Ads by Google X

رواية جعفر البلطجي الجزء (3) الفصل الثامن و الستون 68 - بقلم بيسو وليد

الصفحة الرئيسية


 رواية جعفر البلطجي الجزء (3) الفصل الثامن و الستون 68 - بقلم بيسو وليد

 ما خُطَّ في اللوحِ… ليس سيـ.ـفًا لا يلين،
بل هو سرٌّ… لا يُدركه إلا من أيقن أن الله يُبدّل ما يشاء،
تتقلب الأيام…
تعلو وجوهٌ وتُخفض وجوه،
تُفتح أبوابٌ كُنا نظنها مُوصدة،


وتُغلق دروبٌ حسبناها الأمل،
ليس في الدنيا ثبات،
إلا وجه الله…
ولا في القلب يقين،
إلا أن كل قدرٍ، وإن آلمنا،
يحمل في طيّاته حكمة،
فلا تجزع إن تأخّر الحلم،
ولا تبتئس إن تغيّر الطريق،
فربُّ الأقدار… لا يُخطئ أبدًا.
_ارتجال.
___________________________
الحياة لا تُطرق الباب قبل أن تتغير، لا تستأذن حين تُبدّل ملامحها، ولا تُمهل قلبًا ليلتقط أنفاسه بعد صدمة، كل شيء قد ينقلب في لحظة، الحبيب غريب، والبيت صامت، والطمأنينة غبار في الريح، كأنها تمضي بنا في رحلة لا خريطة لها، نجتهد لنفهمها، ثم تضحك في وجوهنا وكأنها تقول، لن تفهموا أبدًا، ومع ذلك، نواصل السير، نحمل جرا’حنا ونحاول أن نخلق من الفقـ.ـد بداية جديدة..
<“الفرص تُخلق لنا دومًا، تمنحنا حياة أفضل.”>
لم يُرزق الجميع بما يتمنون،
فمنهم من أخذ مالًا،
ومنهم من اكتنز حبيبًا.
في غابة بعيدة منعز’لة عن العالم أجمع،
في لحظة يقف فيها الزمن، وتسكُن الأصوات وتترقب الأنظار، أحترامًا للحظة كانت غائبة عن قلبٍ عاشقٍ تعذّ’ب بفُر’اق حبيبٍ كان ملاذًا وصدرًا حنونًا يحتضنه في أشـ.ـد لحظاته ضـ.ـعفًا، بعد مرور ثلاثة أشهرٍ على غيابها عنهُ اليوم عادت إليه الأميرة، عادت إليه مَن جعلت إليه الحياة نورًا بين ظلامه الممتد لآلاف السنوات، عادت عينيها البُنية تحتضن ما حولها بحذ’رٍ وكأنها ترى المكان لأول مرَّة..
وتلك كانت مرَّتها الأولى بالفعل، كانت ترقد فوق فراشٍ بسيط يتوسط الغرفة، بدأت عيناها تجوب في المكان، غرفة خـ.ـشبية بالكامل، يفوحها رائحة الياسمين الهادئة، وخزانة صغيرة خـ.ـشبية ترتكز في إحدى زوايا الغرفة ومقعدًا صغيرًا يجاور باب الغرفة وطاولة زينة بسيطة أعطت رونقًا للمكان، حرّكت رأسها جهة اليسار برفقٍ لترى طاولة صغيرة يعلوها ورود الياسمين المفضّلة إليها وأغراضه تجاورها..
نهضت بهدوءٍ وتمهّلٍ وهي تتأ’وه بخفوتٍ، بسبب نومها الطويل الذي استغرق ثلاثة أشهرٍ، جعل جسـ.ـدها ثقيـ.ـلًا ويكسوه الأ’لم، جلست نصف جلسة تستند كفيها إلى الفراش وهي تنظر حولها تبحث عنهُ بعينيها وقلبها يتتوّق لرؤيته، فهي تشعُر وكأنها لم تراه لأعوامٍ طويلة وليست أشهرٍ قليلة، حرّكت قدميها تزامنًا مع تأ’وهها الخافت بعد أن شَعَرت بأ’لمٍ يسكن أنحاء جسـ.ـدها بالكامل، قامت بارتداء حذاءها ثمّ نهضت واقفة على قدميها هُنَيهة، حاولت استيعاد قواها الجسـ.ـدية وتوازنها على الأرض بعد انقطا’عٍ تام عن الحركة..
سارت بخطى بطيئة حذ’رة حتى وقفت أمام المرآة التي عكست صورتها في تلك اللحظة، وقفت تتأمل نفسها بتركيزٍ شـ.ـديدٍ بعد أن لمحت صورتها تنعكس على المرآة، بشرتها السمراء الجميلة التي مازالت تتمتع برونقها وكأنها لم تهـ.ـملها يومًا، وعينيها الكحيلتين التي لم تنطفئ لمعتهما يومًا، وخصلاتها الطويلة الناعمة التي أزداد طولها خلال هذه المدة ليُصبح طوله لنهاية ظهرها، وأخيرًا هذا الساري اللامع اللطيف الذي يلتف حول جسـ.ـدها النحيل، وكأنها أيقونة بارزة لا ينطفئ تو’هجها وإن اجتمعوا جميعًا لذلك..
كانت مترددة، مندهشة، وكأن عقلها مازال يُحاول استيعاب ما حدث، وبرغم ذلك كان هو أول مَن فكّرت فيه، هو الوحيد الذي بالتأكيد كان مهتمًا بها بتلك الطريقة حتى أصبح مهووسًا بها، حاولت استيعاب الأمر وأكملت سير خطواتها البطيئة نحو الخارج تبحث عنهُ في أنحاء هذا الكوخ الصغير الذي كان يعلو قمة تـ.ـلة كبيرة مزينة بالاشجار والطحالب الخضـ.ـراء الطبيعية، كان هو يقف شامخًا كعادته، جسـ.ـده مشد’ودٌ، عيناه المائلة للو’ن الأصـ.ـفر المتو’هج وكأنها تُعلن للجميع عن إنتماءه لعائلة أصيلة..
خصلاته البُـ.ـنية الفا’تحة كانت تتطا’ير بخفةٍ بفعل نسمات الهواء اللطيفة، وعيناه تجوب في المكان بدقةٍ با’لغة ويستمع لأصواتٍ لا يستطيع أن يسمعها شخصًا عاديًا، وبلحظة ساكنة، تسارعت نبـ.ـضات قلبه دون سا’بق إنذ’ار، وكأنه يُعلن عن عودة الحبيب مجددًا، شعورٌ تمـ.ـلّك مِنْهُ، ولحظة تأهبت فيها الحواس وحُـ.ـبِسَتْ لأجلها الأنفاس، ألتفت “ويسلي” ببطءٍ خلفه، حيثُ كانت “أديتي” تقف هُناك، تراه بعد مرور تلك الأشهر، كانت خصلا’تها الطويلة تتطا’ير مع طرف ساريها الزهري الذي أعطاها مظهرًا لا يُمكن تجا’هله..
تلاقت الأعين تُرسل أشواقًا غير مرئية، وأحاديث كثيرة عجـ.ـز الفم عن البوح بها وترك الفرصة للقلب أن يعود للحياة، أن يمنحه الفرصة التي حُرِ’مَ مِنها منذ آلاف السنوات، لحظة تطلّبت عناقًا طويلًا، عناقًا يُقال فيه ما يعجـ.ـز عن قوله في هذه اللحظة، لمعة ظهرت في عيناه وكأنها أعادت قلبًا مـ.ـيتًا ر’فض العودة، عادت إليه تلك السا’حرة المشا’غبة التي أفتقـ.ـدها، عادت إليه حبيبة القلب بعد نزا’عاتٍ لم تنتـ.ـهي ومعارك مستمرة وامبراطوريات تسـ.ـقط واحدة تلو الأخرى..
_”ويسلي”.
همسة صغيرة ناعمة كانت كفيلة لتحريك الأحجا’ر مِن أماكنها، همسة انتظرها طويلًا، همسة ظلت تتردد في أحلامه كالموسيقى الناعمة، همسة جعلته يستفيق ويتحرّك أخيرًا مِن مكانه، بخطى سريعة فصـ.ـل المسافة بينهما، لم يستوعب عقلها شيئًا إلا حينما ضمّها إلى د’فء أحضانه بقو’ةٍ شـ.ـديدة، ضمّها وكأنه يضم حياته بين يَديه مجددًا، وكأن الأمل أبى أن يتبد’د وتنتهي قصة أسطورية مازالت لم تبدأ سطورها بعد، وكأن الشـ.ـر يأبى كتابة التاريخ..
