Ads by Google X

رواية محسنين الغرام الفصل الثالث عشر 13 - بقلم نعمة حسن

الصفحة الرئيسية
الحجم

 

 رواية محسنين الغرام الفصل الثالث عشر 13 -  بقلم نعمة حسن

ـ ١٣ ـ ~ دموع خرساء ~

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

‏عاد مُنهكا، دفع باب منزله بهدوء ، فاستقبلته العتمة ، الأثاث متجمّد في صمت ، الساعة تدقّ ببطئ وعقاربها تضع إيقاعًا أشبه بإيقاع الموت ، وضع مفاتيحه على طاولة صغيرة بجوار الباب فارتد صوتها في الأرجاء ، ثم خلع معطفه وهو يتقدم نحو الغرفة دون أن يشعل الضوء ، وما إن وصلها حتى ألقى المعطف بصورة عشوائية فوق الفراش وتهاوى جسده على السرير بإحباط .

لقد ناله اليوم من الإرهاق والضيق ما ناله ، وجميع أحداث اليوم لم تكن منصفة أبدًا، بدايةً من مواجهته مع چيلان ، مرورًا برؤية حال أخته المتدهور وآثار تلك الذكرى البشعة التي لا تفارقها أبدًا ، وصولا إلى انتقال تلك المحتالة للعيش في منزله .

فور أن تذكرها أصابه التوتر، توتر فعلا وهو يتذكر تلك الهيئة الفوضوية التي كانت عليها، وبما أنه إنسان صارم لدرجة ضاغطة ، ويعتبر نفسه عدوًا لأي كائن فوضوي فيمكنه الجزم أن حقده عليها سيتضاعف وأنهما سيصبحان عدوين لدودين .

تنهد بضيق.. !

لا يعرف إذا كان متأكدًا من أنه قادر على اتخاذ القرار الذي أبلغهم إياه أم لا ، في الواقع هو قرار غير مدروس بالمرة ولا يعلم عواقبه كيف ستكون ، ولكنه قرارٌ حتميًا وضروريًا بالنسبة له ، فتلك القصيرة تخفي الكثير وراء قناع فقدان الذاكرة الذي ارتدته ، ولا يستبعد أبدًا أن تكون هي الصندوق الأسود لعدوه المجهول الذي يريد أن يخسف باسمه واسم عائلته سابع أرض .

وعليه ، فتلك المحتالة لا بد أن تبقى في نصب عينيه دائما ، وهذا بالتحديد ما جعله يأخذ قرار الانتقال للڤيلا ، لأنه يعرف أنها من الممكن أن تحاول إيذاء عائلته وبالأخص نسيم ، ومن المؤكد أن رئيسها المجهول سيستخدمها وسيستغل وجودها في الڤيلا بشكل أو بآخر من أجل تسديد ضربات قاسية جديدة تجاهه وتجاه العائلة .

لذا فعليه أن يكون حذرًا جدا بشأنها وأن يكشف مخططاتها قبل تنفيذها، وأن يصل للعدو الخفي الذي يحاربه بدناءة وخسة ، ثم ينظر في أمرها ويرى طريقة عقاب تستحقها في النهاية .

ولكن.. الأهم من كل ما سبق، و الهم الأكبر الذي يشغله ويقلقه ، كيف سيتعايش في منزل يعيش به عشرة أفراد غيره ؟؟ كيف سيسمح للخادمات ومسؤولات التنظيف بتنظيف غرفته وفراشه وغسل ملابسه ولمس أغراضه ؟ كيف سيأكل معهم على نفس الطاولة؟ الأمر ليس سهلا أبدا، وأصعب مما قد يتخيل أي إنسان ينظر لمرض الوسواس القهري بسطحية وجهل .

تنهد تنهيدة مطولة ، وأخذ ينظر حوله بارتياب ، في قرارة نفسه هو ليس مستعدا لتلك الخطوة أبدًا ، ويعرف أنه سيعاني معاناة لم يسبق لها مثيل ، ولكنه لن يتمكن من تحقيق هدفه وهو خارج الڤيلا ..

وتلك الفتاة هي هدفه !

وكونه شخصا مسؤولا ، على قدر فائق من استحقاق الثقة ، يتحمل الصعاب من أجل الوصول لأهدافه ، عليه أن يتحمل خوض تجربة مهلكة كهذه . وأن يضحي براحته واستقراره النفسي المتأرجح من أجل أن تؤتي تلك التجربة ثمارها.

زفر باستياء ونهض مستسلمًا، سيأخذ حمامًا سريعا ويعود لكي ينال أكبر قسط من الراحة، عليه أن يكون مستعدًا لرحلة استنزاف نفسي هي الأشد قسوة في حياته .

***

في الڤيلا.. في غرفة مكتب سالم .

كان سالم يجلس خلف مكتبه ومن أمامه يجلس المحامي نادر، يتحدثان سويًا فقال:

ـ بس أنا مش فاهم يا سالم بيه، ومش متعود من حضرتك إنك تسيبني كده مش فاهم..

ـ عاوز تفهم إيه يا نادر بالظبط ؟

ـ في سر ورا تصميم سعادتك انك تجيب البنت هنا غير إنك مشفق عليها وعاوز ترد لها الجميل لأنها تنازلت بخصوص موضوع عمر بيه، تخميني صحيح ولا إيه يا باشا ؟!

تنهد سالم وهو يحك جانب ذقنه وابتسامة واثقة تسيدت ملامحه وهو يقول :

ـ طول عمرك فاهمني يا نادر، عشان كده عمري ما فكرت أستعين بمحامي غيرك.

أومأ الآخر و اطمأن لما قاله سالم الذي استطرد متسائلا:

ـ إيه رأيك في البنت دي يا نادر ؟

مط نادر شفتيه دلالة على حيرته وهو يفكر ثم نظر إلى سالم بتركيز وهو يقول :

ـ أنا شايف إنها غلبانة ، واضح من نظراتها وانبهارها بالڤيلا إنها من طبقة معدومة وأول مرة في حياتها تشوف مكان زي ده .

أومأ سالم مؤيدًا ما قاله وأردف:

ـ وواضح إنها خام كمان مش كده؟

ـ بالظبط سعادتك، باين أوي إن لا ليها في التور ولا في الطحين.

