رواية محسنين الغرام الفصل الثاني عشر 12 - بقلم نعمة حسن
ـ ١٢ ـ ~ الراعي والذئاب ~
ــــــــــــــــــــ
” لا تنسَ أن راعي قطيع الخراف يحميهم من الذئاب ويطعمهم، ثم إذا حان وقت الحاجة يذبحهم دون أن يرف له جفن ، لذا فعليك أن تحدد موقعك من البداية، إمّا أن تكون راعيًا تتحكم في مصير قطيعك، أو ذئبًا تتحين الفرصة للفتك بمن هم أضعف منك، أو خروفًا يتم تسمينه ليصير كبش فداء في النهاية ”
دوّن فريد هذه الكلمات على مدونته الإلكترونية ثم أغلق حاسوبه ووضعه إلى جواره على الفراش ، ثم نهض لكي يستعد ويذهب إلى الشركة ، فلقد انقضت إجازته الأسبوعية سريعًا وعليه أن يستأنف عمله بهمة ونشاط.
نهض ورتب فراشه جيدا، ثم قام بتعقيمه بواسطة آلة التنظيف بالبخار، ثم دخل إلى الحمام، خلع ملابس نومه وقام بطيّها قبل أن يضعها بصندوق الملابس المتسخة، ثم دخل كابينة الاستحمام ووقف أسفل مرذاذ الماء ، وأسقط رأسه للخلف وهو يعقد ذراعيه أمام صدره وكفيه المتقاطعان يرتكزان على عضديه، ثم أغمض عينيه باسترخاء وهو يشعر بقطرات المياه الساخنة تتسلل إلى عقله وتختلط بدماءه، مما جعله يشعر بذلك الضغط الذي يعانيه منذ فترة وقد بدأ يهدأ تدريجيا ، فرفع درجة حرارة الماء وهو لايزال على نفس الحالة ، فهو بحاجة ماسة إلى السيطرة على تلك الضغوط التي تعبث بحياته وتستولي على كامل اهتمامه وتركيزه.
رن منبهه الذاتي بعد خمس دقائق فأوصد المياه ، ثم التقط مئزره وارتداه وخرج ليتوجه نحو المرآه، وقف أمامها وسحب مجفف الشعر من حامله المخصص ثم بدأ بتجفيف شعره الذي قد بدأ يطول قليلا عن المعتاد ، فترك المجفف والتقط ماكينة حلاقته اللاسلكية وبدأ بتقصير شعره ومن ثم حلق ما نما من لحيته، ثم أخذ يطالع مظهره النهائي بتقييم، وبعد أن منح نفسه عشر علامات كاملة قام بترتيب تلك الفوضى التي أحدثها وأعاد كل غرض إلى مكانه، ثم عاد ليأخذ حماما جديدا عِوضًا عن ذلك الذي أفسده.
بعد قليل.. خرج من الحمام ودخل إلى غرفة ملابسه، والتقط حلةً رمادية اللون، ثم ارتداها ووقف أمام دُرج الساعات الخاصة به ، وانتقى ساعة ذات إطار دائري بمينا زرقاء ماركة آرماني ، ثم وقف أمام خِزانة عطوره الخاصة والتقط زجاجة من ماركة ديور سوفاچ ، نثر منها على جانبي عنقه، ثم على معصميه، وعلى مقدمة السترة، وأعادها حيث كانت، ثم أخذ ينظر إلى نفسه في تلك المرآة المطولة بزاوية الغرفة وعلى وجهه ترتسم علامات الرضا .
غادر الغرفة، التقط أغراضه وحقيبة حاسوبه ، ثم خرج بعد أن أطفأ الضوء ، ووقف أخيرًا يحتسي قهوته قبل المغادرة وهو يجري اتصالا بالمحامي.
ـ صباح الخير يا أستاذ نادر.
استقبل صوته على الجهة الأخرى وهو يقول متحمسًا:
ـ صباح النور يا فريد بيه، كنت هكلمك حالا.
