رواية فوق جبال الهوان الفصل السادس والعشرون 26 - بقلم منال سالم
عذرًا على التأخير، في انتظار تعليقاتكم الداعمة ♥
>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>
الفصل السادس والعشرون
في زهو صريحٍ، وتفاخر لا يمكن التشكيك فيه، تطلع إلى من حوله بسموٍ وعلو، وكأنه يجلس على عرشه الفخم، وعند قدميه يجثو رعـاياه، ينتظرون منه أن يمنحهم عطفه ورضاه. يبدو أن التاريخ يُعيد نفسه، فما أشبه اليوم بالبارحة! لمحات من الماضي غزت عقله ونشطته بما اعتاد والده القـــاســـي على فعله، في مواقف تتطلب الحزم والحسم، فقد كان يجلس هكذا، بجبروته وتجبره، يعطي الأوامر، ويصدر التعليمات، فيما وقف هو بجواره يراقبه ويتعلم منه كيف يكون صلدًا، متحجر القلب والمشاعر، لا يعرف للشفقة عنوان، فالمسئولية المُلقاة على عاتقه تتطلب أن يكون هكذا، وإلا ابتلعه بلا هوادة من يتربصون اللحظة التي يغفل فيها أبيه عنهم.
مُنع منذ الصغر من التنعم بأحضــان والدته، ودفء مشاعرها الحنون، ولازم والده الصارم ليل نهار ليُحاكيه فيما يقوم به، حتى يغدو نسخة مصغرة عنه، أو ربما الأسوأ منه. لم يكن ما جمع أبويه في تلك الزيجة قصة حب عادية، أو حتى تولدت بينهما مشاعر المودة بعد استمرار زواجهما لعدة سنوات، وإنما كان لقائهما مقررًا من قِبل كبار العائلات لوأد الصــراع، وتهدئة الأجواء المحتدمة بين عتاة الإجــــرام بعدما صار الاقــتـــتال بينهم شـــرسًا ولا يرحم.
كلماته كانت لا تزال ترن في أذنيه، فأعيدت على مسامعه، وكأنها قيلت توًا:
-إنت الكبير من بعدي، سامع؟ أخوك غيرك، وإنت مسئول عنه.
رد عليه "كرم" مومئًا برأسه في طاعة تامة:
-كلامك أوامر يا كبيرنا.
أشار والده بإصبعه للشـــرذمة المجتمعة على مقربة منه، وتابع في ازدراءٍ:
-شايف الواغش دول، كلهم عاملين زي الديابة مستنين إني أقع، علشان يسنوا سنانهم، وينهشوني، وده مش هيحصل إلا بمــــوتي!
هتف من فوره مؤكدًا بما لا يدع أدنى مجال للشك في وعوده:
-أنا موجود يابا، وهحميك بروحي.
ابتسم في حبورٍ، وأخبره فيما يشبه النصيحة:
-عارف، وبجهزك تكون كبيرهم على حياة عيني، علشان لو جرالي حاجة، ما يغدروش بيك.
مجددًا علق عليه بيقينٍ:
-اطمن يابا، كل اللي هتقوله هنفذه.
عاد من سرحانه في الزمن الغابر ليحدق في الوجوه التي ما زالت تنظر إليه، خاصة بعدما تم الإتيان بـ "توحيدة" لمعاقبتها على ما اقترفت خلسة في حق "وِزة"، فرمقها بنظرة نارية لا تنتوي خيرًا، وأصدر أمره:
-من النهاردة مالكيش لا حكم ولا سلطان على بيتك، وهتبقي خدامة لـ "وِزة".
لم تستطع أبدًا تقبل أن تصبح في مكانة أدنى مما كانت عليه، أن تكون خادمتها الوضيعة هي ربة عملها، لذا بتلقائيةٍ مشوبة بالحنق صاحت "توحيدة" محتجة عليه في جراءة غير معهودة منها:
-اللي بيتعمل معايا ده ظلم وافترا.
قابل اعتراضها بقســــاوةٍ:
-وأنا الظالم يا مَرة لو مش عاجبك.
حاولت أن تبدو لينة الكلام معه، لتستحثه على التراجع عن قراره الصادم، فاستجدته:
-يا كبيرنا مش بعد العمر ده كله أتهان، ده أنا طول عمري بعمل كل اللي بتطلبه مني.
رماها بنظرة احتقارية قبل أن يرد بتشددٍ:
-حتى لو عندك 100 سنة، طالما عصيتي أوامري يبقى تستحملي...
ثم فرقع بأصبعيه مكملًا كلامه الآمر:
-خدوها من وشي، بس الأول خلي الحبايب يزوروها، مش عايز يقوملها قومة من تاني.
هتفت من فورها تتوسله في جزعٍ:
-لأ يا كبيرنا، ما تعملش فيا كده، كانت لحظة شيطان، حقك عليا.
انقض عليها اثنان من رجاله ليقتادوها إلى حيث أمر، جلسة تأديبٍ وتهذيب تؤديها أعتى السيدات وأقســــاها، لتكسير عظامها، وكسر شوكتها، فتصير ذليلة، مهدورة الكرامة، لا قيمة لها. قاومت جرها لحتفها بكل ما استطاعت من قوة، وصوت صراخها يجلجل في الأرجاء، ليأتي أمره الصــارم:
-اكتموا نفسها مش ناقص دوشة.
وضع أحدهم يده على فمها ليمنعها قســــرًا من الصراخ، فيما جرجرها الآخر هادرًا:
-يالا يا ولية.
اختفت عن مرمى نظره، فسادت على قسماته تكشيرة غريبة، جعلتهم يتوجسون خيفة من تبدل أحواله، ليجدوه يهدر آمرًا بأمره النافذ:
-الكل يروح يشوف وراه إيه.
تولى "سِنجة" الرد عليه:
-حاضر يا كبيرنا.
انفض الجمع من حوله، وظل "كرم" على وجومه، عاقدًا المقارنة بين حاله قديمًا، وحاله الآن، حيث أدرك أن الفارق اليوم يكمن في كونه لا يزال بلا عزوةٍ حقيقية، بلا أطفالٍ من صلبه يمنحهم القوة والقدرة مثلما تلقى. راح ذلك الأمر يشغل باله مؤخرًا، فهو بحاجة لمن يعده ويجهزه ليكون خليفته فيما بعد بجوار شقيقه، وقد بدأت فكرة بعينها تختمر في رأسه، ولن يتوانى عن السعي وراء تحقيقها.
................................
باحترافيةٍ مصحوبة بليونةٍ شديدة، تمايلت بجسدها في إغراءٍ صريح لتحرك به تلك المشاعر الغافلة، فتستيقظ من سباتها، وتصبح في أوج نشاطها. لم تكف "وِزة" عن الرقص بدلالٍ وهي تقوس ظهرها لتلمس بكتفيها يد "عباس" الذي راح يهلل في غبطةٍ وحماس:
-أيوه بقى دلعني.
أطلقت ضحكة عالية رقيعة، لتعلق بعدها في استمتاعٍ:
-الدلع كله لسيد المعلمين والرجالة...
ثم جلست عند قدميه، لتريح رأسها في حجره، وتابعت في نعومةٍ:
-كبيري وتاج راسي.
احتضن وجهها براحته، وقال باسمًا في نشوةٍ:
-ده أنا مكونتش عايش يا ناس!
التمعت عيناها بهذا الوميض المبتهج وهي تتعهد له:
-ولسه يا ريس "عباس"، معايا هتدوق الشهد كله، ما إنت ريحتني من المصيبة اللي كانت كاتمة على نفسي.