ـ بالظبط، عشان كده أنا بفكر أجوزها لفريد !!

حملق به المحامي بغير تصديق، هو كان على يقين بأن سالم لا يحسن لأحد من أجل الإحسان فقط، وإنما لأنه يريد شيئا في المقابل، ولكنه لم يتوقع أبدًا أن ذلك المقابل هو أن تتزوج فريد !!

ـ فريد بيه ؟!!! حضرتك بتتكلم بجد ؟!!

تساءل نادر مذهولا، بينما أومأ سالم بثقة مردفًا:

ـ أكيد.

ـ بس.. بس البنت مش شبه فريد بيه أبداا.. وبعدين حضرتك دي واضح أوي انها غلبانة ..

ـ ما هو ده المطلوب. بنت غلبانة ومنكسرة وملهاش حد، نقدر نشكلها زي العجين في ايدينا ونخليها توافق على اللي احنا عاوزينه بسهولة.

تنهد نادر وهو يرمقه بحيرة، ثم تساءل :

ـ أيوة معاك، بس أنا بردو مش فاهم، ليه فريد بيه؟؟ مع إنها أقرب في السن لعمر بيه، وعمر أعتقد طايش وممكن بكلمتين يوافق يتجوزها.. إنما فريد بيه صعب. مش صعب بس ده مستحيل يوافق.

ـ لا.. سيبك من عمر، عمر أنا مش خايف عليه إنما فريد كل الخوف منه.

وتنهد ثم انحنى بجذعه للأمام ليتكئ بصدره على حافة المكتب وهو يسرد أفكاره بطلاقة لنادر ويقول:

ـ فريد ابني الكبير يا نادر، مش الابن الكبير بس، الابن الكبير والعاقل والحكيم واللي كل حاجه هتكون في ايديه بعد ما أموت. فريد ده واجهتي.. واجهة العيلة، كل شباب العيلة ورجالتها بيحسدوني إني عندي ابن كامل مكمل زيه، بس مع ذلك هو في عينيا ناقص. ناقص يبقاله عيلة، يبقاله زوجة وعيال، أنا لما كنت النهارده في عزا ابن عمي في الشرقية لقيت كل شاب من شباب العيلة متجوز ومخلف دستة عيال، وهما في السن أصغر منه ومفيش حيلتهم ربع اللي عند فريد. حسيت بالغيرة مش هكدب عليك. حسيت بالغيرة إن سالم مرسال أغنى وأكبر رجالة عيلة مرسال مفيش عنده حفيد واحد يشيل اسمه !!

ونظر إلى نادر متسائلا بنبرة متجردة من كل القسوة التي اتسم بها يوما وقال:

ـ هو أنا مش من حقي يا نادر إن إسمي يعيش ؟ مش من حقي ألاقي ليا أحفاد يشيلوا إسمي ؟؟

ـ أكيد حضرتك من حقك .

ـ طيب وده هيحصل إزاي وابني الكبير ملوش في الستات أساسًا !!

زم الآخر شفتيه بحيرة وقال:

ـ حضرتك متسرع في حكمك على فريد بيه.

أسكته سالم بإشارة من يده وقال:

ـ متقوليش متسرع، شاب في عز رجولته عنده ٣٥ سنه، مش ناقصه أي حاجة وحواليه آلاف البنات اللي يتمنوا منه نظرة، وقدامه بنت بتتمنى له الرضا يرضا زي چيلان .. عمرُه حتى ما فكر يبتسم لها.

وتنهد باستياء وهو يتابع:

ـ يا شيخ ده أنا نسيت شكله وهو بيضحك عامل إزاي من كتر ماهو مصدر الوش الخشب للناس كلها طول الوقت..

وتابع وهو يعود لحديثه الأصلي:

ـ ما علينا.. راجل زي ده تفتكر إيه اللي يمنعه من إنه يفكر يتجوز أو يرتبط بواحدة إلا لو كان معدوم الإحساس من نحية الستات؟ ده أخوه اللي أصغر منه بعشر سنين مش عارفين نلم فضايحه مع الستات من كُتر ما هو هيموت عليهم.

ضحك نادر وهو يهز رأسه بيأس بينما زفر سالم بقلة حيلة وهو يتابع:

ـ عشان كدة أنا أول ما شفت البنت دي قلت هي دي اللي هتنفع للمهمة دي، هنغصب عليه يتجوزها حتى لو شهر، والله النحس اتفك على ايديها وقدرت تخليه يتلحلح وحملت منه خير وبركة، يبقا عملنا اللي إحنا عاوزينه مقدرتش وقالت إن مفيش منه رجا وطلبت الطلاق أهو نضمن إنها تاخد قرشين وتسكت ويا دار ما دخلك شر.

ضيق الآخر عينيه بتفكير وهو يحاول استيعاب هذا المنطق الذي يتحدث به سالم، ثم قال:

ـ طيب وليه حضرتك مفكرتش تجوزه چيلان بما انها بتحبه زي ما قلت؟

طقطق سالم بشفتيه نافيًا وقال:

ـ لأ.. چيلان نابها أزرق ومش سهلة، متنفعوش.

وأكمل وهو يشرد بعينيه بعيدا:

ـ فريد يوم ما يفكر يحب واحدة هيحب واحدة زي أمه الله يرحمها، أنا فاهم تركيبته وفاهم دماغه، فريد مش أي واحدة هتقدر تدخل قلبه وخصوصا چيلان، حتى لو كانت آخر بنات العالم مش هيفكر فيها ولو فكرت أضغط عليه وأجوزه أي واحدة من بنات معارفي أو صحابي أبقا بفضح نفسي بنفسي قدامهم، لأن مفيش واحدة هتستحمل إنها تتجوز واحد زي ده ويعاملها كأنها فازة ولا صورة متعلقة على الحيط، مهما كانت المغريات قدامها ده مش هيخليها تتحمل تعيش مع واحد مبيقربلهاش غير كل سنة مرة ، إنما لما تكون بنت غلبانة ملهاش حد هنقدر نيجي عليها وتبقا تحت طوعنا، حتى لو طلبت الطلاق هنضمن إنها متتكلمش وسره يندفن معاها.