ـ قوللي إيه الأخبار؟
ـ الأخبار تمام وزي الفل، أنا في طريقي لقسم الشرطة، هخلص شوية إجراءات ونخرج أنا وعمر بيه إن شاء الله.
ـ تمام.. على خير إن شاء الله.
ـ إن شاء الله سعادتك، وأول ما نخرج هخليه يكلمك.
ـ طيب والبنت ؟
تساءل فريد بعد تردد ، ليجيبه الآخر بنبرة الواثق :
ـ هوصل عمر بيه وهرجع لها المستشفى أخدها ونروح على الڤيلا، متقلقش أنا وسالم بيه مظبطين كل حاجه.
أومأ فريد بهدوء وهو يردد:
ـ تمام يا متر، ربنا معاك.
أنهى فريد الاتصال تزامنًا مع آخر رشفة من فنجان قهوته، ثم غادر المنزل واستقل سيارته متجهًا نحو مقر الشركة.
***
استيقظ حسن من نومه على إثر اهتزاز الهاتف أسفل رأسه ، وأخذ يحدق به بنصف عين ليتبين هوية المتصل فإذا به يجده رقمًا غير مسجلا فأجاب الاتصال فورا وقال :
ـ ألو.. مين معايا ؟
لم يصله الرد ، فكرر سؤاله بقلق ولهفة :
ـ ألو ؟؟ مين انتَ ولا انتِ ؟؟
استمع إلى صوت أنفاس متهدجة ومن بعدها انتهت المكالمة فأخذ يتطلع إلى الهاتف باستغراب وهو يقول:
ـ ده مين اللي بيستظرف على الصبح؟
ثم وكأنه برق بخياله أملًا جديدًا، وراح يحدق بالهاتف بغير تصديق وهو يردد :
ـ معقولة تكون نغم؟؟
ارتسمت الابتسامة على شفتيه بغتةً، وقام بالاتصال بنفس الرقم من جديد وقال:
ـ نغم.. انتِ نغم مش كده؟
استمع لنفس الأنفاس مجددا دون إجابة فقال والأمل يتراقص بقلبه :
ـ أنا عارف إنك نغم، وعارف إنك خايفة مني عشان كده مرجعتيش بس أنا..
تنهد ثم أردف بجدية :
ـ أنا بحبك يا غبية وعمري ما هأذيكي صدقيني ، انتِ بس ارجعي وأنا أقسم بالله ما هضايقك تاني ولا هاجي يَمك ، بس عشان خاطري ارجعي .
انتهى الاتصال مجددا فجأة ، فكرر الاتصال ولكن وصلته تلك الرسالة المسجلة التي سمعها والتي كان مفادها أن الهاتف مغلق ، مما جعله يدور في أرجاء الغرفة وهو يفكر بتيه وشرود وأخذ يحدث نفسه قائلا:
ـ بتلاعبيني يا نغم؟ معلش.. الصبر جميل وأنا متأكد إنك هترجعي.
أجفل عندما اهتز الهاتف بيده مجددا فنظر إليه مسرعًا ولكنه وجده اتصالا من السيدة فيفي ، فأخذ يفكر بتردد قليلا ثم أجاب :
ـ ألو ؟؟
ـ صباح الخير يا حسن.
ـ صباح الخير يا مدام فيفي..
ـ ها.. ؟؟ هتوصل إمتا ؟
صمت قليلا يفكر، في الواقع هو غير متأكد من تلك الخطوة، صحيح أنه كان يفكر في العمل معها واستغلال عرضها المغري ولكنه لم يستطع تجاوز ما قالته عن نغم، وبالرغم من أنه لم يستطع الجزم بأن ما قالته حقيقيا مئة بالمئة، ولكنه كذلك لم يستطع الجزم بأنه كذب وادعاء. هو الآن مصاب بحالة متقدمة من التشوش والتخبط وليس واثقًا من أي قرار سيتخذه .
