رواية في ظلال الحب المفقود الفصل السابع عشر 17 - بقلم مهجة
" رعب المساء "
ما إن انتهى الجميع من تناول الإفطار، حتى اندفع الأطفال إلى الخارج، تغمرهم طاقة زاخرة وحماس طفولي لا يُقاوم. خرجت سُكرة برفقة ليان، وأدهم، وأيهم، ووسيم، وطارق، و سالم إلى الساحة الترابية أمام المنزل، حيث الهواء العليل وضياء الغروب يكسوان الأجواء لمسة ذهبية حالمة.
اقترح أيهم بحماس:
"ما رأيكم أن ننقسم إلى فريقين؟ فريق للفتيات وآخر للفتيان، يقف كل فريق خلف سيارة والد سُكرة... ويحمل كل واحد منا بعض الحصى، ثم نبدأ برشق الفريق الآخر! من يُصاب أكثر، يكون الخاسر!"
انفجر الأولاد بالضحك، وتبادلت سُكرة وليان نظرة حماسية، ثم قالت ليان ضاحكة:
"نتحدّاكم! بما أن عددكم أكبر، فسيكون من السهل علينا إصابتكم!"
اتخذ كل فريق موقعه خلف السيارة بحماسة، وجمعوا الحصى الصغيرة بأيديهم استعدادًا للمعركة. وما إن بدأت، حتى تعالت الضحكات وتزايدت الصرخات، وانطلقت الحصى في كل اتجاه، ترتطم بالأرض وتثير الغبار. كان المشهد أشبه بكرنفال بريء من الفرح واللعب، امتلأ صداه في أرجاء الحي.
وفجأة...
"آآآه!"
صرخة حادة قطعت صوت المرح، فتوقفت الأيادي في الهواء، وجمُد كل شيء.
كانت سُكرة واقفة وهي تمسك بعينها اليسرى، وقد بدا على وجهها ألم واضح.
ركض أدهم نحوها دون تردد، وكذلك وسيم، لكنه تباطأ عندما رأى أدهم قد سبقه، فتوقف في منتصف الطريق، يراقب بصدر ضاق فجأة وعيون امتلأت بالقلق والغيرة التي لم يُحسن ترجمتها.
قال أدهم بقلق:
"سُكرة! هل أنتِ بخير؟"
اقترب سامي بدوره، ووقف بجوارها يتفقدها بصمت، ثم التحق البقية بهم، بينما ظل وسيم واقفًا بعيدًا.
رفعت سُكرة رأسها وقالت تطمئنهم:
"لا بأس، مجرد ضربة خفيفة... لا أشعر بأي ألم، انظروا!"
فتحت عينيها ببطء لتريهم أنها بخير، ثم التفتت نحو وسيم، الواقف على بُعد، ونادته بصوت رقيق:
"وسيم..."
رفع وسيم نظره إليها على الفور، كأنّه كان ينتظر صوتها.
"لماذا تقف هناك؟ تعال."
نظر أدهم إلى وسيم بنظرة فيها شيء من الاستغراب، وربما عدم الارتياح، لكنه لم يقل شيئًا.
قال وسيم بصوت خافت:
"لا شيء... فقط كنت قلقًا عليك."
ابتسمت له سُكرة ابتسامة صغيرة دافئة وقالت:
"لا تقلق، أنا بخير. وشكرًا لكم جميعًا على اهتمامكم."
انتهت اللعبة عند تلك اللحظة، فعادوا جميعًا إلى الداخل، تملأ ضحكاتهم الأرجاء رغم ما حدث.
وفي ختام اللعبه، اتفقوا على الاجتماع مساءً في الغرفة الواقعة في زاوية الحوش، تلك الغرفة التي بدأ الجد ببنائها قديمًا لكنه لم يُكملها، فأصبحت ملاذًا سرّيًا لأطفال العائلة، ومكانًا لصغارهم ليعيشوا مغامراتهم الخاصة في عالمهم البريء.
في المساء، بعد أن اجتمع الجميع في المكان المتفق عليه، جلست ليان بجوار سُكرة فوق الجدار القصير الذي لم يُكتمل بناءه بعد. جلس كل من وسيم وأيهم على الجدار المجاور، بينما ظل أدهم واقفًا، وجلس طارق وسالم على الأرض. بدأوا في الحديث عن كل شيء تقريبًا: عن لعبة الصباح، والموقف المضحك الذي حدث مع رهف وملاك، ونظرات وليد إلى ملاذ التي كان الإعجاب واضحًا فيها، رغم أنه لم يصرح بذلك. ثم قال وسيم، وهو يراقب أدهم الذي كان يتبادل النظرات مع سُكرة طوال الوقت: "ما رأيكم أن أخبركم بقصة مخيفة؟"
أجابته ليان بسرعة: "لا لا، أنا لا أحب قصص الرعب."
قالت سُكرة: "في الحقيقة، ولا أنا."
ضحك أيهم بسخرية وقال: "فتيات، ماذا ظننتُ أن يكون ردهن؟"
أجابته سُكرة: "لا دخل لكوننا فتيات في هذا، كل ما في الأمر أننا لا نحب هذه القصص."
أضاف أيهم وهو يضحك: "بلى، أنتن جبانات لهذا السبب لا تريدون سماعها. لا بأس، سأتي لأجلس بجواركم إذا كان ذلك سيخفف من خوفكم."
قالت ليان بمرح: "طفولية للغاية، حسنًا، يا وسيم، أخبرنا ما قصتك؟"
نظر وسيم إلى سُكرة وقال: "هي ليست مجرد قصة، بل تكمن المتعة في كونها واقعية أيضًا."