تنهد الآخر بحيرة وهو ينظر للمحة التمني والعجز بعيني سالم ، ولأول مرة يشعر بأن سالم مرسال يفتقد شيئًا بحياته فعلا، لأول مرة يشعر أنه إنسانٌ وليس قالبًا جليديًا بلا مشاعر كما يزعم ، فهذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها سالم بصراحة شديدة عما بقلبه، فهو كالقبر ، ما بداخله يبقى بداخله ، ولكنه فاجأه اليوم بما قاله، وما فاجأه أكثر أنه تحدث في أمر خاص وشديد الخصوصية كهذا، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن سالم يرى نادر جديرا بثقته، لذا فعليه أن يثبت له أنه أهل لتلك الثقة فعلا.

ـ طيب ، وحضرتك ناوي على إيه؟ يعني الموضوع ده هيحصل إزاي؟

ـ مش عارف، أكيد مش في يوم وليلة كده هقوله اتجوزها، المشكلة كمان إن فريد متمرد، مش سهل أسيطر عليه أو أرغمه على حاجة،. عشان كده لازم نفكر في طريقة بيها نرمي البنت دي في سكته ونخليه مجبر يتجوزها .

ـ وده طبعا باتفاق مع البنت مش كده ؟؟

ـ أكيد، بس طبعا مش قبل ما ترجع لها الذاكرة ونعرف ساسها من راسها ونعرف عنها كل حاجة، وبعدين نشوف هنوقعهم في بعض إزاي.. الأهم من كل شيء دلوقتي إني عاوزك تطمعها على قد ما تقدر، عاوزها تدوق النعيم والعز عشان متقدرش تنساه بعدين، هاتلها لبس وشنط وجزم، هات كل الحاجات اللي البنات بتنبهر بيها وبتحبها، عاوزها تتعلق بالعيشة هنا عشان نقدر نسيطر عليها فيما بعد .

هز نادر رأسه بموافقة ليردف الآخر قائلا:

ـ بس طبعا هتاخد ضمانات على كل قرش بيتصرف عليها من غير ما تاخد بالها، مش عارف هتعملها إزاي بس إنت محامي وليك ألاعيبك، عاوزين ناخد جميع الاحتياطات عشان لو قررت تتنمرد وتتفرعن علينا بعدين نقدر نكسر مناخيرها.

وأراح ظهره على ظهر المقعد وهو يقول :

ـ المثل بيقول اتقي شر من أحسنت إليه.

أومأ نادر مؤيدًا وهو ينهض من مقعده ويقول:

ـ تحت أمرك يا باشا، كل اللي تؤمر بيه هيحصل إن شاء الله.. أنا هستأذن دلوقتي.

ـ مع السلامة يا نادر، في حفظ الله.

غادر نادر المكتب وأوصد الباب خلفه، بينما سالم كان يسند رأسه على مسند المقعد من خلفه ويديه ترتكزان على طرف المكتب وهو يشرد بعينيه إلى مكان بعيد ويفكر، ترى هل ما يفكر به وما هو مقدم على فعله بدافع الأنانية أم بدافع الحب ؟! ترى هل سينجح فيه أم لا ؟! وهذا الخوف من أن يندثر أثره ويختفي اسمه بمرور الزمن هل هو خوف مبررًا أم مجرد هاجس مدفوع برغبته في السيطرة على كل شيء ؟

لقد عاش طيلة حياته يبني اسمه ويسعى لتخليده ، يسعى لبناء امبراطورية سالم مرسال ، الامبراطورية التي تضمن بقاءه حيًا حتى بعد فناء جسده، ولكن.. هل سينجح في ذلك أم أنه سيبقى حلمًا صعب المنال ؟

***

كانت نادية تجلس بجوار عمر على فراشه، تضمه إلى صدرها وترتب شعراته بيدها وهو يخبرها بما عاناه طيلة الأيام الماضية:

ـ أنا اتبهدلت يا ماما، الأربع أيام اللي قعدتهم في الحجز دول كانوا كابوس مكنتش مصدق إني هفوق منه، بالرغم من إنهم كانوا بيحسدوني على الزنزانة اللي كنت قاعد فيها، كانوا بيقولوا لي اللي ليه ضهر مينضربش على بطنه، كل ده عشان قاعد في زنزانة نضيفة عن باقي الزنازين مسميينها زنزانة سبيشيال، أومال لو مش سبيشيال هيكون شكلها إيه ؟

أغمضت عينيها تقبض على دمعاتها اللاتي ترغبن في الفرار ليعبرن خدها، ويدها تنتقل من رأسه إلى كتفه وتربت عليه بحنان وهي تستمع إليه يقول:

ـ ولّا الأكل، أربع أيام كنت حاسس إني باكل دراي فود بجد.. الأكل كان بشع بشع بشع ..

وأغمض عينيه وهو يهرب من ذكرياته التي كونها خلال الأيام الأربعة السابقة ، ثم قال :

ـ ده غير وجع ضهري، اللي كان بيخليني أفضل أعيط ، واللي معايا كانوا مفكرين إني بعيط عشان أنا شاب نايتي بقا ومش مستحمل الحبس أربع أيام، ميعرفوش إني كنت بموت بالبطيء بسبب جبروت أبويا.

تنهدت تنهيدة طويلة مؤلمة شقت صدرها إلى نصفين وهي تمسح دمعة فرت على جانب خدها، ثم نظرت إليه لتجده ينهض من مرقده ويجلس موليًا إياها ظهره، ثم رفع قميصه فظهرت آثار الجَلد على ظهره مما جعل نادية تغمض عينيها بفزع وهي تقول:

ـ أرجوك غطي ضهرك يا عمر مش مستحملة أشوف المنظر.

بينما أجابها الآخر بصوت مهزوز :

ـ لأ شوفي.. عشان متسامحيش في حقي زي ما أنا كمان مش هسامح، ولحد ما يموت هفضل أكرهه وأحقد عليه لأنه أب فاشل.

ونظر إليها وأردف وعينيه تحتقن بدموع الغضب:

ـ فاكر إن اللي بيعمله ده هو الصح، وإن دي التربية السليمة اللي تطلع رجالة، مش شايف فريد وصل لفين ؟ فريد بقا مريض بسببه، من كتر ماهو طول الوقت مضغوط نفسيا وعايز يبقا بيرفكت في كل حاجه وعاوز كل حاجه بيعملها تكون بالشكل المثالي عشان يثبت له إنه مش فاشل ولا مستهتر زي ما دايما بيقوله، لحد ما بقى مريض بالوسواس القهري، نسيم اللي كانت بتموت النهارده لما افتكرت اللي جرالها على إيديه، وبتموت كل سنة في يوم عيد ميلادها ألف موتة وموتة بسببه، وأنا .. أنا كرهته وبقيت بحس بالقرف وأنا بقول إسمي عمر مرسال، بقيت مش طايق أقول إن الراجل الظالم الأناني يبقا أبويا.

