Ads by Google X

رواية محسنين الغرام الفصل السابع عشر 17 - بقلم نعمة حسن

الصفحة الرئيسية
الحجم

  

 رواية محسنين الغرام الفصل السابع عشر 17 -  بقلم نعمة حسن

ـ ١٧ ـ

~ سقوط حر ~

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقف فريد أمام المرآة يطالع هيئته بزهو ، يبدو مرتاحًا اليوم وهذه من المرات القليلة التي يشعر فيها بمثل ذلك الشعور، وبما أنه يشعر بالراحة وبأنه في مزاج جيد فقد قرر أن يتخلى عن بدلته الرسمية ويرتدي ثيابا بسيطة ..

وقف أمام الخزانة ينتقي شيئا ، وأخذ ينظر إلى النمط الصارم الذي رتب به الملابس ، وللحظة أراد أن يتمرد على الوسواس اللعين فأخذ ينقل البدلات من أماكنها لأماكن أخرى وهو يشعر ببعض الحماس، ثم أخرج قميصا باللون النيلي وسروالا باللون الأزرق.

ارتداهما وخرج في تمام الساعة الثامنة حيث أن مائدة الإفطار ستكون جاهزة في غضون دقائق وهو لا يحب أن ينتظره الآخرون ويكون مستاءً إذا تأخر عن أي موعد سواء موعد عمل أو موعد شخصي.

خرج من الغرفة ونزل الدرج ، ففتحت نغم باب غرفتها فور أن شمت رائحته متعمدةً لكي تلتقي به عند الدرج، وخرجت فإذا بها تجده أمامها فابتسمت ابتسامة ناعمة خجولة وقالت:

ـ صباح الخير..

نظر إليها ملتقطا جمال طلتها بعين كعين الصقر في حدتها، وأظهر ابتسامة ودودة بدوره وقال:

ـ صباح الخير..

رأى عينيها وكأن الحديث يتأرجح داخلهما فتساءل بطريقة مباشرة:

ـ عاوزة تقولي حاجة ؟!

أومأت واقتربت خطوة وهي تحث قلبها الصاخب على الهدوء والتريث بعد أن أحدثت رائحته فوضى عارمة بداخلها، ثم نظرت إليه وهي تعبث بأصابعها بتوتر وقالت:

ـ كنت عاوزة أسألك، لسه مضايق مني ؟!

قطب جبينه متعجبًا وتساءل:

ـ بخصوص ؟!

زمت شفتيها وأجابت باقتضاب:

ـ امبارح..

هز رأسه وهو يسترجع ما حدث وقال متهكمًا:

ـ قصدك لما كنتي هتلبّسيني الكيك في وشي ؟

انفلتت ابتسامتها بحرج فضحك بدوره ضحكة قصيرة وأردف بعدها:

ـ لأ مش مضايق، حصل خير.

أومأت بموافقة وهتفت بحماس:

ـ كويس جدا.

هز رأسه وجال بنظرة سريعة على ملامحها البريئة الخالية من أي إضافات أو محسنات كما اعتاد أن يرى الأخريات، ثم قال وهو يخطو للأمام:

ـ يلا عالفطار.

هزت رأسها بموافقة ولحقت به بصمت، لتتبعهم چيلان التي كانت تقف بأعلى الدرج وتراقب حديثهم القصير بعيون تشتعل بالغضب وغيرة هوجاء ، ثم نزلت السلم وهي تطرق الأرضية الرخامية بكعبيها بقوة غاضبة أثارت ضيقهم جميعا وجعلتهم ينظرون نحوها باستنكار.

دخلت غرفة الطعام وجلست بمكانها المخصص، ورمقت نغم التي تجلس بجوار فريد بضيق شديد واستهجان بالغ، إضافة إلى أنها في تلك اللحظة تحقد عليها بشدة، من هي لكي تحظى بالمقعد المجاور لفريد وهي مجرد ضيفة متطفلة ؟ بينما هي تجلس بجوار والدتها على الطرف المقابل للمائدة كما أمر سالم، ولمَ تشعر وكأن سالم متواطئ مع هذه الفتاة ويستخدمها في شيء ما يصعب عليها تحديده؟

أخذت نفسًا عميقا ثم تحدثت قائلة بغطرسة وتكبر:

ـ قوليلي يااا… انتِ ..

أشارت بسبابتها باستخفاف واستحقار نحو نغم وأضافت:

ـ sorry مضطرين نعاملك وكأنك نَكِرة لحد ما نعرف إسمك..

وأردفت بتساؤل وهي ترمق فريد الذي بدا عليه الانزعاج وقالت:

ـ عملتوا إيه في المستشفى إمبارح ؟! في أمل إنك تفتكري وترجعي بيتك ولا خلاص كده هتعيشي طول عمرك معانا هنا ؟!

اهتزت حدقتا نغم بتوتر، الرسالة وصلتها فورا.. هذه الشقراء تكرهها لسبب غير معلوم حتى الآن، وتتعمد الحط من قدرها والاستخفاف بها لكي ترضي نقصها الذي تشعر به كلما رأتها، تلك المشاعر تفهمها جيدا لأنها اختبرتها قبل ذلك من قِبل صديقتها نهال، وكونها على دراية بالتصرف الصحيح في مثل هذه المواقف بالتحديد فأخذت نفسًا مستترًا ونظرت إليها وهي تحاول استجماع شجاعتها ورباطة جأشها، فلقد اشتاقت كثيرا لمثل تلك المهاترات التي تبرع في الأخذ والرد فيها.. وأسندت ذقنها على قبضتها وهي تنظر إلى تلك الشقراء وقالت :

،ـ قوليلي ياااا…

وضيقت عينيها وهي تتصنع التفكير وكأنها تحاول تذكر اسمها، وقالت:

ـ آه.. چيهان..

ثم نظرت إلى فريد ونسيم اللذان يجلسان يراقبان تلك المناظرة المثيرة للحماس ويترقبان أيهما ستتفوق على الأخرى، وتساءلت بجدية مزيفة:

ـ مش اسمها چيهان بردو ؟!

ظهرت ابتسامة شحيحة جدا جدا في عيني فريد الذي أخذ يحك ذقنه بأنامله باستمتاع وأردف بجدية مزيفة مماثلة:

ـ چيلان..

ـ آه.. چيلان.. قوليلي يا چيلان.. عندك مانع إني أكون ضيفة هنا في بيت سالم بيه ؟! أظن هو بنفسه مرحب بيا في بيته وشايلني على كفوف الراحة، زي ماهو مرحب بيكي في بيته بردو وشايلك على كفوف الراحة.. ولا إيه ؟!

ارتفع حاجب چيلان بحنق وقد ظهرت عليها الصدمة من رد نغم، والتزمت الصمت حينما رأت سالم وهو يتقدم منهم، بينما نغم التي لم تكتشف حضوره بعد كانت تريح ظهرها للمقعد بانتصار وهي تمسك بكأس الماء وتشرب منه ليقف الماء بحلقها فورا عندما استمعت إلى صوت سالم المعقد المغلف بالقسوة وهو يلقي عليهم تحية الصباح فتشردقت وخرج الماء من أنفها فجأة.

رد الجميع تحية الصباح، بينما هي تحاول تدارك ذاتها، لتجد يد فريد تمتد لها بمنديل فنظرت إليه وهي تلتقط المنديل ، وما أثار حنقها أنها رأت الابتسامة تعلو شفتيه وعينيه تخبراها أنه يضحك على بلاهتها، فجففت وجهها وأنفها وقد حسمت أمرها.. لن تنظر إليه مجددا لأن النظر إليه يوترها أكثر.

بدأوا جميعا بتناول الفطور وكلا ينظر بطبقه بصمت يغلف الأجواء، إلى أن عطست عطسة اهتز لها الحاضرون وجعلتهم ينظرون نحوها باستغراب صامت فتخضب وجهها بلون الخجل وتمتمت:

ـ آسفة.

في ذلك الحين تحدث فريد الذي أراد جذب انتباههم بدلا من التحديق بها لأنه شعر بحرجها وتوترها فقال:

ـ المفروض إن حفل ذكرى تأسيس الشركة كمان شهر ، المفروض نبدأ نستعد من إمتا ؟! أنا شايف إنه التحضير المبكر أفضل.. بحيث يكون معانا وقت نعدل أي تفصيلة فيما بعد .. ولا إيه رأيكم ؟

نظر إليه والده برضا وقال:

ـ أنا معاك طبعا.. وبما إني مبقيتش متابع قد كده هسيب الموضوع ده عليك .

أومأ موافقا وأردف وهو ينظر إلى عمر:

ـ عمر.. لازم انت كمان تكون معايا الفترة الجاية وأهي فرصة تتعرف على الشغل عن قرب ، عشان بدايةً من السنة الجديدة في عُمْر الشركة إن شاء الله تكون انت متواجد بصفتك عضو مجلس إدارة.

أطلق سالم زفرة ساخرة وقال:

ـ عضو مجلس إدارة مرة واحدة !! ثقة في غير محلها نهائي .

نظر إليه عمر بضيق وإحباط واضحين، ونظر تلقائيا نحو فريد الذي تنهد باستياء من رد والده المحبط، ثم قال وهو يتناول طعامه ببساطة:

ـ ثقتي في عمر ملهاش حدود، وواثق ومتأكد إنه يقدر يكون شخص ناجح جدا لو حط النجاح هدف قدام عينيه.. وبعدين محدش بيبدأ كبير .. كلنا كنا لا نفقه شيء ومع الوقت اكتسبنا خبرات وبقينا أسامي ومراكز مرموقة.