د’فن رأسه في عنقها، ولأول مرَّة عبق ياسمينها يتغلغـ.ـل إلى أنفه، وكأنه يُخبره أنَّهُ لن يختـ.ـفي مادامت صاحبته حـ.ـيّة، لحظة يقف لأجلها العالم أجمع يشهد عليها، لحظة أتحا’د طرفين وثقافتين مختلفتين، هي كانت على يقينٍ بأن تلقاه، وهو لم يُخـ.ـيب ظنّها بهِ:
_أشتقتُ إليكِ كثيرًا حبيبتِ، أشتقتُ لكِ “أديتي”، أختباركِ لي كان قا’سيًا وبشـ.ـدة يا فتاة، لقد سُـ.ـلِبَت رو’حِ معكِ.
همساتٌ مملوءة بمشاعر لا يُمكن الشعور بها سِوى العشاق، لغةٌ لا يستطيع أحدًا ممار’ستها بتلك السهولة، برغم و’حشيته، برغم جـ.ـنونه، برغم قسو’ته، استطاعت هي إذا’بة تلك الحصو’ن بأسـ.ـلحتها الخاصة بها، جعلته عاشقًا، جعلت الأميرة مِن الو’حش شخصًا مهووسًا بها، ترقرق الدمع في المُقل، فكانت تلك اللحظة ثقـ.ـيلة بشـ.ـدة على قلبها، لم تستطع إجابته فقط شـ.ـددت مِن عناقها لهُ..
لا يعلمان كم مرّ مِن الوقت وهما هكذا، ولكن أراد “ويسلي” التوقف عند هذه اللحظة لوقتٍ طويل فإنها تُقّدر بثمنًا باهظًا، لحظات أخرى وابتعد عنها قليلًا يتأمل معالم وجهها التي أشتاق إليها، يرى نظرة عاشقة مازالت حـ.ـيّة، نظرة تحمل في أعماقها حُبًّا لا ينتهي، بسمةٌ لطيفة أرتسمت فوق شفتيها تزامنًا مع ملامسة أنامله لبشرتها الناعمة، وكأنه يراها لأول مرَّة، بينما كانت هي تتأمله بعينان ترقرق فيهما الدمع وهمست لهُ بنبرةٍ بالكاد تُسمع مغمورة بالحنين والحُبّ:
_وأنا كذلك حبيبِ، وأنا أيضًا أشتقتُ لك كثيرًا.
ولأول مرَّة يبتسم منذ هذا اليوم الذي كاد فيه أن يفقدها للأبد، بسمةٌ بها الحياة تعود مِن جديد، اقترب مِنها مجددًا يُلثم جبينها بحنوٍ ثمّ قال بنبرةٍ هادئة للغاية تعكس صورته الداخلية:
_أتعلمين إن كان قد أصا’بكِ شيءٌ في هذا اليوم، لكُنتُ أحر’قتُ المكان بمَن فيه، حينما رأيتُ هذا الوجه الجميل يفقـ.ـد لونه ويميل إلى الشحو’ب، وتلك العينين اللامعتين يفقـ.ـدان بريقهما، وتلك الشفتين تُخـ.ـطف منهما أبتسامتها الجميلة، وسقو’طكِ على الأرض دون حراك، سُلِـ.ـبَتْ مِني رو’حِ بو’حشية، وكأن أحدهم سر’ق مِني حياتي بلحظة، منذ هذا اليوم وأنا لا أنسى صر’ختي القوية، كُلّ يوم تتردد في أذنِ كموسيقى صا’خبة، وصورتكِ لا تُفا’رق ذاكرتِ لحظة واحدة، حتى هذه اللحظة التي تقفين أنتِ بها أمامِ، أشعُر وكأننِ مازلتُ أعيش في حُلمٍ لا أُريد الاستيقاظ مِنْهُ.
لم تتحدث، فقط اتسعت بسمتُها فوق شفتيها واكتفت بالصمت إجابة، فبعض الأحاديث لا يُرد عليها بالكلمات، بل عناقٌ لطيف يقول ما تعجـ.ـز الألسنة عن نطقه، فهو مازال يُحاول استيعاب وقوفها امامه، وهي حتى هذه اللحظة لا تُصدق أنها عادت بعد تلك الصر’اعات والمنا’زعات، لا تعلم كيف نجـ.ـت، ولكنها بالفعل قد نجـ.ـت بمعجـ.ـزة..
دقائق وأبتعد عنها، أحاديثٌ كثيرة يُريد البوح عنها ولكنه لا يعلم كيف يفعل ذلك، نظر إليها وابتسم في وجهها قائلًا:
_مرحبًا بعودتكِ “أديتي”، لقدت عدتِ لتُنيري لي ظلا’مي مِن جديد.
منحته بسمةٌ لطيفة، حنونة، مليئة بالحياة، ثمّ سألته بنبرةٍ هادئة وهي تنظر إليه قائلة:
_أخبرني الآن، هل مِن تطوراتٍ جديدة أم ماذا حدث.؟
أخرج هو زفيرة عميقة بعد أن توقّع هذا السؤال مِنها وجاوبها بنبرةٍ هادئة وقال:
_لا مِن تطوراتٍ جديدة “أديتي”، مازال الحال كما هو عليه لم يتغيّر شيءٌ حتى هذه اللحظة، ولكن أعلم أن بعودتكِ كُلّ شيءٍ سيتغيّر إلى الأفضل، أنتِ العنصر المفقو’د “أديتي”، وبعودتكِ يعود السلام إلى أهل المدينة مِن جديد.
نظرت في عيناه مباشرةً وسألته بنبرةٍ ما’كرة قائلة:
_ماذا تقصد الآن، أتعني أنني مفتاح الحياة.؟
نظر إليها نظرةٍ ذات معنى بعد أن تفهّم مغزى حديثها ولذلك أبتسم إليها وجاوبها بصدقٍ تام:
_نعم “أديتي”، الملك كان في أنتظار عودة الملكة حتى يقترح عليها ما سيفعله لأنها بنظراتها الثا’قبة تعلم جيدًا إن كان ما سيفعله الملك القرار الصحيح أم أنَّهُ قد يتهوّ’ر قليلًا، وها هي اليوم الملكة قد عادت وأعادت البسمة والحياة إلى الحبيب … والآن أيتها الجميلة ماذا سنفعل.؟
بدأت تُفكر “أديتي” في الخطوة الأولى التي سيتخذانها معًا في هذه اللحظة، وبينما كانت هي تُفكر وهو ينظر إليها منتظرًا سماع ما ستقوله قالت هي بوجهٍ مبتسم:
_أرسل مرسالًا إلى منزل آلبرت وأخبرهم بعودتي، دعهم يخططون أولى خطواتنا بد’قة، فهذه المرة نحن مَن سيكتب نها’ية تلك المعر’كة.
كلماتٌ جعلته يعلم أن الأمر لن يكون هينًا هذه المرة وأن تلك بداية لنهاية مملكة “ماري” وأتباعها، فالمحا’رب لا يمو’ت قبل أن يرفع ر’ايات نصـ.ـره فوق أرضه، وهي قررت خوض هذه الحر’ب ولكن … بطريقتها الخاصة.
_________________________
<“تحـ.ـدٍّ كُتِبَ على الضعفا’ء، ومو’اجهة كانت بوابة الحُـ.ـرية.”>
قيو’دٌ تُعانق الأجسا’د، وأروا’حًا بر’يئة تُحبـ.ـس، نير’انًا تحر’ق قلوب نـ.ـقيّة، وعدلٌ إن طال غيابه يعود، وأمام مصا’عب الحياة كان ملكًا يتوّج فوق عرشه..
كان الهواء العليل يحمل عبير الزهور والنسمات الباردة، بينما كانت أشعة الشمس البرتقالية تتعامد على وجهة مِن أهم وأعرق وجهات مصر، هذا التدرج الثلاثي الذي مازال يُعلن عن وجوده بمرور آلاف السنوات، بدأت الاضاءات تنتشـ.ـر في أنحاء المكان، تُعطي لهُ سحـ.ـره الخاص، أصوات البعيـ.ـر تعلو بين الحين والآخر، ومجالس عربية في البعيد تنشـ.ـر عبيرها في المكان، سائحين يوثقون اللحظات بدهشة وإعجاب، صورًا تتداول على منصات التواصل الاجتماعي عن بلدة مِن أعرق البلاد في العالم..
بلدة تحمل أسرارًا قديمة، ومكاتيب كثيرة، واساطير لا آخر لها، وقصصًا شهدت على الخلو’د، ملا’يين التفاعلات على المنصات ومطالب جماهيرية تُشيد بجمال المكان ورونقه، محطات إعلامية أ’جنبية مِن جميع بقا’ع العالم تتحدث عن تاريخ ذلك البلد، وعن أساطير مازالت قصصها تتداول برغم آلاف السنوات التي مضت، وبرغم تلك الضـ.ـجة الكبيرة كانت الحياة ذات مذاق خاص، كانت “زُبيدة” ترتدي فستانًا خـ.ـفيفًا ذو ألو’انٍ زا’هية تعكس روعة المكان ود’فئه، حجابها الزهري فوق رأسها متحـ.ـررًا قليلًا، ووجهها عاد لرونقه مِن جديد..