ـ أنا.. بصراحه يا مدام فيفي أنا كنت محتاج كام يوم أفكر في الموضوع تاني ، وأخد وأدي مع نفسي كده لأن دماغي مشغولة في كام حوار ومش عارف أرسى على بر دلوقتي.
صمتت فيفي للحظات، ثم برز صوتها المغناج يقول مدعيةً التفهم :
ـ براحتك يا أبو علي ، أنا مش هضغط عليك . بس في أي وقت تحب تشتغل معايا أنا موجودة في مكاني ورقمي معاك.
تنهد براحة لأنه استطاع التحرر من قبضتها، ثم شكرها وأنهى الاتصال، والتقط علبة سجائره وخرج من البيت، جلس على عتبة باب الدار وأشعل سيجارة ثم أخذ ينفث دخانها وهو يفكر، هل نغم هي من اتصلت قبل قليل؟ بالتأكيد هي، تلك التنهيدات المهمومة لن يخطئها أبدًا، هل اشتاقت إليه؟ بالطبع وإلا فلمَ اتصلت؟
ـ ما هي ممكن متصلة على أساس التليفون مع أمي، هي يعني هتعرف منين إن تليفونها معايا ! بلاش توهم نفسك يا حسن.
قالها حسن وهو يلقي عقب السيجارة أرضًا، ثم دعسه بنعليه، ومن ثم أشعل واحدةً غيرها وهو يتمتم :
ـ طب وبعدين يا حسن، هتفضل حاطط إيدك على خدك كده زي الولايا ومستنيها ترجع؟ ماهي طول ما هي خايفة منك مش هترجع! وبعدين مش يمكن كلام فيفي دي صح وتكون شافت لها شوفه من ساعتها ؟
نفض رأسه يحاول نفي تلك الشكوك التي تساوره وهو يقول:
ـ ازاي بس تفكر بالطريقة دي، إيشحال ما كنت انت اللي مربيها وعارف هي على إيه، طيب وفيفي دي هتكدب ليه؟ إيه مصلحتها في كده؟
أسند رأسه على يديه بحيرة وشتات، قبل يوم فقط كان مقتنعًا تمام الإقتناع بما قالته فيفي حتى أنه كان سيقبل بالعمل لديها، أما الآن.. وبعد سماع تلك التنهيدات من حبيبته الهاربة فهو لم يعد متأكدا من شيء، تناسى ما قالته فيفي وتناسى كل الغضب الذي كان يشعر به، وما تبقى في النهاية هو عشقه الذي لا ينتهي لنغم، ثم تنهد وهو يغمغم بتخبط:
ـ أنا مبقيتش عارف حاجة، كل حاجة بقت مش مفهومة، المهم دلوقتي إن نغم ترجع والباقي مقدور عليه .
دخل المنزل مجددا، ليجد والدته تجلس على الأرض بعد أن أنهت صلاتها، توقف أمامها للحظات، ثم استسلم وتوجه نحوها، مال على رأسها يقبله ثم قال:
ـ ادعيلي ياما، وحيات حبيبك النبي ادعيلي.
أشاحت بوجهها بعيدًا عنه ولم يحصل منها على إجابة، فأدرك أنها لازالت غاضبة منه بعد ما قاله بالأمس، ولكنه كالعادة لا يجيد الاعتذار، وهي تعرف ذلك لذا فهي لا تنتظر منه اعتذارا، تعرفه صلب الطبع، صعب المراس، قلبه ميت منذ زمن، ولولا وجود نغم بداخله لكان قد تعفن واندثر أثره.
تركها حسن ودخل غرفته وأوصد الباب خلفه، فاستدارت تنظر إلى الباب الموصد بعينين مشفقتين وأخذت تردد بخفوت:
ـ ربنا يهديك ويجبر بخاطرك يا حسن يا ابن عيشة ويبعد عنك شياطين الإنس والجن.
ثم تنهدت واستطردت:
ـ ويحميكي يا نغم ويردك لحضني بالسلامة.
