حاجة"
تنهد بعمق وهو ينكس رأسه الأسفل يستمع شتات نفسه المبعثرة
"الإقامة سيلا، أوراق الإقامة راح تنتهى كمان شهرين و ما في مصاري نجددها، ما بعرف شو بنسوي"
أتسعت أعينها وهى تستوعب المشكلة التي سينزلقوا بها ورفعت أعينها له بصدمة ليبتسم هو لها ويقترب يضمها بين ذراعيه
"لا تخافي الله معنا، كل شي راح يكون تمام، لا تخافي"
فرت دمعة من أعينها وهى تسأله بصوت مبحوح
"شو هنسوى! "
أبتسم لها وهو يردف بتحشرج
"ثقي فى الله ما بيتركنا أبداً، و لسه قدامنا وقت، راح نلاقي حل حبيبتي ما بيصير شي"
همست ببكاء و جسدها يرتجف خوفاً من غداً
"لي الدنيا مش سيبالنا فرصة ناخد نفاسنا يا عبيدة، إحنا لسه ملحقناش نرتاح من أثر الحرب"
"لا تفكري فى شي حبيبتي، أنا بحلها، لا تخافي، ما راح يصير شي بإذن الله أنا موجود، خيك موجود"
================
نزل على الدرج بخطوات واثقة لكنه مكفر الوجهه كلما مر على بابا الشقة المغلقة التي اسفلهم، لكن هذه المره لم تكن مغلقة، كانت صاحبتها تقف على عتبة الباب و كأنها تنتظر أحد
تجاهل وجودها ولم ينظر لوجهها حتى و كاد أن يتجاوزها إلا أنها نادته بصوتها الهادئ
"عبدالرحمن"
توقفت أقدامه على الدرجات بتصلب و اشتد ضغط فكيه بتصلب و دون أن يلتفت رد بجمود
"نعم"
فركت أصابعها بارتباك وهى تقول بتلعثم
"عمو عرفات قال....قالي أنك هتوصلني"
أتسعت أعينه بخطورة وهو يلتفت لها ببطئ ثم أردف بتشنج و خرج صوته حاد كالصرير
"اوصلك!!! هو عمك عرفات مفكرني السواق بتاعك؟؟"
امتقع وجهها بحمره الأحراج واشتدد خط شفتيها وهى تردف بتردد
"لا... هو أنا مش قصدي، هو قولتله أن هخرج أجيب حاجات، قالي خلي عبد الرحمن يوصلك لو أنت مش فاضي أو مش عاوز ممكن أروح لواحدي عادي"
مسح على وجهه بنفاذ صبر وهو يستغفر لتخفي أعينها باهدابها بحرج كاد يبتلعها وهى تتمنى لو تنشق الأرض بها و تخفيها، لكن صوته الأمر وصلها يقول بصرامة
"اتفضلي قدامي أما أشوف اخرتها، و هبقى اتكلم مع الحاج عرفات فى الموضوع دة، بعد سبع شهور قولت نسى فيهم برضو مصمم يبتليني بيكِ"
خرجت شهقة اخراج من بين شفتيها و توقفت قدماها بتيبس بعدما رشقتها كلماته بسهام هشمت كبريائها
لتقول بكبرياء مجروح
"آسفة لو هعطلك، أنا هروح لواحدي، مش هبقي عبئ على حد"
أبتسم ساخراً وهو ينظر لها من علو
"والله عبئ على حد، أنتِ مش واخده بالك أنك عايشة فى بيتنا بقالك سبع شهور و مستحملك ازاى الله أعلم، وأنا عارف أنتِ مين و بنت مين ولا مش واخده بالك من النقطة دى!"
رفعت حاجبها بتمرد وهى تهتف و قد طفح بها الكيل من أسلوبه عديم الذوق
"لا أنا قاعدة فى بيت عمو عرفات وهو اللى جابني هنا و قعدني هنا مش قاعدة فى بيتك ولا على دماغك، و بعدين أنت مضايق مني لى هو أنا اللى قولت لعمو عرفات تعالى اتجوز مامتي، ما تطلع قرفك بعيد عني هو انا نقصاك!!"
اقترب منها خطوه وهو يحرك رأسه بذهول
"أنا مش فاهم أنتِ ازاى وقحة كدا أمك معرفتش تربيكي تحترمي الناس اللى مقعدينك في بيتهم ولا كانت مشغوله فى اللف على أبويا!"
