Ads by Google X

رواية محسنين الغرام الفصل الخامس عشر 15 - بقلم نعمة حسن

الصفحة الرئيسية
الحجم

  

 رواية محسنين الغرام الفصل الخامس عشر 15 -  بقلم نعمة حسن

ـ ١٥ ـ ” عشق سام ”

ــــــــــ

كان فريد يجلس بغرفته ممسكًا بهاتفه والترقب على أوجه ، يهز قدميه بتوتر وتحفز وهو في انتظار أي جديد يطرأ على واجهة ذلك التطبيق الذي استخدمه لاختراق الهاتف الذي أعطاه لنغم ، حيث أن التطبيق هذا سيُظهر هاتف نغم كاملا على هاتفه وكأنه بين يديه، بمعنى أنه سيكون قادرًا على التحكم في هاتفها عن بعد، سيكون قادرا على رؤية كل شيء بالهاتف، وسماع المكالمات التي تصدر عن طريقه.



لذا فهو الآن ينتظر ما ستقوم به بعد أن وصلها الهاتف، ويترقب بشدة لمعرفة جميع خباياها التي بالتأكيد ستنكشف بعد قليل، فهو يتوقع .. لا.. بلا إنه متأكد الآن أن أول اتصال ستقوم به سيكون لرئيسها الخفي الذي يحركها لصالحه .

انقبضت عضلاته بتوتر ساحق وهو يرى هاتفها أمامه قيد الاستخدام ، هذا يعني أنها بدأت بتفحصه واستكشافه، كانت تستطلع كل البرامج والتطبيقات الموجودة بعشوائية، تتجول في الهاتف وتجرب كل الأيقونات أمامها وكأنها لا تعرف دلالتها، وتلك الحالة الفوضوية التي أحدثتها بالهاتف أوحت له أنها لأول مرة تتعامل مع هاتف حديث كهذا.

ظن أن آماله في الوصول لخصمه المجهول قد خابت وأنه لن يصل لشيء من مراقبتها، إلى أن انبجس نور الأمل من جديد أمامه عندما رآها تضغط أيقونة الاتصال فتسارعت دقاته من فرط الحماس والتحفز وهو يراقب ذلك الرقم الذي تقوم بكتابته ومن ثم الاتصال به !!

ثوان مرت كانت كالدهر في طولها وهو ينتظر جواب صاحب الرقم الذي لم يُجب أربع مكالمات، إلى أن انقضت ببروز صوت شابة ذات صوتٍ حاد قالت:

ـ ألو ؟ مين ؟!

سمع المحتالة خاصته تتنهد بالتياع.. ثم قالت بصوت مهزوز:

ـ أخيرا.. فكرتك مش هتردي يا نيهال نشفتي دمي.

استمع إلى صوت نيهال الذي برز فجأة وبقوة وبغير توقع:

ـ نغم ؟! انتِ فين يا بت يخربيت أبوكي !!!

كانت تبكي ، سمع صوت بكاءها الحار الممزوج بالشهقات المتقطعة ثم برز صوتها الباكي الحزين متسائلا :

ـ مش مهم دلوقتي أنا فين، خالتي عاملة إيه؟ تعرفي عنها حاجة؟

زفرت الأخرى بثقل ثم أجابت:

ـ خالتك كويسة وزي الفل متقلقيش..

قاطعتها نغم بلهفة:

ـ بتشوفيها؟ بتسمعي صوتها؟

ـ متقلقيش هي كويسة أنا بطمن عليها كل يوم.. المهم انتِ طمنيني عليكي، انتِ فين دلوقتي ورقم مين ده اللي بتكلميني منه؟

خرج صوتها من تحت أنقاض النشيج قائلةً بوهن:

ـ أنا في دنيا غير الدنيا، في عالم مش شبهي ولا أنا شبهه، قاعدة في بيت معرفش فيه حد ولا هما يعرفوني ومش عارفه همشي منه إمتا !

ـ أنا مش فاهمة منك حاجة، يعني إيه قاعدة في بيت متعرفيش الناس اللي فيه ولا يعرفوكي؟!

تنهدت نغم باستياء وقالت:

ـ مش هعرف أفهمك في التليفون الموضوع يطول شرحه، بس عالعموم أنا هحاول أخرج من الورطة اللي ورطت روحي فيها دي في أسرع وقت وأرجع عشان خالتي.

ـ لأ…

هتفت نيهال بحدة وكأنما لدغها عقرب وتابعت:

ـ اوعي ترجعي . حسن قالب الدنيا وحالف لو شافك مش هيسمي عليكي.

يراهن أنه استمع إليها وهي تبتلع ريقها بخوف ! ومن بعدها تساءلت بصوت واهٍ وقالت:

ـ هو قال كده ؟!

ـ مش كده وبس، ده بيدور عليكي ولو شافك مش هيخليكي تشوفي النور تاني، اوعي تفكري ترجعي غير لما أقولك. اوعي يا نغم .

استمع إلى تأوهاتها من جديد ثم تشدقت قائلة:

ـ هرجع واللي يحصل يحصل يا نيهال، أنا أساسا بضرب نفسي بالجزمة إني سيبت خالتي، نار خالتي ولا جنة غيرها .

تحدثت نهال وهي تشدد على كلماتها بتأكيد غاضب:

ـ يا بنتي متقلقيش على خالتي أنا مخلية بالي منها، خلي بالك انتي من نفسك وضروري تكلميني تاني عشان تفهميني الليلة اللي انتي فيها .

ـ ادعيلي يا نهال، أنا بطلع من نُقرة أقع في دُحديرة ومش عارفة هترسى على إيه بالظبط.. أهم حاجة خلي بالك من خالتي، والجلسات.. إوعي تخليها تطنشها، ليها تلت جلسات في الأسبوع خلي بالك.

ـ حاضر متقلقيش..

هدأت لهفتها قليلا ثم عادت لتهتف بلهفة أكبر:

ـ نهال خلي بالك، خالتي بعد الجلسة بتدوخ وبتبقا عايزة حد يسندها، خدي بالك منها والنبي..

ـ حاضر.

ـ وخليها متنساش علاجها في ميعاده وتاكل كويس.