***
كانت نادية تقف أمام غرفة عمر حيث تقوم الخادمة المسؤولة عن التنظيف بترتيبها وتجهيزها لاستقبال عمر اليوم، ثم ابتسمت برضا وراحة، وذهبت إلى حيث غرفة چيلان.
طرقت الباب فسمعت صوت چيلان من الداخل تدعو الطارق للدخول، ففتحت الباب لتجدها جالسةً أمام طاولة زينتها وهي تضع قرطيها وعلى ما يبدو أنها قد استعدت للمغادرة.
ـ صباح الخير يا چيچي..
ـ صباح النور يا مامي..
ـ إيه ده انتِ خارجة النهارده ؟ مش هتستني تشوفي عمر ؟
انحنت چيلان ترتدي حذائها وهي تقول:
ـ لأ عندي شغل كتير النهارده ، أشوفه لما أرجع.
تجهم وجه نادية باستياء، هي تعرف ابنتها ذات الرأس الغبي، حتى لو تصارع الموت ستذهب إلى العمل، ليس لإخلاصها أو التزامها، ولكنها لا تفوت فرصة لرؤية السيد فريد أبدا . وتنهدت ثم قالت:
ـ اوكي بس أكيد الشغل مش أهم من اخوكي، الشغل يستنى .
كانت چيلان قد انتهت ووقفت تطالع هيئتها الساحرة أمام المرآة، وامتدت يدها تهندم خصلاتها الشقراء بعناية وهي تقول لوالدتها :
ـ دي مش أول مرة عمر يغيب عن البيت كام يوم يا مامي، كأنه كان مسافر في أي مكان ورجع.. لما أرجع هقعد معاه متقلقيش..
التقطت حقيبتها وحقيبة الحاسوب خاصتها، ثم تقدمت من أمها التي تقف بجوار الباب ، وطبعت قبلة على خدها ثم غادرت بصمت.. نزلت درجات السلم فاستوقفتها حركة غريبة بإحدى غرف الطابق الأرضي، والمخصصة لاستقبال الضيوف، فسألت مدبرة المنزل قائلةً:
ـ خير يا زينب؟ بتعملوا إيه كده!
فأجابتها زينب بصوتٍ وقور:
ـ الباشا أمرنا نفتح أوضة من اوض الضيوف ونجهزها علشان في ضيفة جاية النهارده.
تغضن جبينها بضجر وانصرفت بصمت، وما إن غادرت الڤيلا واستقلت سيارتها حتى أخذت تتمتم بضيق واستنكار:
ـ مبقاش غير الجرابيع ييجوا يعيشوا معانا في بيت واحد كمان، إنسان متسلط وأناني.
قامت بالاتصال بفريد ولكنه كالعادة لم يجب اتصالها من أول مرة، فكررت الاتصال وهي تحاول تنظيم أنفاسها الحانقة وتعد بداخلها من عشرة إلى واحد، وما إن استمعت إلى صوت فريد يجيبها حتى هتفت بضجر:
ـ فريد إنت موافق على اللي هيعمله أنكل سالم؟
لم تستمع سوى إلى صمت.. يعقبه زفرة مستاءة.. وبعد طول انتظار جاءها صوته الذي يشبه في بروده كرة ثلج وهو يقول:
ـ صباح الخير يا چيلان.
فقابلت هي بروده بغيظ أكبر وهتفت بحنق:
ـ مش خير، مش خير أبدا.. أنا بجد مش لاقيه داعي لوجود البنت دي في الڤيلا ! هي مش خلاص اتعالجت وبقت كويسة؟ لزمتها إيه بقا تيجي تعيش معانا في الڤيلا! هي حياتنا ناقصة لخبطة!
وسكتت وهي تسحب نفسا عميقا ليقابل انفعالها بنفس بروده السابق ويقول:
ـ البنت مش فاكرة أي حاجه فأكيد مش هنرميها في الشارع ونقولها خلاص شكرا كتر خيرك، ومتنسيش ان لولا هي تنازلت مكانش عمر خرج، تفتكري نرد لها الجميل ده إزاي؟ نسيبها في المستشفى مثلا لما يبان لها صحاب؟
رفعت حاجبيها المنمقين بغيظ من رده الذي لم يواتِ توقعاتها أبدا، وهتفت بضيق أكبر:
ـ واضح إنك مرحب بالفكرة جدا !