أثارت لهجة التحدي في حديث فريد شيئا ما بداخل والده، فمنذ نشأته وقد تنبأ سالم أنه سيصبح خيلًا جامحًا يستعصي على صاحبه وسيغلبه يومًا ما، وها هو فريد يحقق تلك النبوءة يومًا بعد يوم، ويثبت له أنه كان ذا نظرة صائبة بشأنه من البداية.

بينما استقبل عمر دعم أخيه بابتسامة ممتنة، ففريد وحده القادر على وإصلاح ما يفسده سالم مرسال، ورأب الصدوع التي يحدثها سالم بأرواحهم، ثم نظر إلى فريد مبتسما وقال:

ـ شكرا يا فريد، وأنا عشان كلامك ده مستعد أنجح وأبقا أحسن واحد في الدنيا عشان أثبتلك إني قد الثقة دي.

نظر سالم إلى ابنه الآخر بتفاجؤ ، إنه يرسل إليه رسالة مبطنة، فحواها أنه سيسعى للنجاح بفضل دعم أخيه ومن أجل دعم أخيه فقط لا غير، أما بالنسبة له هو فلا يكترث لأمره من الأساس.

ظهر الاستياء الشديد باديًا على عقدة حاجبيه ، وأخذ يكمل طعامه بصمت متجهم إلى أن قطع ذلك الصمت صوت نغم التي قالت بعد أن تنهدت بتوتر:

ـ أنا افتكرت ان اسمي نغم..

نظروا جميعهم إليها وأولهم فريد الذي صُعق !! ما هذا الهراء !!

حسنا هو طلب منها أن تعرفهم بنفسها بالتدريج وكأنها تستعيد ذاكرتها شيئا فشيئا ولكن ليس بتلك السرعة !! ما هذا العته ؟!

ـ انتِ افتكرتي ؟!

تساءل سالم باهتمام فتنهدت مجددا وقالت:

ـ مفتكرتش غير حاجات بسيطة، إسمي واسم أبويا وأمي.. والباقي لسه مش فاكراه.

تحمحم فريد بخفة محاولا لفت انتباهها..

هذه الفتاة ستفسد كل شيء !!

ـ أبويا اسمه ناجي.. كان شغال في السكة الحديد.. وأمي اسمها بدر..

رفع فريد الكأس ووضعه مجددا بطريقة أثارت انتباهها فتصنع بأنه يتناول طعامه ولله الحمد كانت قد التقطت الإشارة وقالت باقتضاب وهي توقف سيل الاعترافات الذي سيجرفها نحو الجحيم :

ـ بس .. ده كل اللي افتكرته .

إنه يشعر بالحنق نحوها الآن ، ولو باستطاعته لصفع رأسها المعتوه مئات المرات لكي تفقد الذاكرة فعلا وتتخلى حينها عن ذلك التمثيل الهابط..

وانتبه حين تحدث والده قائلا بنبرة تبدو متحمسة:

ـ دي بداية مبشرة جدا يا نغم.. بإذن الله تقدري تفتكري كل حاجه وتقدري توصلي لعنوان أهلك كمان.

ـ مليش حد، أبويا وأمي ميتين من صغري .

ألقتها بعفوية ونبرة يتردد من صداها الحزن ، فنهض فريد قبل أن يكسر ذلك الكأس فوق رأسها ، وتمتم قائلا:

ـ أنا شبعت الحمد لله ، عن اذنكم.

استوقفه عمر الذي نهض فجأة بدوره وقال:

ـ وأنا كمان شبعت، استناني يا فريد هطلع أجيب حاجتي من فوق عشان توصلني في طريقك، مليش مزاج أسوق..

وقبل أن يخرج مال نحو نغم قليلا وقال :

ـ سي يو نغم ، إسمك حلو جدا على فكرة..

رجعت نغم للوراء خطوتين وهي تطالعه باستغراب، ثم ابتسمت ابتسامة مفتعلة وهي تهز رأسها بإيماءة بسيطة.

وغادر مسرعًا بينما هي شعرت بالتوجس والتوتر، فنهضت وهي تحمل طبقها بعادة فطرية وقالت :

ـ أنا كمان شبعت الحمدلله ، عن اذنكم.

توجهت نحو المطبخ، دخلت وغسلت طبقها ثم خرجت للشرفة الصغيرة الخاصة بالمطبخ فوقعت عيناها على فريد الذي يقف بجوار سيارته في انتظار عمر، ووجدت نفسها كالمجذوبة تبتسم بلا وعي وهي تنظر نحوه وتتفحص هيئته الرجولية المثيرة للجدل بقلبها.

رجل فريد من نوعه، كل تفصيلة به تراها حصرية وخاصة به هو فقط، طول القامة المتناسق مع وزن مثالي فيصنعان جسدًا رياضيًا متناسقًا ، وملابس بسيطة ولكنها تعكس أناقة ورقيًا وذوقًا جيدًا جدا، وحضورًا طاغيًا.. يرافقه رائحة عطر ملعونة تنبش مشاعر غريبة ومتمردة كانت كامنة في أعماقها.

وللحظة وجدت نفسها تتمنى وتقول يا ليت، يا ليتها كانت نغم أخرى، من نفس طبقته ومن نفس محيط بيئته، لو كانت تشبه ظروفه وعائلتها تشبه عائلته، كان من الممكن حينها أن يكون لديها فرصة للحلم برجل كهذا.. ولكن بما إنها ليست نغم أخرى ولن تصبح فالحلم في حالتها كابوسًا ، حلمًا مؤطرًا بأسلاك شائكة لن تستطيع الاقتراب منه ، و أخذت نفسًا عميقا وقبل أن تخرجه فزعت عندما سمعت صوت إحدى العاملات والتي قالت:

ـ بتعملي إيه هنا ؟!

نظرت إليها نغم بضجر وقالت وهي تلتقط أنفاسها الثائرة وتقول:

ـ مش تكحي ولا تعملي أي حاجه بدل ما تفجعيني كده.

نظرت إليها الخادمة باستغراب وتساءلت:

ـ انتِ منين بالظبط ؟ أصل كلامك غريب شوية .

ضغطت نغم شفتيها بشبه إحكام كما تفعل حين تستاء ، ثم تحركت وهي تقول:

ـ أنا خارجة أشم هوا برة .. عن اذنك.

فرت من أمامها هاربة قبل أن تستجوبها مجددا وتجد نفسها قد سردت لها قصة حياتها بالكامل كما كانت على وشك الفعل قبل قليل .

***

تجلس عائشة أمام حسن ، يتناولان الفطور بصمت بينما كلا منهما يسبح مع خياله بعيدا عن الآخر، هي تفكر في اللحظات القادمة وكيف سيكون رد فعل حسن بعد أن تعترف له بكل شيء، وهو يفكر ماذا سيفعل بالمليون جنيه بعد أن يصبح في قبضته. وكيف سيرضخ لرغبة فيفي ويتزوجها ، وبماذا سيخبر أمه أساسا؟

إلى أن قطعت هي هذا الصمت وقالت في محاولة منها للوصول إلى لب الموضوع الأساسي التي تود الاعتراف به:

ـ بقولك ايه يا حسن ..

أجاب وهو يدس كسرة خبز بفمه بانشغال:

ـ قولي ياما ؟.

ـ كنت عاوزة أتكلم معاك في موضوع مهم..

أومأ موافقا وهو يمضغ الطعام وينظر إليها بانتباه فقالت بتوتر؛

ـ فاكر لما سألتني زمان اتعرفت على ابوك إزاي؟!

هز رأسه موافقا، فيما هي تجول بنظرها على قسمات وجهه بحيرة وخوف، فرأته يهز رأسه متسائلا وهو يقضم قطعة خيار بانشغال :

ـ قولي ياما، يظهر إن أبويا الله يرحمه بيهف عليكي كتير اليومين دول بقيتي بتجيبي سيرته كل شوية .

ابتلعت ريقها بتوتر وقالت :

ـ الله يرحمه.. راعاني وأكرمني وعوضني عن كل حاجة صعبة شوفتها.

ـ الله يرحمه ..

قالها بتأييد ثم نظر إليها متسائلا بفضول :

ـ صحيح يا ام حسن، سؤال أخوي بينا كده.. ليه مفكرتيش تخلفي غيري؟ ليه سيبتيني أطلع فرداني بطولي كده في الأيام اللي مباينلهاش ملامح دي؟ مصعبتش عليكي؟

تساءل بهدوء ولم تعكس ملامحه أي انطباع مفهوم ، فاهتز صوتها وهي تقول:

ـ أكيد فكرت وكان نفسي كمان أجيبلك أخ يسندك ، بس يدوب بقا عمرك أربع سنين و أبوك الله يرحمه مات.

تنهد حسن باستياء وهو يسند يديه على فخذيه وتمتم:

ـ الله يرحمه .

ثم فاجأها حين قال متسائلا:

ـ وليه مفكرتيش تتجوزي بعد ما مات ؟!

شردت بناظريها قليلا، وكأنها تفكر في سؤاله لأول مرة، ثم نطقت بعد تنهيدة محملة بالهموم:

ـ مفكرتش أبص لصنف راجل تاني، أنا كان كل همي انت يا حسن، كنت شيفاك انت راجلي اللي لما تكبر هقدر أستقوى بيك وأتسند عليك ..