كانت تُمسك يَد “يعقـوب” الذي كان يرتدي قميصًا أبيـ.ـض اللون وبنطالًا أسو’د مِن خامة الچينز الدا’كن، كانا يسيران فوق الممر الر’ملي المؤدي إلى الهرم الأكبر وهما يتبادلان أطراف الحديث، نظر إليها “يعقـوب” وابتسم لها قائلًا:
_شايفك مبسوطة عالآخر، دا إحنا لسّه مبدأناش حتى رحلتنا.
نظرت إليه “زُبيدة” وابتسمت إليه بحما’سٍ واضحٍ وجاوبته قائلة:
_بصراحة آه مبسوطة أوي ومتحمسه كمان أوي، هنبدأ منين بقى يا ترى.؟
سألته في نهاية حديثها بحماسٍ شـ.ـديد وهي تنظر إليه لتعلو بسمةٌ خفيفة فوق شفتيه مجيبًا إياها بقوله الهادئ:
_نتمشى الأول شوية، نتكلم، والأهم مِن كُلّ دا إننا نوثق اللحظات الحلوة دي، بصراحة عندي حكاية ليكي كدا بمناسبة المكان الحلو دا، بحب القصة دي جدًا ومِن أكتر القصص المفضّلة عندي مِن صغري، تحبي تسمعيها.؟
وافقت سريعًا على حديثه وهي تنصب بكامل تركيزها عليه تنتظر سماع تلك القصة بشغفٍ كبير وكأنها أسطورة لا يعلمها سواه، شـ.ـدد مِن قبضته برفقٍ وقال بنبرةٍ هادئة:
_في قديم الأزل كان في واحد مشهور أوي أسمه “أوزيريس”، “أوزيريس” كان إ’له عظيم أوي في مصر القديمة، كان إ’له المو’ت والحياة والخصو’بة، كان بيحـ.ـكم الأرض وكان يُعتبر إ’له الزراعة والتجديد وكان بيعمّر الأرض بالخير على طول، مراته كانت “إيزيس” وهي إ’لهة الحب والخصو’بة والأمومة، وكانت إله السحـ.ـر كانت بتحب “أوزيريس” أوي بمعنى تاني بتعشقه وكانوا بيتشاركوا فنشـ.ـر الخير عالأرض كانوا عندهم أخ أسمه “ست” دا كان إ’له الفو’ضى والد’مار بالرغم إنه كان عا’يش تحت ضـ.ـل أخوه “أوزيريس” إلّا إن “ست” كان حاسس بالحقـ.ـد والحسـ.ـد تجاه أخوه لأنه كان محبوب وبيحـ.ـكم الأرض وكان عايز مـ.ـلكية السيطـ.ـرة على العالم وأراضيه كُلّها..
توقف “يعقـوب” عن السير ونظر في عينان “زُبيدة” ليرى تركيزها منصبًا فوقه تنتظر سماع المزيد برغم معرفتها بتلك القصة ولكن حينما بدأ يسردها هو بأسلوبه الخاص شَعَرت وكأنها تسمعها لمرتها الأولى، أزداد فضولها وشـ.ـددت على قبـ.ـضتها برفقٍ تزامنًا مع قولها الحما’سي:
_كمل، “ست” عمل إيه وإيه اللِ حصل بعد كدا.؟
أبتسم وعاد يتابع السير بخطى بطيئة وهو يُكمل سرده للقصة:
_كان “ست” بيخـ.ـطط للانتقا’م مِن أخوه “أوزيريس” عشان يسيطـ.ـر على الأرض لوحده وكُلّ حاجة تبقى تحـ.ـت إيديه، في يوم بقى “ست” دعا أخوه “أوزيريس” لحفلة ضـ.ـخمة فالقصر وقدمله تابو’ت خـ.ـشب مزخرف وقاله إنُه هيديه هدية ملهاش مثيل كانت من ضمن العرض دا، “ست” وعده إنُه هيديه تابو’ت لشخص يناسبه في الحجم وفعلًا “أوزيريس” دخل التابو’ت وبعدها “ست” قفـ.ـل عليه ور’ماه فالنهـ.ـر اللِ خده بعيد عن مصر، بعدها التابو’ت خرج مِن النهـ.ـر وداه لفينيقية ولقوه وبكدا أ’ختفى “أوزيريس” عن العالم كُلّه..
في تلك اللحظة شَعَرت “زُبيدة” بالحزن على “أوزيريس” وفي نفس الوقت مقـ.ـتت فعل “ست” الذي ذكّرها بخيا’نة شقيقتها إليها، أخرج “يعقـوب” زفيرة طويلة واسترد حديثه قائلًا:
_فنفس الوقت “إيزيس” زعلت أوي على جوزها بعد ما ا’ختفى ور’فضت الاستسلا’م وطلعت تدوّر عليه فرحلة طويلة وصـ.ـعبة، كانت “نفتيس” أخت “إيزيس” جنبها فكُلّ مكان وكانت بتساعدها فكُلّ خطوة، وبعد وقت طويل وصلت “إيزيس” لفينيقية ولقت التابو’ت اللِ جوّاه جسـ.ـم “أوزيريس” وخدته ورجعت بيه لمصر وكان عندها أمل إنها تر’جعّه للحياة مرَّة تانية بالسحـ.ـر بتاعها وفعلًا عملت كدا بس فلحظة البعـ.ـث بقى “ست” دخل واكتشف اللِ “إيزيس” كانت بتخـ.ـططله، اتعصـ.ـب وها’جم جسـ.ـم أخوه وبدأ يقـ.ـطعه لحتت صغيرة ووزّع الأجزاء دي فأنحاء مختلفة فمصر..
كانت “زُبيدة” تتفاعل مع كُلّ كلمة يقولها “يعقـوب”، كانت معالم وجهها تتبدّل بين الحين والآخر، ولكن في نهاية هذا المشهد تأ’ثرت بشـ.ـدة وبدأ عقلها يخلق لها الصورة تلقائيًا، نظر إليها “يعقـوب” ليرى العبرات تلتمع في مُقلتيها، أخذها وأجلسها فوق حجا’رة تعلوها بإنشات قليلة بعد أن ر’فعها بخفةٍ مِن خصرها وكأنها ريشة خفيفة تجوب مع نسمات الهواء في كُلّ مكان، أخرج محرمة ومد يَده لها بها مبتسمًا، بينما خـ.ـطفته هي بخفةٍ وجففت دموعها في نفس الوقت الذي أكمل فيه “يعقـوب” سرده لبقية القصة:
_فنفس الوقت “إيزيس” كانت حامل فأبنها “حورس” اللِ أتولد عشان يكون الأمل لعودة النظام، “إيزيس” بعد ما جمعت أجز’اء جوزها استخدمت سحـ.ـرها تاني عشان تحـ.ـييه بس “أوزيريس” مقدرش يرجع بشكل كامل وبدل دا بقى إ’له للحياة بعد المو’ت وبقى يحـ.ـكم عالم المو’تى في العالم السـ.ـفلي و “حورس” بقى عا’يش فالأرض، بعدها “حورس” كبر وبقى شا’ب قوي وقائد حكيم كان بيطالب بالثأ’ر من “ست” عشان قتـ.ـل أبوه ود’مره فكانت المعر’كة بينهم طويلة وكانت تُعتبر بين النظام والفو’ضى بين الحياة والمو’ت، حاول بعدها “حورس” كذا مرَّة يتحـ.ـدى “ست” ويحا’ربه وفي النهاية أنتصـ.ـر “حورس” بعد ما أمه “إيزيس” ساعدته واللِ استعانت سحـ.ـرها عشان تقو’ي أبنها وتحـ.ـميه وفي النهاية تم إقر’ار “حورس” كإ’له حا’كم جديد واستمر “أوزيريس” كإ’له للمو’ت ورجعّوا التوازن للعالم وبقى “أوزيريس” رمز للبـ.ـعث والحياة بعد المو’ت و “حورس” بقى إ’له للملك والحـ.ـكم.
سقـ.ـطت عَبراتها فرق صفحة وجهها بعد أن أنهى سرده للقصة وتأ’ثرها الشـ.ـديد بما حدث لهذا الثنائي، بينما قفـ.ـز “يعقـوب” بخفة ليجاورها في جلستها ويتضح المكان مِن حولهم، حاوطها بذراعه الأيسر يضمها إلى أحضانه تزامنًا مع قوله الهادئ:
_دا أنتِ حسا’سة أوي بقى، أكيد ز’علتي على “أوزيريس” أكتر مش كدا.؟
رفعت رأسها قليلًا تنظر في عيناه لتؤكد على حديثه بقولها الباكِ:
_بصراحة و “إيزيس” كمان، ميستحقوش اللِ حصلهم دا بجد، للحظة أفتكرت “رانيا” وأذ’يتها لينا قلبي و’جعني.