فأجابها بما أثار ضيقها وغضبها:
ـ جربي انتي كمان تكوني منصفة جايز وقتها ترحبي بالفكرة زيي.
وأنهى الاتصال لئلا يستسلم لكمية النقد اللاذع الذي يطوف فوق لسانه فيزعجها أكثر ، بينما هي أخذت تنظر للهاتف بيدها وهي تحاول استيعاب أنه أنهى الاتصال دون أن يخبرها، وأنه تعامل معها بتلك الفظاظة فعلا ، وصرت على أسنانها بغيظ وهي تتمتم:
ـ إنسان قليل الذوق..
ثم ضربت المقود بيدها بغضب جامح وتابعت :
ـ بكرهك يا فريد .
قطعت المسافة المتبقية في صمت إلى أن وصلت أمام مقر الشركة ، صفت السيارة وأخذت أغراضها ثم نزلت وصفقت باب السيارة بضيق، ودخلت تطرق الأرض بكعبي حذائها بانفعال واضح للجميع، مما جعل كل من يراها يتجنبها ويفسح لها المجال لكي لا تطاله عاصفتها منذ الصباح.
صعدت إلى الطابق الموجود به مكتب فريد وهي تنوي الدخول إليه ومراجعة تصرفه المفتقر للذوق والكياسة، وبينما هي تهم بفتح الباب اصطدمت بأيمن الذي كان يخرج من المكتب مما جعلها تهتف به بحدة وصوتٍ عال :
ـ انت مبتشوفش قدامك انت كمان؟
نظر إليها أيمن بضيق وتمتم متأسفًا ثم تنحى جانبًا لكي يسمح لها بالدخول، فدخلت وصفقت الباب بوجهه وخطت للداخل حتى وقفت أمام مكتب فريد ، ثم عقدت يديها أمام صدرها وقالت بانفعال:
ـ ممكن أعرف إيه اللي عملته ده؟ إزاي تقفل في وشي وأنا بكلمك؟
رفع فريد رأسه ببطء من على الورق المكدس أمامه، ثم طالعها بوجه يرتسم العبوس الكامل على ملامحه وقال:
ـ كام مرة قولتلك تستأذني قبل ما تدخلي وتبطلي الفوضى اللي انتِ فيها دي؟
تقدمت خطوة أخرى نحوه وقالت بصوت أشبه بالهزيمة:
ـ فريد إنت ليه بتعمل معايا كده ؟
هز رأسه مستفهمًا فأجابت بصوت مضطرب لأبعد حد:
ـ ليه مصمم تهزني وتفقدني ثقتي بنفسي ؟!
قطب حاجبيه متعجبًا قولها، ولم يعقب فاستطردت هي قائلةً:
ـ ليه مصمم تتجاهلني وتبينلي إني مش فارقة معاك؟
ثم تابعت وهي تجاهد لئلا تعبر دمعاتها إلى خدها فخرج صوتها مهزوزا :
ـ ليه مش قادر تحبني زي ما بحبك ؟!
تنهد هو الآخر بضيق، فأكثر ما يمقته هو الضعف، والاستسلام لتلك المشاعر السخيفة..
أيُ حب وأي هراء ؟!
الحب سمة الضعفاء التافهين الأغبياء..
هو لا يعترف بذلك الشيء الأحمق الذي يسمونه الحمقى حب أبدًا ..
كان يشعر بالضيق فعلا لأجلها، فبالرغم من أنه يكره والدتها ويكون مجبرًا على التعامل معها بلباقة لأنها زوجة والده ، إلا أنه يشعر بود حقيقي نحو چيلان وچوليا.. يكفي أنهما شقيقات شقيقه.. ويكفي أن شقيقته تكن لهما الحب وهما كذلك تحبانها بصدق.. ولأنه يشعر بالود نحوها فهو يكره أن يراها بتلك الحالة المثيرة للشفقة !