ومسح على وجهه بعجز واحمرت عيناه بعد أن نفرت عروقه بغضب واستطرد يقول:

ـ هو الأب ده مش المفروض يكون سند لأولاده؟ هو بقا بيعمل فينا ليه كده؟

نظرت إليه بشفقة وطفقت عيناها تذرف العَبرات بيأس وهي تربت على كتفه تحاول مراضاته كطفل في العاشرة ولأول مرة تراه منفعلا محبطا بهذا القدر، ولكن على ما يبدو لقد طفح كيله وفاض به لذا لم يمنع نفسه من تفريغ كل ما يحمله من قهر وظلم في وعاء حنانها وتفهمها

ـ ليه قاسي علينا بالشكل ده؟ أنا عمري ما حسيت نحيته بالأمان، حاسس إنه دايما هيغدر بينا في أي وقت، حاسس إننا عايشين معاه مهددين، هو مش المفروض الابن وقت ما يحس بالخطر وجود أبوه هو اللي يطمنه ؟ إحنا بقا إيه اللي هيطمنا ؟

وأجهش بالبكاء بضعف واستسلام وهو يتابع :

ـ أنا بقيت أتمنى له الموت !

أغمضت عيناها بحزن شديد لأن ابنها قد وصل لتلك الدرجة من الحقد والبغض الذي يكنهما لوالده، ومسحت آثار دموعها وهي تنظر إليه وهو يقول:

ـ نفسي أغمض وأفتح ألاقي سالم مرسال اختفى من حياتنا، ساعتها أنا واثق إن كل مشاكلنا هتتحل، أقسم بالله إني واثق لو مات فريد هيخف، ونسيم هتخف، وأنا كمان هرتاح نفسيا إن الظالم ده مبقاش موجود وهعيش أنا واخواتي في سلام.

ضمته إليها وراحت تمسد ظهره براحة بينما هو يتلوى أسفل لمساتها من فرط تعبه، فأبعدت يدها ووضعتها فوق رأسه وهي تبكي ثم قالت:

ـ أنا هتطلق منه يا عمر. أنا خلاص أخدت القرار بس كنت مستنية لما تخرج وموضوعك يخلص.

تنهد وهو يمسح دموعه، ثم نظر إليها وقال :

ـ حتى لو اتطلقتي منه تفتكري هنخلص من أذاه؟

ـ أكيد، هنرجع كلنا دبي، أنا وانت وجيلان وچوليا، هنبدأ من جديد هناك.

هز رأسه نافيًا وقال:

ـ لأ، أنا مقدرش أسيب فريد ونسيم لوحدهم.

قطبت جبينها بتعجب وقالت:

ـ وأنا مقدرش أسيبك معاه، طول الوقت بالي هيكون مشغول عليك.

ـ أنا مش صغير يا ماما عشان تقلقي عليا، أنا هعرف أصرف أموري، وبعدين أنا مقدرش أسيب فريد لوحده معاه، مش بعد ما يضحي عشاني كل التضحيات دي ويشيل همي طول السنين اللي فاتت دي أسيبه في وش المدفع وأمشي.. ولا هقدر أسيب نسيم لوحدها، متنسيش انها ملهاش غيري أنا وفريد.

ـ أوكي أنا فاهمة ده كويس، بس فريد خلاص هيرجع الڤيلا وهيكون معاها ، يعني مش هتبقا لوحدها من هنا ورايح.

ـ وتفتكري بعد ما أخيرا فريد هيرجع وهنعيش مع بعض إحنا التلاته هسيبه وأمشي؟

ثم نهض واقفًا وهو يلقي إليها بخلاصة القول:

ـ للأسف يا ماما أحيان كتير مبنقدرش نلجأ للحلول البديلة اللي قدامنا مهما كانت مريحة ومناسبة، وبنضطر نكمل في معاناتنا بإرادتنا .. مش حب في المعاناة، لكن حب في اللي بيشاركونا المعاناة دي. وأنا عشان بحب فريد ونسيم مقدرش أسيبهم يعانوا معاه لوحدهم.

توجه نحو غرفة ملابسه ليستعد للخروج، بعد أن أبلغها بقراره النهائي وهو أنه حتى لو انفصلت عن سالم فسيبقى عمر بجواره، حينها تسلل إلى قلبها شعورًا غريبًا.. شعورًا مؤلمًا وبقدر ما آلمها بقدر ما جعلها تتساءل .. !!

هل يعقل أنه يحب فريد ونسيم أكثر من شقيقتيه؟ لذا يفضل البقاء بجوار فريد ونسيم، ولم يكترث لفكرة أنه قد يفترق عنهما؟

لحظة ! الأمر أكبر من ذلك.. هل يحب فريد ونسيم أكثر منها هي في حد ذاتها؟ أكثر من أمه ؟! ويفضل الافتراق عنها على فراقهما ؟! يريد مشاركتهما معاناتهما ولم يأبه لمعاناة أمه وصراعها؟

لماذا ؟! لماذا تفوز ناهد وأولادها دائما وتتفوق عليها في كل شيء ؟! في البداية عندما تزوجت بسهولة من سالم ، في حين أنها هي من كانت تحبه أولا ، ولكن الظروف والنصيب كانوا في صالحها وتزوجته بدون مجهود يذكر، وبعد أن أدركت ناهد خيانة سالم لها كانت نادية تتوقع أن تلك هي الضربة القاضية في علاقتهما ولكنه لم يحدث، وحتى بعد أن تزوجت هي من سالم وبعد أن انتحرت ناهد ظل طيفها ملازمًا لسالم في كل مكان.

دوما تشعر أنها رقم اثنان وناهد في المقدمة، حتى بعد وفاتها لم يتغير من الأمر شيء. وانتقل ذلك من ناهد لأولادها بالتبعية ، فهي تشعر في كل وقت أن أولاد ناهد لهم الأولوية بالرغم من أنه يعامل جميع أولاده بنفس القسوة والتسلط..