بغير اكتراثٍ عقب، ويده قد ارتفعت لتمسد على شعرها:
-أهي غارت وراحت أيامها، يالا في داهية.
دون أن يخرج صوتها من بين شفتيها همهمت في غلٍ دفين:
-تستاهل، بذنب ابني وذنب كل واحدة افترت عليها!
عادت بعدها لتنهض وهي تقول في صوتٍ دافئ:
-عايزة أبقى في حضنك يا سيد الناس.
فرد ذراعيه على سعتهما مرددًا:
-تعالي يا حلوة.
ما لبث أن ألقت بنفسها في أحضانه، ليضمها بقوةٍ وتملك، ويكتسح شفتيها بقبلات عاصفة جائعة وراغبة في الغرق طوعًا في أنهر عسلها المصفى.
.....................................
مسحة رقيقة ناعمة، قامت بها على وجنتها المتوردة، قبل أن تشد الغطاء عليها قليلًا لتدثرها جيدًا. نظرة أخرى حنونة ومهتمة ألقتها عليها، ثم التفتت متجهة نحو باب الغرفة بعدما تأكدت من استغراقها في النوم العميق. تنهدت "إيمان" في شيءٍ من التعب، فهدوء شقيقتها الصغرى وتقبلها لوضعها النفسي كان يثير قلقها إلى حدٍ ما، خشيت أن تتعرض لانتكاسةٍ أخرى بعدما تقبلت خبر وفاة والدها بأعجوبة، وذلك حينما تتكشف كافة الحقائق لها.
كان قد مر على عودتها إلى المنزل ما يزيد عن الأسبوعين، والأمور إلى حدٍ كبير مستقرة، حتى الزيارات المعتادة للنساء القادمات للتعزية قلت كثيرًا، وأصبحت الأجواء هادئة.
خرجت "إيمان" إلى والدتها بالصالة، واستطردت تُعلمها من تلقاء نفسها وهي تجالسها على الأريكة:
-"دليلة" خدت الدوا ونامت خلاص.
رفعت "عيشة" كفيها للسماء مرددة في تضرعٍ:
-ربنا يشفي عنها ويردلها عقلها.
أضافت ابنتها في شيءٍ من الجدية:
-الدكتور قال فترة وهتعدي، ومسيرها ترجع تفتكر اللي نسيته، المهم ما نقصرش معاها.
ضغطت والدتها على شفتيها للحظةٍ، ثم عقبت:
-أديني بنعمل اللي علينا وربنا عليه جبر الخواطر.
تذكرت "عيشة" أمر ما، فأخبرت به ابنتها توًا:
-صحيح، زمايلها كل شوية يتصلوا بيها يسألوا عنها، وهي مش راضية ترد على حد.
جاء ردها مراعيًا:
-خليها على راحتها، بلاش نضغط عليها.
تنهدت والدتها، وتكلمت بلهجةٍ جادة:
-عمومًا احنا بقينا كويسين يا بنتي، مالوش لازمة تفضلي أعدة هنا، أكيد جوزك اتضايق من غيبتك اللي طالت!
فيما يشبه التهكم قالت "إيمان"، ونظرة نقم قد انعكست في حدقتيها:
-جوزي، ده مصدق يا ماما والله.
سألتها في توجسٍ:
-ليه كده بس؟
بدا وكأن صدرها مشحون بالهموم، فأفرجت عن قدرٍ محدود منه بقولها المحاذر:
-كل ما أكلمه يقولي خليكي عند مامتك، وابقي طلي على الشقة بالنهار، وباتي عندها بالليل، لأحسن مشغول في سفرياته وتدريباته اللي ما بتخلصش، وخايف أفضل لواحدي!
تساءلت "عيشة" في استرابةٍ:
-مطلوع جديد السفر ده؟
وافقتها الرأي، واعترفت بما يؤرقها:
-أيوه، وأنا مش مرتاحة يا ماما.
أتت نصيحتها إلى حدٍ ما إلزامية:
-يبقى الأفضل تروحي بيتك، بدل ما تلاقي في واحدة تانية لايفة عليه، والرجالة ما بيصدقوا يريلوا على واحدة.
انقبض قلبها، ورددت:
-ربنا يستر.
تنبهت كلتاهما لصوت الدقات المألوف على الباب، فنهضت "عيشة" لتقوم بفتحه، وهي تصيح:
-أيوه يا اللي بتخبط.
بينما اتجهت "إيمان" إلى الداخل لتأتي بحجاب رأسها الذي تركته عند شقيقتها. بالطبع كان من المتوقع أن تأتي "إعتدال" لزيارتها، فهذا هو توقيت قدومها اليومي لتقصي الأخبار، ونقل المعلومات، ألصقت بشفتيها هذه الابتسامة السمجة، واستطردت:
-إزيك يا غالية؟
تنحت "عيشة" للجانب، ودعتها للدخول قائلة بفتورٍ:
-اتفضلي يا "إعتدال".
بسطت أمام عينيها صينية صغيرة موضوع عليها بعض القوالب الزجاجية، وراحت تخبرها باستفاضةٍ ممزوجة بالفخر:
- بصي بقى عملالك شوية رز بلبن بالمكسرات إنما حكاية، وصفة خدتها من واحدة حبيبتي زيك كده، وقولت لازمًا تكوني أول واحدة تدوقيها.
قالت مجاملة:
-كتر خيرك، مالوش لازمة التعب ده.
ردت عليها مفتعلة الضحك:
-تعب إيه بس؟ ده الجيران لبعضها...
ثم لمحت "إيمان" وهي تسير في الردهة لتصيح بها:
-شيلي عني يا حبيبتي.
على الفور جاءت إليها، وتناولت عنها الصينية وهي تشكرها، لتقول "إعتدال" في لؤمٍ وهي تربت على كتفها:
-نتعبلك يا رب يوم عوض بالخلف الصالح، لأحسن اللي زيك معاه عيل واتنين وتلاتة.
وكأنها تعايرها بشكلٍ مبطن بتأخر حملها، فسرعان ما حل بوجهها تعبيرًا عابسًا، وردت بتجهمٍ:
-تسلمي يا طنط.
انسحبت "إيمان" في الحال متجنبة التطرق مع تلك المرأة المزعجة في أي أحاديث جانبية مزعجة.
في التو تدخلت والدتها للرد عليها بتحيزٍ واضح:
-لسه ربنا مأذنش، وبعدين خليها تتهنى مع جوزها قبل ما العيال تلبخها.
كانت كمن منحها مادة ثرية للتحري عنها، لذا بنفس الأسلوب السمج السافر، تساءلت "إعتدال" في تطفلٍ:
-ألا هو صحيح فين؟ بقاله ياما ما بيجيش!!
أجابتها بوجهٍ مكفهر:
-مشغول يا "إعتدال".
هزت رأسها معقبة بسخافةٍ:
-أها، قولتيلي، والمحروسة الصغيرة عاملة إيه؟
اقتضبت في ردها عليها:
-بخير.
هتفت "إعتدال" مضيفة بلزاجةٍ:
-بقالي فترة ماشوفتهاش.
ردت عليها "عيشة" بتأففٍ:
-معلش نايمة، أصل فراق أبوها صعب عليها، كانت روحها فيه.
تصعبت بشفتيها مرددة:
-ما أنا عارفة.