أطلق زفرة ساخرة وقال:

ـ وللأسف اتسندتي على حيطة ميلة .

نظرت للأسى النابض بعينيه بحزن وضيق وقالت:

ـ أنا آسفة يابني، ظلمتك معايا كتير..

وقبل أن تكمل قاطعهما صوت رنين جرس الباب فنظرا إلى بعضهما البعض باستغراب وقالت:

ـ مين اللي جايلنا بدري كده ؟

نهض حسن مسرعا وفتح الباب بلهفة ما لبثت أن اختفت عندما رأى الوافدة، فتمتم بنزق:

ـ نهال ؟! خير عالصبح ؟!

قطبت عائشة حاجبيها متسائلة:

ـ مين يا حسن ؟!

نظر إليها قائلا بحنق ؛

ـ نهال .

ـ طب خليها تدخل جايز عرفت حاجه عن نغم وجاية تقولها لنا.

نظر حسن إلى نهال بسخط واضح وقال :

ـ خُشي..

دخلت نهال وما إن رأت عائشة حتى ركضت نحوها وجلست بجوارها، ثم أمسكت بيدها وقبلتها وهي تقول:

ـ إزيك يا خالتي وإزي صحتك ؟!

نظرت إليها عائشة بعدم ارتياح، فهي لم ولن تنسى موقفها السابق مع نغم، إضافة إلى أنها لم تكن راضية عن علاقة نغم بها منذ البداية لأنها ترى فيها إنسانة غير مريحة وغير سوية، وقالت:

ـ الحمد لله يا نهال، خير ؟ زيارتك بدري أكيد الحكاية فيها إنّ ..

ـ بصراحة أيوة.. أصل نغم جتلي…

ونظرت إلى حسن وتابعت :

ـ في الحلم.

تراجعت لهفة عائشة وظهر محلها الإحباط مجددا، ثم نظرت إلى نهال التي استطردت وهي تنظر لحسن نظرة ذات مغزى وتقول:

ـ وطلبت مني أجي أطمن عليكي وأوصلك سلامها وأشوفك لو محتاجة حاجة، مقدرتش أطنش الحلم ده وقلت جايز نغم نفسها توصلي الرسالة دي بجد ومش طايلة، ولا يمكن بعد الشر يعني تكون ماتت وروحها اللي جتلي في الحلم .

نظرت إليها عائشة بغضب وقالت :

ـ تفي من بؤك فال الله ولا فالك، نغم بخير أنا متأكدة وهترجع تنور بيتها من تاني.

أظهرت نهال بعض التوتر وهي تسحب ما قالته وتنظر إلى عائشة قائلة:

ـ مقصدش والله يا خالتي ده أنا ربنا وحده اللي يعلم قلبي بيتقطع عليها إزاي ونفسي ترجع النهارده قبل بكرة، ده أنا مليش صاحبة غيرها ولا هي ليها غيري..

هنا برز صوت حسن الذي قال متهكمًا :

ـ قُصره يا نهال، نغم جتلك عاوزة إيه… في الحلم !!

تنهدت نهال وهي تقول :

ـ قالتلي سلميلي على خالتي وبوسيهالي..

ومالت نحو عائشة وقبلت خدها بقوة ثم استرسلت :

ـ وقالتلي أخلي بالي منها وأحضر معاها الجلسات ، وأنا بقا مستحملتش، فتحت عنيا من الحلم عليكوا على طول، قلت لازم أبلغكم بالرسالة دي وأقولكم إني هعمل بوصية نغم، من هنا ورايح يا خالتي متشيليش هم حاجة أبدا، واعتبريني مكان نغم لحد ما ترجع.

ثم نظرت إلى حسن الذي كان يطالعها بحاجبين مقلوبين وجبين مجعد بضيق سافر، ثم قال:

ـ متشغليش نفسك انتي احنا مش ناقصنا حاجة، ولو نغم جتلك في الحلم تاني قوليلها بدل اللفة الطويلة دي أولى تيجي لخالتها .. أهي تشوفها بالمرة .

زفرت نهال باستياء ويأس منه ، ذلك العقرب يجردها من كذبها وخداعها بمنتهى السهولة ويثبت لها مرة تلو الأخرى أنها بطاقة محروقة ليس لها قيمة لديه ، ثم نهضت والتقطت حقيبتها وفتحتها ثم أخرجت منها رزمة من النقود ومدت يدها بها لعائشة وهي تقول:

ـ امسكي يا خالتي خلي دول معاكي يمكن تحتاجيهم..

هنا نطق حسن بقوة وحدة أجفلتها وقد اقترب منها ونزع من يدها رزمة النقود ودسها داخل حقيبتها بقوة وهو يقول:

ـ شيلي فلوسك يا نهال واتكلي على الله احنا مش ناقصنا حاجة..

لتجيبه هي بحدة مماثلة وضيق واضح:

ـ دول مش ليك، دول لخالتي.

فتحدثت عائشة وهي ترمقها بعينين تُظهران غضبًا وشيكًا، ثم قالت:

ـ وأنا مش محتاجة حاجة ألف حمد وشكر، وفري فلوسك يا بنتي الله الغني.

زفرت نهال بضيق وهي تنقل عينيها بينهما ثم قالت :

ـ زي ما تحبي يا خالتي، عالعموم أنا رقمي في تليفون نغم، وقت ما تعوزيني أشري بس وانتي تلاقيني تحت رجليكي..

ـ كتر خيرك يا بنتي..

قالتها عائشة بإيجاز وضيق، فأومأت نهال بموافقة ثم نظرت إلى حسن وأشارت برأسها نحو الباب ليلتقط هو الإشارة فورا ثم تحدثت قائلة :

ـ أستأذن أنا يا خالتي، عن اذنك.

خرجت فلحق بها حسن، وأغلق باب المنزل خلفها ونظر إليها حانقًا وهو يقول:

ـ ممكن أفهم بقا إيه اللي جايبك عالصبح كده وعاوزة إيه؟ وإيه حكاية نغم اللي جتلك في الحلم دي كمان ؟! وتجيلك في الحلم ليه هو انتي كنتي ولي من أولياء الله الصالحين وأنا مش واخد بالي؟!

عقدت ذراعيها أمام صدرها بتحدي وقالت بنظرة واثقة وهي تلقي المفاجأة بوجهه دون تريث:

ـ نغم كلمتني !

نظر إليها مصدومًا وقال بغير تصديق:

ـ إيه ؟! كلمتك إزاي يعني ؟!

ـ كلمتني في التليفون هتكلمني إزاي يعني؟

ـ وبعدين ؟! هي فين ؟ وفين الرقم اللي كلمتك منه ؟! انطقي!!

تساءل بلهفة فرآها تنظر إليه بتلاعب، فقبض بقبضته القوية فوق ذراعها وهو يتمتم:

ـ إنتي جاية تشتغليني يا بت انتي عالصبح؟

نزعت ذراعها من قبضته بغضب جهور وهي تنظر إليه وتقول بحدة:

ـ المكالمة معايا لو مش مصدق، وعالعموم مصدق أو لأ دي حاجة متخصنيش ..

حاول انتزاع حقيبتها منها وهو يقول:

ـ هاتي الرقم اللي كلمتك منه..

فأبعدت الحقيبة عنه وهي تقول بحدة:

ـ مش هيحصل..

أخذ ينظر إليها منتظرا أن تفضي ما بجعبتها فقالت هي:

ـ مش هتعرف الرقم ولا عنوانها ولا أي حاجه عنها إلا لما تنفذ اللي أنا عايزاه..

ضيق عينيه متعجبا وتساءل بترقب:

ـ اللي هو إيه ؟!

فزفرت بارتباك وهي تنظر إلى عينيه بقوة وتقول:

ـ تجيلي لحد عندي وتعتذر لي على القلم اللي ضربتهولي قبل كده.

رفع حاجبيه متعجبًا وقال:

ـ طب ما أعتذر لك هنا، لزمتها إيه الشحططة؟

ـ لأ، زي ما ضربتني بالقلم في بيتي تعتذر لي في بيتي ؟

أخذ يمسح على ذقنه بأنامله بتفكير وهو يقول:

ـ أعتذر لك ؟ طب وبالنسبة لسي وحيد ؟ ظروفه إيه ؟!

تنهدت بحنق وهي تهز قدميها بضجر وتقول:

ـ ملكش فيه، وحيد مسافر ومش هيرجع غير بعد أسبوع، يعني قدامك مهلة أسبوع واحد.. ولو مستغلتش الفرصة صدقني مش هتوصل لنغم لو دورت عليها تحت سابع أرض.

مط شفتيه وهو يفكر بتريث، بالطبع هو ليس غافلا عن مقصدها، ويعرف ما تريده تماما، ولكنه ليس مستعدا لفعله أبدا ، يكفي أنه سيكون مضطرا لإتمام زيجة هو لا يرغب بها ، والآن.. عليه أن يفكر في طريقة يستطيع بها الحصول على معلومة ترشده إلى طريق نغم دون أن يخضع لرغبة نهال.

هز رأسه موافقا وقال:

ـ ماشي يا نهال ، وأنا موافق أجي لحد عندك وأعتذر لك. بس لو حاولتي بعدها تقلي بعقلك معايا متلوميش غير روحك أنا بقوللك أهو.

أومأت بتمهل وهي تقول:

ـ ماشي يا حسن يا عقرب.. سلام.

وسارت نحو سيارتها فأخذ هو يتتبع أثرها وخطواتها المتبخترة وهو يغمغم:

ـ مع السلامة والقلب داعيلك.