احمرت أعينها و مراجل الغضب تغلى بداخلها و قد اشعلتها الاهانة الفظة التي ألقاها بوجهها بدون رحمه و كأنه لطخها بوحل لا علاقه لها به لتهسهس من بين شفتيها الحادتين
"أنت قليل الأدب و عديم الاحساس، لأن اللى بتتكلم عنها دى ميته دلوقتي و أنت محترمتش حرمه الميت، و رميتها فى عرضها، و على فكرة عمو عرفات هو اللى فضل ورا ماما عشان يتجوزها و يحميها من الكلاب اللى عايزين ينهشوا فيها، و لو حد وقح هنا هيكون أنت"
نزلت السلم بخطوات شبه راكضة والدموع تغلف أعينها بينما وقف هو متصنماً من كلامها لكنه استفاق على صوت فتح باب المنزل الخارجي ليقول بصوت عالي محاولاً اللحاق بها
"نسيم أستني"
تحركت بخطوات سريعة دون أن تعيره إهتمام، و عندما وقف أمامها قالت بصوت جاهدت ليخرج قوي رغم هشاشه ملامحها التي تحاول أن تخفيها بالشراسة
"مش عايزة منك حاجة، أنا هعرف أروح لواحدي و أوعدك أن هختفي من حياتكم أول ما تيجي الفرصة، أنا مستحيل ابقي عبئ على حد، حتى لو الراجل اللى فتحلي بيته و عاملني زي بنته"
تركته و رحلت بخطوات سريعة غاضبة تحرق الأرض فى مشيتها
دخل المحل على والده بوجهه مفكر و عندما وجده بمفرده سأله بغته دون أى مقدمات
"أنت مش هتبطل ترمي البت دى عليا، مش كفاية أنك كنت عايز تدبسني فيها قدام امى أنت مصمم!!"
رفع والده أعينه له بنظرات هادئة
"وأنا يعني عرفت أدبسك ما أنت خلعت"
ارتسم تعبير ساخر على وجه عبد الرحمن وهو يزم شفتيه باستنكار
" هذا الشبل آه بعد ما لغبط خططتك تقوم تلزقها فيا كل شوية، اللى في دماغك مش هيحصل، أنا ممكن اقلب الدنيا دي كلها علي فكرة بس مش فارق معايا غير زعل أمي و قهرتها لما تعرف أنك اتجوزت عليها"
رد والده بصرامه مشيراً له بيده اليمنى التى تحمل المسبحة
"أنت بتحاسبني على أى أنا معملتش حاجة غلط، ثانياً يا عبد الرحمن نبرة التهديد اللى فى صوتك و كلامك دة احذر كويس منها، عشان أنا اللى مزعلكش"
أقترب عبدالرحمن منه وقد اشتد ضغط فكيه بتصلب
"أنت بتعمل معايا كدة لي!! اى هدفك من اللي بتعملة دة يعني!! أنا إبنك!"
"ابني تبقى تسمع كلامي و تحت طوعي لأن لو فكرت تخرج عنه أنا هسحب السجادة اللى تحت رجليك دي، أنت منغيري ولا حاجة"
احتدت نظرات عبد الرحمن و أثلجت بوعيد وهو يهمس
"هنشوف"
==================
حمله بين ذراعيه و قلبه يتضخم بالحب يتأمل وجهه بحنان يفيض انهاراً أبتسم بعدم تصديق وهو يضم قطعة من قلبه بين يديه أقسم أنه على استعداد أن يفعل أى شئ من أجل صغيرة
رفع اعينه لزوجته وابتسم لها بأعين دامعه ثم اقترب وقبل رأسها بحنان
"مبارك عليكي مجدي يا أم مجدي"
رفع باهي رأسه لوالده وهو يبتسم بعد أن نطق كلماته ليجد والده يبتسم له بفخر و قد امتلاء صدرة بالحب
"مبارك عليك يابني بس كنت سميه إسم تاني عشان مراتك..."
قاطعته زوجه ولده وهى تردف بحنان
"متقولش كدا يا بابا إحنا لينا بركة إلا أنت ربنا يبارك في عمرك و اشوف مجدي زيك"
ربت الحاج مجدى على كتفه ولده و زوجته ثم قال بحنان
"ربنا يبارك فيكوا"
راقب باهي والده وهو يخرج من الغرفة و من خلفه والدته التي تبكي بسعادة منذ مجئ الصغير للدنيا و كأن قلبها الرقيق يجعل أعينها لا تتوقف عن زرف الدموع فى أى موقف
أقترب باهي وهو يحمل صغيرة و كنزه بين ذراعية و جلس بجانب زوجته ليقول بصوت مبحوح متأثر
"أنا مش مصدق نفسي، حاسس أني بحلم، ربنا حققلي حلمي، و بقيتي ليا، و مراتي و رزقني بأجمل هدية حته منك"
"ربنا يفرحك دائماً و يحققلك كل اللى نفسك فيه، بس دة مش حلم، دة حقيقة"
أبتسم وهو ينقل نظراته بينهم
"دة أحلى حلم و أجمل حقيقة ربنا يخليكم ليا يارب"
نظر باهي لصغيرة وهمس لسه
" حبيب بابا، بابا مستعد يعمل كل حاجة عشان خاطرك"
==================
أقترب عمار يجلس على المقهى بارهاق و قد أخذ الإرهاق منه مبتغاه، يومان يدور بهم على عمل و أخيراً و جد عمل فى ورشة ميكانيكا هو لا يعلم بها شئ لكنه مضطر بعدما ألقاه والده فى الشارع بكل قسوة و دون أن يفكر به، يشعر بعروقه تنفر من كم الغضب المكبوت بداخله، ما مشكله والده حقاً؟ حتى يطرده من البيت بهذا الشكل المهين، كل ما فعله هو التسلية فقط لم يحدث شئ حقيقى على أرض الواقع، ما ارتكبه كان من خلف شاشة فى عالم افتراضي، لما يكبر الأمر بهذا الشكل
ألقى جسده على الكرسي وهو يشعر بالنقمة على كل من حوله
"مش أنت عمار!!"