لتغير من مجرى الحديث سألتها "عيشة" في جدية:
-شايك كام معلقة سكر؟
عاتبتها بضحكةٍ سخيفة:
-معقولة بتنسي كل مرة، 4 معالق يا حبيبتي.
دون أن تنظر نحوها همت بالتحرك إلى المطبخ قائلة:
-دماغي أصلها مشغولة ببناتي.
هتفت وهي تشير بيدها:
-كان الله في العون.
قبل أن تتحرك صوبه سمعت قرع الجرس، فقالت وهي تعاود أدراجها تجاهه:
-ثواني أشوف مين على الباب.
أصرت على فتحه بدلًا منها:
-عنك، هو أنا غريبة!
تركتها "عيشة" تستقبل الضيف الزائر، ولحقت بابنتها لتطيب خاطرها بعدما تسمم بدنها بكلماتها المنغصة.
فتحت "إعتدال" الباب، لتصيح مهللة بترحيبٍ حار بعدما رأت من يقف عن عتبته:
-سي "زهير! منور الدنيا كلها.
استهجن وجودها غير المستساغ، وعنفها بتوبيخٍ شبه لاذع:
-هو مافيش مرة أجي فيها للجماعة هنا إلا وألاقيكي؟
افتعلت الضحك السمج، وقالت باستظرافٍ ثقيل:
-ما إنت عارفني يا سي "زهير"، عشرية وأحب الناس.
صحح لها جملتها بفجاجةٍ:
-قصدك حشرية، ومش عاتقة حد.
ثم ولج إلى الداخل ودفعها من كتفها بخشونةٍ ليأمرها:
-يالا من غير مطرود.
لم تَجسُر على الاعتراض عليه، وقالت في طاعة:
-إنت تؤمر يا كبيرنا.
دمدم في نفورٍ صريح قبل أن يصفق الباب في وجهها:
-ولية صعب.
عادت إليه "عيشة" بمجرد أن سمعت صوته، فألقى عليها التحية في شيءٍ من الأدب:
-سلام عليكم.
ردت عليه بهدوءٍ:
-وعليكم السلام، اتفضل يا ابني.
سار معها نحو الأريكة، فجلس عليها متسائلًا بشكلٍ روتيني:
-عاملة إيه يا حماتي؟
أجابته مبتسمة في وقارٍ:
-الحمدلله في نعمة.
انتقل إلى سؤاله التالي باهتمامٍ ظاهر في ملامحه، ونبرته، وأيضًا نظرته:
-و"دليلة" أخبارها إيه؟
تنهدت أولًا قبل أن تخبره:
-زي ما هي.
سكت للحظاتٍ كأنما يبحث عن لفظة البدء، ليأتيه سؤالها الجاد:
-خير يا ابني؟
سحب نفسًا عميقًا، وطرده من رئتيه دفعة واحدة قبل أن يفصح عن نواياه بعزمٍ بائن:
-من غير ما أضيع وقت في رغي كتير على الفاضي، أنا عايز أكمل جوازي من "دليلة".
شلت المفاجأة تفكيرها لحظيًا، فحدقت فيه بنظرات متسعة لبعض الوقت قبل أن تتمتم بتلعثمٍ:
-بس .. آ.. هي لسه تعبانة وآ...
قاطعها قائلًا بإصرارٍ أكبر:
-الأفضل نتمه وهي كده بدل ما الحكاية تتعقد أكتر، وإنتي فاهماني أكيد.
بالطبع وصل إليها حديثه المبطن دون الحاجة للتفسير، فازدردت ريقها، وماطلته بحنكةٍ:
-طب هشور عليها الأول، وأرد عليك.
قال بتصميمٍ يفوق حججها الفارغة:
-من غير مشورة، ميعاد كتب الكتاب والدخلة على أول الشهر الجديد.
ثم نهض قائمًا ليعلمها مشيرًا بسبابته:
-إنتو شوروا بعض في الفرح وتفاصيله، وبلغوني.
ظلت على دهشتها، تتطلع إليه بفمٍ مفتوح، فيما تابع على نفس الوتيرة العازمة:
-واطمني، الفيلا بتاعتي جاهزة من مجامعيه، مش ناقصها إلا تشريف العروسة.
نهضت بدورها، وقالت معترضة بشيءٍ من الحذر:
-يا ابني إنت كده واخدنا على الحامي.
بلا ابتسام رد:
-لا حامي ولا بارد، ده اللي المفروض يحصل سواء دلوقت أو بعدين.
ثم سدد لها نظرة غامضة منهيًا كلامه:
-هسيبك تظبطي أمورك مع العروسة.
همت بالاحتجاج لكنه بادر بالمغادرة قائلًا:
-سلام.
رددت من ورائه في استنكارٍ:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، طب العمل إيه دلوقت؟
بمجرد أن انصرف، هرعت إليها "إيمان" لتصيح في زمجرةٍ غاضبة:
-إيه الجنان ده يا ماما؟
نظرت نحوها مرددة في تخبطٍ:
-أنا حاسة إني متكتفة، مش عارفة أعمل حاجة!
أخبرتها بانفعالٍ طفيف:
-و"دليلة" أصلًا هتوافق على كده؟
زمت شفتيها قائلة:
-هي مخها فيها أصلًا!
اغتاظت "إيمان" من تعليقها، لتتابع أمها قائلة بعد زفرة سريعة:
-خليني أجس نبضها، وبعد كده نشوف.
فما كان منها إلا أن أذعت لاقتراحها، وانتظرت مفاتحتها لهذه المسألة الخطيرة، آملة ألا تسوء الأوضــاع وتتأزم.
..................................
بكلماتٍ حذرة، وعبارات مختارة بعناية، أطلعت "عيشة" ابنتها الصغرى على ما استجد من أمور تخصها، لتأتي الصدمة الأكبر بإعلان عدم معارضتها على إتمام الزيجة، لتصيح "إيمان" محتجة في صوتٍ شبه مهتاج:
-موافقة إزاي يعني؟
أدارت رأسها ناحيتها، وأخبرتها:
-هتفرق إيه لو اتأجلت؟
ما لبث أن ساد الحزن ملامح "دليلة" الذابلة، وأكملت في صوتٍ مختنق:
-طالما بابا كان عايز ده.
ردت عليها أمها تؤيدها:
-أيوه.. أبوكي هيرتاح في تُربته لما يلاقيكي متهنية.
بالكاد منعت "إيمان" نفسها من قول أي شيءٍ، وطالعت والدتها بنظرة ساخطة، لتنتقل ببصرها نحو شقيقتها التي تكلمت من جديد:
-بس أنا مش حابة نعمل فرح ودوشة، يعني كفاية حاجة هادية، على أد العيلة وبس.
ابتسمت لها "عيشة" ابتسامة باهتة، وقالت دون جدالٍ:
-اللي يريحك يا بنتي.
عادت "إيمان" لتنظر إلى أمها قائلة بضيقٍ:
-ماما! عايزاكي برا شوية
سألتها مستفهمة بعدما أصبحت كلتاهما خارج غرفة النوم:
-في إيه يا "إيمان"؟
جعلت نبرتها خافتة إلى حدٍ كبير وهي تسألها مستنكرة:
-إنتي هتوافقي على اللي "دليلة" عايزة تعمله ده؟
ردت بتجهمٍ:
-في حل تاني عندك؟
بقيت على استنكارها متسائلة:
-ولما ترجعلها الذاكرة وتفتكر اللي حصلها، هيكون الوضع إيه ساعتها؟
لم تجد ما تخبرها به، فقالت في يأسٍ:
-يبقى ربنا يحلها من عنده، بس دلوقت احنا مش ناقصين مشاكل ولا وجع دماغ.