دخل وصفق الباب وهو يتجه نحو غرفته فتساءلت عائشة باهتمام:

ـ كنتوا بتتكلموا كل ده في إيه يا حسن؟!

ـ أبدا ياما، كنت بقوللها متجيش هنا تاني احنا مش ناقصين وجع دماغ.

تنهدت تنهيدة يملؤها الهم وأردفت:

ـ طيب مش هتيجي تقعد عشان نكمل كلامنا ؟!

ـ معلش ياما وقت تاني، أنا ورايا مشوار ضروري دلوقتي .

ودخل غرفته لكي يستعد للخروج للحاق بنهال، فبالتأكيد لن ينتظر للمساء لكي يعرف مكان نغم، وترك أمه وراءه تستغفر بضيق وإحباط لأن مخططها للاعتراف أخيرا قد فشل وعادت إلى نقطة الصفر.

***

في دبي..

كانت چوليا تجلس بسريرها وهي تضم ركبتيها إلى صدرها وتسند رأسها عليهما وهي تبكي ، ترتجف وهي تسترجع كل لحظة مرت عليها برفقة شريف على مدار العشر سنوات، وتمنت لو أنها لم تعرفه، لو أنها تضعف أمام غزله المثير وكلامه المعسول، لو أنها كانت أقوى أمامه ولم تسمح له أن يعبث بمراهقتها ويصيغها بطريقته الخاصة ويمتهنها بخسة ونذالة طوال العشر سنوات.

عشر سنوات فارقة، كانت كافية لأن تتعلم فيها الكثير، ولو أنها كانت تختار قبل عشر سنوات بنفس العقل الذي تفكر به اليوم فمن المؤكد أنها لم تكن لتنظر إلى ذلك الرجل أبدا ولم تكن لتلتفت إليه حتى.

طوال العشر سنوات كانت تشعر أنه هو من منحها هويتها، لذا اقتصرت الحياة عليه فقط ، وتمحورت حياتها حوله، فأصبحت تعتمد عليه في كل صغيرة وكبيرة ، تأخذ رأيه وتستشيره حتى في نوع العطر الذي ستضعه اليوم، تطلب نصيحته حول موقف ما، هي كانت قادرة على حل هذا الموقف والتصرف فيه ولكن رأيه يبقى الأهم.

عشر سنوات قلصت حجمها وقللت من قيمتها أمامه، اعتبرته السيد وهي الخادمة، تلبي طلباته بدون تفكير، وتسلك المسار الذي يشير نحوه مغمضة الأعين وكأنها ألغت عقلها وخدرته تماما.

وعلى الرغم من الثناءات المتكررة التي كانت تسمعها من الجميع، والنجاحات التي كانت تحققها في مجال عملها، إلا أنها كانت تشعر بعدم الأمان وتشعر وكأنها فاقدة الكينونة بعيدا عنه،

تشعر وكأنها شخصيتان متداخلتان، إحداهما تتوق للنجاح وتحقيق الذات، والأخرى مناقضة لها تماما وعادةً ما تتولى زمام الأمور وتسيطر على الأولى، تتوق للامتلاك والامتهان بكل الطرق.

وعاشت هي في صراع بين الشخصيتين الذي لم يفلح أحدًا في التعامل مع كلا منهما سواه، لذا كانت تشعر دائما نحوه بالامتنان والعرفان، تترجم أفعاله أنها حب، لكنها تفاجأت به يصفع مخيلتها ويحطم آمالها في اليوم التالي.

على مدار العشر سنوات عاشت معه بين شد وجذب ، في علاقة مهددة تماما وغير مستقرة، ولكنها كانت تتجاهل هذا الشعور دائما وتختلق الأوهام والأعذار الواهية لكي تبرر له أفعاله الحمقاء لكي تصرف انتباهها عن فكرة الابتعاد عنه .

إلى أن اهتدت إلى فكرة الزواج، عله يكون رابطا قويا بينهما، وأقنعها عقلها الغبي أنها بذلك تكون قد ضمنته للأبد، لتجد الحقيقة في النهاية منافية تماما.. هو كالسراب .. توهمت في بادئ الأمر أنه رجل أحلامها ومنقذها و و و.. وكلما اقتربت منه وتعمقت في شخصيته وعرفتها عن كثب اكتشفت أنه لا شيء..

وهم، خيال، إنسان فارغ لا يملك شيئا جيدا ليمنحه لأحد.

والآن فقط اكتشفت أنها كانت مخطئة في حق نفسها، لم تستمع لحديث أختها التي نصحتها كثيرا بالتوقف عن إيهام نفسها بحب شريف، لم تستجب حتى للإشارات ولم تأخذها بعين الاعتبار .

وأول الإشارات كانت رسالة ، قرأتها على مدونة فريد في نفس اليوم الذي قررت فيه أن تعرض فكرة الزواج على شريف لكي تضمن بقاءهما سويا ..

” حينما تبحث عن نفسك من خلال الآخر ستتعلق به، وحينها ستفقد ذاتك وتفقد الآخر ”

وكالعادة تجاهلت تلك الإشارة كما تجاهلت الكثير من الإشارات وأغمضت عينيها عن الحقيقة وسارت في طريقها معتمدة اعتمادا كليًا على مشاعرها التي تقودها نحو الهلاك.

مسحت دموعها وهي تنظر إلى هاتفها الصامت الذي يضيء معلنًا عن ورود اتصال من والدتها، ولكنها تجاهلت الاتصال كما فعلت عدة مرات منذ ليلة الأمس، ليعود الهاتف ويحمل اتصالًا باسم چيلان ولكنها مجددا تجاهلت اتصالها ، وأخذت تبكي بحسرة ويأس .

هي لا تحتاج للحديث مع والدتها، ولا حتى أختها، هما لن تفهماها ولن تشعران بما آل إليه حالها السيء ، وفي الواقع هي غير مستعدة للحديث معهما بالتحديد لأنهما ستضغطان عليها أكثر ولن تستفيد من مكالمتهما سوى مضاعفة شعورها بالحنق والاستياء،..

ولوهلة أدركت ما تحتاجه فعلا.. الإنسانة الوحيدة القادرة على بث الأمان بقلبها.. لذا أمسكت هاتفها وقامت بالاتصال بها على الفور، وما إن استمعت إلى صوتها حتى قالت بابتسامة حزينة:

ـ نسيم.. وحشاني..

ـ صباح الخير يا حبيبتي ، وانتي كمان وحشتيني جدا. مال صوتك ؟

حبست دموعها وقالت بصوت مهزوز:

ـ أنا كويسة متقلقيش، بس حبيت أسمع صوتك وأطمن عليكي.

ـ تنهدت نسيم بهدوء وهي تقول برضا كالعادة :

ـ أنا بخير يا حبيبتي ، قوليلي هترجعي إمتا ؟! محتاجة أقعد معاكي ونتكلم .. محدش بيفهمني غيرك .

ـ وأنا كمان محتاجالك جدا، فترة بسيطة وأرجع إن شاء الله ، عندي هنا حاجات كتير هعملها.

،ـ اوكي يا چوليا، ربنا معاكي.

اهتز قلبها بضعف وخوف وهي تقول:

ـ ادعيلي كتير عشان خاطري يا نسيم .

لم يكن من الصعب على نسيم لمس ذلك الدمار الهائل بصوتها ، فتساءلت بقلق :

ـ چوليا انتي كويسة ؟!

ـ أنا كويسة متقلقيش، بس مضطرة أقفل دلوقتي عشان بجهز وخارجة .

ـ تمام حبيبتي خلي بالك من نفسك مع السلامة.

أنهت جوليا المكالمة وهي تبكي مجددا، ثم نظرت إلى ساعة الهاتف بترقب، إنها تشير إلى العاشرة.. من المؤكد أنه سيصلها بعد قليل ، فلقد أخبرها قبل سبع ساعات تقريبا أنه يستعد للذهاب إلى المطار ..

أخذ قلبها يدق بقوة ولهفة وقد بسط الخوف كفيه بداخله وظل يعبث به كيف يشاء..

استمعت إلى صوت الباب يُصفق فعلمت بوصوله، فنزلت من سريرها وهرولت نحو الخارج ، وما إن رأته أمامها حتى أسرعت نحوه وطوقت رقبته بقوة وظلت تبكي، فاستقبلها بين ذراعيه ببرود، وذلك الجليد سرى منه إليها فعلا، فشعرت ببرودة عناقه وأيقنت أنها في المكان الخاطيء ، وبالرغم من ذلك الشعور إلا أنها لم تملك القوة الكافية لكي تنسلخ عنه، وظلت متشبثة به للحظات إلى أن ابتعد هو ببطء وهو يقول:

ـ ها.. جاهزة ؟

رفعت عينيها الباكيتين إليه، قهرها بسؤاله، قهرها برد فعله، قهرها ببرودة عناقه، ولكنها لن تأخذ وقتا أطول لكي تبحث عن إجابة خلف تلك التصرفات، فلقد منحها الإجابة مسبقا حين أقر لها أنه أصبح لامرأة أخرى غيرها.

وفي لحظة ضعف وانكسار وجدت نفسها تنظر إليه وتتساءل:

ـ مين دي؟

ضيق عينيه مستفهمًا، وهز رأسه بتعجب وقال:

ـ هي مين ؟!

ـ اللي بتحبها !