وهذا هو المظهر الوحيد من مظاهر العدل الذي يتسم به سالم مرسال ، أنه يقسو على الجميع بنفس القدر.

ومع ذلك أولاد ناهد يأتون أولا..

وها هو ابنها المبجل يكمل مسيرة والده، ويخبرها بكل بساطة أنه لن يبتعد عنهما أبدًا .

للمرة التي لا تعلم عددها تنتصر ناهد عليها حتى لو بصورة غير مباشرة.

نهضت وأخذت تحدق في الفراغ قليلا قبل أن تغادر الغرفة، ثم انتقلت إلى غرفة چيلان لتستفهم عن سبب عودتها بتلك الحالة، طرقت الباب ولكنها لم تسمع رد، فأدرات مقبض الباب ولكنها تفاجأت بأن الباب مغلقٌ !!

زمت شفتيها بتعجب وهي تطرق الباب مجددا وتقول:

ـ چيلان انتِ كويسة ؟

لم تستمع إلى رد فقررت الذهاب إلى غرفة چوليا، طرقت الباب ودخلت ولكنها وجدت الغرفة خالية إلا من الفوضى التي أحدثتها ابنتها قبل المغادرة، فأغلقت الباب واستدعت الخادمة لتنظيفها.

ذهبت إلى غرفتها وهي تشعر بالتعجب والضجر، إحداهما منعزلة وعلى ما يبدو أنها تمر بحالة نفسية سيئة، والأخرى ليست موجودة وخرجت دون استئذان.

التقطت هاتفها وقامت بالاتصال بچيلان أولا، جرس رنين يتبعه الآخر، حتى أجابت في النهاية وقالت بصوتٍ متعب :

ـ نعم يا مامي؟

ـ مالك يا چيچي ؟ مش بتفتحي ليه؟

ـ معلش يا مامي مش قادرة أتكلم مع حد، محتاجة أكون لوحدي شوية.

تنهدت نادية باستياء شمل كل جوارحها، ثم تساءلت بالرغم من معرفتها بالإجابة:

ـ في حاجة مضايقاكي ؟!

ـ لأ.

ـ انتِ وفريد اتكلمتوا في حاجة ؟!

تنهدت چيلان طويلا وقالت:

ـ لأ.

ـ طيب، براحتك يا مامي، وقت ما تحبي تتكلمي أنا موجودة.

وأنهت نادية الاتصال وهي تدلك بين عينيها بتعب، وقد بدأ ضيقها من فريد يتفاقم ويطغى على كل شعور لديها تجاهه، ثم قامت بالاتصال بچوليا لتجد هاتفها مغلقًا فزفرت بغيظ وهي تتمتم:

ـ حاضر يا چوليا لما ترجعي بس حسابك معايا.. أنا بجد مش عارفة ألاقيها منين ولا منين!

***

كانت چيلان في غرفتها تنزوي حول نفسها وهي تضم ركبتيها إلى صدرها وتحيطهما بذراعيها وتبكي ، تستدعي صورًا خيالية من الماضي، من طفولتها وبداية مراهقتها تحديدا، حينما كونت بخيالها شخصية افتراضية ترغب في العثور عليها، شخصًا حنونًا ، مراعيًا ، يهديها قطعة حلوى، أو وردة، يعوضها الحرمان الذي عانته من والدها، يعوضها الجفاء والبرود .

فوالدها وبالرغم من أنه لم يكن شبيها لسالم في قسوته ولا تسلطه ولكنه كذلك لم يكن حنونا كما يجب.

لا زالت تتذكر إلى الآن كل الخلافات التي كانت قائمة بين والديها، والمشاحنات التي كانت تدور بينهما، والأجواء المشحونة بالتوتر والقلق التي كانت سائدة بمنزلهم أغلب الوقت.

دموع والدتها، قهرها، صوت والدها الصاخب واعتراضه على كل شيء.. عنفه وإهانته لوالدتها في بعض الأحيان.

كل ذلك جعلها تبحث في عقلها اللاواعي عن شخص يناقض شخصية والدها تماما، وأخذت تكون صورا وهمية لذلك الشخص بخيالها، إلى أن دخلت ذلك البيت وتعرفت على فريد .

كانا طفلين في نفس السن تقريبا، ولكنها رأت فيه رجلا كاملا ، شخصا يواتي رغباتها وأمانيها..

رأت كيف يحن على نسيم! يهديها الحلوى، يلعب معها ، يعانقها، يبكي لأجلها إذا سقطت وجرحت ركبتها، يجثو على ركبتيه أمامها ويطهرها لها، يحملها فوق ظهره ويركض بها، يغضب ويثور لأجلها، يقف أمام والده إذا لزم الأمر ويعارض الأوامر إذا ما تعلق الأمر بنسيم.

رأت فيه الرجل الحنون الذي تحتاجه، والذي رسمت له صورا عديدة في عالمها الافتراضي وتعايشت معها، رأت فيه الأخ المسؤول القوي، السند الذي لا يميل ولا يخذل.

فريد بكل تفاصيله هو رجل أمنياتها..

تعلقت به منذ أن دخلت هذا المنزل ولم ترَ بعينيها رجلا يشبهه، ظنت أن مسألة ارتباطهما أمرًا مقضيًا بما أنهما يعيشان سويًا، ومنذ أن فطنت إلى حيل الفتيات ومكرهن وهي تحاول لفت انتباهه بكل الطرق، ولكنه كلما ظنت أنها تملكته فوجئت بأنها لم تحصل سوى على سراب ، وهم عانت منه وستظل تعاني أبدًا ما حيت.

تجاهلت أمورا عدة لأجله، تجاوزت خطوطها الحمراء، تخطت جرح كبريائها في كل مرة كان يصدها فيها بلباقة أو بفظاظة، ولكنها الآن قد استهلكت كل طاقتها واستنزفت كل قوتها من أجل استمالته دون جدوى. لذا فعليها أن تعمل بتلك النصيحة التي قدمها لها ، لن تقلل من شأنها مجددا لأجله أو لأجل أي شخص، وعليها أن تعرف قدرها جيدا وتتعامل على أساسه.