بلهجةٍ محذرة أخبرتها:
-وجوازها من الناس دي هيحطنا في مشاكل احنا مش أدها!
بصوتٍ مال للحدة ردت عليها "عيشة":
-والمشاكل عملت فينا إيه؟ وخلت أبوكي يموت بحسرته، وبقينا مقطوعين، مالناش حد يصرف علينا، ولا ياخد باله مننا...
انخفض صوتها من جديد ليتحول إلى نشيجٍ، وبكاء مفطور وهي تتم كلامها:
-خليني ساكتة، وكاتمة في قلبي، بلاش تفتحيني يا إيمان، أنا جاية أخري، ومافيش في إيدي حاجة أعملها.
شعرت بما يختلجها من حزنٍ وقهر، فضمتها إليها قائلة بتوجسٍ:
-اهدي يا ماما، الانفعال مش حلو علشانك.
شاركتها البكاء المرير، وأراحت رأسها على كتفها معتذرة منها:
-حقك عليا، أنا كل غرضي مصلحة "دليلة".
رفعت رأسها لتنظر إلى وجهها، ومسحت بيدها دمعها المسال قائلة:
-أنا عارفة ده يا "إيمان"، ومقدرة خوفك، بس محدش بيهرب من نصيبه.
اكتفت بالصمت، وأومأت برأسها في تفهمٍ، لتتطلب منها والدتها في شيء من الرجاء:
-وزي ما أنا خايفة على "دليلة"، برضوه قلقانة على حالك مع جوزك، روحي بيتك، وتابعيه.
ردت في طاعة:
-حاضر يا ماما، اللي تشوفيه.
................................
فيما بعد، فعلت مثلما طلبت منها، وعادت إلى منزلها، وتهيأت لاستقبال زوجها الذي طال غيابه عنها، لم تخبره بعودتها لترى تأثير المفاجأة السارة عليه، وقد كان صادمًا بشكلٍ لم تتوقعه عندما رآها قبالته.
حدق "راغب" مذهولًا، وهمهم وهو يبتلع ريقه:
-"إيمان"!
نظرت إليه بتعجبٍ شديد، ليسألها في غرابةٍ:
-بتعملي إيه هنا؟
رنة نبرته كانت غير مريحة لها، فسألته في استعتابٍ مستاء:
-في حد يقابل مراته كده؟ شكلك مش مبسوط إنك شوفتني؟
تدارك نفسه، وقال وهو يضع على ثغره ابتسامة وديعة:
-لأ يا حبيبتي، مش قصدي، بس مستغرب إنك سايبة أختك في ظروفها دي ورجعتي البيت.
كتفت ساعديها أمام صدرها قائلة بتشككٍ:
-هي مش محتاجاني دلوقت، وبعدين أنا مقصرة معاك، فلازم أشوف طلباتك.
دنا منها قائلًا بلطافةٍ:
-عادي يا حبيبتي، أنا أصلًا ملبوخ في طلبات المدير ما بين فرع هنا والفرع الجديد.
-ربنا يعينك.
حمحم بعدها مضيفًا وهو يوليها ظهره:
-أنا حتى كنت جاي أخد كام غيار لزوم السفر.
سارت خلفه متسائلة في استرابةٍ:
-مش ملاحظ إنك بقيت تسافر كتير، أكتر من الطبيعي!!!
التفت ليقول متصنعًا الابتسام:
-ما أنا هبقى مدير الفرع، طبيعي أكون مركز معاه، على الأقل الفترة دي.
حز في قلبها أن يكون على هذا القدر من الجفاء، والبُعد عنها، انتشلها من شرودها اللحظي قوله الجاد:
-وبعدين أنا خايف عليكي تفضلي لواحدك من غير ما حد يونسك.
نظرت إليه بغير اقتناع، فحافظ على ثبات بسمته الزائفة قائلًا:
-وأختك كمان لازم تحس إنكم جمبها، لحد ما تفتكر اللي نسياه.
عملًا بنصيحة والدتها فيما يخص تحسين علاقتها بزوجها، واستعادة روابط الوصال بينهما، لم تتجادل معه، وأقبلت عليه لتضمه قائلة باشتياقٍ:
-حضنك واحشني أوي.
تفاجأت به يصدها عنه متعللًا:
-خليها وقت تاني يا "إيمان"، مش قادر، مرهق، ويدوب أخد دش وأجهز نفسي للسفر.
وكأنه ألقى بدلو ماء مثلج فوق رأسها، حملقت فيه بعينين مصدومتين، ليقول وهو يسرع في خطاه متجهًا إلى غرفة النوم:
-حضريلنا ناكل سوا قبل ما أمشي.
قالت بإيجازٍ:
-طيب.
غاب عن ناظريها؛ لكنها ظلت في مكانها تراقب أثره، وهذا الصوت المتشكك يتردد في رأسها:
-إنت فيك حاجة متغيرة يا "راغب"، ولازم أعرفها!!!
..................................
مستعينًا برسائل تطبيق الواتساب، والأوامر التي تم تكليف زملائه بها، تمكن "راغب" من خداع زوجته وإيهامها بأنه مسئول عن إدارة الأعمال ومتابعتها فيما يتعلق بتأسيس الفرع الجديد للبنك، وبالتالي فهو غير متفرغ خلال الفترة القادمة. انطلت عليها الخدعة لتضطر للعودة إلى منزل عائلتها، تاركة إياه بمفرده، ليذهب إلى عمله وهو يفكر في الطريقة التي تمكنه من عدم كشفه مسألة تهربه منها.
تنبه إلى صوت أحدهم وهو يخاطبه:
-في حد برا طالب يقابلك بالاسم.
عقد حاجبيه متسائلًا:
-مين ده؟
أجابه وهو يشير بيده:
-مش عارف، بس هو من عملاء الـ VIP
لحظتها انتفض من مقعده مرددًا في سعادة غامرة:
-معقول صيتي سمع للدرجة دي؟
ثم أشار إليه بعينيه متابعًا بلهفةٍ:
-خليه يدخل أوام.
ضبط من ياقة قميصه، وشد طرفي سترته، قبل أن يزين محياه بابتسامة عملية منمقة، سرعان ما اختفت حينما لمح "كرم" قادمًا في اتجاهه، ليصيح مذهولًا وباستهجانٍ متعاظم:
-إنت!!!
رمقه الأخير بنظرة ازدراء صريحة، وولج إلى داخل الغرفة دافعًا إياه للجانب، فارتد جسده للخلف، وسأله وهو يحاول طرده بعدما اقتحم المكان عنوة:
-جاي هنا ليه؟ اتفضل برا، عندي شغل، وفي عملاء منتظريني.
وكزه بخشــــونة في كتفه قائلًا باستهتارٍ يشوبه التحقير:
-اسكت ياله!
اِربد وجه "راغب" بحمرة غاضبة بعد سماعه لإهانته الفجة، وهتف في غير تصديق:
-إيه؟!
أمره "كرم" بنفس الأسلوب المتعجرف، والممزوج بإهاناتٍ متنوعة:
-اترزع يا بــأف خليني أقولك الكلمتين اللي جاي علشانهم.
لم يتحمل "راغب" طريقته مطلقًا، خاصة وهو يعنف أمام زملائه، فهاجمه في حمئةٍ:
-إنت بني آدم مش محترم، وأنا هخلي الأمن يرميك برا.
تطلع إليه باستخفافٍ، ووضع ساقه فوق الأخرى يتحداه:
-وريني.