تنهد وهو يرفع عينيه من عليها، ثم نظر أمامه نظرة ممتدة فوق رأسها نحو النافذة الزجاجية الكبيرة، ثم تحدث ببرود يغلف نظراته:

ـ مش لازم تعرفي دلوقتي.

ابتلعت ريقها وتساءلت مجددا:

ـ بتحبها فعلا ولا مجرد إعجاب ؟!

ـ بحبها بجد .

صفع قلبها مجددا فتساءلت مرة أخرى:

ـ و هي ؟؟

هنا أطلق تنهيدة حارة مستاءة وأردف:

ـ متعرفش حاجة لسه .

أخفضت نظراتها عن عينيه، وظلت تنظر حولها وهي تشعر بالسواد يعم قلبها ، تشعر بالحقد نحو تلك المجهولة التي جعلت سلطانًا على قلبه، ونجحت فيما فشلت هي في فعله طوال السنوات الماضية ، ووجدت نفسها تتساءل بغيرة عمياء وشعورًا مقيتًا يملؤها:

ـ فيها إيه زيادة عني ؟! فيها إيه مختلف خلاك اتعلقت بيها وأنا لأ؟ أحسن مني في إيه ؟!

زفر متثاقلا وتحدث بحدة قائلا:

ـ چوليا، أنا سايب ورايا شغل لفوق دماغي في مصر وجاي عشان أكون جمبك ونخلص من موضوع البيبي ده، أظن مش جاي عشان نتكلم في التفاهات دي وتقوليلي أحسن مني ومش أحسن مني، الموضوع أساسا منتهي.

صدمة أخرى تنضم لعداد الصدمات، خيبة أمل جديدة تجاور مثيلاتها، خذلان آخر ارتطم بجدار قلبها ثم سقط إلى القاع سقوطًا حرًا.

انسحبت من أمامه بصمت، أساسا لقد نفذت كل قوتها، ودخلت إلى غرفتها، استعدت وجهزت كل شيء ستحتاجه، ثم خرجت، وقفت أمامه وطالعت جموده بهدوء وقالت:

ـ أنا جاهزة.

أومأ موافقا، وسبقها نحو الباب، فسارت خلفه ككل مرة، تثق أنه يقودها الآن نحو الجحيم، ولكن قدماها وقلبها الخائنان يرزحان تحت وطأة سيطرته الكاملة على مشاعرها اللعينة.

***

أخذت نغم تذرع الغرفة ذهابًا و إيابًا ، وفي رأسها عشرات الهواجس ، فوضى عارمة وضجر وترقب، تفكر في القادم بقلق، ثم أمسكت بهاتفها وقامت بالاتصال بنهال علها تخبرها شيئا يريح قلبها الصاخب ولو قليلا..

ثوان وأجابت نهال التي تحدثت قائلة:

ـ أيوة يا نغم، كويس انك اتصلتي.

ـ إيه الأخبار يا نهال؟ مكلمتيش خالتي؟

تنهدت الأخرى بحنق واضح وقالت:

ـ كنت عندها من شوية ..

بجد؟ طب وهي عاملة إيه؟ صحتها كويسة؟ جابت سيرتي قدامك؟

ـ أيوة.. ويا ريتها ما جابت سيرتك يا نغم، خالتك زعلانة منك أوي وبتقول مش مسامحاكي.

شنت هذه الكلمات غارة عنيفة على قلبها المصدوم المكلوم ، وتوقف نبضها لثوان قبل أن تنخرط في نوبة بكاء ، بينما الأخرى تستلذ بصوت بكائها وتغذي شعورها بالغيرة والحقد منها وهي تقول:

ـ قالت كمان إنها مش مستنياكي تاني وإنها اعتبرت إنك متي لأنك طفشتي واستغنيتي عنها، حاولت أقنعها إنك أكيد عملتي كده غصب عنك بس هي بردو مش مقتنعة وبتقول مكانتش تتوقع منك كده.

كانت تبكي بانهزام، قلبها مقسوم إلى شطرين والألم يغلي بداخله كبركان على وشك الثوران، ما لم تتوقعه أبدا أن تقسو عليها خالتها وألا تلتمس لها العذر فيما فعلته، فهي الوحيدة التي تعرف أنها لا تستطيع الاستغناء عنها مهما حدث وبالتأكيد لم تكن لتهرب لولا أنها تعرضت لضغط يفوق الاحتمال.

***

في نفس اللحظة كان فريد ممسكًا بالهاتف وهو يجلس بمكتبه ويستمع للمكالمة التي تدور بين نغم ونهال، وصوت بكاءها يتردد في قلبه ويترك خلفه ندوبًا دامية، هذه الفتاة تستحق الشفقة.. هذا كل ما يشعر به ولا يهتم لأي أمر آخر.. لا يهتم لما فعلته ولا لكل الخسائر التي تسببت فيها، كل ما يهتم له الآن هو أنه يشعر بالأسى حيالها.

وما هالهُ وأشعرهُ بالصدمة بحق هو ما قالته نغم بعدها، حين قررت الخروج عن صمتها وقالت:

ـ أنا مهربتش وسيبت البيت بمزاجي، كله بسبب حسن ولو في حد يستاهل متسامحوش فهو حسن لأنه هو اللي عقدني في عيشتي وكرهني في نفسي، حسن يومها دخل عليا الاوضة وأنا نايمة وكان مسطول وكان هيتهجم عليا ، ودي مش أول مرة يعملها، عملها قبل كده كذا مرة وأنا كل ما كنت أحاول ألمحلها إنه بيضايقني تقوللي بيحبك.. حب إيه ده اللي يخلي الواحد يرعب اللي بيحبه ويخليه عايش معاه مش حاسس بالأمان؟

كان مذهولا، مذهولا بشدة!! لم يتوقع أبدا أن يكون هذا هو السبب الذي هربت لأجله، لقد ظن أن حسن هذا هو الذي يحركها وتسير وفقا لمخططاته، والآن اتضح أنه ابن خالتها وحسب، و… الدنيء يحاول التحرش بها !!!!

أثار ذلك الخاطر ريبته، فهو أشد ما يكرهه هو أن يستغل أحدهم فتاة أو يستضعفها أو يمتهنها بهذه الطريقة، خاصةً أنها ابنة خالته والمفترض أن يكون هو حاميها وليس الشخص الذي يخيفها لدرجة تجعلها تهرب من بيتها الوحيد لتفر من أذاه !!

ونفض تلك الأمور من رأسه وأخذ يستمع لبكاء نغم الذي لم يتوقف إلى الآن بل ازداد أكثر، ومن ثم نطقت نهال بعد أن تنهدت بضيق واستياء وقالت:

ـ و ليه محاولتيش تستنجدي بيها مثلا ؟! كان قدامك حلول كتير على فكرة بدل ما تهربي يا نغم، بس انتي خدتيها حجة.

الآن فريد يجزم أن تلك الفتاة تحقد على نغم لسبب ما، لأن تلك النبرة وتلك التنهيدة تفسران له الكثير من المشاعر التي تضمرها لنغم وتشعر بها تجاهها، وعلى ما يبدو أن محتالته الصغيرة ساذجة للغاية بالقدر الذي لم يسمح لها أن تكتشف بعد أن هذه الفتاة تحقد عليها .. وحسب خبرته هو فالموضوع كله يدور حول المدعو حسن . ربما تكون نهال واقعة في حب حسن وتحقد على نغم لأن حسن يحبها !! هذا تفسير منطقي و ملائم للغاية .

استمع الى صوت نغم المقهور حين صرخت بنهال قائلة بغضب:

ـ اللي ايده في الميا ، الكلام سهل لأنك مكنتيش مطرحي ولا عيشتي الخوف والرعب اللي أنا عيشته، بقوللك حاول يتهجم عليا !! عايزاني أفكر إزاي وقتها ؟! أنا كل اللي قدرت أعمله إني كسرت الازازة فوق دماغه وجريت.. أنا خرجت من البيت بهدوم النوم الساعة ٣ الفجر .. انتي متخيلة حالتي كانت عاملة ازاي عشان تقوليلي كان قدامك حلول ؟! وبعدين ليه هتحجج عشان أهرب؟ على أساس إني ليا مكان تاني أروحه ؟! على أساس إني دلوقتي مرتاحة في البيت اللي أنا عايشة فيه عالة على أصحابه؟!

وأكملت وهي تنتحب بانهيار قوي بعد تماسك دام لأيام متواصلة:

ـ أنا عايشه في جحيم ومحدش حاسس بيا، بخرج من مشكلة أدخل في مشكلة وماشيه بلطش مش عارفه هترسى على إيه في الآخر، وكنت فاكرة إن خالتي حاسة بيا وبتدعيلي، أتريها اعتبرتني خلاص مُت..

ثم هتفت بانكسار :

ـ يا ريتني مت فعلا وارتحت من كل القرف اللي أنا عايشة فيه ده.

تنهدت نهال اخيرا وقالت:

ـ خلاص يا نغم اهدي، انتي عارفة خالتي قلبها أبيض وهتسامحك أكيد، هي بس شايلة منك حبتين ومسيرها تصفالك تاني. على العموم أنا هخلي بالي منها وهحضر معاها الجلسة بكرة وهبقا أكلمك أطمنك عليها.

ـ ماشي، مع السلامه.

انتهى الاتصال فوضع فريد الهاتف على سطح مكتب وهو يتنهد باستياء شديد، يمكنه تخيل كيف تكون الآن.. بالتأكيد في أسوأ حالاتها والحزن يخيم على غرفتها.