أخرج زفيرة عميقة وجاوبها بنبرةٍ هادئة:
_أنا متفهم مشاعرك وعارف إنُه غصـ.ـب عنك بس إحنا خارجين عشان نغيّر جَو يا “زبيدة” مش عشان ننكـ.ـد على نفسنا أكتر دا إحنا لو مغناطيس للنكـ.ـد مكُناش أتنفسنا لحظة، بس خلّينا نشوف الجانب المشرق مِن القصة إن دول مش مجرد ثنائي أو حتى ٢ متجوزين، دول كان أسطورة ورمز للوفاء والحُبّ، وبعدين إحنا لو بصينا عالماضي والحاضر دلوقتي وأتقارنا بيهم إحنا المفروض نتخلّد فكتاب التاريخ، دكتور أتجه لسكة الشُـ.ـرب والبلـ.ـطجة والصيا’عة والانحر’اف بعدين بكام سنة وهو مر’مي فالمستـ.ـنقع المنيـ.ـل دا رجع تاني لعادته القديمة دي لوحدها معجـ.ـزة مش أي حد بيحققها بالذات لو فيها مخد’رات.
منحته ضر’بة خفيفة فوق كتفه بقبـ.ـضة يَدها ووبخته بوجهٍ عا’بس قائلة:
_متتكلمش عن جوزي كدا أنا مسمحلكش على فكرة دا أشطر دكتور فمصر كُلّها.
ضحك “يعقـوب”، وكانت الضحكة نابعة مِن القلب، ضمها أكثر إلى د’فء أحضانه يُلثم رأسها بحنوٍ، بينما أبتسمت هي وسمعته يقول بنبرةٍ هادئة:
_تعالي نتصور، أول صورة لينا مع بعض بعد جواز دام ٥ سنين، إحنا لو حد عتر علينا وعرف بالبلـ.ـوة دي يمين بالله ما هنعدي مِن تحـ.ـت إيده.
ضحكت هي هذه المرة ورفعت رأسها تنظر إليه بوجهٍ مبتسم ونظرة حنونة ود’افئة كانت مِن نصيبه، أخرج هاتفه مِن جيب بنطاله وقد داعب الهواء الد’افئ خصلاته ليقوم بفتح الكاميرا الأمامية والنظر إليها قائلًا:
_مستعدة لتوثيق الجر’يمة.؟
ضحكت هي وأعطته جوابها بالموافقة ليُشهر هو الهاتف بعيدًا ويحاوطها بذراعه الأيسر ضاممًا إياها ضاحكًا، لفّت ذراعيها حول خصره وشاركته ضحكته ليقوم بإلتقاط أول صورة حقيقية تجمعهما سويًا بعد الزواج في لحظة داعبت فيها نسمات الهواء الدا’فئة طرف حجاب رأسها وخصلاته، وكأنها تُعطي لمستها السحـ.ـرية كي تجعل الصورة أجمل، نظر إليها بطرف عينه ثمّ اقترب مِنها يُلثم خَدِّها تزامنًا مع اشتـ.ـداد نسمات الهواء في المكان لتُغمض هي عينيها ضاحكة ويلتقط هو الصورة بسرعة..
_أقسم بالله أنتَ مجـ.ـنون.
قالتها ضاحكة وهي تشاهد برفقتهِ الصورة ليجاوبها هو بنبرةٍ ضاحكة بقوله:
_الجـ.ـنان بيخلّي للحاجة طعم، شوفي الصورتين حلوين أزاي.
نظرت إليه “زُبيدة” في هذه اللحظة وهي تشعُر بالسعادة الحقيقية معهُ لأول مرَّة، فبرغم صعا’ب الحياة والاختبارات التي وُضِعا فيها استطاعا النجـ.ـاة واكمال الطريق رِفقة بعضهما متعاهدين على الاكمال مهما كانت الظروف والبيئة المحيطة بهما.
__________________________
<“أول إختبار حقيقي، وأول تجربة نحو النجاح.”>
قُبَيْل المغرب ولج “عمـاد” إلى المصنع بخطى هادئة وعيناه تجوب في أنحاءه، يرى العُمال يعملون بنشاطٍ وحيوية لم يعهدها مِن قبل، وقد أيقن بأن السبب في ذلك هو ابن أخيه، اقترب مِن “يـوسف” الذي كان يجاور أحد العاملين في المصنع وهو يُرشده ماذا عليه أن يفعل، وقف خلفه وقال بنبرةٍ هادئة مبتسم الوجه:
_دا أنتَ ليك فكُلّ حاجة بجد بقى مش مجرد هزار.
ألتفت إليه “يـوسف” بعد أن جذ’ب انتباهه صوته ليبتسم في وجهه مجيبًا إياه قائلًا:
_ما أنا قولتلك أنتَ اللِ مصدقتنيش.
حرّك “عمـاد” رأسه بخفةٍ وجاوبه قائلًا:
_وأديني صدقت يا عمّ، إيه الأخبار الرجا’لة تمام ولا بيتلكعوا.؟
جاوبه “يـوسف” بنبرةٍ جادة قائلًا:
_كُلّهم زي الفُل وشغالين على سنـ.ـجة ١٠، عيـ.ـب عليك دي منطقتي.
أتسعت بسمةُ “عمـاد” على شفتيه وذكّره بقوله:
_ميعادنا بُكرة أوعى تنسى “عامـر” هيكون مستنيك بدري.
أخذ “يـوسف” قطعة مِن الخـ.ـشب مربع الشكل وهو يُحركه بين أنامله قائلًا بوجهٍ مبتسم:
_لا مش ناسي، الحتة جاهزة ومستنيين اللحظة المناسبة، عُقبال “محمـود” … وأبو “محمـود” معاه.
تعمّد قول ذلك وهو ير’شقه بنظرةٍ خـ.ـبيثة ينتظر الرد مِنْهُ، بينما توتر “عمـاد” قليلًا ولكنهُ استطاع تما’لُك نفسه وجاوبه بنبرةٍ جادة قائلًا:
_لا خلاص بقى مبقاش فيه مِنُه، صرفت نظري عن الموضوع دا.
أراد إقناع هذا الما’كر بتلك الكلمات الكا’ذبة، ولكن كانت محاولته تبوء بالفشـ.ـل هذه المرة حينما رد عليه “يـوسف” بقوله الساخر:
_مفيش مِنُه إيه يا “عُمدة”، مفيش مِنُه إيه دا أنتَ عملت اللِ معملتهوش أنا مع مراتي، مفيش مِنُه إيه واعتراف أول أمس دا راح فين وأنتَ بتر’مي كُلّ اللِ جوّاك للسـ.ـت وكأنك بتقولها ستقبليني رغمًا عنكِ يا امرأة … بتقنع مين يا را’جل يا نمس أنتَ طلّع المستخبي كُلّه وقول اللِ جوّاك بصراحة وعالبلاطة كدا.
لم يتلقى جوابًا سوى الضحك، بالطبع أضحكه بكلماته وأسلوبه ذاك الذي أعتاد عليه حين يُخفى عليه شيءٌ، أرتسمت بسمةٌ واسعة على شفتيه وهو ير’ميه بنظرةٍ ما’كرة وقال:
_شايفني عيل يا “عُمدة” وهتعملهم عليّا، أخبارك وصلتلي وأنتَ قاعد معاها يا عمّ، دا أنتَ ملحقتش تعمل موڤ أون مِن الأولى.
جاوبه “عمـاد” هذه المرة بجديةٍ يُحسـ.ـد عليها قائلًا:
_وأعمل ليه موڤ أون مِن واحدة متستاهلش أزعل عليها حتى بيني وبين نفسي، حبيبي أنا را’جل دوغري وصريح مبحبش دي يعني مبحبش دي، إنما “هنـاء” أنا بحبها وقولت بصراحة هخبي ليه يعني ومش أنتَ اللِ قولتلي شوف غيرها أديني شوفت غيرها.
ر’ماه “يـوسف” نظرةٍ خـ.ـبيثة مغلقًا عيناه قليلًا هُنَيهة ثمّ جاوبه بنبرةٍ هادئة وقال:
_فدي عندك حق، ماشي يا “عُمدة” اللِ يريحك يا عمّ، المهم تكون مبسوط لا أكتر ولا أقل.
تركه واتجه إلى مكتبه بخطى هادئة وهو يُـ.ـلقي نظرة هادئة على جميع العُمال ليشعُر بالرضا بعد أن رآهم يعملون بجدٍ، بينما لَحِقَ بهِ “عمـاد” بخطى هادئة وهو يرى المصنع الذي كان مـ.ـلكًا لأخيه الراحل يومًا يعود إلى سابق عهده اليوم، ولج إلى مكتبه ليراه يجلس خلف مكتبه وينظر في الأوراق قائلًا:
_تعالى يا “عُمدة” عايزك تاخدلك بصة على الورق دا.