في التو ذهب إلى الخارج ليستدعي الأمن؛ لكنه تفاجأ بمدير الفرع يهرع لاستقبال "كرم" في حفاوة عجيبة، حيث كنَّ له الاحترام الشديد وهو يمد يده لمصافحته:
-أهلًا وسهلًا يا باشا، نورت البنك، أنا مصدقتش لما بلغوني إنك هنا.
بتعالٍ ظاهر على وجهه، ونظرته المسددة إلى "راغب"، بادله المصافحة، ليضيف المدير في توقيرٍ:
-اتفضل في مكتبي يا فندم.
أخبره وهو يشير بإصبعه نحو "راغب":
-لما أخلص مع الأفندي ده.
هز رأسه في طاعة، والتفت إليه يوصيه:
-"الهجام" باشا من كبار العملاء عندنا، شوف كل طلباته يا "راغب"، وأي حاجة يعوزها تعملها فورًا.
على مضضٍ، وبغيظ مكبوت رد:
-تمام يا فندم.
غادر مدير الفرع ليبقى الاثنان معًا، فبادر "كرم" بالحديث قائلًا في سخرية لا تزال مغلفة بالاستحقار:
-عرفت إنك مش أدي مهما كنت.
حاول "راغب" أن يتصرف بمهنيةٍ بحتة، فقال وهو يدعي انشغاله بالتطلع إلى ما يوجد على مكتبه من أوراقٍ:
-خير؟ طلباتك إيه؟
جاء رده صادمًا على كافة الأصعدة:
-عايز مراتك!!
لوهلةٍ توهم أن ما سمعه خاطئًا، ليستدرك حقيقة نواياه، آنئذ تصلبت عروقه، وحدق فيه مرددًا في دهشةٍ كبيرة:
-نعم!!!
أعاد عليه تكرار جملته بثباتٍ ووقاحةٍ فجة:
-اللي سمعته، أنا عايز مراتك.
انتفضت فيه حمئته الذكورية، فهب لحظتها واقفًا ليصيح فيه بانفعالٍ رغم خفوت نبرته:
-إنت اتجننت!!
لم تهتز عضلة واحدة من وجه "كرم" وهو يخبره بهدوءٍ مغيظ:
-لأ يا دغوف...
لتتحول نبرته إلى التهديد عندما أضاف:
-بس هتسيبهالي بالذوق، ولا أرملها عليك؟
لم يكن بالممازح وهو يخاطبه بهذا التصميم، فما كان منه إلا أن ضرب بيديه على السطح الزجاجي لمكتبه صائحًا:
-إيه شغل المجـــــرمين ده؟!!!
على عكسه استرخى الأخير في جلسته مرددًا بعنجهيةٍ:
-أقل حاجة عندي!
في استحقارٍ متبادل هدر "راغب"، كأنما يهينه:
-شكلك شارب حاجة.
رد عليه يحذره:
-إنت اللي شكلك كده مستغني عن حياتك، وأنا معنديش مشكلة أدخلك القــــبر، مش هغلب!
كز على أسنانه هاتفًا:
-اتفضل من هنا، وهعتبر اللي إنت قولته ده محصلش.
نهض "كرم" من موضعه قائلًا بعناد:
-اللي بعوزه باخده، أيًا كانت إيه الوسيلة، وأنا عايز المدام، أصل إنت ماتنفعهاش يا خرع.
نظر ناحيته مرة أخرى ليرد على إهانته بحدةٍ:
-إنت بني آدم وضيع وســافل.
استفزه بتحديده المقصود:
-ده تمامك؟
لم ينكر أن مواجهة أمثاله لن تكون محمودة على الإطلاق، ليس لكونه من عتـــاة الإجــــرام فقط، ومتمرس فيما يخص افتعال المشاجرات مع الآخرين، والتي قد تودي بحياته دون عناءٍ، بل لكونه صاحب الكلمة العليا هنا، خاصة بعدما رأى طريقة تعامل رئيسه في العمل معه. حفظًا لماء وجهه رد عليه "راغب" بصوتٍ مهتز رغم تهديده:
-أنا مش عايز أبهدلك لأنك في شغلي.
بادله التهديد بآخر أشد وطأة منه:
-وبرضوه أنا أقدر أرفدك منه في تكه، وهاخد المدام.
بدا متأهبًا للتشاجر معه، وهم بفعل ذلك، حيث شمر عن كميه، وسار ناحيته، فتراجع الأخير متجنبًا إياه هاتفًا في جزعٍ يليق به:
-استنى بس يا أستاذ، خلينا نتفاهم...
قاطعه بصبرٍ نافد وقد حاصره عند الزاوية:
-خلص.
قال بترددٍ وهو يبتلع ريقه:
-مش هينفع أطلقها دلوقت.
كاد يهجم عليه، ورفع قبضته المتكورة للأعلى تمهيدًا لإعادة تشكيل ملامحه وتغييرها لولا أن أكمل كلامه وهو يغطي وجهه خوفًا من لكمته المباغتة التي قد تحط عليه في أي لحظة فتفسد مظهره كليًا:
-على الأقل لحد ما أختها تتجوز، علشان الدنيا متبوظش.
كان حديثه منطقيًا بعض الشيء، لذا خفض من ذراعه مرددًا:
-ماشي، ماروحناش بعيد...
ثم غمز له بطرف عينه متابعًا:
-الجوازة قربت..
تراجع عنه ليتجه نحو الباب وهو يلقي عليه وصلة تهديده:
-عارف لو كنت بتسوحني، مش هقولك هعمل فيك إيه، ومش إنت بس، ده في أمك وأبوك وبقية العيلة المصونة.
افتقر إلى الشجاعة للرد عليه، وظل قابعًا في مكانه وفرائصه ترتعد، ليسمعه يودعه بنفس الطريقة المهينة:
-سلام يا دغــوف.
تنفس الصعداء لذهابه، ودمدم في حنقٍ:
-مصيبة واتحدفت، أعوذ بالله!
عاود الجلوس على مقعده وهو يشعر بتلك الرجفة التي ما زالت تصيب بدنه، ضم كفي يده معًا، وأغمض عينيه للحظاتٍ، ليستعيد رباطة جأشه، ثم خاطب نفسه في ذعرٍ:
-كويس إني عملت بنصيحة أمي وطلقتها غيابي...
بسط مرفقيه المرتجفين على سطح المكتب، وأضــاف، وعيناه تتحركان بسرعةٍ في توترٍ وقلق:
-مافضلش بس غير إني أفضي البيت وقت الفرح، وساعتها يشبع بيها ................................... !!!
.......................................
منال_سالم
دمعة متأثرة نفرت من طرفها وهي تعيد فرز ثياب زوجها الراحل الموجودة في دولابه لاختيار الأفضل منها تمهيدًا للتصدق بها لإحدى الجمعيات الخيرية. طالت نظرات "عيشة" الحزينة على إحدى ستراته الداكنة، قربتها من أنفها لتشم رائحة بقايا عطره العالقة به، ثم أبعدتها عنه لتخاطب ابنتها البكرية بعفويةٍ:
-أبوكي كان بيحب الجاكيت ده أوي.
تطلعت إليها، وردت باسمة، وهي تحاول التغلب على شعور الألم الذي راح يحز في قلبها:
-كان ذوقه حلو وشيك.
تبسمت والدتها هي الأخرى، وأضافت، كأنما تستعيد لمحات مشوقة من ماضيها مع شريك العمر:
-أيام ما كان لسه شباب البنات كانت حاطة عينيها عليه، منين ما يروح تلاقيهم وراه...