زفرت نهال فيما يشبه الملل وقالت:

ـ طيب حاضر، متقلقيش هعمل كل اللي انتي عاوزاه بس أهم حاجة مترجعيش، إحنا مش ضامنين رد فعل حسن هيكون إيه لو شافك، وأنا هكون على اتصال معاكي وهبلغك بالجديد أول باول.

تنهدت نغم تنهيدة حارة ثم تساءلت بقلة حيلة:

ـ هتقولي لخالتي إني كلمتك؟

ـ لأ طبعا، خالتك خفيفة قدام حسن وممكن تقوله أو تقع بلسانها، أنا مش هجيبلها سيرة إني كلمتك دلوقتي لحد ما الموضوع يهدى ونلاقي حل . اتفقنا ؟

ـ ماشي، أهم حاجة متتصليش بيا أنا هبقا أكلمك.

ـ ماشي هستناكي تكلميني وتفهميني كل حاجه.

ـ حاضر ، أنا لازم أقفل دلوقتي.. يلا مع السلامة.

انتهت المكالمة فجأة فاستطاع أن يخمن أن الباب قد طُرق لذلك أنهت الاتصال سريعا، وأخذ يرمق الهاتف باستغراب وهو يسترجع ما استمع إليه بالحرف الواحد ويستخلص أهم المعلومات التي حصل عليها جراء ذلك الاتصال..

اسمها نغم، صديقتها نهال، لديها خالة تتعالج من السرطان، وشخصًا يطاردها يدعى حسن !!

أيعقل أن يكون حسن هو نفسه الخصم الخفي الذي دفعها لفعل ما فعلته يوم الحفل ؟! ولماذا يتوعدها إذًا ؟!

هز رأسه بحيرة ثم أسقطها بين كفيه وهو يفكر في الأمر باستغراب. هذه الفتاة محاطة بهالة من الغموض، محاصرة بألغاز عليه أن يحلها سريعا وفي أقرب وقت قبل أن يستيقظ على كارثة جديدة من صنع يديها.

استمع لصوت طرقات على باب الغرفة، فأمر بالدخول، فتحدثت زينب إليه وهو يوليها ظهره فقالت:

ـ العشا جاهز يا فريد بيه.

لم ينطق، بل هز رأسه موافقًا بصمت فغادرت الغرفة وأغلقت الباب، فمسح على وجهه بضيق ثم قرص بين عينيه بتعب وهو يفكر، هل سينزل ليشاركهم العشاء؟ يكفي أنه كان مضطرا لحضور مائدة الإفطار وكان واقعا تحت وطأة ضغط مؤذي خاصةً وهو يحاول أن يبدو وكأنه يتفاعل بصورة طبيعية وأن يخفي توتره وارتباكه ثم ما إن أنهى فطوره البسيط حتى أسرع إلى غرفته وتقيأه عمدًا بعدما تناول الحبوب التي تساعده على ذلك.

هل سيعيد تلك التجربة التي تستنزف كل طاقته مجددا ؟! سينزل ويجلس بجوارهم بكل بساطة ويتصنع أنه هادئ ومرتاح وهو في داخله يتلوى من فرط الارتباك والقلق والوساوس تعيث برأسه فسادا ؟

ولكنها ستكون حاضرة ! عليه أن يراها ويرى حالتها كيف ستكون بعد هذا الاتصال؟ عليه ألا يضيع فرصة تمكنه من التواجد معها لكي يكون قادرا على توقع الضربة القادمة والتصدي لها جيدا .

نهض ودخل الحمام لكي يأخذ حمامًا عله يزيل قدرا ولو بسيطا من توتره، وبعد أن انتهى من الاستحمام ارتدى ملابسه وخرج من الغرفة وهو يحمل زجاجة الكحول بجيبه كدرع حصين يخشى الاستغناء عنه أو فقده.

نزل درجات السلم وفي طريقة لغرفة الطعام وجد بابها ينفرج وخرجت منه وهي مطأطأة الرأس ويبدو أن ملامحها تغوص في الكآبة والأسى.

رفعت عينيها عندما استشعرت وجوده في محيطها فالتقت الأعين لقاءً صامتًا وظلت نظراتهما متصلة لثوان مجهولة العدد.. وكأنها نست أن تهرب من أمامه ، وفي المقابل هو قد وجد في عينيها شيئا قابلا للتأمل.

ربما لمعة حزن معقدة صادقة تشبه تلك التي تظلل عينيه في كثير من الأحيان ، وربما أراد أن يستشف مدى صدق ذلك الصوت الباكي الذي سمعه قبل قليل من عدمه ، وربما لأنه يريد محاصرتها وانتزاع ذلك الاعتراف اللعين منها في الحال وبفارغ الصبر.

بينما هي كانت تنظر إليه وهي لم تعِ حتى تلك اللحظة أنها تحدق بعينيه كالبلهاء، كانت منفصلة عن الواقع وكل ما يستحضره ذهنها الآن هو كيفية الفرار منه ، وبقدر ما كانت ترغب في الفرار من أمامه كانت متيبسة في الأرض ولم تقوَ على السير.

صوت سالم هو من انتشلهما سويًا من شرودهما إذ قال:

ـ واقفين عندكوا ليه؟

انسحب فريد وأكمل خطواته نحو الغرفة وهو يضع يديه بجيبي سرواله ، ثم جلس أمام والده وتقابلت نظراتهما لجزء من الثانية قبل أن يحيد فريد بعينيه عنه وهو ينظر إلى نغم التي ترمق المقاعد بحيرة وتفكر أين ستجلس ؟!

فهي بالتأكيد لن تكرر فعلتها الحمقاء صباحا وتجلس بجواره مرة أخرى ، هذا مستحيل .. لذا سحبت مقعدا عشوائيا بعد مقعد عمر بمقعدين وهمت بالجلوس إلى أن استوقفها صوت سالم وهو يقول متصنعا الانشغال بتناول طعامه:

ـ اتفضلي اقعدي في مكانك قدام نسيم .

