Ads by Google X

رواية في ظلال الحب المفقود الفصل التاسع عشر 19- بقلم مهجة

الصفحة الرئيسية

  

 رواية في ظلال الحب المفقود الفصل التاسع عشر 19- بقلم مهجة

" رسائل تحت التراب "
                                    
                                          
لم يكن أحد يتوقّع أن تأتي لحظة الفراق بهذه السرعة، فبينما كانت العائلة تستعد للسفر بعد أسبوعين، جاء الخبر كريحٍ خفيفة هزّت الأغصان ثم تركت أثرًا لا يُنسى:
اضطرّ عمّ محمود لتقديم موعد رحيلهم لأسباب تتعلّق بعمله، ولم يبقَ سوى يومٍ واحد يجمعهم جميعًا.



اجتمع الأطفال في فناء البيت عند الغروب، حيث كانت السماء تميل إلى الحمرة، والنسيم يحمل عبق الطين بعد المطر.



قال أدهم بهدوء:
"لنصنع ذكرى تظلّ محفورة في هذا المكان، مثل بصمات أقدامنا على التراب."



وافقت سُكرة بحماسٍ خافت، وهي تنظر إلى الأرض وكأنها تستعد لكتابة سرّها الأعمق.
أخرجت ليان دفترًا صغيرًا وقالت:
"لنكتب رسائل لبعضنا، كل واحد يكتب رسالة لأحدٍ منّا، ندفنها هنا، ونعود لنقرأها متى ما اجتمعنا ثانية."



جلس كلٌ منهم على عتبة الباب أو قرب الجدار، يحمل ورقة وقلمًا وصمتًا يشبه الصلاة.
سُكرة كتبت لأدهم، بخطّها الصغير المائل: "سأشتاق إلى ظلّك حين يسبقك، وإلى نظراتك حين تسبقني."
أما أدهم، فكتب دون أن يكشف عمن كتب له، ثم طوى الورقة بعناية كما لو كان يطوي قلبه داخلها.



كتب وسيم شيئًا قصيرًا، لكنه حين طوى ورقته، كانت عيناه تلمعان بشيء بين السرور والحنين.



سالم نظر إلى الورقة طويلًا، ثم بدأ يخطّ حروفه الصغيرة بتردّد.
لم يُرِ أحدًا ما كتب، بل خبأ الورقة سريعًا بين يديه، وضمّها إلى كومة الرسائل دون أن ينبس بكلمة.
وربما فقط هو وأحدهم سيعرف يومًا، لمن كانت.



وبعد أن انتهوا، اجتمعوا قرب باب البيت، حفرت أيديهم حفرة صغيرة، ودفنوا الأوراق جميعها هناك، ثم رسموا على الجدار المقابل شكل قلب بدا وكأنه ينبض.



في اليوم التالي، حملت سيارة السفر حقائب عائلة الخالة ابتسام، وبقيت العيون تتبادل النظرات الأخيرة.



عانقت سُكرة ليان وهمست لها:
"لا تنسي مكان الرسائل... لا تنسي قلبي هناك."



أما أدهم، فاقترب منها بهدوء، وأخرج من جيبه حجرًا صغيرًا على شكل قلب.
قال وهو يضعه في يدها:
"هذا لكِ، وجدته عند السور يوم كنا نلعب... يشبهك."



أغلقت أصابعها الصغيرة عليه، وكأنها تحفظ شيئًا أثمن من المجوهرات.



ثم ابتعد، دون أن يلتفت، لكنها كانت تراقبه حتى اختفى، وعينها تمتلئ بدموع صامتة.



بقوا بعدها في السودان، مع الجدة والخالة ياسمين.
ورغم أن وسيم افتقد أصدقاءه، إلا أنه شعر بارتياح غريب. لم يعد يحس بذلك الغليان كلما رأى أدهم يقترب من سُكرة...
لكنها، سُكرة، بقيت كل مساء تفتح يدها وتلمس الحجر الصغير، وتبتسم بحزنٍ طفولي يشبه الغروب.



مرّ اليوم الأول بعد سفر عائلة الخالة ابتسام ببطء، وكأن الدار قد فَقَدت جزءًا من ضجيجها المعتاد. استيقظت سُكرة على صوت أمها وهي تفتح النوافذ، فملأ الضوء المكان، لكنّه لم يحمل نفس الدفء.