اقترب مِنْهُ “عمـاد” بخطى هادئة ليجلس أمامه وهو يَمُدّ يَده ليُـ.ـلقي نظرة سريعة على الأوراق تحت نظرات “يـوسف” الذي كان يُتابعه بهدوءٍ منتظرًا الرد مِنْهُ، دقائق استغرقها “عمـاد” في الإطلاع على الأوراق ثمّ قال بعدها بنبرةٍ هادئة:
_حلو أوي، توكل على الله، صنّع ووزع.
نظر إليه “يـوسف” نظرةٍ مطولة دون أن يتحدث ليجاوبه “عمـاد” بنبرةٍ هادئة مكملًا حديثه بقوله:
_دي هتبقى خطوة حلوة لصالحنا، أتجـ.ـرأ أنتَ بس وخُد الخطوة وإن ما سمعت فظرف ساعة وعملت قلـ.ـق مبقاش أنا.
دقائق بعدها كانت صامتة، “يـوسف” يُتابع عمّه بعيناه يُفكر بعمقٍ في حديثه و “عمـاد” أمامه ينتظر الجواب مِنْهُ، أخذ “يـوسف” الأوراق مجددًا وجاوبه بنبرةٍ هادئة بقوله الهادئ:
_تمام، كدا كدا العينا’ت جاهزة أنا قولتلهم متصنعوش حاجة غير بإذن مِني، أنا اللِ هصنّع بنفسي أول حتة، وأنتَ تسوّق.
وافق “عمـاد” على حديثه بقوله الهادئ:
_وأنا موافق، أنتَ عليك الصنعة وأنا عليّا التسويق، والله المستعان.
تشا’بكت الكفو’ف وأتفق الطرفين على البدء في إعادة المصنع إلى مكانه مِن جديد بعد سنواتٍ طويلة استمرت في د’فنه، قراراتٌ مصيـ.ـرية أتُخِذَت وترقبٍ في أنتظار الغد الذي يحمل معهُ مفاجئاتٌ عديدة.
__________________________
<“لفحات تُنذ’ر بالعودة مِن جديد.”>
في حارة “عابدين” – في منزل “يـوسف”،
كانت “بيلا” تقف أمام الفراش في غرفتها تطوي الملابس النظـ.ـيفة بهدوءٍ شـ.ـديد، وأمامها على الفراش كانت صغيرتها “لين” محاطة بوسادتين، مستيقظة وعيناها الواسعة تجوب في أنحاء الغرفة وكأنها تستكشفها لأول مرَّة، كانت تُحرك قدميها الصغيرتين في الهواء وإصبعها الصغير في فمها وأصواتًا ناعمة تُصدرها بين الحين والآخر، صدح رنين هاتفها يُعلنها عن أتصالٍ هاتفي..
انحنت قليلًا بجذ’عها وألتقطت الهاتف تنظر إلى المتصل لتراه أخيها “بشيـر” ولذلك لم تنتظر وجاوبته بنبرةٍ هادئة قائلة:
_أيوه يا “بيشـر”.
وحين أستمعت “لين” إلى أسمه أكتستها السعادة وأصبحت تُحرك قدميها ويديها في الهواء بفرحة لا تستطيع التعبير عنها إلّا بتلك الحركات البسيطة، أبتسمت “بيلا” حين رأت رد فعل صغيرتها وقالت:
_في حد هنا يا “بيشـو” فرح أوي أول ما سمع اسمك.
سألها “بشيـر” عنهُ ليأتي صر’خة طفولية سعيدة وكأنها تُجيبه دون أن تستمع إلى سؤاله، ضحكت “بيلا” وسَمِعَت “بشيـر” الذي قال عبر الهاتف بنبرةٍ هادئة:
_”لين” حبيبة قلبي، تصدقي أنا فيا شيء لله بناتك بيحبوني حُبّ غير طبيعي.
ضحكت “بيلا” وجاوبته بنبرةٍ هادئة وهي تُكمل ما تفعله قائلة:
_”ليان” مش هنا للأسف لو كانت هنا كانت خـ.ـطفت مِني التليفون وقعدت كلمتك ساعتين عادي.
جاوبها “بشيـر” بنبرةٍ ضاحكة بقوله:
_دي حبيبتي براحتها تعمل اللِ هي عاوزاه طبعًا كُلّنا تحت أمر الملكة “ليان”.
جاوبته “بيلا” بعد أن جلست على طرف الفراش قائلة بنبرةٍ هادئة:
_ها عملت إيه طمني، الشغل ماشي معاك كويس.؟
أخرج “بشيـر” زفرة عميقة وجاوبها بنبرةٍ هادئة بقوله:
_أهو ماشي الحال الحمدلله، طمنيني عليكم.
جاوبته بنبرةٍ هادئة وهي تنظر إلى صغيرتها قائلة:
_الحمدلله إحنا كُلّنا بخير أهم حاجة أنتَ يا حبيبي، خلّي بالك مِن نفسك وكُل كويس ومتنساش أختك عشان مزعلش مِنك ولو زعلت مش هتعرف تصالحني.
قهقه “بشيـر” بخفةٍ وجاوبها بنبرةٍ هادئة بقوله:
_حاضر يا سـ.ـت البنات طلباتك أوامر، هضطر أقفل معاكي دلوقتي سلميلي على “ليان” وبوسيهالي وأنا فأقرب وقت هكلمها بنفسي.
وبعد تبادل الكلمات البسيطة أغلقت الهاتف وتركته بجانبها على سطح الطاولة وهي تزفر بعمقٍ بعد أن أطمئن قلبها على أخيها الحبيب، لحظات وشَعَرت بيَد صغيرة تجذ’ب خصلاتها الطويلة بعـ.ـنف طفولي، تأ’وهت بخفة وألتفتت قليلًا برأسها تنظر إلى صغيرتها التي كانت تنظر إليها وتبتسم وكأنها حققت إنجازًا فريدًا، حاولت “بيلا” تحر’ير خصلاتها مِن بين أنامل صغيرتها برفقٍ وهي تتحدث معها بلطفٍ قائلة:
_كدا مينفعش يا “لين”، ينفع يعني تشـ.ـدي شعر ماما بالطريقة دي.
أطـ.ـلقت الصغيرة صر’خة طفولية وكأنها تعتر’ض على حديثها وترى أن ما تفعله هو الصواب، ضحكت “بيلا” وأثناء محاولاتها لفـ.ـك خصلاتها مِن بين أناملها الصغيرة صدح رنين جرس المنزل عاليًا يُعلنها عن وصول زائرٍ إليها، وتحت إصرار الصغيرة لعدم ترك خصلا’تها اضطرت “بيلا” أن تحملها بين ذراعيها، اقتربت بخطى هادئة مِن الباب ووقفت تنظر مِن خلفه إلى الزائر لتراه زوجها ولذلك أمسكت بمقـ.ـبض الباب وفتحته مبتسمة الوجه، نظر إليها “يـوسف” مندهشًا بعد أن رأى صغيرته ممسكةً بخصلا’تها ليقول:
_دا تأد’يب ولا عذ’اب.؟
ولج وأغلق الباب خلفه لتُجيبه “بيلا” راجية:
_عشان خاطري حاول تحل الموضوع عشان هي مش هتسكت غير وهي مخر’جة شعري فإيـ.ـديها.
ضحك “يـوسف” تاركًا أغراضه فوق سطح الطاولة وقد اقترب مِنها وهو يُحادث صغيرته قائلًا:
_أنتِ وارثة **** صفة فيا، ونعمة التربية واللهِ.
رفع الصغيرة مِن أسفل ذراعيها الصغيران وضمها إلى أحضانه محاولًا فصـ.ـل والدتها عنها قائلًا:
_البـ.ـت دي هتتـ.ـعبنا معاها جا’مد أوي، العباسية عندها سريرين فاضيين يمكن نحتاجهم قدام.
نظرت إليه “لين” بعينيها الو’اسعة بدهشة وكأنها تراه لأول مرَّة وعندما رأت هدفها أتسعت بسمتها الطفولية الما’كرة ومدّت يَدها الصغيرة الأخرى تتشـ.ـبث بذقنه بعـ.ـنفٍ طفولي وكأنها وجدت لُعبتها الحقيقية، نظر إليها “يـوسف” نظرةٍ ذات معنى وقال:
_تصدقي وتؤمني بالله، أنتِ عَيلة متربتش.