نظرت إليه باستغراب مستتر، ثم اتجهت صاغرةً نحو المقعد المجاور لفريد والمقابل لنسيم وجلست عليه مرغمةً وهي تهرب من الأعين التي تحاصرها وتلاحقها بنظراتها فجذبها صوت سالم الذي أسند كفه على الآخر فوق المائدة وهو ينظر إليها بابتسامة يختبئ خلفها الجحيم وهو يقول:

ـ هنا كل فرد من أفراد العيلة له كرسي محدد زي ما انتِ شايفة.

وتابع بنبرة ونظرة ذات مغزى بعيد وهو يقول:

ـ وكل واحد هو اللي بيحدد مكانه فين.. وانتِ اختارتي.

ذابت تعابير وجهها أمام سطوته وكلماته الغير واضحة أمامها، وأومأت بموافقة بالرغم من أنها لم تفهم ما قاله ولا المغزى منه، لتجده يبتسم ابتسامة متزنة وهو يكمل:

ـ مش كده ولا إيه ؟!

أومأت مجددا بصمت، فهز رأسه موافقا برضا، متوهمًا أنه قد حصل منها على جواب لسؤاله ذو المغزى المستتر. وفي الواقع هي لم تفهم ولم تشغل بالها سوى بأنها قد ألقت بنفسها في جحيم لا مفر منه .

أشار ليبدأوا بتناول الطعام فأمسك كلا منهم بملعقته وباله شارد يفكر في حل لتلك الأحجية السخيفة التي ألّفها سالم مرسال.

كان كلا منهم شارد يفكر في شيء مختلف، نادية والتي كانت تفكر في الأبعاد التي يحملها قرارها ومدى تأثيرها على حياتها وحياة أولادها فيما بعد، وقد هز سالم بكلامه ثقتها في نفسها، إضافة إلى موقف أولادها الثلاثة الذي جعلها تراجع حساباتها من جديد.

تجاورها ابنتها چيلان التي تبالغ في إظهار تجاهلها لفريد ومن داخلها تئن تحت وطأة الضغط الواقع عليها لكي تظهر بذلك المظهر اللامكترث.

بجوار نادية يجلس عمر الذي يراسل صديقه عبر الهاتف الذي يخفضه أسفل الطاولة ويتفق معه على مقابلته هو وبقية المجموعة بعد ساعة تقريبا لينتبه فجأة حيث طرق سالم بملعقته مرتين على طرف طبق عمر جاذبًا انتباهه وهو يغمغم بصوت هادئ تملؤه الحدة:

ـ سيب البتاع ده من إيدك وركز في أكلك.

على الفور دس عمر الهاتف بجيب بنطاله وتنهد حانقًا وهو يكمل تناول طعامه ويتبادل النظرات مع والدته التي تجلس في مقابله ومع أخته التي تجاورها.

وعلى الطرف الآخر من المائدة يجلس فريد الذي يتناول طعامه ببطء شديد وعيناه مسلطتان على طبقه، ولكنهما غير ثابتتان، حيث أنه كان يحركها من فينة لأخرى نحو نغم التي تحارب مع الشوكة والسكين وهي تحاول تقطيع شريحة اللحم بطريقة أثارت إزعاجه حيث أن صرير احتكاك السكين بالطبق جعل جسده يقشعر بشدة وأصابه بالغثيان ، فلم يجد نفسه إلا وهو يميل بجذعه نحوها ويقوم بتقطيع شريحة اللحم بشوكته وسكينه الخاصة ثم نظر إليها وهز رأسه بمعنى ” الأمر بسيط ” ومن ثم نهض وهو يردد :

ـ أنا شبعت الحمد لله ، عن اذنكم.

غادر غرفة الطعام وتركها تنظر في أثره بتعجب، في الصباح أخبرها بنبرة هادئة أن تمسك بالشوكة بيمناها، والآن ينظر إليها بفظاظة ويقوم بتقطيع شريحة اللحم بدلا منها، رجل غريب، وتصرفاته وتقلباته أغرب منه .

تناولت قطعة اللحم التي قام هو بتقطيعها وتوقفت عن الأكل، بالأساس هي لا تملك الشهية لتأكل، ولكنها رضخت للأوامر فحسب وخرجت لتناول العشاء كما أمر ذلك الديكتاتور ، ثم نهضت وحملت طبقها وهي تقول:

ـ أنا شبعت الحمد لله، هودّي الطبق المطبخ..

أطلقت چيلان ضحكة مقتضبة مستهزئة، بينما أشار إليها سالم بيده بمعنى أن تضعه على المائدة من جديد ثم قال:

ـ لأ سيبيه .. ده شغلهم هما.

أعادت الطبق حيث كان بإحراج وأومأت بهدوء وهي تقول:

ـ عن اذنكم.

انسحبت وهي تشعر وكأن وجهها أصبح عبارة عن كتلة نار مشتعلة من فرط الحرج، وأخذت تنظر حولها وهي تتفقد ذلك المكان الغريب الذي ينم كل جزء فيه عن الثراء الفاحش ، ووجدت قدماها تسوقها إلى الخارج حيث حديقة واسعة تمتد على مساحة خضراء واسعة جدا، بها طقمين من أطقم الجلوس الخشبية ، وعلى مدى بصرها رأت أرجوحة بمظلة أثارت حماسها فسارت نحوها حتى وصلت إليها وجلست عليها.

أخذت تتأمل المكان من حولها بانبهار طفل ، تتأمل جمال وتفاصيل كل شيء تراه لأول مرة، ثم تنهدت بعمق وهي تتذكر كلام نهال لها، حسن يبحث عنها لينتقم منها عن فعلتها بعدما هربت منه، وفي الواقع هي لا تستبعد أي شيء منه، فهو شخص لا يملك ذرة من الضمير ولا الرأفة، وعلى أتم الاستعداد أن يفعل أي شيء طالما سيصب في مصلحته هو في النهاية.

نزلت دمعتها بحسرة على حالها، تشتاق وتئن شوقا لضمة من حضن خالتها، تتمنى لو أنه بإمكانها أن تصل إليها وتسمع صوتها، لو أنه بإمكانها أن تعيش في مكان راقٍ كهذا ولكن برفقة خالتها، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.