كان أدهم يقف متكئًا على الحائط، يراقب وسيم بنظراته دون أن يتدخل. وبعد أن اتفق الجميع، بدأ وسيم يحكي تفاصيل القصة. كانت تدور حول عصابة تسكن في المحطة المهجورة في الحي المجاور. أحد أفراد العصابة كان يحمل ثعبانًا على عنقه، بينما كان أحدهم يحمل ساطورًا، والبقية ليسوا بأقل منهم. كانوا يقومون باختطاف الفتيات، ومن تم القبض عليهن، لا يعودن أبدًا ولا يعرف أحد عنهن شيئًا.
نظرت سُكرة إلى أدهم بقلق، ثم قالت ليان: "و... ما هي الأوقات التي يخرجون فيها لاختطاف الفتيات؟"
قال أيهم ضاحكًا: "لا وقت محدد. يكفي أن تخرجي وحدك من المنزل، وهم سيأتون إليك مسرعين ليحصلوا على وجبتهم القصيرة." (وكان يقصد أن ليان قصيرة الحجم).
بينما كان أيهم يتحدث، اختفى وسيم دون أن يشعر به أحد، ليظهر بعد لحظات من خلف سُكرة وليان، مما أفزعهما. ملأ صراخهما أرجاء الغرفة، واحمر وجه أدهم، وبرز العرق في جبينه. تحرك بسرعة دون تفكير، فاندفع ليضرب وسيم لأنه زرع الخوف في قلب محبوبته وأخته. استمر الشجار لبضع دقائق حتى تمكنوا من تفريقهم عن بعضهم البعض.
قال طارق في النهاية: "حسنًا، هذا يكفي. أعتقد أنه حان وقت النوم. لنذهب جميعًا إلى سرائرنا."
نهضت سُكرة وليان من على الجدار القصير دون أن تنطقا بكلمة، كانت الضحكة التي انطلقت من حناجرهما قبل دقائق قد اختفت، وحلّ محلها صمتٌ ثقيل يعكس اضطراب المشاعر بداخلهما.دخلت الفتاتان الغرفة بصمت، وما إن أغلق الباب خلفهما، حتى انفجرت ليان بالضحك وهي ترتمي على السرير: "هل رأيتِ وجه وسيم؟! ظننت للحظة أنه سيطير من الفرحة عندما صرختِ!"
ضحكت سُكرة بخفة، لكنها لم تُخفِ نظراتها المتوترة: "لم أكن أمزح... قلبي كاد يتوقف، ظننت حقًا أن أحد أفراد العصابة خلفي!"
ثم نظرت إلى السقف شاردة، وهمست: "لكن تصرف أدهم... كان غريبًا نوعًا ما، لا أعلم لماذا انزعج بتلك الطريقة..."
رفعت ليان حاجبها، ثم ابتسمت بمكر: "أوه، أظن أنني أعلم السبب..."
نظرت إليها سُكرة بتردد: "أي سبب؟"
اقتربت ليان منها وهمست كأنها تكتشف سرًا خطيرًا: "لأنه يحبك يا سُكرة، ألم تعلمي ؟"
اتسعت عينا سُكرة، واحمرّ وجهها كأن نارًا اشتعلت في خديها، تمددت على السرير قائله : دعك من هذا الكلام و اخلدي إلى النوم
لتضحك ليان مرة أخرى : أمرك أيتها العاشقة
أما في الجهة الأخرى، فقد ظل الأولاد صامتين للحظات بعد رحيلهما. أدهم لم يكن على ما يرام، كانت نظراته لا تزال مشتعلة، لكنه التزم الصمت حين رأى أن الجميع بدأ يستعد للنوم.
قال أيهم وهو يتثاءب:
– "أعتقد أنّ هذا يكفي لليلة، كان كل شيء ممتع للغايه."
استلقى كل واحد منهم في مكانه، غير أن أحدهم لم يذق طعم النوم.
أدهم كان مستلقيًا على ظهره، يحدق في السقف، شارد الذهن. مشهد صرخة سُكرة يتكرر في مخيلته، نظرتها المفزوعة، يدها التي أمسكت بذراع ليان في خوف، كانت تلك التفاصيل الصغيرة كافية لتوقظ فيه مشاعر لم يعد قادرًا على إنكارها.
لم يكن يدري أهي الغيرة؟ الغضب؟ أم الحنان الشديد الذي بدأ يثقل قلبه كلما رآها تضعف أمام غيره؟
مرّت دقائق طويلة قبل أن يسمع صوت أنفاس أيهم المنتظمة وقد غلبه النعاس، بينما بقي هو وحده يتقلب في فراشه، تتصارع الأفكار داخله بصمت.
في تلك اللحظة، في غرفة البنات، كانت سُكرة أيضًا مستلقية بعينين مفتوحتين على اتساعهما، تستعيد تفاصيل تلك اللحظة المخيفة. لكنها لم تكن تخشى القصة بحد ذاتها، بل خافت من أن تُرى ضعيفة. من أن يكون أدهم قد رأى فيها طفلة خائفة، لا تستحق النظر إليها كأنثى تكبر شيئًا فشيئًا.
همست ليان وهي تقلب جسدها نحوها:
– "لا تفكري كثيرًا، لقد انتهى كل شيء."
– "أعلم... لكنني لم أستطع منع نفسي من الصراخ. كنت خائفة جداً."
– "طبيعي... ثم إن أدهم لم يضحك، بل غضب لأجلك، ألا يكفي هذا؟"
سُكرة لم ترد، فقط اكتفت بابتسامة خفيفة لم تُرَ في الظلام، ثم همست:
– "أدهم... هل كان حقاً خائفاً عليّ؟"
في تلك الليلة، خلد الجميع للنوم... إلا قلبان، بقيا مستيقظين، يتبادلان المشاعر ذاتها دون علم أحد.
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية في ظلال الحب المفقود) اسم الرواية