اتسعت ابتسامتها وامتزجت بدمعات لا تعرف إن كانت حزنًا عليه أم اشتياقًا له، لتردد في صوتٍ أقرب للشجن:
-لسانه حلو وكلامه يخش القلب على طول.
دنت "إيمان" منها، وضمتها من كتفيها قائلة بخفوتٍ:
-الله يرحمه ويحسن إليه.
سرعان ما كفكفت أمها دمعها المسال، وأخبرتها بعزمٍ حيث بدت نبرتها جادة إلى حدٍ ما:
-عايزين بكرة لما نزوره في تُربته، نبقى نفوت على شقتك، نرتبها وننضفها، فرصة وجوزك مش موجود.
أومأت برأسها معلقة:
-حاضر يا ماما، وهبقى أنادي على مرات البواب تساعدنا.
جاء تعقيبها معبرًا عن انزعاجها من اقتراحها:
-أنا مابحبش دخلة الغُرب عليكي، العين حق، وإنتي مش ناقصة، خلينا أنا وأختك نساعدك.
لم تجادلها كثيرًا، وردت في إذعانٍ:
-ماشي يا ماما اللي تشوفيه.
واظبت كلتاهما على العمل معًا لطي الثياب ورصها بشكلٍ منمق بداخل الحقيبة في وقتٍ وجيز.
................................
في تلك الأثناء، وقف أحدهم في منتصف الشارع تحديدًا، أمام البناية القديمة، منتصبًا بكتفيه، ويطوف بعينين حائرتين على الشرفات بشكلٍ متتابع، وكأنه يحاول تخمين مكان تواجد شيءٍ بعينه في هذه المنطقة. بدا على وجهه الرجولي الإصرار، اشتدت عضلاته، وتأهب للسير تجاه إحدى السيدات التي اكتشف أنها تتابعه باهتمامٍ وتطفل.
وقف أمام شرفتها، وألقى عليها التحية:
-سلام عليكم.
جالت "إعتدال" بعينين فضوليتين على كل تفصيلة فيه، من رأسه لأخمص قدميه، كأنها تضعه تحت عدسة المجهر لفحصه. كان فاره الطول، عريض المنكبين، قمحي البشرة، لديه شارب وذقن نابتة، شعره رأسه قصير، يبدو للوهلة الأولى شخصًا رياضيًا يهتم بإبراز مدى انتفاخ عضلاته، أدركت أنها أطالت النظر إليه، فابتسمت بلزاجةٍ وهي ترد متسائلة:
-وعليكم السلام يا خويا، خير بتدور على حد؟
تساءل مباشرةً وهو يقطب جبينه:
-هو بيت الحاج "فهيم حجاب" فين؟
رفعت يدها للأعلى مجيبة إياه:
-العمارة دي، الدور الأخير.
هز رأسه متمتمًا:
-شكرًا.
همَّ بالتحرك نحو المدخل؛ لكنها استوقفته بسؤالها:
-إنت مين ياخويا متأخذنيش يعني؟ أصل احنا مش متعودين على حد غريب يجي يزور الجماعة وخصوصًا بعد وفاة عم "فهيم".
لم يستسغ طريقتها السمجة في افتراض الأمور، وقال وهو يلوي ثغره بتأففٍ:
-واحد قريبهم.
أسرع في خطاه، وتجاهلها عن عمدٍ، لتظل عيناها عليه حتى اختفى بالداخل، وذلك السؤال الحائر قد راح يتردد في رأسها:
-طب أعمل إيه؟ أقول للريس "زهير" ولا أطنش؟!!
حسمت أمرها في التو، وقالت وهي تبتسم بخبثٍ:
-خليني أعرفه أحسن، وأهي تبقى بجميلة عنده لما أتزنق في مصلحة.
أخرجت هاتفها المحمول من جيب صدرها، لتضعه على أذنها والحماس يملأها كعادتها حينما تقوم بمثل هذه الأمور المزعجة.
................................
بدا الأمر عسيرًا عليها وهي تتخلى عما يذكرها بزوجها، ومع ذلك أرادت أن تجعل غيره يستفيد بما امتلك في الدنيا، لعل صنيعها الطيب تجاهه يشفع له في الآخرة. أغلقت "عيشة" ضلفة الدولاب حينما سمعت قرع الجرس على الباب، لتقول وهي تشير إلى ابنتها:
-أنا هروح أفتح، تلاقيها "إعتدال"، ما إنتي عارفة ده ميعاد زيارتها الرزلة، كملي إنتي رص الهدوم في الشنطة.
اكتفت بهز رأسها بإيماءةٍ صغيرة وهي ترد:
-حاضر يا ماما.
مشت بتعجلٍ قليلًا لتتمكن من فتح الباب، لتتفاجأ بأحدهم يلقي عليها التحية وهو يبتسم بتهذيبٍ:
-سلام عليكم، إزيك يا مرات عمي؟
نظرت له بتحيرٍ، وهي تستشعر الحرج من جهلها بهويته، لتجده يسترسل في التوضيح لها من تلقاء نفسه:
-معقولة مش عارفاني، أنا "فارس حجاب"، ابن المرحوم "حجاب" أخو عمي "فهيم" الكبير الله يرحمه.
ما إن انتهى من الكلام حتى انفلتت منها شهقة سعيدة، وهتفت مرحبة به بوديةٍ وحرارة:
-"فارس"، ده إنت فعلًا، يا أهلًا وسهلًا بيك....
ثم حمحمت بشيءٍ من الخجل وهي تتم جملتها:
-أعذرني يا ابني إني معرفتكش في الأول.
قال في تفهمٍ، وهو يلصق بشفتيه ابتسامة لطيفة:
-ما أنا برضوه كنت غايب بقالي ياما.
تنحت للجانب لتفسح له بالمرور قائلة وهي تشير بيدها:
-تعالى اتفضل.
ولج إلى الداخل بعدما حمحم بخشونةٍ، كأنما ينبه من في البيت لوجوده، فيتخذوا حيطتهم، ليستطرد في جديةٍ:
-البقاء لله يا مرات عمي، أنا كنت عند عمتي وهي اللي قالتلي، فمكدبتش خبر وجيت على طول.
أشارت بيدها ليجلس على الأريكة وهي ترد:
-الدوام لله وحده...
أخرجت تنهيدة مهمومة من صدرها لتتابع:
-أهو ارتاح من الدنيا وهمها.
قال في تبجيلٍ:
-كل من عليها فان.
ليتساءل بعدها مهتمًا:
-وإنتو عاملين إيه؟ إزي بنات عمي؟ كله تمام معاكو؟
قالت بوجهٍ يشوبه القليل من الحزن:
-الحمدلله في نعمة.
أضاف "فارس" في ندمٍ:
-والله كان نفسي أشوف عمي الله يرحمه أوي، بس اللي مانعني الشديد القوي.
ظلت تومئ برأسها معلقة:
-أنا عارفة ومقدرة.
استمر يوضح موقفه:
-والله لسه خارج من السجن من كام يوم، يدوب قولت أفوت أسلم على الحبايب فعرفت باللي حصل، يا ريتني كنت برا، مكونتش سيبتكم لواحدكم في ظرف زي ده.
تنهدت قائلة بتعاطفٍ:
-هو كان بيحبك.