مالت للأمام، وأسقطت رأسها بين كفيها وأخذت تبكي بصمت، وفجأة شمت رائحة عطره فاشرأب عنقها تلقائيا لتجده يدنو منها، تحفزت كل عضلة بجسدها واندفعت الدماء إلى رأسها بقوة، ثم تشبثت بمقعد الأرجوحة وهي تفكر بخوف، هل تنهض أم تركض بعيدا أم تظل على موقفها، وقبل أن تصل إلى قرار كان هو قد وصلها ووقف أمامها يحدق بها بطريقة أثارت ريبتها.

كانت ترفع ناظريها إليه تحدق به وهي تتفرس فعله القادم، وتلقائيا نهضت واقفة أمامه بتحفز، تحث قدميها الملتصقتين بغراء على الركض ، ولسببٍ ما لا تعرفه تذكرت يوم الحفل الملعون، كانت تقف أمامه بنفس الطريقة والمسافة التي تفصلهما أصغر من أن تسمح لها بالوثب السريع والاختباء في غرفتها .

ـ انتِ كويسة ؟!

قالها متسائلا، فتفاجئت، لمَ يسأل عن حالها، وهل هذا سؤالًا مباشرًا أم أنه يراوغها متعمدا إثارة ريبتها؟

نطقت فور أن وجدت صوتها وقالت:

ـ الحمد لله.

لم يبدِ رد فعل خلال دقيقة، ثم عاد يتساءل:

ـ لسه بردو مش قادرة تفتكري حاجة؟

هزت رأسها أن لا فتنهد وهو يزم شفتيه باستياء وانزعاج واضح، ثم هز رأسه مدعيًا التفهم وقال بتهكم مبطن:

ـ تمام، يا ريت لو افتكرتي أي حاجه تفرحينا معاكي.

وتركها وانصرف فتنهدت وهي تشعر وكأن جبلا قد سقط من على صدرها عندما رأته يبتعد، ثم استقل سيارته وتحرك بها للخارج فأخذت تتمتم وهي تنظر في الأرجاء بأسى:

ـ لأ أنا شكلي كده مش هستحمل القعدة في مكان واحد معاه كتير، ده نظرته بس بتنشف دمي.

وعادت إلى غرفتها، حصنها المنيع، ستختبئ بها بدلا من أن تظل مضطرة لمصارعة كل تلك الضباع بمفردها. فالتقت في طريقها للغرفة بجيلان التي تفحصتها ببطء، من رأسها إلى قدميها، وقلبت عينيها بازدراء مُعلن ثم أكملت الطريق إلى الخارج.

***

في صباح اليوم التالي..

كانت جوليا تقف أمام مرآتها بغرفة نومها، تمسح على بطنها بحسرة وهي تنظر إلى انعكاس صورتها في المرآة، أزالت دمعاتها عندما استمعت إلى رنين هاتفها فالتقطته لتجد المتصل هي أمها، تجاهلت الاتصال وألقت الهاتف على الفراش، ثم قامت بتحضير حقيبتها ووضعت كل ما ستحتاجه بها واستعدت للرحيل.

خرجت من المنزل، واستقلت سيارتها لتتحرك بها في طريقها إلى المركز الطبي الذي تقصده لإجهاض الحمل ، بالتأكيد هي لن تُبقي على طفل والده لا يرغب فيه ولا فيها، وبالرغم من أنها خائفة وبشدة من تلك الخطوة إلا أنها ستقدم عليها دون تردد، وبعدها ستكون متفرغة للتفكير في الرد القاسي الذي يستحقه ذلك الخسيس شريف.

وصلت إلى المركز واستلت حقيبتها ودخلت، كانت تخطو نحو غرفة الطبيب بخوف، وكل السيناريوهات المخيفة تتجسد بمخيلتها الآن، استقبلتها الممرضة واصطحبتها إلى الغرفة التي ستستعد بها قبل الدخول إلى غرفة العمليات.

أبدلت ثيابها ، وارتكزت على الفراش ريثما تخبرها الممرضة أن كل شيء جاهز.

كان قلبها يطرق بقوة، ومشاعر كثيرة مختلجة تراودها، شعورًا بالخوف، شعورًا بالذنب، شعورًا بالألم والحسرة، وشعورًا بالندم لأنها لم تنجُ من تلك العلاقة السامة بأقل الخسائر ، بل تكبدت خسائر فادحة لا تظنها قادرة على تعويضها مرة أخرى.

أخبرتها الممرضة أن كل شيء أصبح جاهزًا، وعليها أن ترافقها للداخل الآن، انقبض قلبها وفي نفس اللحظة استمعت إلى رنين الهاتف، أمسكت بحقيبتها بسرعة وأخرجت الهاتف وعندما رأت اسم والدتها أجابت بدون تردد.

ـ چوليا قلقتيني عليكي، ليه مش بتردي عليا ؟

تسارعت دمعات چوليا إلى خدها وأجهشت ببكاء مكتوم لكي لا تثير خوف وقلق والدتها ، وحاولت أن يبدو صوتها طبيعيا قدر الإمكان وهي تقول:

ـ أنا آسفة يا مامي.

ـ على إيه يا حبيبتي ؟ وبعدين مال صوتك ؟!

تجاوزت تلك الغصة التي تعلقت بحلقها كشوكة وقالت:

ـ آسفة إني مقدرتش أرد عليكي، كنت مشغولة بتابع كذا حاجة.

في الواقع هي لم تتأسف لأجل ذلك أبدا، وإنما تأسفت لأنها خانت ثقة أمها المطْلقة وأقدمت على فعلتها النكراء، وها هي الآن تتخلص من توابعها لكي تفتح صفحة جديدة خالية من سم ذلك الحقير الذي لا يملك ذرة نصيب من اسمه.

ـ انتي كويسة يا چوليا؟ قلبي واجعني حاسة إنك مش بخير

أشارت إليها الممرضة لكي تسرع، فأجابت أمها بإيجاز وقالت:

ـ متقلقيش أنا كويسة، بس حاليا مشغولة ومش عارفة أتكلم، هكلمك لما أخلص

ـ اوكي كلميني أول ما تخلصي هستناكي، باي.