زفر مجددا بضيق وهو يتحرك في مقعده يمينا ويسارا ويفكر، كيف يمكنه مساعدتها؟ كيف يمكن أن يمد لها يد العون لكي يخفف عنها تلك الصدمات المتلاحقة ؟! ولكنه في عز انشغاله بها نفض رأسه وهو يتساءل بينه وبين نفسه؛ لماذا عليه أن يكون مهتما بهذا القدر من الأساس ؟!

ونزولا عند رغبة هذا الوسواس الذي اشتعل فجأة برأسه أخذ يمارس طقسًا وسواسيًا مجردا من المنطق، عله يهدأ ويستعيد تركيزه مرة أخرى .

العد بنمط معين، كأن يعد عدا تنازليا مرة وعدا تصاعديا مرة أخرى، ويكرر هذا الطقس مرات غير محددة إلى أن يشعر بالهدوء والاتزان من جديد ، وهو طقس يلجأ إليه دومًا في حال شعر بالتوتر الشديد والانخراط في أمر مرهق كالتفكير بدون توقف .

***

وصل حسن أمام شقة نهال، طرق الباب بقوة طرقات متتالية ففتحت هي سريعا وهي تستعد للشجار مع هذا الوافد المزعج عديم الذوق، ولكنها تفاجأت بحسن أمامها فتراجع انفعالها وحدتها وأخذت تنظر إليه نظرة واثقة متحدية ثم قالت:

ـ مكنتش متخيلة إنك هتيجي ورايا بالسرعة دي، للدرجة دي مش قادر على بعدي ؟!

دخل وأغلق الباب وهو ينظر إليها قائلا:

ـ أنا مش جاي عشانك ، أنا جاي عشان تقوليلي فين نغم ؟!

احتقن وجهها بدماء غاضبة، وتأججت نار الغيرة بقلبها من جديد وقالت:

ـ بسهولة كده عاوزني أقوللك فين نغم؟ شايفني عبيطة للدرجة دي عشان يبقا في إيديا فرصة زي دي ومستغلهاش ؟

قصف صوته مدويًا قائلا بغضب ونفاذ صبر:

ـ يووووه…. اخلصي يا نهال أنا مش فايق لك.

ـ لا مش هخلص يا حسن، و يا إما أرد لك القلم اللي ضربتهولي يا إما تسمع كلامي وتعمل اللي هقوللك عليه.. حلين ملهمش تالت عشان أقوللك فين نغم.

نظر إليها متعجبا، مذهولا، وأخذ يتمتم باستنكار:

ـ انتي اتجننتي يا بت؟ اتهفيتي في عقلك؟ قلم إيه اللي تردوهولي انتي شاربة إيه عالصبح؟

عقدت ذراعيها أمام صدرها بتحدٍ عنيد وقالت:

ـ هو ده اللي عندي يا حسن، والله مش عاجبك القلم عندك الحل تاني..

ـ لخصيه يا نهال وقولي عاوزة مني إيه .. هاتي من أبو ناهية عشان أنا مش فاضي.

ـ انت عارف أنا عاوزة إيه كويس.

أخذ يقلب كفيه متعجبًا وهو ينظر إليها ويقول:

ـ انتي يا بنتي مش متجوزة ؟! بتجري ورايا ليه ؟!

ـ عشان بحبك وانت عارف كده كويس.

ـ طب اتطلقي من جوزك وأنا أتجوزك طالما أنا داخل دماغك أوي كده.

ـ للاسف مقدرش، بحبك بس في نفس الوقت بحب فلوس وحيد، مقدرش أستغنى عنك ولا أستغنى عن العز اللي عايشه فيه، أتجوزك في شرط واحد إنك تضمن لي عيشة زي اللي أنا عايشاها دي.. وقتها أتطلق من وحيد ونتجوز.

هز رأسه يائسا من حقارتها ودناءة نفسها، وقال محاولا مجاراتها :

ـ طب يا نهال مش انتي كنتي عاوزاني أعتذر لك ، أنا آسف يا ستي، حقك عليا ، أنا راجل واطي إني مديت ايدي على ست كُمل زيك، يلا بقا الله يهديكي هاتي الرقم اللي كلمتك منه سخام البرك ..

وضرب الجدار بجواره بقبضته في غضب وهو يصيح في انفعال شديد:

ـ قسما بالله أنا لو شوفتها لماسح بيها الأرض لأنها خلتني على آخر الزمن أقف قدام مـ رة أتحايل عليها وأخليها تبيع وتشتري فيا .

ـ بردو مش هتطول مني حاجه لو ضربت دماغك في الحيط، وان كنت انت دماغك ناشفة فانا دماغي حجر صوان، يا تسمع كلامي يا توفر وقتك ووقتي وتمشي.

ضغط بأسنانه على شفته بغضب وقلة حيلة وهو يقترب منها، وفجأة انحنى وحملها على ذراعيه بحركة مباغتة جعلتها تنظر إليه باستغراب، إلى أن رأته يتقدم بها نحو غرفتها فانقشع استغرابها وطوقت عنقه بيديها بفرحة وهي تنظر إليه عن قرب وابتسامتها تعلو وجهها.

دخل الغرفة وألقاها على السرير بقوة، وأخذ يطالعها بنظرات متوعدة، بينما هي تستقبل توعده بحماس، إلى أن رأته يدور حول نفسه وهو يبحث عن شيئ ٍ ما، فتساءلت ولكنه لم يجبها، فتح خزانة ملابسها وأخذ يبحث بعينيه عن شيئ ٍ إلى أن وجده، ثم أخذه وتقدم منها وهو يطالعها بنظرة مبهمة ، فنظرت إليه باستغراب وهي تقول:

ـ إيه ده؟ إنت هتعمل إيه بالرباط ده ؟!

اقترب منها، ومال نحوها وأخذ يطالعها من علوٍ ويتفحص ملامحها بطريقة أضرمت النيران بجسدها ، ثم نطق أمام شفتيها قائلا بنبرة عميقة:

ـ متسأليش كتير، وسيبيلي نفسك.

توهجت عيناها بلهفة، وثارت أنفاسها في حماس، بينما هو قد أمسك بكلتا يديها معا ورفعهما فوق رأسها، ثم قيدهما معا بإحدى الفراغات الموجودة بظهر السرير، وأخذ ينظر إليها بنفس النظرة بينما هي تطالعه بترقب وقد بدأ الارتياب يتسرب إلى قلبها، ثم ابتعد عن السرير وأخذ ينظر حوله بتفقد .

ـ انت بتدور على إيه تاني ؟!

تساءلت بقلق فنظر إليها قائلا:

ـ هو أنا مش قولتلك متسأليش كتير !!

جال جولةً سريعة في الغرفة وهو ينظر هنا وهناك إلى أن رأى هاتفها يقبع فوق طاولة الزينة خاصتها، فالتقطه وحاول فتحه و كان كما توقع.. الهاتف مغلق برقم سري .

ـ الرقم إيه ؟!

نظرت إليه بانفعال وقالت:

ـ انت هتعمل إيه بالظبط ؟!

ـ قوليلي بس الرقم كام؟!

صرخت بأعلى صوتها بجنون وهي تقول بغيظ شديد:

ـ يا حيواااان… إنت عامل كل ده عشان تاخد الرقم من التليفون مش كده !!

اقترب منها وقبض على شعرها بقبضته وهو يطالعها بغضب وقال:

ـ انطقي اخلصي، بيتفتح ازاي التليفون ده !!

نظرت إليه باحتقار وتطاير الشرر من عينيها وهي تقول:

ـ انت أوسخ إنسان أنا شفته في حياتي ..

ـ الحال من بعضه ، اخلصي.

ـ فكني الأول وأنا هقوللك..

ـ قوليلي الأول وأنا هفكك..

أخذت نفسًا عميقًا كتمت به السباب الذي يتراقص على طرف لسانها ثم قالت باستسلام:

ـ ١٢ / ١ / ٩٥

ـ ده عيد ميلادك ده؟ كل سنه وانتي طيبة مقدما ..

فتح الهاتف فاتسعت ابتسامته بحماس، وضغط أيقونة المكالمات فورا ليظهر أمامه جهة اتصال مسجلة باسم نغم، فألقى إلى نهال قبلة طائرة وهو يقول بانشراح وأسارير منفرجة:

ـ أشوفك بعدين يا نهولة..

ـ انت رايح فين؟

قالتها بجنون وهي تراه يدس الهاتف بجيبه، ثم صرخت به بقوة وهي تقول:

ـ واخد التليفون ورايح فين؟

ـ هرجعهولك تاني متقلقيش، أنا بس عايزُه في مهمة سريعة وضرورية..

ـ أقسم بالله هوديك في داهية يا حسن ، رجع التليفون وتعالى فكني متستعبطش!!!

مال نحوها مجددا، واقترب منها بقوة وهو ينظر إلى عينيها الغاضبتين وهمس بجوار أذنها:

ـ اللي يلعب مع العقرب يستحمل لدعته .

ثم غمز إليها واستدار ليغادر الغرفة بينما هي صوتها يصدح في الأرجاء بتشنج وعصبية بالغة:

ـ حسن !!! انت هتسيبني مربوطة كده وتمشي ؟! انت اتجننت !!!

وانتابتها عاصفة من الانفعال والجنون وهي تصرخ قائلة:

ـ أقسم بالله هندمك يا حسن، انت لسه متعرفنيش، والله لادفعك التمن !!