كانت الجدة تجلس في الساحة الصغيرة، تسبّح بهدوء بينما يلعب سامي وصالح حول قدميها. دخلت سُكرة المطبخ فوجدت ملاذ تجهّز إفطارًا بسيطًا، قالت بابتسامة:



"استعدي، جدّتكِ طلبت منّا ترتيب الرفوف اليوم."



ضحكت سُكرة وقالت بخفوت: "حتى بعد ما سافروا؟"



فأجابتها ملاك وهي تدخل حاملة صندوقًا: "الحياة لا تتوقف، يا صغيرة."



مرّت الساعات بين ضحكات خفيفة وأحاديث جانبية عن المدرسة المقبلة. سالم كان أكثرهم صمتًا، يحتفظ بسرّ صغير لم يُخبر أحدًا به. لم يكتب اسمه على الورقة التي دفنها بالأمس، ولم يصرّح لمن كُتبت. فقط اكتفى برسم بسيط في الزاوية، يعرف هو وحده ما يعني.



في العصر، اجتمعوا في فناء الدار يشربون الشاي مع الجدة، التي حكت لهم قصة قديمة عن طفولة أمهم في ذات هذا البيت. شعرت سُكرة أن الزمن يعود قليلًا إلى الوراء، لكنها لم تنسَ أن بعد أسبوع تمامًا، ستغادر هي الأخرى.



وفي المساء، جلست تكتب في دفترها الوردي، تحدثت عن أدهم دون أن تكتب اسمه. كتبت عن نظراته، عن الحجر الذي أعطاها، عن قلبها الذي صار ينبض كلما تذكّرته.



قبل النوم، سألتها ملاذ:



"هل ستشتاقين إليهم؟"



أجابت سُكرة وهي تضغط الحجر الصغير في يدها:
"كثيرًا… لكنّي سأنتظر الإجازة القادمة.



عند الغروب... 
كانت سُكرة تجلس على درجات السلم المؤدي إلى الحديقة الخلفية، تفرز مجموعة من الأزرار الملوّنة التي جمعتها من أثواب والدتها القديمة، تصنّفها بحسب اللون والشكل.



شعرت بخطوات تقترب منها، فرفعت رأسها لتجد وسيم يقف متردّدًا، يعضّ طرف قميصه بخجل.



قالت بهدوء:
"هل ترغب في شيء؟"



هزّ رأسه ثم تمتم:
"لا... فقط رأيتك وحدك، فظننت أن بإمكاني الجلوس معك قليلًا."



أشارت إلى المساحة الفارغة بجانبها، فجلس مترددًا، وصمت لبرهة وهو يراقب يديها تنقل الأزرار برفق. ثم همس بصوت خفيض:



"أتدرين؟ كنت أنزعج عندما يجلس أدهم معك كثيرًا..."



توقفت يدها، ونظرت إليه متعجبة، لكنه لم يلتفت نحوها، بل ظلّ يحدّق في عصفور صغير يقفز بين أغصان الشجرة القريبة.



سألته بخفوت:
"ولِمَ؟"



ردّ، وكأنّه يبوح بسرٍ ثقيل:
"لا أعلم... أشعر أنك أقرب إليّ، وأدهم دائمًا يأخذ من أحبّهم."



سكت قليلًا ثم أسرع يقول:
"لكنني لا أكرهه... ولا أكرهك، بل أحبكما... فقط، لم أفهم لماذا أشعر بذلك."



لم تُجِبه مباشرة، بل مدّت يدها بهدوء، وضعت في كفّه زرًا صغيرًا بلون البحر.



قالت له مبتسمة:
"خذ هذا... ألا تظن أنّه يشبه البحر؟"



أخذ الزرّ وتأمله ثم ابتسم، وعيناه تلمعان بشيء من الراحة.



"أأحتفظ به؟"



"نعم، لكن لا تنساني كلّما نظرت إليه."



ضحك بخفة، ورفع يده كمن يُقسِم:
"أعدك، يا سُكرة."




                                  


google-playkhamsatmostaqltradent