تنهد ووقف من مكانه ثم سار خطوات نحوها ووقف على بعد سنتيمترات وهو يمد يده لها بمنديلٍ ثم قال :
ـ ممكن تهدي ؟ اهدي وخلينا نتكلم بالعقل .
التقطت منه المنديل وأزالت آثار دموعها ثم نظرت إليه تتفحص ملامحه التي تعشقها عن قرب ، ثم اقتربت نحوه خطوة فكان هو أسرع منها حيث تراجع خطوتين للخلف وقال :
ـ چيلان من فضلك ..
اقتربت منه مجددا وهي تقول بضعف :
ـ فريد أرجوك حس بيا.. والله بحبك..
تراجع للخلف مجددا واشتعلت رأسه من فرط الهواجس والارتباك، فأشهر سبابته بوجهها محذرًا وهو يقول:
ـ چيلان انتِ عارفة كويس إن مينفعش تتعاملي معايا بالطريقة دي، من فضلك بلاش تجبريني إني أجرحك.
ثبتت بمكانها وتراخى كتفيها في هزيمة واضحة وتهاوت تلك الدمعات التي كانت تحبسها طويلا ، فتشبحت عيناها الزرقاوتين بالحمرة وهمست إليه بيأس :
ـ تجرحني؟ إنت مبتعملش حاجة غير إنك بتجرحني يا فريد، في كل مرة بتتعمد تتجاهلني وكأني هوا في حياتك إنت بتقتلني بالبطيء مش بس بتجرحني .
زم شفتيه بأسف لكونه يراها في تلك الحالة ، ثم أمسك بكتفيها وجعلها تنظر إليه بانتباه ، فتجددت آمالها ولكنها تحطمت فورًا على صخرة صراحته إذ قال6:
ـ اسمعيني يا چيلان، أنا محبش أبدًا أشوفك بالحالة دي ، انتِ مش قليلة عشان تتصرفي بالطريقة دي ، لا أنا ولا أي مخلوق في الدنيا يستاهل تكوني ضعيفة عشانه بالشكل ده..
ـ بس إنت تستاهل.. أنا بحبك يا فريد .. بحبك … إنت ليه مش قادر تفهمني!
ـ وأنا مش قادر أحبك !!
ألقاها بقوة فتعلقت عيناها به بذهول ، هي كانت تعرف تلك الحقيقة المرة ولكنها لم تتوقع أن يلقيها بوجهها بكل تلك الصراحة الجارحة .
نظر إليها بضيق يغلف نظراته وتابع بمرارة ظهرت جلية في صوته :
ـ ولا قادر أحب حد .
إذًا هناك أمل.. هو لا يكرهها بعينها ، مشكلته ليست معها بالتحديد ، بل مع عموم النساء، لذا قطعت صمتها وقالت :
ـ فريد أنا فاهمة مشكلتك..
ـ انتِ مش فاهمة حاجة يا چيلان، أنا نفسي مش فاهم حاجة.. كل اللي أنا فاهمُه إني معنديش أي مشاعر أديها لحد ، لا ليكي ولا لغيرك .
خبت بريق الأمل بعينيها وهذا الضجيج المجنون بقلبها انتقل إلى أطرافها التي بدأت في الارتجاف ، فتساءل فريد باهتمام :
ـ انتِ كويسة؟
هزت رأسها بتأكيد وهي تنسحب من تلك المواجهة التي لم تجنِ منها سوى الخيبة والانكسار ، وغادرت المكتب بصمت ينم عن كم الألم الذي يغزو داخلها .
كان فريد ينظر إلى أثرها بصمت وبداخله يشعر بالأسى حيالها ، ولكنه بالرغم من ذلك غير نادمًا لأنه أعطاها الحقيقة الكاملة والتي كان يتوقع أثرها ، فهو يعرف أن لحظات الوعي مؤلمة ، وربما لا يتقبلها العقل ، ولكنه يثق كذلك أنها الطريق الوحيد للتغيير .