خرج حسن وصفق الباب خلفه، ونزل درجات السلم مسرعا، وما إن نزل حتى أخرج الهاتف من جيبه ونظر مجددا إلى رقم نغم وأخذ يتمتم بتوعد تشوبه اللهفة:

ـ وأخيرا يا نغم ..

***

حل المساء ونغم لازالت تجلس على سريرها تضم ركبتيها إليها وتسند رأسها فوقهما ، تبكي بصمت وهي تتذكر ما قالته نهال الذي كان بمثابة رصاصة حية أُطلقت على قلبها وأضرمت به النيران.

استمعت إلى طرقات على الباب ومن بعدها دخلت زينب التي قالت:

ـ العشا جاهز يا نغم .

نظرت إليها نغم بهدوء وقالت وهي تمسح وجهها:

ـ معلش يا خالتي مش عاوزة أكل دلوقتي.

ـ مينفعش يا بنتي انتي مرضتيش تتغدي بردو، هتقعي من طولك كده.. وبعدين انتِ عارفة سالم بيه أكيد هيسأل عليكي وهيضايق انك مقعدتيش معاهم.

ـ قوليله تعبانة ونايمة ..

زمت زينب شفتيها بتأثر وهي تنظر لتلك الفتاة التي كانت تشع حماسًا ولطفًا وقد تبدل حالها الآن تماما.

غادرت زينب وتوجهت نحو غرفة الطعام، أشرفت على تحضير مائدة الطعام وظلت بمكانها إلى أن يحضر الجميع ..

تجمعوا واحدا تلو الآخر وفي النهاية وصل سالم الذي رمق مكان نغم الفارغ وتساءل قائلا:

ـ أومال فين نغم ؟!

نظرت إليه زينب بارتباك وهي تقول:

ـ تعبانة شوية يا باشا ومش قادرة تقوم من مكانها..

شعر فريد بضيقه وانشغاله يشتد ، ثم نظر إلى والده الذي تحدث قائلا:

ـ اطلبي لها دكتور مستنية إيه ؟!

تعجب فريد اهتمام والده البالغ بها، هل كل تلك المعاملة اللطيفة فقط لأنها أنقذت ابنه من السجن؟ أو لأنه يشعر بالذنب تجاهها مثلا ؟!

لا يظن أن والده قد أصبح عطوفًا رحيم القلب بذلك القدر !!

إذًا هناك سببًا خفيًا وراء اهتمام والده بها، وعليه أن يعرفه.

أومأت زينب بارتباك وقالت:

ـ تحت أمرك يا باشا.

بينما همست چيلان إلى والدتها التي تجلس بجوارها شاردةً وقالت:

ـ الموضوع بقا أوڤر جداا وأصبح لا يطاق.. مامي.. انتِ سامعاني؟

نظرت إليها نادية متسائلة بشرود وقالت :

ـ ها ؟! بتقولي حاجة يا چيچي ؟!

ـ مالك يا مامي سرحانة في إيه ؟!

تنهدت نادية بانشغال وهي تقول:

ـ چوليا بكلمها كتير من امبارح مش بترد !

ـ وأنا كمان بكلمها على الموبايل وتليفون البيت كمان، أكيد في البيوتي صالون .

ـ مش عارفه ، بس قلقانة عليها حاسة إنها مخبية علينا حاجة، على العموم لو مردتش هسافر لها، مش هفضل قاعدة هنا وأقول يا ترى يا هل ترى.

طرق سالم بملعقته على طرف طبق نادية جاذبًا انتباهها وهو يقول:

ـ بلاش الحديث الجانبي ده على الأكل.

أغمضت نادية عينيها بنفاذ صبر وضجر من تعنته وتسلطه اللامتناهي، وأكملت طعامها في صمت.

ظلوا جميعهم يتناولون عشاءهم صامتين وبداخل كل واحد منهم حوارًا صاخبًا مع النفس ، وأولهم فريد الذي كان يسترجع مكالمة نهال ونغم ويتذكر نبرة بكائها المقهور .

انتهى من طعامه ونهض ليتوجه نحو غرفته مجددا لكي يتناول دواءه، وفي طريقه توقف أمام غرفتها، مترددًا.. يفكر هل يطرق بابها ويطمئن عليها أم لا ؟!!

بينما هي بالداخل قد تغلغلت إليها رائحته التي أخرجتها من شرودها ورفعت ضربات قلبها، وفجأة استمعت إلى صوت طرقات على الباب، فانقبض قلبها بقوة ، أيعقل أن يكون هو الطارق ؟!

ـ ادخل..

قالتها بترقب فرأت الباب ينفرج ودخلت زينب ، فتراجع مستوى تأهبها وظلت في مكانها تنظر نحوها بصمت.

تقدمت منها زينب وجلست بجوارها على طرف السرير وهي تقول:

ـ نغم يا حبيبتي.. قوليلي في حد هنا مضايقك؟ معقول الكلمتين بتوع چيلان هانم هما اللي مخليينك في الحالة دي؟

هزت نغم رأسها بنفي وقالت:

ـ لأ، أنا بس حاسه اني مخنوقة شوية.

ـ طيب قومي اقعدي معايا، البنات في المطبخ بيتفرجوا على مسلسل تركي قومي اتفرجي معاهم.. يلا بقا اسمعي كلامي وقومي اغسلي وشك وتعالي..

أومأت بموافقة ثم نهضت وتحاملت على حجم الدمار بداخلها ومدى الألم الذي تشعر به، وبينما هي تهم بالدخول إلى الحمام لكي تغسل وجهها اصطدمت بالجدار بقوة .

لعنت نفسها وغباءها، لعنت حظها العثر الذي يرافقها أينما ذهبت، لعنت عجزها وقلة حيلتها وفقرها، لعنت كل شيء في هذه اللحظة كالبعير الذي قصمت ظهره قشة ، وخرجت من الغرفة تقودها قدماها بضجر وهي تشعر وكأنها على وشك الانفجار .

دخلت إلى المطبخ ليتعجب الجميع من شكلها ، حيث أن جفنيها منتفخين بشكل ملفت، وعينيها حمراوتين بطريقة مثيرة للشفقة.

جلست بصمت على أحد المقاعد حول طاولة المطبخ، وأسندت يدها أسفل خدها وشردت، نظرت هناك… حيث تلوح مساحة خضراء من نافذة المطبخ.. وعلقت عينيها بها، وظلت دموعها تنساب كالمطر دون توقف.

بينما الجميع يطالعونها بأسى، وخاصة زينب التي شعرت وكأنها تحمل عبئا ثقيلا على كتفيها الرقيقين ، لا بد أنها تحتاج للحديث والفضفضة، لذا قررت المخاطرة والمغامرة، سترسل نغم إلى غرفة نسيم علهما تتعارفان وتصبحان صديقتين مقربتين، فهي تشعر أن نغم تشبه نسيم كثيرا في معاناتها ومأساتها، كما أن شعورها نحو نغم قد بدأ يشبه كثيرا شعورها نحو نسيم.

ـ بقولك إيه يا نغم، معلش طلعي كوباية العصير دي أوضة نسيم أصل أنا مش فاضية.

نظرت إليها نغم بتعجب وقالت:

ـ أنا اللي هوديها ؟

ـ أيوة، انتِ مش كنتي عايزة توديلها الكيك امبارح عشان تشوفي الڤيلا من فوق شكلها إيه ؟! أهي فرصة.

تذكرت نغم الحماقة التي ارتكبتها بالأمس عندما اصطدمت بفريد وهي تحمل طبق الكيك، ثم هزت رأسها برفض وهي تقول:

ـ لأ خلاص مش عايزة .. خلي حد تاني يوديها.

ـ إزاي بس، محدش مسموح له يدخل عندها غيري، يلا بقا يا بنتي متتعبيش قلبي بقولك مش فاضية.

زفرت نغم بقلة حيلة وأخذت منها العصير لتقول الأخرى:

أوضة نسيم عالشمال ..

فقاطعتها نغم مردفةً بثقة:

ـ عارفة..

وحملت الصينية وفوقها كأس العصير، ثم صعدت الدرج وهي تنظر حولها بترقب وحذر وذهول، على اليمين غرفة تبدو وكأنها غرفة ملكية، بالتأكيد هذه غرفة سالم، وبجوارها ثلاث غرف ، وعلى الجهة اليسرى ثلاث غرف أخرى مجاورة.. وفي المقابل صالون واسع وشرفة تمتد بطول المنزل بالكامل.

تاهت بين التفاصيل، وأخذت تدور حولها بانبهار، هذا المنزل رغم كبر مساحته وفخامة تصميمه إلا أنه لا يزال في نظرها كبيت الأشباح، هادئ ومخيف ومقبض ، فبالرغم من أن هنا يقطن حوالي عشر أشخاص بخلاف الحراس إلا أنك تستطيع أن ترمي الإبرة وتسمع رنتها كما يقولون.

أخذت نفسًا عميقًا وهي تتفقد الجانب الأيسر ، حيث توجد غرفة نسيم، ووقفت تحدث نفسها قائلةً:

ـ هي قالتلي أول أوضة عالشمال ولا تاني أوضة عالشمال !!! متهيألي أول أوضه..

طرقت الباب وأدارت المقبض ودخلت، فاستقبلتها رائحته.. غمرتها كليًا، أنعشت حواسها جميعا ، ولكنها كذبت حدسها، بالتأكيد هي ليست منحوسة لتلك الدرجة لكي تأتي لغرفته بقدميها، من المؤكد أنها غرفة نسيم وربما تكون بالحمام أو بالشرفة مثلا.