راح يقول هو الآخر، كأنما يشاركها إحياء ذكراه بالحديث عما اعتاد فعله قبل أن يلقى ربه:
-وكان بيزورني دايمًا، لولا إني طلبت منه معدتش يتعب نفسه ويجي.
خرج صوت "عيشة" معاتبًا بعض الشيء وهي تشير بسبابتها إليه:
-ما إنت برضوه يا "فارس" غاوي مشاكل ووجع قلب، وأمك الله يرحمها غلبت معاك، وإنت مكونتش بتسمع الكلام نهائي.
رد عليها مدافعًا عن طيشه آنذاك:
-مابعرفش أسيب حقي، ولا أرد حد استقصدني في حاجة.
أتى تعقيبها لائمًا:
-وحصل إيه بعدها؟ أديك وديت نفسك في داهية بسبب شقاوتك دي، وشبابك وعمرك ضاعوا في السجن.
في شيء من التفاخر رد:
-السجن للجدعــان يا مرات عمي.
مصمصت شفتيها هاتفة باحتجاجٍ:
-كلام خايب.
عمد إلى تغيير مجرى الحديث عنه، وقال مبتسمًا:
-سيبك مني دلوقت، المهم البنات اتجوزوا ولا لسه؟
أجابته، ولمحة من الحزن قد ملأت ناظريها:
-"إيمان" الحمدلله ربنا كرمها، ولسه "دليلة" هتتجوز على أول الشهر.
لم ينتبه لما أصاب قسماتها من تعبيرٍ واجم، وعلق بتلقائيةٍ:
-ياه البنات كبروا، السنين عدت أوام.
على مرمى بصرها ظهرت "إيمان" أمام والدتها لترميها بنظرة متسائلة في صمتٍ عن هوية الضيف، لتتفاجأ بها تناديها عاليًا:
-تعالي يا "إيمان"، مافيش حد غريب، ده "فارس" ابن عمك "حجاب".
استغرقها الأمر عدة لحظاتٍ لتتذكره، فقالت وهي تعقد طرفي حجابها المنزلي المطروح على رأسها معًا بيدها لئلا ينفلت منها قائلة بترحيبٍ ودود:
-معقولة، بقالي زمن ما شوفتكش.
نهض لتحيتها قائلًا في سرور:
-إزيك يا بنت عمي؟ أخبارك إيه؟
ابتسمت في رقة وهي ترد:
-بخير والحمدلله.
نهضت "عيشة" قائمة، وأشارت لابنتها بيدها هاتفة:
-خليكي مع ابن عمك عقبال ما أعملكم حاجة سخنة تشربها.
في لطافةٍ وألفة علق "فارس":
-أنا مش ضيف يا مرات عمي!
التفتت ناظرة إليه قائلة:
-ما أنا عارفة، وشوية ويكون الأكل خلص ناكل سوا.
ضحك بعفويةٍ وقال في تحمسٍ:
-إن كان كده ماشي.
....................................
نفخ، وزفر، ودمدم مع نفسه بسبــاب لاذع، لكونها لا تتوقف عن الاتصــال به، كان يعلم جيدًا أن وراء مكالماتها السقيمة مطلبًا بعينه، أو رغبة شخصية تطمح في تحقيقها، في مقابل إبلاغه بالمستجد من الأخبار، ولكون الأمور مستتبة هذه الأيام، بدا إلى حدٍ كبير واثقًا أن وراء اتصالها غرضًا يخصها، لذا تجاهلها على قدر المستطاع، إلا أن إلحاحها المتواصل دفعه للرد أخيرًا، فاستطرد في تبرمٍ:
-في إيه؟ كل ده زن!!!
اهتزت نبرتها وهي تخبره:
-أنا قولت بس يا ريسنا أعرفك بالجديد.
بلا صبرٍ صاح بها:
-انجزي.
في لؤمٍ مدروس أجابته لتثير فضوله:
-في واحد طول بعرض جه سأل على بيت عم "فهيم".
أصابت هدفها في مقــــتل، واسترعى الأمر انتباهه، حيث اشتدت قسمات وجهه متسائلًا:
-مين ده؟
أجابته على الفور، وبما يزيد من فضوله:
-بيقول إنه قريبهم، بس دي أول مرة أشوفه فيها نواحينا.
لم يرغب في إشعارها بأهمية مكالمتها، لئلا تتمادى معه،، فزعق فيها بغير صبرٍ:
-حكاية مش مستاهلة مليون اتصال.
ردت مبررة تصرفها:
-أنا بعمل اللي عليا يا كبيرنا، ده إنت أفضالك علينا كلنا، وآ...
لم يمهلها الفرصة للثرثرة الفارغة، فقطع المكالمة معها دون أن يقول شيئًا، ليبقى على حيرته سائلًا نفسه:
-يا ترى مين ده؟!
انتشله من سرحانه الذي غاص فيه صياح شقيقه:
-قدامك كتير يا "زهير"؟
قال وهو يعيد وضع الهاتف في جيبه:
-أنا خلصت.
طوح بيده في الهواء قائلًا بهمةٍ ونشاط:
-طب يالا، ورانا طالعة!
قال باسمًا:
-وأنا جاهز.
....................................
لجأت مؤخرًا لاستخدام الأقراص المنومة لتتمكن من النوم، بعدما تعذر عليها ذلك بصورة طبيعية، حيث أرهقها التفكير الشديد في محاولة إجبار عقلها على استعادة الجزء المفقود من ذاكرتها؛ لكنها رغم هذا كانت تغرق في سلسلة من الأحلام المزعجة والكوابيس غير المفهومة، هذه المرة شعرت "دليلة" خلال استغراقها في النوم وكأنها مطاردة من قِبل مجهول مخيف، أحدٌ لا تظهر ملامحه، يبدو أقرب للظل، وهي تجاهد للركض بعيدًا عنه، لئلا يقبض عليها، أحست بثقل أنفاسها، بعدم قدرتها على الهروب، بأن خطواتها تثقل كلما حاولت التقدم للأمام، ليتبدل المشهد لوالدها وهو يبكي بقهرٍ وعجز، تردد في فضاءات عقلها صوته الحزين حينما خاطبها:
-سامحيني يا بنتي.
لتتطلع إليه بتحيرٍ وعدم فهم، قبل أن يغدو المشهد مغايرًا تمامًا، تقف قبالته، ونظرتها مصوبة نحوه فقط، فتجده يرفع يده عاليًا ليصفعها بقســاوةٍ غير معهودة منه على وجنتها، ليتبع ذلك توبيخًا لاذعًا منه، قبل أن يزداد شعورها بالاختناق، وتستحوذ عليها رغبة عارمة في الصراخ والبكاء.
...................................
أعطاه أحد العاملين بمكتبته صندوقًا كرتونيًا وضعت فيه بعض المتعلقات الشخصية لزميلهم الكبير الراحل بعدما تم تفريغ خزانته، ليظل يتطلع إليه مليًا حتى انتبه إلى مجيء والده الذي بادر بسؤاله مستفهمًا:
-إيه دول يا "عادل"؟
أجابه بعد تنهيدة سريعة وهو يزيح الصندوق ناحية حافة مكتبه، لئلا تشغل حيزًا كبيرًا من سطحه:
-حاجة عم "فهيم" الله يرحمه.
رد "رجائي" بعبوسٍ:
-الله يرحمه.
تابع ابنه قائلًا:
-أنا محتار نعمل فيهم إيه.
نصحه الأخير حاسمًا الأمر بشكلٍ سريع وفعال:
-بيتهيألي نوديهم لأهله، وهما أحرار يرموها أو يخلوها عندهم.