ضحكت الصغيرة عاليًا وكأنها فهمت حديثه وبدأت تجذ’ب ذ’قنه بعنـ.ـفٍ وحما’سٍ شـ.ـديدٍ وهي تراه يتأ’لم ويأ’مرها بتركه قائلًا:
_يا بنتي حرام على أهلك أرحمي دقني اللِ قرّبت أشيـ.ـلها بسببك، أنتِ أي حاجة فيها شعر ما بتصدقي تشـ.ـديها لا راحمة شعـ.ـر أمك ولا أختك ولا دقني سلمت مِنك ناقص أصحى فمرة ألاقيكي جيبـ.ـاني مِن شعري أنا كمان.
أنهى حديثه وهما يتبادلان النظرات بينهما، لحظة وضحكت هي عاليًا وكأنه مازحها لتترك خصلا’ت والدتها مِن تلقاء نفسها وتتشـ.ـبث بذقنه بيَديها الصغيرتين وكأنها تُعا’قبه على ما قاله قبل لحظات، أغمض “يـوسف” عيناه بعد أن أدرك مصيره تحت تلك المخا’لب الصغيرة، نظرت إليه “لين” قليلًا بدهشة ثمّ بدأت تتحدث بكلماتٍ غير مفهومة وقررت تفجيـ.ـر عنصر المفاجأة حينما جذ’بت ذقنه بعنـ.ـفٍ..
تأ’وهٍ حا’د صدر مِنْهُ وهو يفتح عيناه وينظر إليها بعدم رضا، ضحكت “لين” مجددًا وبدأت تأخذ جولة بيَديها الصغيرتين فوق وجهه ليتحرك هو خلف زوجته إلى الغرفة وهو يُحاول إبعاد يَديها عن وجهه بلطفٍ، صدح رنين هاتفها مجددًا لتراه رقمًا مجهو’لًا ولذلك أجابت بنبرةٍ هادئة تنتظر معرفة المتصل، بينما نظر “يـوسف” إلى صغيرته وتو’عد إليها بقوله الهادئ:
_يمين بالله لوريكي، أفضلي شـ.ـدي كدا براحتك بقى.
ضحكت الصغيرة وقد قررت ترك وجهه ووضع رأسها الصغيرة فوق كتفه وكأنها كانت تشتاق إلى هذا العناق منذ الصباح، نظرت “بيلا” إلى زوجها بعد أن أخبرت المتصل بالانتظار قليلًا وقالت بنبرةٍ هادئة متسائلة:
_”يـوسف” أنا جالي شغل، أوافق ولا إيه.؟
نظر إليها نظرةٍ هادئة وجاوبها قائلًا:
_وافقي عادي هو أنا همـ.ـنعك يعني.؟
نظرت “بيلا” إلى صغيرتها ثمّ إليه وجاوبته قائلة:
_طب والبنات أعمل إيه.؟
جاوبها “يـوسف” بنبرةٍ هادئة وكأنه يُصِّـ.ـر على قوله:
_وافقي وهنتكلم فالموضوع دا بعدين.
عادت “بيلا” تُجيب المتصل بينما عاد هو إلى صغيرته التي كانت تُحرك يَدها الصغيرة في الهواء وهي تُتمتم بكلماتٍ غير مفهومة بلغتها الخاصة التي لا يفهمها أحدٌ سواها، مسّد برفقٍ على خصلاتها البُـ.ـنية الناعمة ثمّ نظر إلى “بيلا” التي أنهت المكالمة وقال بنبرةٍ متسائلة:
_عملتي إيه.؟
نظرت إليه بعد أن تركت هاتفها وجاوبته بنبرةٍ هادئة قائلة:
_آه وافقت زي ما قولتلي.
حرّك رأسه برفقٍ يوافق على حديثها وقال بنبرةٍ هادئة:
_على بركة الله، أتكلي ومتشيليش هـ.ـم أنا هتصرف مع البنات.
جاوبته بنبرةٍ هادئة بقولها:
_مصدقت بصراحة رجع يجيلي شغل تاني، أنا هبقى أوديهم عند ماما شوية و “كايلا” شوية لحد ما أمورنا تتظبط.
وقبل أن يُجيبها بدأت الصغيرة تُتمتم أولى كلماتها مشيرةً تجاه أمّها قائلة:
_ما ما.
تفاجئت “بيلا”، بل صُدِمَتْ حينما نادتها الصغيرة فجأةً لأول مرَّة وبدون تمهيداتٍ، نظرت إلى “يـوسف” الذي نظر لها مندهشًا ليقول:
_أكيد بيتهيقلنا.
ولكن أعادت الصغيرة تكرار الكلمة مجددًا وكأنها تؤكد لهما أن ما سمعانه ليس خا’طئًا:
_ما ما.
مدّت “بيلا” يَديها تأخذها مِنْهُ وهي تغدقها بقبّلاتٍ متفرقة لتبدأ الصغيرة تضحك بعـ.ـلوٍ، أبتسم “يـوسف” وقد غمره شعورٌ مختلف هذه المرة بعد أن سَمِعَ أولى كلمات صغيرته التي تنطقها، فمازال يتذكّر أنها جاءت بالأمس، واليوم هي تنطق أولى كلماتها بعد مرور عشرة أشهرٍ، مسّدت “بيلا” على خصلا’ت صغيرتها بحنوٍ ونظرت إلى زوجها الذي كان متأ’ثرًا بتلك اللحظة بعد أن بدأ يستمع إلى نفس الكلمات للمرةِ الثانية على التوالي..
نظرت الصغيرة إلى “يـوسف” ونادته بصوتٍ نا’عم وبأسلوبٍ جعل الوجفة تتـ.ـملّك مِن جسـ.ـده:
_دا .. دا.
هذه المرة أخذها “يـوسف” بعد أن شَعَر أنَّهُ لا يستطيع تجا’هل هذا النداء النا’عم اللطيف، ضمها إلى د’فء أحضانه واقترب مِنها يُلثم خَدِّها الصغير بحنوٍ وينظر لها مبتسم الوجه، لامس إبهامه بشرتها النا’عمة وقال بنبرةٍ دا’فئة:
_أحلى كلمة بابا أسمعها بعد “ليان”.
أنهى حديثه وعاد يُلثم خَدِّها الصغير بحنوٍ وهو ينظر لها بفرحةٍ غير عادية وكأنه يسمعها لأول مرَّة، نظرت إليه “لين” مجددًا وكررت ندائها قائلة:
_دا .. دا .. دا .. دا.
ضحكت “بيلا” وعادت تُكمل ما تفعله وهي تشعُر بالسعادة تغمر قلبها بعد أن فاجئتها صغيرتها بنطق أولى كلماتها، تململت الصغيرة مِن بين ذراعي والدها بعد أن شَعَرت بطاقة حما’س مفر’طة تجتا’حها ولذلك بدأت تزحف على أطرافها بسعادة وهي تجذ’ب قميص والدها الأبيـ.ـض بعد أن قامت “بيلا” بطويه تعـ.ـبث بأناملها الصغيرة في أزراره التي لمعت تحت ضوء الغرفة، نظر “يـوسف” إلى “بيلا” التي أشارت تجاه صغيرتها قائلة بقلة حيلة:
_أهي هتبدأ تكر/كب الدنيا مِن بدري.
أبتسم “يـوسف” ونظر إلى صغيرته التي بدأ ترفع طرف القميص وهي تنظر إليه وتردد:
_دا .. دا.
أقترب مِنها “يـوسف” يُلثم خَدِّها الصغير بحنوٍ وجاورها في جلستها يراها تلعب تارة في قميصه الأبيـ.ـض وأخرى بالكرة المطاطية التي لطالما تضعها دومًا في فـ.ـمها ليسأل عن صغيرته الأخرى بقوله الهادئ:
_أومال “ليان” فين مش شايفها النهاردة.؟
جاوبته “بيلا” بنبرةٍ هادئة قائلة:
_عند ماما، قعدة مع “نادر”وكان “بشيـر” موجود.
نهض هو واقفًا نظر إليها وقال بنبرةٍ هادئة:
_طب هروح أجيبها وأجي وبالمرة أشوف خالتي “هنـاء”.
وقبل أن يتحرك مـ.ـنعه صر’خة صغيرته التي رأته يبتعد عنها وكأنها تعتر’ض على ذهابه وتركها، نظر إليها كلًا مِن “يـوسف” و “بيلا” وكلاهما مندهشين، رفعت “لين” ذراعيها الصغيرين في الهواء والعَبرات تلمع في عينيها الو’اسعة وهي تنظر إليه، أقترب مِنها ورفعها على ذراعيه يُلثم خَدِّها الصغير بحنوٍ تزامنًا مع قوله:
_ناوية تيجي معايا ولا إيه.؟
تشـ.ـبثت الصغيرة في ياقة قميصه الأسو’د وكأنها تر’فض تركه يرحل دون أن يصطحبها معهُ، ضحكت “بيلا” في الخلفية وقالت:
_شكلك هتاخد على كدا مِن دلوقتي، شيـ.ـل يا “يـوسف”.