أنهت المكالمة وأخذت تنتحب بحسرة، لو أنها بجوارها في تلك اللحظة لكان الحِمل أخف الآن، لو أنها معها لما شعرت بكل ذلك الخوف. ولكن ما هي به الآن ليس سوى تداعيات خياراتها الحمقاء ، هذه هي آثار شيطانها الذي أطلقت سراحه بنفسها، لذا فلا داعي للندم والبكاء على اللبن المسكوب، فما حدث قد حدث وانتهى.

اصطحبتها الممرضة لغرفة العمليات، كان قلبها يحدث ضجيجا عاليا، تشعر أنه سيتوقف، وربما رغبت في ذلك حقا، أن يتوقف لكي تتخلص من متلازمة الحب المرضي التي أصابتها وتمكنت منها منذ زمن.

صعدت إلى السرير وتمددت فوقه وهي تشعر بالبرد يحفها من كل جانب، أغمضت عينيها وهي تتمسك بطرفي جانبي السرير بقوة وجسدها يرتجف بشدة ، وأغمضت عينيها وهي تحاول نزع ذلك الخوف من قلبها بقوة ولكنها فشلت، شعرت بشخصٍ ما يمسك ذراعها ، ففتحت عينيها بقوة وأخذت تحدق به بخوف هيستيري ، ثم نهضت ونزلت من على السرير وهي تنظر إلى جميع الموجودين وهي تهز رأسها بخوف وتقول:

ـ أنا مش هعمل كده .

ركضت خارج الغرفة كالهارب من تنفيذ حكم الإعدام ، ولم تستمع إلى نداء الممرضة ولا الأطباء المتواجدين، ثم دخلت الغرفة مجددا وخلعت المريول سريعا وأبدلت ثيابها وهي ترتعد بخوف وجسدها يبدو شاحبًا كأجساد الموتى وقد غابت عنه كل قطرة دم ، ثم التقطت حقيبتها وغادرت المركز سريعا ضاربةً بكل قراراتها وتخطيطاتها عرض الحائط ، ثم أمسكت هاتفها وهي تبكي وقامت بالاتصال به، ثوان حتى أتاها رده ، فأخذت تبكي وتنتحب بقوة وكأنها قد فقدت النطق ولم تجد ما تقوله.

وما إن برز صوته الذي كان بمثابة ضمة حنونة لقلبها المكلوم وقال:

ـ چوليا انتِ كويسة ؟

حتى تجاهلت وتناست كل ما كانت تنوي فعله وكل حنقها عليه وكرهها له وقالت بضعف واضطراب:

ـ لأ، أنا محتاجه لك يا شريف، أرجوك متسيبنيش أنا مش قادرة أبعد عنك.

استمعت إلى تنهيدته الحانقة، نعم هي باتت على علم بتفسير لكل صوت يصدر عنه وكل لفظ يلفظه ، باتت تعرفهم وتحفظهم عن ظهر قلب، فتابعت تحاول استجداء عطفه مجددا وهي تقول:

ـ أنا حاولت أنزل البيبي ومقدرتش، أنا خايفة جدا ومحتاجالك معايا. أرجوك متسيبنيش.

تنهد هو بضيق خفي، ثم برز صوته قائلا:

ـ أوكي يا چوليا، اهدي وأنا معاكي متقلقيش، بكرة هنروح أنا وانتِ نخلص الموضوع ده، اتفقنا ؟.

ـ أنا في دبي.

ظهر الابتهاج في صوته حين قال :

ـ كويس جدا. خلاص أنا بكره هكون عندك ونخلص كل حاجه ، متقلقيش.

أومأت جوليا بتوتر وهي تهز رأسها وكأنه يراها، فقال:

ـ أكيد محدش يعرف حاجة عن الموضوع ده مش كده؟

ـ لأ.

ـ عظيم.. يلا ارتاحي دلوقتي وأنا هكون معاكي بكرة .

أنهت جوليا الاتصال، وأسقطت رأسها على عجلة القيادة بضعف وهي تشعر بأنها مستنزفة لأبعد حد، ثم أدارت المقود وتحركت عائدةً أدراجها نحو المنزل وقد خابت مساعيها في التخلي عن عشقٍ سام لم تجنِ منه سوى الآثام.

***

كانت نغم قد استيقظت من نومها قبل قليل، أخذت حماما ووقفت لتختار ثيابا بسيطة لكي ترتديها على عجالة قبل أن يستدعوها لمائدة الإفطار.

انتقت سروالا من الجينز الأزرق وفوقه بلوزة باللون الأسود، ثم وضعت قلادة بها حجرًا أخضرًا ، وجمعت شعرها بربطة شعر أنيقة ووقفت أمام المرآة وهي تنظر بحماس لهيئتها التي تبدو كفراشة رقيقة ناعمة ثم خرجت من الغرفة وتوجهت نحو المطبخ.

كانت زينب تقف على رأس الخادمات تعطيهن الأوامر والتعليمات ككل صباح، فإذا بها تستمع إلى نغم التي قالت بابتسامة مشرقة:

ـ صباح الخير يا خالتي زينب.

نظرت الخادمات صوب نغم بتعجب واستنكار، بينما حدجتها زينب بتحذير واستياء وقالت:

ـ يلا اتفضلوا ، الباشا قرب ينزل.

انطلقن كشغالات النحل كل واحدة منهن تعرف طريقها ودورها جيدا، بينما اقتربت منها زينب وتمتمت بانزعاج:

ـ هو أنا مش قولتلك خالتي دي تبقى بيني وبينك؟!

تراجعت ابتسامة نغم ونظرت إليها بحرج وقالت:

ـ أنا أسفة والله، بعد كده هخلي بالي كويس.

أومأت زينب بموافقة، ثم ظهرت على ثغرها شبه ابتسامة وهي تتفحص إطلالة نغم وقالت:

ـ إيه الحلاوة دي؟!

ـ بجد حلوة ؟!

تساءلت نغم بحماس وتوهجت عيناها ببريقٍ لامع فأومأت زينب بموافقة وقالت:

ـ أيوة، زي العسل ما شاء الله.

اقتربت نغم منها وقبّلت خدها بعفوية وقالت:

ـ والله ما حد عسل هنا غيرك.