زفر فريد وهو يسبل جفنيه ويده تمسح على شعره من مقدمة رأسه حتى ارتكزت خلف عنقه ، وأخذ نفسًا جديدًا وهو يشعر بالدماء تضخ عبر جسده بقوة، وشبح الوسواس يخترق أنفاسه ويحيط به من كل جانب ، فأسرع يتجه نحو مكتبه، فتح الدرج وأخرج زجاجة الكحول ونثر ثلاث أرباعها على يديه اللتين كانتا تستندان على ذراعيها وهو يحاول مواساتها .
و لولا ذلك الاتصال الذى ورده من المحامي لكان أفرغ الزجاجة كلها لكي يخرس تلك الوساوس في رأسه .
***
وقفت نسيم في شرفتها تنتظر مجيء عمر ، تحدق بخوف وقلق وهي تحصي اللحظات بنفاذ صبرز، فهي في أسوأ حالاتها منذ مغيبه ، وبالرغم من أنهما غير متفقان في كثير من الأحيان ولكنها تطمئن لوجوده بجوارها ، تعرف أن هناك ولو شخصًا واحدًا عليها أن تثق به ثقة عمياء في هذا المنزل.
انتبهت إلى رنين هاتفها الموضوع على طاولة الشرفة، وكان رقمًا مجهولا، أخذت تحدق به باستغراب، ثم أجابت:
ـ ألو ؟
استمعت لتنهيدة حارة أعقبها صوتٍ عميق يقول:
ـ وحشتيني يا نسيم.
ـ إنت تاني ؟
ـ تاني وتالت ومليون، ولو بلكتي الرقم ده هكلمك من رقم تاني، ولو غيرتي رقمك هوصلك بردو.. صدقيني صعب تهربي مني!
تراقص قلبها بداخلها بخوف وقلق، هي ليس من عادتها أن تتعاطى مع أي شخص، خاصة ً إذا كانت لا تعرفه، ولكن الفضول اللعين يقودها لمحاولة معرفة من هذا المعجب الخفي الذي يثق بقدراته كثيرا، وبطريقة أثارت حفيظتها.
ـ اسمع يا سخيف انت، بلاش توقع نفسك في مشاكل إنت مش قدها أنا بقولك أهو.
استمعت إلى ضحكاته الرنانة ، على ما يبدو أنه يسخر منها ومما قالته، ثم قال بنفس هدوءه وثقته المقيتة :
ـ وأنا عندي استعداد أوقع نفسي في مليون مشكلة عشانك، الكلام ده من قلبي على فكرة.
تعثرت نبضات قلبها، وشعرت بضجة تصدح في صدرها، فأنهت الاتصال سريعا وقامت بحظر الرقم مجددا، لتقع عيناها بالصدفة على تاريخ اليوم !!
إنه يوم ميلادها !
لا.. يوم الحكم عليها بالإعدام ..
يوم موتها، يوم معاناتها، يوم مأساتها، أي مسمى غير أنه يوم ميلادها..
فهي فقدت كل شيء يمت للحياة بصاة في مثل هذا اليوم قبل ثماني سنوات..
تهاوت الدمعات من عينيها وهي تستحضر تلك الذكرى المحفورة بقلبها للأبد ، وشعرت بقلبها يرتطم بصدرها بقوة مخلفًا وراءه فوضى عارمة .
انتزعها من شرودها بوق سيارة المحامي نادر الذي رافق عمر من قسم الشرطة إلى البيت .
فركضت إلى الحمام لكي تغسل وجهها وتستعد للقاء شقيقها، وقفت أمام المرآة تطالع هيئتها الباكية وفجأة كأن المرآة من أمامها قد تحولت إلى مرآة سحرية ، جسدت لها ذلك المشهد الذي عاشته قبل ثمان سنوات بحرفية ودقة وجعلتها تعيشه وكأنه حاضرًا مأساويًا..