نظر إليها بعد أن شَعَر بسخريتها في نبرتها وقال:
_هشيـ.ـل ما أنا شا’يل أمهم قبلهم هتيجي عليهم يعني الفرق فالأحجام بس مش أكتر.
جحظت عينيها بصدمة وعدم تصديق وهي تراه يأخذ صغيرته ويبتعد بها، فحديثه لا يُشير إلّا بمعنى واحد فقط، لَحِقَت بهِ وهي تقول بنبرةٍ عالية:
_قصدك إن أنا عجـ.ـلة يا “يـوسف” دا قصدك مش كدا ..!!
توقف “يـوسف” على باب الشقة قبل أن يخرج وهو يلتفت إليها ينظر لها بوجهٍ مبتسم ثمّ قال:
_لو أنتِ شايفاها كدا براحتك، بس أنا كان قصدي حاجة تانية مش مجبو’ر أبررها عشان ميتنكـ.ـدش عليّا عشان كدا أو كدا هيتنكـ.ـد عليّا فهتـ.ـعب نفسي ليه.؟
لم يمنحها الفرصة لترد عليه، بل تركها وخرج مغلقًا الباب خلفه وكأنه يتعمـ.ـد إثا’رة غيظها عن عمـ.ـدٍ، شَعَرت بالغيظ تجاهه ولذلك عادت مجددًا إلى غرفتها وهي تتو’عد إليه بالويلات عندما يعود.
__________________________
<“تُمنح الفرص ليس لإهدا’رها، بل لبدء سطر جديد.”>
في منطقة حيوية – بإحدى الشقق،
كان “حليم” يقف في الشرفة يحتسي قهوته بهدوء وهو يعبث في هاتفه، يتصفح مواقع التواصل الاجتماعي يُشاهد آخر الأخبار المتداولة في الآونة الأخيرة، فجأة جاءه أتصالٌ هاتفي مِن أخيه جعله يخرج عن نطا’ق تركيزه، أجابه بنبرةٍ هادئة محتسيًا القهوة:
_كان الله فالعون، مسؤوليات ملهاش آخر أنا عارف.
تعمّـ.ـد إثا’رة غيظه بكلماته وتذكيره بما يُحمـ.ـل على عا’تقيه ليأتيه الرد مِن “صلاح” الذي قال:
_أحسن مِن العزوبية يا فلحو’س.
قهقه “حليم” بخفة وجاوبه متعمـ.ـدًا إثا’رة غيظه:
_حبيبي أعزب بس مرتاح، لا عيال ولا زوجة ولا هات باكت بامبرز وأنتَ جاي، هات كيلو لبن وفينو عشان مدارس العيال الصبح، دا أنتَ بتتمنى حياتي يا عمّ قول كلام غير دا.
شَعَر “صلاح” بالغيظ الشـ.ـديد مِنْهُ ولذلك جاوبه بنبرةٍ حا’دة:
_نفسي تقـ.ـع على بوزك وتلبس، أقسم بالله لفرح فيك فرحة مفرحتهاش فأبوك نفسُه.
وعندما تذكّر أباه تبدّلت معالم وجهه إلى الو’جوم تزامنًا مع قوله الحا’نق:
_وليه السيرة اللِ تقفـ.ـل الواحد دي يعني.
أنتبه “صلاح” إلى ما قاله ولذلك مسح على وجهه وقال بنبرةٍ هادئة:
_خلاص متضا’يقش حقك عليّا أنا بتكلم بتلقائية مقصدش أضا’يقك، إلّا بالحق صحيح أنتَ عملت إيه عند الدكتور “مارتن”.
أخرج “حليم” زفرة عميقة يُخرج مِن خلالها طاقته السلـ.ـبية وقال بنبرةٍ هادئة:
_مطولتش المرة دي، قولت اللِ حسيت بيه وقتها، يا دوب مكملتش كتير بس لمَ سألني وقال انتَ مش مُطالب تحبه، انتَ مُطالب بس تلاقي نفسك بعيد عنُه، سكت شوية وقولتله لو لقيتي أرجعلك، قالي أنا هنا عشان أساعدك كُلّ مرَّة، وقتها حسيت إنِ مش لوحدي، حسيت إن في حد مستني يسمعني حتى لو متلغـ.ـبط وجوّايا كلا’كيع ملهاش أول مِن آخر، أول ما أحسّ إنِ محتاج أروحله هروح على طول، عشان لسّه جوّايا مستنـ.ـقع مش عايز ينتـ.ـهي ولو مقـ.ـضتش عليه هو هيقـ.ـضي عليّا.
تنهيدة عميقة تلّقاها بعد أن أستمع إلى أخيه الذي قال بعدها:
_أنا حاسس بيك وعارف إن اللِ أنتَ حاسس بيه دا مش قليل، وعارف إنك شوفت كتير واستحـ.ـملت وأتعذ’بت كمان، عمومًا قبل ما تروح تكون مديني خبر عشان مسيبكش لوحدك، عايز أشاركك المرحلة دي من البداية للنهاية، عايز أكون جزء ولو بسيط مِن المرحلة دي.
أبتسم “حليم” وجاوبه بنبرةٍ هادئة بقوله:
_أنتَ أساسي فيها مِن زمان يا “صلاح”، مترجعنيش ورا بقى الله يكرمك أنا ما صدقت.
أبتسم “صلاح” وجاوبه بنبرةٍ هادئة قائلًا:
_حاضر يا أستاذ “حليم”، زي ما تحب فـ.ـكك مِن كُلّ دا وركز عاللِ جاي، عشان في ناس تستحق إنك تعا’فر نفسك عشانهم.
كلماتٌ بسيطة تُلقى ليكون تأ’ثيرها قو’يٌ على صاحبها، ستكون الحا’فز الأكبر لتحريك أشياءًا كانت مد’فونة بداخله، وبعد مكالمة دامت لعشرون دقيقة انتهت في الأخير وعاد “حليم” يتصفح على هاتفه حتى جذ’ب أنتباهه ر’جلٌ كبير بعمر أبيه يسُـ.ـب ولده الذي هو بعمره تقريبًا ثمّ بعدها يباغته بصفـ.ـعة قو’ية على صفحة وجهه، تجمـ.ـد “حليم” مكانه وظلّت عيناه مثبتةً على هذا المشهد دون أن يتحرك، تسا’رعت وتيرة أنفاسه وضـ.ـغط بعنـ.ـفٍ على أسنانه وهو يتذكّر تلك المشاهد مِن الماضي..
هي نفسها التي عا’ش بها تحـ.ـت أيدي والده وأ’وامره التي يجب أن تُجاب في الحال، شَعَر بالشا’ب المسكين، وشَعَر بكسـ.ـرته في تلك اللحظة فكان يعـ.ـيشها مِن قبله ويعلم مرا’رتها جيدًا، لم يكتفي الأب بذلك بل بدأ يسُـ.ـبه ويُلقـ.ـي على مسامعه أبشـ.ـع الكلمات التي يكفي أن تقسـ.ـم ظهر البعيـ.ـر، لحظات عا’شها مع عقله الذي استعاد إليه مشاهد الماضي كُلّها، قبل أن يستفيق ويُقرر التحرُك، ترك فنجان القهوة وولج إلى الداخل بخطى وا’سعة وصوت أنفاسه عا’لية وكأنه يُحاول كبـ.ـح غضـ.ـبه بأيا طريقة..
وبعد لحظات خرج مِن بهو البِنْاية واقترب مِنهما بخطى و’اسعة ليجذ’ب الشا’ب إلى الخلف ويقف أمامه في مواجهة والده كالحصـ.ـن المـ.ـنيع، برغم أنَّهُ ر’جلٌ آخر غير أبيه ولكن رأى صفاته القبيـ.ـحة بداخله وتظهر في تصرفاته أمامه، رفع سبابته في وجهه وقام بتحذ’يره بنبرةٍ حا’دة حاول فيها كبـ.ـح إنفعا’لاته بقوله:
_إذا إيدك لمـ.ـسته تاني أنا هقطـ.ـعهالك، كفاية تنشـ.ـروا مر’ضكم بقى وروحوا أتعا’لجوا أحسن، أو ليه كُلّ دا، متتجوزوش مِن أساسه لو أنتم مش مؤهلين تبنـ.ـوا بيت وأسرة سوية، بسببكم واحد زي أبنك دا أصبح إنسان غير سوي، عيـ.ـب عليك لمَ أبنك يبقى را’جل بشنبا’ت طول بعرض وتمـ.ـد إيدك عليه وسط الناس كدا فالشارع أو فالعموم ..!!
