رواية في ظلال الحب المفقود الفصل الرابع 4 - بقلم مهجة
"أخطر من مجرد قارئة كتب"
استفاقت سُكرة في اليوم التالي على صوت المطر وهو يقرع النوافذ برقة، كأن السماء تُلقي تحية خاصة لهذا الصباح. فتحت عينيها، وابتسمت ابتسامة هادئة، حيث اختلط عبير المطر برائحة القهوة التي كانت تعدها خالتها في المطبخ، بينما كان صوت الشيخ عبد الرحمن السديس ينساب من جهاز صغير موضوع فوق الثلاجة.
خرجت من غرفتها بخطى هادئة، مرتدية بيجامتها الزهرية ذات الأكمام الطويلة ونعليها القماشي المزين بنقاط بيضاء. وبينما كانت تعبر نحو المطبخ، لمحت أدهم جالسًا في الصالة، يكتب شيئًا في دفتر صغير، يُخفيه بين صفحات كتاب، ظنًا منه أن لا أحد يراه.
توقفت لحظة، ثم قالت بهدوء: "صباح الخير."
رفع رأسه بسرعة، كأنما ضُبط متلبسًا بشيء ما، ثم ابتسم وقال وهو يغلق الكتاب بخفة: "صباح المطر... تبدين كأنكِ تحبين الأجواء الباردة، أليس كذلك؟"
هزّت رأسها بحماس، وجلست على الكرسي المقابل له: "أحبها، لأنها تجعل الناس أقرب... يجتمعون، يتحدثون، يضحكون."
ابتسم ابتسامة باهتة، ثم قال وهو يسرح بنظره نحو النافذة: "وأحيانًا... تجعل المرء يُخفي أكثر مما يظهر."
نظرت إليه باستغراب: "مثل ماذا؟"
اعتدل في جلسته، ثم قال وهو يغير مسار الحديث بمهارة: "مثل رغبة في كوب من الشوكولاتة الساخنة... هل ترغبين؟ أذهب لأحضره لكِ."
ضحكت قائلة: "أتهرب من السؤال؟"
أجاب وهو ينهض: "أبدًا، لكنني أحاول النجاة من تحقيق سُكرة الصباحي."
دخل إلى المطبخ وهو يضحك، لكنها سمعته يهمس لنفسه بصوت خافت: "بعض الأسئلة... إن أجبناها، لا نعود كما كنا."
جلست سُكرة في الصالة تراقب المطر المنهمر خلف الزجاج، بينما كان صوت ملاذ وهي ترتب الوسائد وتغني، وأمها تناديهم للإفطار بنبرة دافئة. خرج أدهم بعد قليل، يحمل كوبين من الشوكولاتة، ناولها أحدهما دون أن يلتفت إلى عينيها، وقال: "هذا لكِ، لتشعري بالدفء... لكن لا تطرحي المزيد من الأسئلة."
أخذت الكوب منه، والابتسامة لا تفارق وجهها، لكن قلبها كان يطرق بابًا جديدًا... بابًا لا تجرؤ على فتحه، تمامًا كما يفعل هو.
مرّت الأيام التالية كأنها تسير على رؤوس أصابعها، هادئة أحيانًا، مشاغبة أحيانًا أخرى، تحمل في طيّاتها لحظات صغيرة، لكنها تترك في القلب رجفة لا تُفسَّر. كانت سُكرة تراقب أدهم من بعيد، لا عن قصد دائمًا، لكنه كان حاضرًا في تفاصيل يومها أكثر مما ينبغي، أكثر مما تجرؤ على الاعتراف به.
حين كانوا يرتبون السفرة، كانوا يجلسون قبالة بعضهم البعض، يتبادلون كلمات عابرة، وربما يضحكون على طرفة من خالي محمود أو تعليق ساخر من ملاذ. لكن عيني سُكرة كانت تسرق النظر إلى أدهم، وكانت تشعر بنظراته تلحق بها حين تُشيح وجهها.
وفي إحدى الأمسيات، بينما كانوا يلعبون لعبة الورق في الصالة، ضحكت ليان بصوتٍ عالٍ وقالت: "أدهم! أنت دائمًا تخسر حين تكون سُكرة في الجهة المقابلة!" رمقها بنظرة مستنكرة، وقال وهو يعبث بأوراقه محاولًا التظاهر بالثبات: "هذا محض صدفة… أو ربما تخطيط مسبق ضدّي." نظرت سُكرة إليه، وكتمت ضحكتها، لكنه لم يُقابل عينيها هذه المرة، بل نظر نحو الطاولة، كأنّه يخشى شيئًا ما.
وفي اليوم التالي، بينما كانت تبحث عن كتابها في المكتبة الصغيرة في الصالة، دخل أدهم بهدوء، وتوقف خلفها قائلًا: "تبحثين عن شيء؟" أجابته دون أن تلتفت: "أجل… كتاب وعدني به خالي، عن الرحلات القديمة في أفريقيا." اقترب أكثر، وأشار إلى رفٍّ عالٍ: "أظنّه هذا… دعيني أُحضره لكِ." مد يده وأعطاها الكتاب، وحين لمست أصابعه عن غير قصد، سحب يده بسرعة، وكأن النار لامسته، وقال مبتسمًا: "أصبحتِ أخطر من مجرد قارئة كتب، يا سُكرة." ضحكت بخفّة، لكنها شعرت أن شيئًا ما بينهما قد تغيّر... أو ربما انكشف أكثر مما ينبغي.
تكررت المواقف، وتكاثرت التفاصيل التي أربكت قلبها: لمسة عابرة حين مرّا بجانب بعضهما في الممر، نظرة طويلة خلال الإفطار، حديث متقطع يكتمل بنصف ابتسامة ونصف خوف. كان كلٌّ منهما يدرك، لكن لا أحد يملك الشجاعة ليفصح.
وفي إحدى الليالي، بينما كانوا جميعًا يتابعون فيلمًا قديمًا، والضوء الخافت ينعكس على وجوههم، كانت سُكرة جالسة على الأرض، مسندةً رأسها إلى طرف الأريكة، وكان أدهم قريبًا، قريبًا لدرجة أن أنفاسها تسارعت دون سبب واضح.
وحين انتهى الفيلم، قال فجأة بصوت منخفض لا يسمعه غيرها: "أحيانًا... أعجز عن الهروب من كل ما لا أريد الاعتراف به." نظرت إليه، وقبل أن تجيب، نهض واقفًا وتظاهر بالتثاؤب: "أعتقد أن الوقت قد تأخر، تصبحين على خير يا سُكرة." وغادر كأنما يُغلق بابًا آخر.
وبقيت سُكرة وحدها، ترتب تفاصيل قلبها التي بدأت تتبعثر... وهو، في مكان ما في هذا البيت، يخبئ قلبه في دفتر، تمامًا كما يخفيه عنها.
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية في ظلال الحب المفقود) اسم الرواية