وقفت تتطلع في أركان الغرفة المرتبة المنظمة بطريقة تحبس الأنفاس، كل شيء في مكانه حيث هنا لا مجال للفوضى أو العشوائية. وبينما هي تحدق في كل شيء أتاها صوته من خلفها وهو يقول:

ـ بتعملي ايه هنا ؟!

انتفضت، وشهقت وكأنها كانت على وشك الغرق وطفت فوق الماء للتو، وسقط الكأس من يدها وسقط ملونًا البساط باللون الأحمر.

حينها شعرت بأن قلبها سيتوقف.. وفي الواقع هي تفضل أن يتوقف بدلا من أن تواجه ذلك الواقف خلفها !!

استمعت إلى تنهيدته الحانقة، فاستدارت ببطئ شديد وهي تمنع نفسها من البكاء بسبب شعورها بالحرج البالغ، وأخيرا تلاقت نظراتها المرعوبة بنظراته المنزعجة المتجهمة، فابتلعت ريقها بارتباك وبرز صوتها الخافت وهي تشير إلى العصير المسكوب وتقول:

ـ أنا..

ابتلعت ريقها مجددا وهي تراه ينظر حيث تشير ثم نظر إليها مجددا وتساءل بتريث:

ـ انتي إيه ؟!

ـ أنا أسفة .

ونظرت أرضًا مجددًا لذلك المنظر الفوضوي وعادت إليه بعينيها وقالت:

ـ أنا هنضف كل حاجه حالا..

وهمت بالفرار مسرعة من أمامه ولكنه استوقفها حيث تحرك ليقطع الطريق أمامها وقال:

ـ مين اللي قاللك تجيبي العصير ده؟

نظرت إليه وهي تحاول تفادي نظراته قدر الإمكان ولكن عينيه كانتا تجذبانها بقوة مغناطيسية وهي تقول:

ـ كنت مودياه لنسيم والله.

قطب جبينه متعجبًا وقال:

ـ تاني نسيم ؟!

أطبقت جفنيها بأسى، هو محق، لو صدقها مرة لن يصدقها الثانية، بالأمس صدمته بالكعك واليوم سكبت العصير بغرفته وفي المرتين نفس الذريعة ! إضافة إلى أنها موصومة بسابقة فريدة من نوعها، فكم رجل في العالم حصل على قبلة مجنونة كتلك التي منحتها إياه ؟! بالتأكيد نادر جدا.

ـ أنا.. ممكن أنادي زينب وهي تأكد لك إني مش بكدب، حتى هي اللي طلبت مني أودي العصير لنسيم وأنا دخلت اوضتك بالغلط.

أومأ موافقا بهدوء وقال:

ـ خلاص حصل خير.

ـ عن إذنك .

ـ استني.

طالعته مجددا فتساءل وهو يصب كامل تركيزه على عينيها قائلا:

ـ عينيكي مالها ؟؟

فاجأها قوله، وأخذت تنظر إليه متعجبة وهي تتساءل :

ـ مالها ؟!

بالتأكيد جميلة، ساحرة، فاتنة، قاتلة، خيطين من شمس شارفت على المغيب ، عينيكِ شديدتا الفتك !

تحمحم وهو يُخرس صوته الداخلي الذي شرد بعينيها وقال:

ـ انتي تعبانة ؟! ولا كنتي بتعيطي ؟!

انتفض قلبها بمكانه، تلك النبرة التي يتحدث بها حنونة جدا ، تجعلها على وشك البكاء ، مجرد سؤاله عن حالها وملاحظة الإرهاق البادي على عينيها أشعرها لأول مرة أنها أنثى !

مسحت تلك الدمعة التي تجمعت بطرف عينها وعدلت شعرها بتلقائية فرأته يضيق حاجبيه متعجبًا وهو يقترب منها أكثر ويقول :

ـ إيه ده ؟!

وأزاح شعرها بعيدا عن جبينها وهو يقول متفحصا تلك الكدمة التي تشكلت على جبهتها فوق حاجبها بالتحديد وأشار عليها بسبابته وهو يقول :

ـ من إيه دي ؟!

خفق قلبها بقوة، القرب منه بهذا القدر جعل الدماء تتجمد بعروقها، جعل عمودها الفقري يتشنج وقدماها تذوبان كالثلج أسفلها.. فخرج صوتها مبحوحًا فاقدًا بصمته :

ـ اتخبطت في الباب !

ابتعد خطوة للخلف وهو يطالعها بصمت، ثم تساءل قائلا:

ـ انتي بتشوفي كويس ؟!

قطبت جبينها بتعجب وقالت ؛

ـ أيوة، بتسأل ليه ؟!

ممم.. هذه المحتالة لا تتحلى بذرة من سرعة البديهة ، ستحتاج إلى الخضوع لعمل اختبار مستوى ذكاء، ولكن ليس قبل أن يقوم بإخضاعها لكشف نظر أولا..

ـ بسأل ليه؟! بسأل لأنك تقريبا مبتعمليش حاجة في حياتك غير إنك بتلبسي في الحيط ! مرتين عربية تخبطك.. ومرة كنتي هتبلّعيني طبق الكيك ودلوقتي أهو دخلتي في الباب بوشك ، انتي متأكدة إنك مش بتشتكي من ضعف نظر أو حاجه ؟!

أثارت سخريته المبطنة حنقها، وظهر ذلك على عينيها اللتين اتقدتا بشرٍ لذيذ ، فلجم هو ابتسامته وأظهر مكانها تعبيرًا جديًا واتجه نحو خزانته، فتحها وأخرج منها أنبوب كريم طبي ووضع على باطن سبابته بعضًا منه ثم قام بوضعها على أثر الكدمة ..

في حين أنها تقاتل لتبقي جسدها تحت السيطرة، لكي لا تسقط أرضًا من فرط الخجل والتوتر ، واستنشقت نفسًا طويلا وعميقا وهي تراه يرفع يده عن جبهتها ويلف غطاء الأنبوب ويمد يده إليها وهو يقول ببساطة:

ـ اتفضلي، ادهني منها يومين كمان وهتختفي..

التقطت منه الأنبوب وهي ترمش بتوتر وقالت:

ـ شكرا.. متشكرة جدا.. عن اذنك.

أومأ وقبل أن تنصرف من أمامه كان قد قاطعها مجددا وقال:

ـ استني.

نظرت إليه باستغراب، ماذا بعد ؟!

ـ كنتي بتعيطي ليه ؟!

لماذا هو مهتم بذلك القدر ؟! لقد ظنت أنه لن يسأل مجددا ولكنها مخطئة، ذلك الرجل لا ينسى شيئًا أبدا على ما يبدو.

انزلقت دموعها لاإراديا وهي تتذكر ما أخبرتها به نهال، ولكنها استجمعت نفسها سريعا وقالت:

ـ مفيش كنت مخنوقة شوية .

زم شفتيه وتنهد ثم أومأ وقال:

ـ مش عايز أكون بضغط عليكي بس أنا ممكن اساعدك لو عندك مشكلة.

نظرت إليه بتعجب فحك ذقنه بتوتر طفيف وهو يبرر لئلا تسيء فهمه فقال:

ـ بما إنك هتساعديني انتي كمان يعني فمفيش مانع أساعدك أنا كمان.

ـ شكرا.. أكيد لو احتاجت مساعدة هقولك .

ـ وعد ؟!

فاجأها مجددا ، يبدو أن ذلك الفريد بئر عميق لم تصل إلى أوله حتى، ففي كل كلمة ينطقها وكل حرف يتفوه به يكون قادرا على إدهاشها .

ـ وعد .

أومأ موافقا وقال:

ـ كويس جدا.

رمقته بتوتر، وأجبرت قدميها على الانسحاب من أمامه بالرغم من أنها لا تجد ضررًا في الوقوف أمامه هكذا لآخر العمر ، وقبل أن تفتح الباب صدح صوته قائلا:

ـ على فكرة انتِ ممثلة فاشلة جدا.

تيبست بمكانها أرضًا ثم استدارت لتنظر إليه باستفهام فقال:

ـ في واحدة فاقدة الذاكرة تبقا قاعدة زي اللي ماسكينها تحري وبيستجوبوها كده ؟

رأى وكأن شبح ابتسامة يهتز بعينيها فأضاف :

ـ وبعدين أنا قولتلك كل يوم تفتكري معلومة.وتعرفيهم على نفسك بالتدريج، انتي دقيقة كمان وكنتي هتعرفيهم تاريخ جدك السابع .

أخفضت وجهها بحرج وارتسمت على شفتيها ضحكة خجولة انفرجت لها أساريره، ثم قال :

ـ على العموم الحمدلله إن محدش لاحظ .. عدت على خير.

هزت رأسها بموافقة ثم تساءلت:

ـ في حاجة تانية قبل ما أمشي ؟!

ظهرت على ثغره ابتسامة وقورة تراها لأول مرة بهذا الوضوح ثم قال:

ـ شكرا.. تصبحي على خير.

ـ وانت من أهله.

وسحبت الباب وخرجت لتقف خلف الباب وتطلق تنهيدة طويلة جداا ومن ثم أخذت تتلمس وجنتيها وأذنيها اللذين اشتعلت بهم حرارة غريبة تشعر بها لأول مرة ، ثم ركضت متجهة إلى غرفتها قبل أن تفتعل كارثة جديدة تجد نفسها في الشارع على إثرها .


google-playkhamsatmostaqltradent