استحسن اقتراحه مرددًا:
-معاك حق يا بابا، نخلص شغلنا ونبقى نفوت عليهم، وبالمرة نعزي جماعته.
وكأنه فعل شيئًا يدفعه للشعور بالخزي من نفسه، فقال "رجائي" في أسفٍ:
-الواحد وشه منهم للأرض، محضرتش لا العزا ولا الدفنة.
برر له "عادل" ببساطةٍ:
-ما احنا كنا مسافرين لما ده حصل، مكانش في إيدنا حاجة نعملها.
حرر والده زفرة كبيرة من رئتيه، وأضاف:
-عمومًا هي ملحوئة، الراجل كان شايل الشغل هنا، رغم إن مكانش بقاله كتير معانا.
رد عليه وهو يشبك كفي يده معًا:
-ما بيفضلش من الواحد غير السيرة الطيبة، ربنا يحسن ختامنا جميعًا.
فيما يشبه الوعد، تحدث "رجائي" بجديةٍ:
-المرة الجاية لو ربنا كتبلي زيارة بيته الحـــرام، هبقى أعمله عمرة.
مجددًا استحسن قراره ودعمه:
-إن شاء الله يا بابا.
........................................
كم افتقد لمذاق حلواها الشهية! فقد اعتاد على تناول ما كانت تعده باشتهاءٍ وهو طفل صغير، ليصبح أكثر تلهفًا على زيارة بيت عمه كلما سنحت له الفرصة لفعل ذلك، إلا أن شقاوته، ورعونته حرمته من الكثير من متع الدنيا البسيطة، فبات أكثر تقديرًا لما يُعيد إليه لحظات الماضي الثمينة. انتهى "فارس" من شرب كوب الشاي، والتف متطلعًا إلى زوجة عمه يشكرها في امتنانٍ:
-من يد ما نعدمها.
ردت قائلة بعد ضحكة سعيدة:
-طول عمرك مجامل ولسانك زي السكر، زي "فهيم" الله يرحمه.
قال وهو يخفض رأسه:
-الله يخليكي يا مرات عمي.
دون تحرجٍ سألته، كأنما تستعلم عن نواياه المستقبلية فيما يخص أحواله:
-وناوي على إيه يا ابني؟
أجابها بعد زفرة سريعة:
-أبويا الله يرحمه سايبلي اللي يكفيني، هحاول أشوفلي تجارة أظبط بيها حالي.
دعت له بصدقٍ:
-ربنا يكرمك بكل خير.
وزع نظراته بينها وبين "إيمان" متسائلًا في نبرة مهتمة:
-عملتوا إيه في مسألة المعاش بتاع عمي؟
غامت ملامح ابنتها بشكلٍ ملحوظ، وتولت الإجابة عن أمها قائلة:
-لسه إجراءات الحكومة بتاخد وقت.
لوح بيده في الهواء قائلًا في عزم:
-ما تشلوش هم حاجة، أنا موجود وخير ربنا كتير.
حينها ردت عليه "عيشة" مجاملة:
-تسلم وتعيش يا ابني.
توجه بعدها "فارس" بحديثه إلى ابنة عمه، فأردف:
-عايز أتعرف على جوزك يا "إيمان".
قالت متصنعة الابتسام المهذب:
-إن شاء الله تشوفه قريب، يرجع بس من مأمورية البنك وتتقابل معاه.
هز رأسه مرددًا:
-بإذن الله.
أضافت "عيشة" هي الأخرى:
-طبعًا إنت مش محتاج عزومة على فرح "دليلة".
استدار ناحيتها بوجهه ليخاطبها:
-أكيد طبعًا، بس المهم إنتو سألتوا كويس على اللي هيتجوزها؟
وقتئذ تبادلت "عيشة" مع ابنتها نظرات غريبة، غامضة، عكست ترددًا، وقلقًا، وريبة، لتقول بعد صمتٍ أعجب بشيءٍ من الضيق:
-الكدب خيبة يا ابني، احنا وقعنا ولا حدش سمى علينا.
انعقد حاجباه معًا، وهتف في استغرابٍ:
-مش فاهم!!!
قبل أن تمنحه الجواب، تنبه ثلاثتهم لصوت صرخة عالية آتية من الداخل، لتنتفض "إيمان" قائمة في فزعٍ، وصوت "فارس" يتساءل باندهاشٍ قلق:
-إيه الصويت ده؟!
على الفور أدركت ما يحدث لتقول بتلقائيةٍ شديدة:
-"دلــــيلة"!
لطمت "عيشة" على صدرها صائحة في جزعٍ:
-يا نصيبتي لأحسن يكون البت جرالها حاجة!
كان حائرًا بينهما، لا يدري ما الذي يجب عليه فعله، فتساءل وقد وقف مترددًا في مكانه، وعيناه تشيعان كلتاهما وهما تركضان للداخل على الفور:
-هو في إيه بالظبط؟
.........................
ظلت تئن، وتبكي، وتجز على أسنانها بقوةٍ في نومها، لتحاول "إيمان" جاهدة إفاقتها، إلا أنها فشلت، فاضطر "فارس" للتدخل، واعتذر قبل أن يبدأ في إجبارها على التيقظ، حيث استخدم الماء البارد في رش وجهها به، لتنتفض شاهقة، قبل أن تسكن تمامًا، وتواصل غفوتها وكأن شيئًا لم يكن.
حملق فيها مدهوشًا للحظاتٍ، لم يتوقع رؤيتها على تلك الحالة المريضة، فأشفق عليها، كان آخر ما يذكره عنها حينما كانت لا تزال طفلة صغيرة، تركض وتختبئ خلف والدتها كلما رأته قادمًا نحوها، وكأنها تخشى أن يتطاول باليد عليها، فقد اعتاد أن يمازحها مزاحًا ثقيلًا، ينتهي ببكائها وركله في ساقه كنوعٍ من الانتقام منه، ليظل يضحك في استمتاعٍ ليزيد من إغاظتها واستفزازها.
خرج ليجلس بمفرده في الصالة، وانتظر بأعصابٍ مشدودة عودة زوجة عمه إليه، هرع إليها متسائلًا بنبرة لهفة:
-نطلبلها دكتور ولا نعمل إيه يا مرات عمي؟
أجابته في هدوءٍ:
-دلوقت تبقى كويسة، هي بس من قهرتها وزعلها على أبوها حالها اتبدل.
ضرب كفه بالآخر مرددًا:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، كان نفسي أشوفها في ظروف أحسن.
لينتقل إلى سؤاله التالي المتعجب:
-بس صحيح هتتجوز إزاي وهي بالحالة دي؟ مش المفروض الفرح يتأجل شوية لحد ما تبقى أحسن؟!!!
أحنت رأسها على صدرها متمتمة في يأسٍ:
-يا ريت كان بإيدينا، بس احنا مش أد العريس ولا اللي معاه!
جاء تعليقه عليها ساخرًا إلى حدٍ كبير:
-ليه يعني؟ أهله هيعلقولكم حبل المشــــنقة؟!!!
تفاجأ بها تقول في جديةٍ شديدة تناقضت مع لغوه:
-وأكتر من كده كمان.
لحظتها فقط اشتدت عروقه، وأصبحت نظرته قاتمة، لتصير نبرته كذلك شديدة الجدية وهو يسألها مباشرةً:
-هي هتتجوز مين بالظبط .............................؟!!!
..........................................
منال_سالم
•تابع الفصل التالي "رواية فوق جبال الهوان" اضغط على اسم الرواية