زمت زينب شفتيها وهي تهز رأسها بيأس من تلك الفتاة الثرثارة وقالت:

ـ طيب يلا روحي علشان زمانهم بيجهزوا دلوقتي ونازلين يفطروا.

ـ طيب أساعدك في حاجة؟

نظرت إليها زينب بتعجب وقالت:

ـ هتساعديني ازاي بقا ؟!

ـ يعني أنقل معاكي الاطباق أو أجي أغسل معاكي الصحون بعد ما نخلص؟!

علت ضحكات زينب وهي تردف:

ـ والله انتِ مصيبة، على العموم أنا لا بنقل أطباق ولا بغسل صحون، ده مش شغلي ولا شغلك انتي كمان، انتي هنا ضيفة يا حبيبتي والضيوف هنا بيتعاملوا أحسن من أصحاب البيت كمان، عشان كده انتِ تروحي دلوقتي تقعدي على السفرة وتفطري ومش مطلوب منك أي حاجه تانية، اتفقنا ؟

رفعت نغم كتفيها وهي تقول:

ـ اتفقنا، أنا كان غرضي أساعد يعني بس اللي تشوفيه.

ـ فأجابتها زينب بنفاذ صبر وهي تقول:

ـ والله أنا شايفة إنك تتفضلي من هنا ومتدخليش المطبخ تاني، المكان هنا للعاملين فقط !!

خرجت نغم وهي تجذب أطراف بلوزتها الجديدة بتلقائية، وتتفحص قلادتها غالية الثمن بابتسامة متألقة وهذا ما منعها من رؤية عمر الذي كان ينزل الدرج في نفس الوقت فاصطدمت به .

أجفلت وتراجعت للخلف بخطوات سريعة، وأخذت ترمقه بتوتر لتجد ابتسامته وقد اتسعت ثم أخذت عيناه تتفحصها مليًا، وبعدها أطلق صفيرًا معجبًا وقال:

ـ إيه الجمال ده ! شكلك حلو أوي النهارده.

ارتعش فكها بتوتر وابتسمت ابتسامة مفتعلة وهي تجيبه بصوت مهزوز:

ـ شكرا .

وفجأة انقبض قلبها عندما شمت تلك الرائحة التي باتت تحفظها وتحفظ صاحبها، فحانت منها التفاتة نحو الأعلى لتجده وهو ينزل الدرج فأسرعت بالهرولة نحو غرفة المائدة.

ـ صباح الخير.

قالها فريد لعمر الذي كان لايزال متمسكًا بابتسامته وهو يراقب أثر نغم، ثم نظر إلى فريد وقال:

ـ صباح الخير يا فريد.

ألقى فريد نظرة خاطفة نحو نغم ثم قال:

ـ إيه سر الابتسامة دي؟ أنا كنت نسيت شكلنا واحنا بنضحك عامل إزاي !

ضحك عمر ضحكة صاخبة، ثم مال نحو أخيه وقال مشيرا نحو نغم :

ـ أصلي اتفاجئت بجمال الضيفة اللذيذة اللي الباشا مستضيفها وحبيت أصرح عن إعجابي بيها .. وانت عارفني بضعف قدام الجمال.

زفر فريد متهكمًا وهو يردد بصوت عميق:

ـ مفيش فايدة، حتى لو اتعلقت على عامود كهربا في الشارع مش هتتغير ، والله أنا بدأت أشفق على سالم مرسال منك.

سارا بخطوات متوازية نحو الغرفة وعمر يحاصر نغم بعينيه الضاحكتين، بينما هي تتلاشى النظر نحوه لكي لا تشتبك نظراتها بنظرات الرجل الفريد الذي يجاوره.

ـ صباح الخير.

ألقاها فريد فلم تجب سوى نغم ، وتجاهلته چيلان التي تظاهرت بالانشغال مع هاتفها.

ـ صباح النور .

قالتها نغم وهي تنظر نحو مقعد نسيم الخالي وتحاول أن تصب كامل تركيزها نحوه فإذا بها تسمعه يقول متسائلا:

ـ إزيك ؟!

تحرك بؤبؤ عينيها بعشوائية في كل مكان، ثم أخيرا نظرت إليه تستشف ما إذا كان يقصدها هي بسؤاله أم لا، فرأته ينظر نحوها فعلا فقالت بابتسامة مضطربة جاهدت في ترويضها:

ـ كويسة.

أومأ ببساطة ولم يجب، جلس على كرسيه ثم نظر إلى چيلان وقال:

ـ ازيك يا چيلان ؟!

اضطربت چيلان وسرى الخدر في أطرافها، لم تتوقع أن يخصها بالسؤال، بالرغم من أنها كانت تنتظر سؤاله بلهفة، ولكنها نظرت إليه بطرفي عينيها بصلف وقالت باقتضاب.

ـ I’m fine

أومأ كعادته ولم يعقب ، بينما هي النار تتآكلها، هل هذا فقط؟ ألن يناقش معها قرار استقالتها؟ ألن يسأل حتى عن الأسباب؟ يجدان حلا وسطا ؟! يجدان طريقة للتراضي؟ يسحب كلامه الفظ وطريقته المهينة ويعتذر عنها؟ أو على الأقل يخبرها أنه يحتاجها في شركته وأن عليهما أن يفصلا الأمور الشخصية عن العمل؟ ألن يقول أي شيء من ذلك؟ وهي التي سهرت ليلة كاملة تحضر قائمة من الإجابات الاحتياطية التي ستجيب بها على أسئلته حول سبب تركها للعمل !! واتضح الآن أنه غير مكترث بها من الأساس!

سحبت نفسا للداخل بقوة وزفرته ببطء وهي تحاول إخفاء توترها وانزعاجها، وأخذت تهز قدميها بقوة أسفل الطاولة ثم نظرت إلى عمر وقالت:

ـ ها يا عمر ! مش هتبارك لي ؟ معقوله مامي مقالتلكش ؟!

رفع عمر عينيه من على الهاتف، ثم نظر إليها متسائلا:

ـ قالتلي إيه؟

ـ إني من النهاردة رئيس مجلس إدارة شركات الصواف !