لم يستطع تما’لُك نفسُه ورؤيته لغيره يتلقى العذا’ب نفسُه الذي يتلقاه هذا الشا’ب المسكين الذي لم يُكسـ.ـر أمام الجميع فحسب بل كُسِـ.ـرَ أمام زوجته أيضًا التي كانت تقف في الخلفية تضع يديها على فمها وتبكِ بعد أن فشـ.ـلت في الد’فاع عنهُ والوقوف أمام عوا’صف أبيه المد’مرة، لمحها “حليم” مِن خلف الر’جُل وتلك النظرة برغم أنها لم تكُن موجّهة إليه بعينه ولكنها كسـ.ـرته، جعلته يشعُر بكر’امته ور’جولته تُد’هس تحت الأقد’ام فما بحالة هذا الشا’ب إذًا..
_وأنتَ مين يا حيلتها؟ تكونش المحامي بتاعه وأنا معرفش؟ وبتدخّل ليه أساسًا أنتَ مين عشان تدخّل بين أب وإبنه، إبني وبربيه بمعرفتي.
لم تفعل هذه الكلمات شيئًا سِوى أنها أيقظت نير’انًا حاول لجـ.ـمها مئات المرات حتى لا تُسبب كوا’رث و’خيمة ولكن ثمة مَن مازال يُعاند ويُريد إخراجها مهما كلفه الأمر، ولكن “حليم” لم يصمت بل رد عليه بإنفعا’لٍ واضح بقوله:
_أنا شا’ب زيي زي أبنك بالظبط، أبويا مر’يض زيك د’مرني لحد ما فقـ.ـدت الثقة فنفسي وفكُلّ اللِ حواليا، خلّاني أشـ.ـك فكُلّ الناس، عاملني زي اللعبة فإيده يحركها يمين تروح يمين شما’ل يبقى شما’ل، كان يقولي العياط للرجا’لة ضـ.ـعف أوعى تعيط، ولا تضحك عالفاضي والمليان الضحك لُه مواعيد، كان بيتعـ.ـمد يهيـ.ـني قدام الناس ويشـ.ـتمني ويمـ.ـد إيده عليّا كمان، زي ما عملت أنتَ بالظبط مع أبنك دلوقتي قدام الناس ومراته، أنتوا اللِ زيكم المفروض يتحا’كم، أزاي سايبينكم كدا؟ بتد’مروا أجيال وشبا’ب زي الورد كان نفسه ياخد فرصته ويثبـ.ـت نفسُه، وآه يا عمّ أنا محاميه أعلى ما فخـ.ـيلك أركبه أنا مبخا’فش غير مِن اللِ خـ.ـلقني.
لأول مرَّة يخرج الأسـ.ـد مِن جحـ.ـره، يز’ئر ويُهـ.ـدد بافتر’اس غيره، لأول مرَّة يمتلك تلك الشجا’عة التي تجعله يقف أمام غيره، اكتست عيناه بالحُمـ.ـرة، وأصبح صد’ره يعلو ويهبط بعنـ.ـفٍ، ينتظر الرد الذي إما سيجعله يفقـ.ـد عقله أو يجعله يشعُر بالنصـ.ـر أمام هذا العجو!ز، وأمام هذا الحشـ.ـد مِن المتفرجين لم يستطع قول أيُ شيءٍ، ولذلك ر’مق ابنه نظرةٍ ذات معنى ورحل بصمتٍ تام، لأنه يعلم أنَّهُ على خـ.ـطأٍ، وبرحيله ألتفت “حليم” إلى الشا’ب ينظر لهُ يراه يقاربه في العُمر وفي عيناه كسـ.ـرة لا يعلمها سواه..
ربّت على ذراعه برفقٍ وابتسم في وجهه قائلًا بنبرةٍ هادئة:
_أنا حاسس بيك، مش مجرد كلمتين صدقني أنا حاسس بيك بجد، عارف الكسـ.ـرة اللِ حاسس بيها، وعارف إنك مش هتقد’ر تر’فع عينك فوش حد وهتحس بالإها’نة ونظرات الشفقة حتى لو محدش أتكلم وحاول يواسيك، مينفعش تسكت، لازم تتكلم وتدا’فع عن نفسك أنتَ حُـ.ـر نفسك محدش يمشيك على مزاجه أنتَ ليك رأيك المستقل ونفسك وبس، أي حد ميحترمش النقطة دي تر’ميه ورا ضهرك، أنا بكلمك عشان عا’يش نفسك عيـ.ـشتك دي واتعذ’بت بطريقة بشـ.ـعة وتم استغـ.ـلالي أبشـ.ـع استغلا’ل بس فوقت، فوقت فالوقت المناسب وقررت أقف على رجلي وفوش أي حد يفكر ييجي عليّا تاني، وأنتَ كمان أعمل كدا، دا مش تمر’د ولا عصـ.ـيان … دا أسمه د’فاع عن النفس، أنتَ إنسان وليك قراراتك وحُـ.ـريتك واستقلا’لك، مش مر’بوط بقيو’د ومفروض عليك تنفـ.ـذها.
نظر إليه هذا الشا’ب والعَبرات تلمع بوميضٍ متلئلئ وكأنها تُعلن عن خبا’يا لم تكُن تُرى، شَعَر بالإنصا’ف لمرته الأولى، حتى وإن كان مِن الغريب، ولكن الأهم أنَّهُ شَعَر بذلك وهذا يكفي لأن يُثبـ.ـت لهُ أنَّهُ على حقٍ، ضمه هذا الشا’ب وكأنه يشكره على ما فعله دون أن يتحدث، فحتى الآن هو لا يستطيع التحدث فما رآه جعله يفقـ.ـد النطق لوقتٍ مؤقت، ولكن عناقٍ كهذا لن يجعله يخسـ.ـر شيئًا، بينما أبتسم “حليم” وربّت فوق ظهره دون أن يتحدث وهو يشعُر براحة غريبة أجتا’حه بعد تلك الموا’جهة وكأنه كان يوجّه حديثه إلى أبيه نفسُه وهذا جعله سعيدًا.
__________________________
<“لحظة صفاء لُطِخَـ.ـتْ بقدومٍ غير مُبشرِ.”>
في إحدى المحلات العريقة،
كان “محمـود” قد صف سيارته أمام المتجر وترجل مِنها بهدوءٍ، أغلقها عن طريق الزر الالكتروني وتقدّم بخطى هادئة نحو باب المتجر يد’فعه برفقٍ، تقدّم مِن صاحب المتجر ليقف أمامه وينز’ع نظارته السو’د’اء تزامنًا مع قوله الهادئ:
_في بدلتين بحجز مُسبق بإسم “محمـود عمـاد” و “عامـر عمـاد” ميعاد التسليم المفروض النهاردة.
نظر إليه صاحب المتجر وقال بنبرةٍ هادئة:
_ممكن الو’صل بعد إذنك.
أخرجه “محمـود” مِن جيب سترة حُلته البُـ.ـنية وأعطاه إليه، تفحصه الر’جُل ثمّ نظر إليه وقال بنبرةٍ هادئة:
_تمام يا “محمـود” هما جاهزين فعلًا ثوانِ أجيبهوملك.
أومأ “محمـود” رأسه برفقٍ وابتسم بسمةٌ هادئة ينظر إلى الر’جُل الذي تركه وولج إلى إحدى الغرف لجلبهم إليه تاركًا إياه يتفحص المكان مِن حوله لدقائق قصيرة حتى عاد إليه مجددًا مبتسم الوجه قائلًا:
_مُبارك إن شاء الله.
أخذهم “محمـود” مِنْهُ وشكره بوجهٍ مبتسم قائلًا:
_الله يبارك فيك، شكرًا.
تركه ورحل بعدها متجهًا إلى سيارته مِن جديد ضا’غطًا على الزر مجددًا ليفتح باب السيارة الخلفي مُـ.ـعلقًا إياهم ثمّ أغلق الباب تزامنًا مع سماعه لرنين هاتفه يُعلنه عن أتصالٍ هاتفي، أخرجه مِن جيب سترة حُلته ليراه أخيه ولذلك جاوبه بنبرةٍ هادئة وقال:
_أيوه يا عريس، لا عيـ.ـب عليك يا عمّ جبتهم طبعًا، آه هجيب بس كام حاجة وارجع البيت، ماشي نتقابل هناك، سلام.
أغلق المكالمة بوجهٍ مبتسم وأومأ رأسه قليلًا ثمّ تقدّم مِن الباب الخاص بمقعد السائق وفتحه ليمـ.ـنعه يَد أنو’ثية، نظر إلى صاحبتها ليراها هي بنفسها لم تـ.ـعبأ بكُلّ ما حدث وعادت، عادت لتُعيد فتح جر’احه مِن جديد، نظر إليها نظرةٍ حا’دة ومصدومة في نفس الوقت بعد أن رآها تعود بعد أن قام بطر’دها بنفسُه مِن المنزل، لقد عادت “زينـات” ..!!
________________________________
يتبع….
google-playkhamsatmostaqltradent