ستتجاهل تلك الحرقة في عمق قلبها، ستنزعه من داخلها وتنزع معه كل الأمنيات التي كان هو بطلها، ستكتفي بنفسها وتحبها وتقدسها، ستصبح النسخة التي تجعل الجميع يندهشون من قوتها ورباطة جأشها.

هي تثق بذلك، تثق بنفسها، تثق بعقلها وتعرف أن قوة ورجاحة العقل تقاس بمدى قدرته على تقبل الحقيقة التي لا تتوافق مع قناعاته، لذا فعليها أن تتقبل حقيقة أن فريد لا يحبها.

الأمر بسيط جدا..

ـ فريد… مش…. بيحبك ….. يا چيلان !!

قالتها وهي تحاول تنظيم أنفاسها سعيًا منها إلى تفريغ الشحنات السلبية بداخلها، وتدريب نفسها وعقلها وقلبها على قبول تلك الحقيقة والتعامل معها بسهولة كشرب الماء..

وكررت الأمر مجددا وهي تظن أنها ستنجح، أخذت نفسًا عميقًا وزفرته على مهل وهي تردد:

ـ فريد.. مش.. بيحبك.. يا چيلان.. ولا بيحب حد !!

فريد مش ليا.. فريد مش هو محور الكون.. فريد راجل زي أي راجل .

تنهدت مطولا وهي تفتح عينيها بقوة لكي توقف تلك الدموع التي أعيتها، ثم نهضت من فراشها ووقفت أمام المرآة، عقصت شعرها في عقدة مدورة، ثم مسحت وجهها بيديها وهي تنظر لعينيها اللتين تحول لونهما لدرجة أكثر قتامة ممزوجة بالحُمرة، وأخذت تردد أمام المرآة :

ـ فريد مش بيحبني، عادي! أكيد ده مش عيب فيا، وأكيد هو الخسران ! أيوة هو الخسران لأن أنا أتحب !!

ابتسمت، اتسعت ابتسامتها برضا، أكثر، حتى تحولت إلى ضحكات، قهقهات مدوية، يليها بكاء عارم ارتد صوته في الأرجاء.

ـ بس أنا مش عاوزة أتحب من حد غيرُه !!

قالتها وهي تتهاوى أرضًا ويدها تنزلق ببطء من حافة طاولة الزينة حتى سقطت على فخذيها وأخذت تنتحب بانهيار وضعف وقد خارت قواها تمامًا وسقطت كل الأقنعة التي كانت تختبئ خلفها قبل لحظات وتحطمت معها قواها المزعومة وبقت خيبة الأمل في النهاية تحيط بها من كل جانب.

****

كانت تستلقي بين ذراعيه، يضمها إليه ويغمض عينيه باسترخاء، بينما هي ترمق عقارب الساعة المعلقة أمامها على الجدار بشرود، ودقات قلبها تتزامن مع دقات عقارب الساعة، مخلفةً وراءها ضجيجًا صامتًا يعبث بكيانها.

ـ شريف …

قالتها وهي تطلب انتباهه فهمهم متسائلا وهو يغمض عينيه فقالت:

ـ إمتى هتيجي تخطبني ؟!

لم تحصل منه على رد، ولكنها تفاجأت ببوادر ضحكة مكتومة ثم انفجرت وصارت قهقهة عالية، فنظرت إليه بتعجب واستنكار فقال:

ـ أخطبك ؟!

فهمت ما يقصده عندما جالت عيناه على جسدها العاري بين ذراعيه، في إشارة منه لحماقة سؤالها، فزفرت بسخط وقالت:

ـ أوكي فاهمة، بس دي خطوة ضرورية أكيد مش هنتجوز كده directly …

ـ نتجوز إيه يا بيبي ما احنا already متجوزين أهو .

تنهدت بنفاذ صبر ، واستدارت تستلقي على جانبها لتواجهه وهي تقول باستهجان:

ـ شريف بلاش أسلوبك ده إنت فاهمني كويس، إمتا هتكلم مامي ؟

زفر بضجر وهو يسلت يده من أسفل ظهرها، ثم جلس فوق السرير ومد يده ليلتقط سيجارة من على الكومود بجواره، ثم قال :

ـ أنا مش شايف يا چوليا إن في داعي اني أكلم عمتو، إحنا مع بعض أهو ومبسوطين، لزمتها إيه بقا ؟

نظرت إليه بتعجب، واعتدلت لتجلس بجواره وهي تتساءل بضيق وغضب طفا على سطح زرقة البحر بعينيها وقالت:

ـ يعني إيه لزمتها إيه ؟! في إيه يا شريف مالك ؟

ـ مالك إنتِ يا چوليا بقيتي زنانة ليه ؟! هو أنا كنت قولتلك من الأول نتجوز ولا انتي اللي طلبتي؟

ارتفع حاجبيها بصدمة وهي تقول بغير تصديق:

ـ يعني إيه أنا اللي طلبت ؟! هو إنت كنت منتظر إننا نقضيها كده وخلاص ؟! ده أنا بحسب إنك مبسوط بجوازنا أكتر مني !!

نفث دخان السيجارة بوجهها وهو يقول بلهجة ساخرة:

ـ بصراحة لأ مش مبسوط ، إنتِ عارفة إني مش بحب أكون مقيد، بس عملتلك اللي انتي عاوزاه عشان متزعليش، لزمته إيه بقا النكد والكلام اللي ملوش لزمه ده؟

انهالت الدموع من عينيها بوفرة وهي تنظر إليه بذهول، تراقب عينيه وهو يتحدث، وعينيه تبوح بصدق بأنه مَل فعلا، ويخبرها بها بكل سخف ودناءة:

ـ بصراحة يا چوليا أنا زهقت ، أنا بقول كدا كفاية ونعتبر إنها كانت Just a fun moment وخلاص خلصت .

رمقته بذهول، بصدمة حولتها من قطة وديعة لوحش كاسر له أنياب، ورددت تحاول استيعاب ما قاله:

ـ Just a fun moment ؟! علاقتنا بالنسبة ليك كانت مجرد تسلية ولحظات حلوة وخلاص ؟!

ـ أعتقد لو انتي كمان حسبتيها بالطريقة دي يبقا محدش فينا خسران يا چوچي.

هزت رأسها بموافقة واهية، ثم خرج صوتها هامسا، منخفضا، هادئا لدرجة لم تتوقع أن يصله:

ـ أنا حامل يا شريف !