رفع عمر حاجبيه متعجبًا وتساءل:

ـ فعلا ؟!

أومأت بعينيها بغرور وزمت شفتيها الورديتين في ابتسامة أنيقة، فقال عمر ببلاهة:

ـ اومال انتي كنتي إيه الأول ؟!

ارتفع حاجبها المنمق بحنق ورمقته بنظرات ساخطة ، بينما على الجهة المقابلة كان فريد يلجم ضحكته بلجام من حديد ثم تحدث وقال:

ـ چيلان كانت مساعد إداري في شركتي بس قدمت استقالتها امبارح.

هز عمر رأسه متفاجئا وقال وهو ينظر لأمه :

ـ ده بجد ؟! هو أنا للدرجة دي مش متابع ولا إيه ؟

لمح الضيق والاستياء باديًا في عينيها وقالت:

ـ ماهو لو حضرتك مهتم بأختك زي ما انت مهتم بأي حد تاني أكيد كنت هتعرف عنها حاجة بسيطة زي دي.

زم شفتيه بخجل من الازدراء والاتهام العلني بالتقصير الذي تفضلت به والدته للتو، ثم نظر إلى چيلان وقال:

ـ Anyway ألف مبروك يا چيچي. يارب تكوني مبسوطة أهم حاجة.

حينها برز صوت نادية التي رمقت فريد بنظرة جانبية وقالت:

ـ أكيد هتكون مبسوطة لأنها هتكون في المكان اللي تستحقه وتستاهله.

تقدمت نسيم منهم بهدوء يشبه اسمها وألقت تحية الصباح وهي تمسح على ظهر فريد بألفة فالتفت ليجدها أمامه فاتسعت ابتسامته وقال:

ـ صباح الخير يا حبيبتي.

أجاب الجميع تحيتها، فجلست أمام نغم ونظرت إليها قائلة:

ـ ازيك ؟!

يا إلهي، هذه الفتاة تشبه لوحة معبرة عن السلام ، مجرد النظر إلى ملامحها الرقيقة يدعو للسكينة والطمأنينة.

لذا اتسعت ابتسامة نغم لأول مرة وقالت بود:

ـ كويسة الحمدلله ، انتِ إيه أخبارك؟

ـ الحمدلله.

أجابتها نسيم بهدوء، بينما فريد كان ينظر إليها مضيقا عينيه بتفكير، هل نسيم هي الهدف القادم ؟! في البداية استهدفوا عمر وبعدها هو .. هل نسيم هي القادمة؟

ولكن كونه شخصًا غير سطحي بالمرة ولا يحكم على الأمور من قشورها، وكونه ناجحًا إلى حدٍ ما في قراءة عيون المحيطين به فهو متأكد الآن أن تلك الابتسامة الودودة في عيون ضيفتهم المحتالة ليست مزيفة بالمرة، كما رأى صدق الحزن في عينيها في الليلة الماضية، لذا فهو يجزم بأنها لا تكن أي مشاعر سيئة لنسيم ولا تخطط للوصول لشيء عن طريقها، وإلا لما ظهر كل ذلك النقاء والصفاء بحدقتيها البنيتين .. الجميلتين.

للأسف عليه أن يعترف أنهما جميلتان حقا. لا مناص من الاعتراف بذلك يا فريد، والاعتراف لن يغير شيء على كل حال لذا فأسرها في نفسه.. هذه المحتالة لديها أجمل عيون رآها على الإطلاق.

قطع تأمله في عينيها وصول سالم الذي تنحنح بقوة مردفًا:

ـ صباح الخير.

رد الجميع التحية مرغمون، فكلا منهم يرغب لو قذف سالم بالطبق الموجود أمامه بدلا من إلقاء التحية ولكن ما باليد حيلة.

جلس سالم في مقعده وأشار إليهم فورا بالبدء، على ما يبدو أنه ليس في مزاج يسمح بالنقاش اليوم، وعلى ما يبدو كذلك أنه مستعد للخروج.

بدأوا جميعا بتناول فطورهم، بينما فريد كان يعبث بطبقه حرفيا، يحاول إقناع نفسه أن كل تلك الأصناف ليست عبارة عن كتل جرثومية ، وأنها لن تضر بالصحة ولن تسبب الوفاة.

تبا.. كلما ظن أنه بإمكانه تجاوز الأمر وجد نفسه في قاع الحضيض من جديد، وكلما ظن أنه قد نجا من القاع اكتشف أن للقاع قاعًا آخر وحضيضًا أعمق من العمق نفسه.

تنهد تنهيدة حارقة وهو ينظر لطبقه مقهورا، في الواقع هو يشعر بالجوع فعلا لأنه تقيأ طعام العشاء ولم يتناول غيره، والآن تلك الوساوس تفسد عليه محاولاته المضنية وتسد عليه الطريق نحو التأقلم.

ـ فريد، انت لازم تروح لدكتور .

قالتها نسيم بصوت هامس ولكن تلك النَمِرة التي تجلس أمامهم ترهف السمع لكي تصغي إلى ما يقولانه تمكنت من التقاط قولها فنظرت إليه بتلقائية وأخفضت عينيها سريعا عندما رأته ينظر إليها.

أومأ فريد لنسيم موافقا بإيجاز، هو بالفعل قرر قرارا لا رجعة فيه أن يزور الطبيب اليوم، ثم نظر لعمر الذي بزغ صوته حين قال:

ـ طيب مش المفروض نحتفل ولا إيه ؟!

نظر إليه سالم بطرف عين وهو يرتشف من كوب العصير خاصته ثم قال:

ـ خير ؟! نحتفل بإيه؟!

أشار عمر نحو چيلان وقال:

ـ لأن چيچي بقت مدير مجلس إدارة شركة ماما .

تجهمت ملامح سالم فسقط وجه عمر من الخوف وهو يستمع لأبيه يقول بتوبيخ مستتر:

ـ شركة ماما ؟!

انفلتت ضحكة قصيرة من نغم التقطها فريد ولكنها تراجعت عنها فور أن رأته ينظر إليها وركز كلا منهما مع عمر الذي قال:

ـ أقصد يعني مجموعة شركات الصواف جروب.