ألتفت ببرود و قد توقع أن يكون تعرف عليه أحد بعد الفضيحة التى حدثت لكنه تعرف على الوجهه المألوف لمنطقته أنه جمال العاطل، أحد العلامات المميزة للمقهى و الشارع يجلس هكذا ليل نهار دون فعل شئ سوى النميمة على كل شخص و أى شئ حتى لو كانت نملة تسعى على لقمه العيش لاولادها، الفراغ حقاً قاتل!!
"ازيك يا جمال"
أبتسم جمال وهو يشير له ليجلس على طاولته وهو يحرك ماصه الأرجيلة بيدة
"تعالى تعالى، مالك كدة شكلك مبهدل، سمعت أن ابوك طردك! لى كدة حصل أى"
أبتسم عمار ساخراً وهو يردف
"آه دة بقيت مشهور هنا بقا ، أن أبويا طردني"
هز جمال كتفيه ببرود وهو يوسوس له كالشيطان متمثل فى هيئه بشري
"و أى يعني يا عم ما كلنا أبونا طردنا، هو أنت أول واحد يعني!! الابهات اصلاً معقدين و دماغهم غير دماغنا، كبر دماغك بكرا يصفى و يصالحك"
عقد عمار ذراعيه وقال بشرود تائه
"عندك حق بس مش عارف هنتصالح ولا أى حسيت كلامه صادق أنه مش عايز يشوف وشي تاني، كان بيبصلي بقرف و اشمئزاز كأنه بيقول ازاى دة أبني"
ضيقت أعين جمال بتوجس ثم مد له عصا الأرجيلة
"ياا دة الموضوع كبير بقا، لا دة أنت تاخد نفس و تحكيلي"
لم تكن يد ممتده له بل كانت أفعى تلتف حوله لتصطاد فريستها و تقبض عليها بأحكام و مهارة و قد أجاد الاختيار، اختار بائس يتخبط هنا و هناك ولا يعلم الحياة مَرسى
أردف جمال بهدوء بعد أن انتهى عمار من سرد الخطوط العريضة لما حدث دون الدخول فى تفاصيل
"حلك عندي يا باشا"
حسناً سيسدي له خدمة سيظهر له مرسى و سيجعل هذا المَرسى يلمع بأعينه و بعدها سيلقي به على قارب و هو عليه الإبحار للوصول للمرسى حتى لو كان هذا القارب .....قارب الموت.
=====================
أخرج عبد الرحمن بطاقته الائتمانية كي يتمكن من دفع ما اشتراه و أعطاها للبائع بابتسامة بسيطة
عقد البائع حاجبيه وهو يقول باستنكار
"الفيزا مش شغالة يا فندم"
أتسعت أعين عبد الرحمن بدهشة ثم أردف بنبره هادئة
"جرب تاني كدا، أكيد فى عُطل"
هز الرجل رأسه مره آخرى بأسف
"للأسف يا فندم مش شغالة"
أومأ عبدالرحمن برأسه بهدوء عكس فوران الغضب بداخلة ثم أخرج المبلغ نقداً و التقط الحقائب
جلس في سيارته خلف المقود بملامح جامدة ليخرج هاتفه مجرياً إتصال وهو يضغط على فكيه و قد ابيض كفه الآخر الذى يضغط به على المقود
و بمجرد فتح المكالمه من الجهه الأخرى
"أنت كدا بتلوي دراعي يعني!!"
رد والده ببرود
"لا دي قرصه ودن صغيرة، تعرفك أنا ممكن أعمل أى"
أبتسم عبد الرحمن بسخريه ثم أردف بنبره بارده ترتجف لها
من سقيعها منهياً الحوار
"افتكر أنك أنت بدأت يا حاج عرفات، و أنا مش بيتقرص و دني.."
أغلق الهاتف وهو يقبض على المقود و ينطلق بالسيارة بعنف
===============
إلي اللقاء في الحلقة القادمة ❤️
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية قارب الموت) اسم الرواية