كان صوتها بعيدا لكن بطريقة ما وصله، لأن رأسه تحرك في اتجاهها، واستطاعت أن ترى عدم التصديق على وجهه، وكأنه ظن ما قالته وهما من صنع خياله.

ـ بتقولي إيه ؟!

كررت ما قالته وهي تتجرع مرارة الخذلان وتمسكت بثبات في مكانها وهي ترقبه يدنو منها، ثم قبض على ذراعها بغيظ وهو يقول:

ـ بتقولي إيه ؟! بتقولي إيـــه انتِ ؟!

ـ بقولك حامـ…

ـ حامل إيه وزفت إيه انتي هتستعبطي؟! حامل إزاي وانتِ عارفة إن الورقة اللي بينا مجرد ورقة بنضحك بيها على نفسنا وخلاص! ولا انتِ كنتي مفكرة اني بحبك وهتجوزك بجد !!

سقطت دمعاتها بضعف وغير تصديق ثم قالت:

ـ يعني إيه ؟! يعني انت مش بتحبني؟ كل السنين دي ومش بتحبني ؟ كل السنين دي بتوهمني إنك بتحبني؟ شريف إحنا بقالنا مع بعض عشر سنين!! أنا عمري ما حبيت غيرك وانت عارف.

ـ بس أنا بقا حبيت !

انفلت لسانه بتلك الكلمات، هو لم يتعمد قولها ولكنه تفاجأ بنفسه كما تفاجأت هي الآن وأكثر !!

اندفعت عيناها نحوه بقوة، تطالعه باستغراب واستنكار، وتغضن جبينها بتعجب وتساءلت:

ـ حبيت ؟! حبيت غيري ؟!

نهض من السرير واقفًا وهو يضع ما تبقى من سيجارته بالمطفأة، ووقف أمام الخزانة ينتقي ثيابا ليرتديها، فنهضت واندفعت ساقيها نحوه وهي تكرر:

ـ بسألك يا شريف ، حبيت غيري؟

نظر إليها ليواجهها وقال بإقرار :

ـ أيوة يا چوليا حبيت غيرك !

اللعنة!! إنه يقولها بكل صراحة .. لا بل بكل وقاحة ، يخبرها أنه يعشق غيرها الآن ! إذا وأين هي ؟ ما محلها من الإعراب في حياته ؟

ـ طب وأنا ؟

زفر بضيق وملل سافر، ثم زم شفتيه باستياء وأسف مصطنع وهو يقول:

ـ انتِ بنت عمتي وصاحبتي، اخلصي من الحمل ده وانسي كل حاجة حصلت وخلينا نرجع صحاب زي الأول !

وأحاط خدها بكفه وهو يقول مبتسما :

ـ ممكن ؟

نزعت كفه من على خدها وبنفس اليد وفي نفس اللحظة صفعته بقوة وغل مكبوتين وهي تقول بقسوة:

ـ إنت أكبر حيوان أنا شُفته في حياتي !

تلمس مكان صفعتها بغضب عاصف، وصرّ على أسنانه بغيظ وتمتم بهدوء ينذر بالخطر:

ـ إمشي من قدامي يا چوليا، حالااااا .

لم تعارض، بالفعل انسحبت من مواجهته والتقطت ثيابها وحقيبتها ثم غادرت الغرفة، انتقلت إلى الغرفة المجاورة وألقت بأغراضها على الفراش بإهمال ثم سقطت بجوارهم تبكي بكاءً حارًا، تذرف دموعًا خرساء مزقت أحشاءها وكوت قلبها.

وبعد أن تمالكت نفسها نهضت لكي تأخذ حماما وترتدي ثيابها ثم تغادر ذلك البيت الملعون ، لا تعرف إن كانت ستعود إليه مجددا أو لا، ولكن ما تعرفه جيدا أنها حتى لو عادت فلن تعود إليه كما خرجت منه أبدا.

***

كانت نغم تجلس على الفراش الوثير بمرتبته الإسفنجية المريحة التي تناقض كومة الحجر التي كانت تعتليها كل ليلة ، شاردة .

ذلك الخبر الذي ألقاه قبل ساعات قبل أن يغادر قلب الموازين، أفسد فرحتها بوجودها في منزل كهذا، أفسد فرحتها بامتلاكها لغرفة فائقة الروعة كهذه، أفقدها تركيزها وانتباهها وكان على وشك أن يفقدها وعيها من جديد.

سيعود لمنزله !! بعد غياب من الواضح أنه دام لسنوات طويلة ، وهذا ما استطاعت استنتاجه بعد تلك الزغرودة الطويلة التي انطلق بها لسان زينب الخادمة، وتلك الفرحة والحماس الذي ظهر على أخيه، والتعجب الذي ارتسم على وجه ذاك العُقاب الأصلع المدعو سالم ، والدهشة التي استعارت ملامح تلك الطويلة زوجته.

هذه التعابير المختلفة لا تدل سوى على أنه كان يعيش بمنفى وحيدا منذ سنوات طويلة ، ولسبب جعل تصديق الخبر أمرا صعبا ، ترى ما هو ؟! وترى لمَ عاد الآن ؟ وفي نفس اليوم الذي دخلت هي فيه إلى الڤيلا ؟ هل بمحض الصدفة ؟ أم أنه قرارٌ مدروس مسبقا ؟ هل عاد لأجلها ؟

ـ يا خبر اسوووووودددد

قالتها وهي تلطم وجنتيها بانهيار عندما خطر على بالها ذلك الخاطر .

أيعقل أنه عاد لأجلها فعلا ؟! هذا يعني أنه يعرفها ؟! وهذا يعني أيضا أن تلك الباروكة الشقراء.. أقصد الحمقاء.. لم تجدِ نفعا على الإطلاق !

وكل مساحيق الزينة التي لطخت بها وجهها ربما كانت مغشوشة لذلك لم تحقق المطلوب منها .

ويعني أيضا أنه شخص يمتلك مكرًا ودهاءً لا مثيل لهما، ودهاءه مقابل غباءها وسذاجتها سيصنعان كارثة حقيقية!

خللت شعرها بيديها بيأس وهي تردد:

ـ أعمل إيه دلوقتي بس ؟! لو طلع عارفني هيكون مصيري ايه ؟!