هز سالم رأسه وهو يقول وعينيه لا تبرحان طبقه:

ـ مبروك يا چيلان..

أجابته چيلان بصلفها المعتاد:

ـ ميرسي يا أنكل.

فنظر سالم إلى ابنه وقال:

ـ متستعجلش على الاحتفالات، ذكرى تأسيس مجموعة شركات مرسال قرب، وقتها احتفل براحتك.

أومأ عمر بطاعة مطلقة ودس عينيه بطبقه بصمت لأنه كلما تحدث افتعل الأزمات وأثار حنق شخصٍ ما.

نهض فريد واقفا، معلنا انتهاءه من تناول الطعام، ثم نظر إلى نغم وهو يقول:

ـ كلموني من المستشفى وبلغوني إن في فحص لازم يتعمل النهارده استكمالا للفحوصات اللي فاتت، اتفضلي معايا عشان أوصلك في طريقي.

ضيق سالم عينيه وهو ينتظر ردها بتأهب، فرآها تتلون خجلا أمامه، ثم أخذت تنظر في وجوه المحيطين بها وكأنها تبحث عن ضالة لها بينهم.

بينما فريد لايزال واقفا أمامها متحليًا بالصبر وهو ينتظر إجابتها، فقالت برهبة بعد أن ابتلعت ريقها:

ـ ممكن نأجلها وقت تاني؟

هنا برز صوت عمر الذي ود أن يعرض المساعدة فقال:

ـ خلاص يا فريد أنا ممكن أوصلها بعربيتي كمان ساعة، روح شغلك انت.

ليعقب قوله صوت سالم الذي قال منهيًا الحوار:

ـ لأ خليك إنت أنا عاوزك..

ونظر إليها مبتسما ابتسامة تبدو لطيفة وقال:

ـ اتفضلي مع فريد .

ها قد صدر القول الفصل في تلك المسألة ، بما أنه قال اذهبي مع فريد ستذهب مع فريد دون نقاش، لذا نهضت وهي تهز رأسها بموافقة، ونظرت إلى فريد الذي قال:

ـ مستنيكي بره.

سبقها إلى حيث سيارته وهو يشعر بأن هرمون الدوبامين لديه قد وصل أعلى مستوياته من فرط تحفزه نحوها وحماسه لمواجهتها ورؤية فعلها.

استقل السيارة وعقم يديه بالكحول جيدا ثم رش على المقعد المجاور له والذي ستجلس عليه.

رآها في مرآة السيارة تقترب منه ففتح لها باب السيارة من باب اللباقة الفطرية، فدخلت وهي تتمنى أن تحدث معجزة كونية الآن تمنعهما من الذهاب سويا .

جذبت باب السيارة ونظرت إليه نظرة خالية من أي تعبير فقال:

ـ جاهزة ؟!

هزت رأسها أن نعم، فانطلق بالسيارة، قطع مسافة لا بأس بها وهو يكبح جماح رغبته في مواجهتها الآن، وتريث إلى أن يصلا لمكان مفتوح يسمح له بالتنفس بشكل مريح لكي يكون مستعدا للمواجهة المرتقبة.

بينما هي تغوص في المقعد بجواره وهي على وشك الاختفاء من شدة الذوبان، وما إن رأته يسلك طريقا صحراويا ، يشبه في رهبته ذلك الطريق الذي عانت فيه من قبل، حتى همست بخوف لاإرادي:

ـ إحنا جايين من هنا ليه ؟!

انتظرت لثوانٍ حتى برز صوته قائلا بهدوء:

ـ هنروح نقعد في مكان هادي شوية قبل المستشفى ، متخافيش.

حسنا .. هي ليست خائفة ، هي مرعوبة فقط !

سيجلسان بمكانٍ هادئٍ حقا ؟! هو !! وهي !! سيجلسان بمكانٍ هادئٍ ؟! على أي أساس ؟!

انهالت الأفكار السوداء على رأسها وهي تفكر في الطريقة التي سيقتلها بها، وبعد أن تخيلت كل الأفكار أخذت تتخيل الطريقة التي سيخبئ جثتها بها ! بالتأكيد سيخبئها بنفس المكان الهادئ الذي سيذهبانه الآن .

توقف بسيارته أمام كافيه راقٍ، على مساحة واسعة على النيل مباشرةً.

نزل من السيارة فتبعته، ثم أشار بيمناه إليها لكي تتقدم فسارت وهي تشعر بأن قدميها ستخونانها وتتهاوى أرضا في الحال، هي حقا لا تثق بهما .

تقدم نحو طاولة مستديرة ، سحب مقعدها من باب الذوق فجلست وشكرته ، ثم جلس أمامها وقال:

ـ تحبي تشربي إيه ؟!

نظرت إليه وتنهدت بريبة، ثم تحدثت بهدوء يناقض تلك الثورة بداخلها:

ـ عصير برتقان.

قام بطلب كوبين من عصير البرتقال ، بالرغم من أنه متأكد من أنه لن يشربه ولكنها لمسات ذوقية لا أكثر .

أخذ نفسًا عميقا، ثم زفره على مهل، وأخذ يتأمل المكان من حوله لدقائق مرت عليها أطول من اليومين الذين قضتهما في منزلهم.

في الواقع هو كان متعمدا إثارة قلقها أكثر، كان متعمدا زعزعة أي ذرة ثبات لديها لكي تعترف من أول صفعة .

أحضر النادل العصير ووضعه أمامهما ثم انصرف، فيما هي غارقة في النظر إليه تنتظر أن يقول أي شيء.

لتجده ينظر إليها أخيرا بهدوء وبعينيه نظرة واثقة، وأسند ذراعيه على الطاولة بشكل متقاطع، استطاع أن يحاكي الثقة والحزم بداخله ، ونظر إليها نظرة محايدة وهو يقول:

ـ اشربي العصير.

أومأت والتقطت كوبها وارتشفت منه رشفة لم تصل إلى معدتها، حيث أنها توقفت بحلقها عندما استمعت إليه وهو يقول :

ـ قوليلي بقا، إيه حكايتك يا نغم ؟!

يتبع…

google-playkhamsatmostaqltradent