انفرج الباب فجأة فانكمشت حول نفسها بخوف، لتجدها زينب فتنهدت ببطء وهي تحاول تهدئة روعها ، فابتسمت زينب وهي تقول:

ـ خبطت مرتين ولما مردتيش فكرتك نمتي !

تنحنحت نغم ثم قالت وهي تحاول مواراة خوفها:

ـ معلش كنت سرحانة ومسمعتش .

أومأت زينب بتفهم، ثم وضعت ما بيدها فوق الفراش وهي تشير إليه قائلة:

ـ جبتلك بيچامة من بيچامات نسيم هانم، هتكون واسعة عليكي شويه بس مش مشكلة قضي فيها الليلة دي بس على ما نروح بكرة أنا وانتي نشتريلك كل اللي هتحتاجيه.

لم تفلح في إخفاء ابتسامتها وقالت بامتنان صادق:

ـ شكرا يا زينب هانم.

ابتسمت زينب ابتسامة أقرب للضحك وقالت:

ـ أنا مش هانم يا بنتي، الهوانم هنا الست نادية وبناتها ونسيم، إنما أنا تقوليلي زينب وبس..

رفعت نغم حاجبيها بتعجب وقالت باستنكار:

ـ لأ طبعا مينفعش، زينب بس إزاي ؟! طيب ينفع أقوللك يا خالتي زينب ؟ أصل أنا حبيتك أوي .

ضحكت زينب بألفة حقيقية وأومأت وهي تقول:

ـ ماشي خالتي خالتي، بس قدام أي حد منهم يستحسن تكلميني برسمية، النظام هنا كدة .

ـ أكلمك برسمية إزاي؟

ـ يعني تقوليلي يا زينب وبس ! خالتي دي بيني وبينك كده .

ابتسمت نغم وقد بدأت الراحة بالتسلل إليها قليلا ثم أومأت بتأكيد وهي تقول بفضول نهم:

ـ طب بقولك إيه ، انتي قولتي نادية هانم وبناتها ونسيم .. معنى كده إن نسيم مش بنتها هي كمان ؟

زمت زينب شفتيها باستياء وقالت:

ـ هنبتديها من أولها كده فضول ونتدخل في اللي ملناش فيه؟ خلي بالك هنا ممنوع حد يتدخل في حاجة متخصوش، الباشا زعله وحش وإحنا مش قده.

ارتبكت عند ذكر اسمه وتمتمت بضيق:

ـ لأ وعلى إيه ، ربنا يجعل كلامنا خفيف عليه.

ـ طيب يلا غيري هدومك ونامي، الساعة داخلة على ٢ ، ولو احتاجتي حاجة خبطي على اوضتي اللي جمبك دي .

تسابق لسانها لتسأل بفضول وتعجب في آنٍ واحد :

ـ إيه ده هو انتي أوضتك جنب أوض الضيوف ليه هو انتي مش خدامة !!

وتداركت ما قالته سريعا فأغمضت عين واحدة وهي تحك أنفها بتوتر وقالت:

ـ معلش أنا مش قصدي.

قابلت زينب توترها بابتسامة مصحوبة بضحكة خفيفة وهي تقول:

ـ ده انتِ شكلك حكاية، على العموم أنا مش خدامة، أنا هنا Housekeeper

ـ ها ؟

ـ أقصد إني المسؤولة عن البيت وشؤون البيت والخدامات والعمال الموجودين كلهم .

ـ مممم.. رئيسة الخدم يعني !!

لم تمنع زينب ضحكتها التي بعثت الراحة في نفس نغم وجعلتها تضحك بدورها، ثم تمتمت وقالت:

ـ حاجة زي كدة .. يلا غيري ونامي .. تصبحي على خير.

ـ طيب آخر سؤال والله..

زمت زينب شفتيها بضيق وانزعاج وهي تهمهم بتساؤل:

ـ ها ؟؟

ـ هو فريد .. أقصد فريد بيه بقاله كتير مش عايش هنا ولا إيه ؟ أصلك مقدرتيش تمسكي نفسك وزغرطتي لما سمعتيه بيقول راجع بكرة !

عادت الابتسامة لوجه زينب وتمتمت:

ـ أيوة، بقالُه عشر سنين عايش في بيت لوحده.

شردت نغم بحديثها وهي تردد:

ـ وجاي يرجع الڤيلا على حظ قرمط !

ـ إيه ؟!

انتبهت نغم لما قالته وابتسمت بحرج وهي تقول:

ـ أبدا.. عالعموم متشكرة صدعتك معايا .

ـ يلا تصبحي على خير.

ـ وانتِ من أهله يا خالتي.

هزت زينب رأسها باستسلام لتلك الفتاة غريبة الأطوار التي حطت بقدميها منزلهم وخرجت وأغلقت الباب خلفها، فأمسكت نغم بالمنامة التي أحضرتها لها زينب وأخذت تتفحصها بانبهار وهي تردد:

ـ نسيم دي شكلها طيبة ، يارب بس متبقاش حيزبونة زي جوز الملونين التانيين .

وأسرعت بتبديل تلك الملاابس البالية التي أعارتها الممرضة إياها قبل خروجها من المشفى، وارتدت منامة نسيم التي تحمل نقوشات على شكل قلوب وردية اللون بأرضية بيضاء، ووقفت أمام المرآة وأخذت تطالع نفسها بحماس وابتسامتها تكاد تتخطى أذناها وهي تمدح طلتها الحالمة قائلةً:

ـ حلاوتك يا أنون .

وفجأة تهدلت ملامحها، وأخذت تحدق بنفسها بأسى ، ثم تنهدت باشتياق لخالتها التي كانت تناديها بذلك اللقب دومًا ، ثم سارت نحو الفراش وألقت بنفسها فوقه، ضمت ركبتيها إلى صدرها وتكومت حول نفسها بحنين وهي تسترجع لمسات خالتها الحنونة، وتهويدتها التي كانت تغنيها لها أحيانا عندما كانت تحايلها كطفلة يستعصي عليها النوم، وأخذت ترددها وهي تتخيل نفسها بين أحضانها، ويدها تمسح على رأسها برفق، وأنفاسها تصنع هالة من الدفء والأمان حولها، إلى أن غطت في النوم .


google-playkhamsatmostaqltradent