~ استرجاع زمني ~
وقفت نسيم في الشرفة تراقب سيارة والدها التي تغادر الڤيلا في طريقها إلى العزبة، وما إن غادرت السيارة حتى التقطت هاتفها سريعًا وقامت بإرسال رسالة إلى حازم وأخبرته أن والدها قد غادر وأنها تنتظره على أحر من الجمر .
حازم ذلك الشاب الذي كان يعمل أخصائيًا نفسيًا بدار الأيتام التي أودعها بها والدها وهي طفلة في الخامسة عشرة من عمرها ، حينها كان شابًا في الثامنة والعشرين من عمره، اهتم بحالتها حيث كانت تعاني من الرهاب وتقرب منها كثيرا، أحاطها برعايته وحنانه، وشعرت هي بالطمأنينة والألفة في وجوده ، فكانت تلجأ إليه في كل أمورها حتى أصبح بالنسبة لها أقرب إليها من نفسها ، استعاضت به عن حنان الأب الذي لم تشعر به يومًا ، وعن حنان أخويها الذي حُرمت منه بدون رغبتها ولا رغبتهما ، ودارت الأيام وانقضت سنواتها الثمانية في الدار وقد أصبح حازم بالنسبة لها الرجل الحقيقي ، بكل ما تحمله كلمة رجل من معنى ، حيث الأمان ، السند ، الطمأنينة ، و الاحتواء.
عشقته كفتاة مراهقة طائشة بمشاعر متمردة ، وعشقته كأنثى بقلب متوهج متأجج الأحاسيس ، وذابت به كامرأة مكتملة النضج تعشق وتنغمس في العشق بكامل جوارحها وتغوص فيه حتى أخمص قدميها .
وحتى بعد أن غادرت الدار وهي في عمر الثالثة والعشرين ظلت على اتصال به ، مر بعدها عامين ولم تيأس من محاولاتها للوصول إليه .
كانت هي الطرف الأكثر جرأة وإقدامًا ، أخبرته أنها متيمة به ، وفي المقابل لم ينكر مشاعره لها ، أخبرها أنه يعشقها منذ اللحظة الأولى التي رآها بها، وعلى مدار الثمان سنوات التي قضتهم في الدار كان يرغب في مصارحتها بمشاعره ولكن صغر سنها، وفارق العمر بينهما هو ما منعه.
أخبرته أنها لن تكون لرجل غيره، وأخبرها أنه لن يسمح لامرأة سواها أن تحمل اسمه ولا أطفاله ، سيتحدى كل الظروف والمعيقات من أجلها ، سيتجاوز كل صعب وكل مستحيل، سيتجاوز حتى سالم مرسال نفسه .
تقدم لخطبتها ، ولكن والدها رفضه بداعي فارق السن بينهما، ولأنه لا يليق بمستواها المرموق ولا باسم عائلتها ذائعة الصيت، ولكنه لم ييأس فتقدم لطلب يدها مرات عدة ، حتى أنه تواصل مع فريد الذي حاول بدوره إقناع والده ولكنه فشل.
فوجدا أخيرا أن الحل الأمثل أن يتزوجا ويضعانه أمام الأمر الواقع، واتفقا على أن يعقدا قرانهما في اليوم الموافق لعيد ميلادها الخامس والعشرين ، سيكون زواجهما هو هدية عيد ميلادها الأجمل على الإطلاق، ستبدأ سنة جديدة من عمرها وهي برفقة شريك حياتها الذي اختارته بقلبها وعقلها وكل جوارحها.
ستهرب من قبضة السجان سالم مرسال ولن تسمح له أن يسلب منها شبابها كما سلب منها طفولتها.
لذا تحينت الفرصة ، حتى حل موعد مغادرة والدها إلى العزبة في أول الشهر، وما إن رأته يغادر الڤيلا حتى أسرعت بإبلاغ حازم على الفور.
اتفقا على الالتقاء عند منتصف الليل.. سيقول لها كل عام وأنتِ بخير، كل عام وأنتِ حبيبتي ، كل عام وأنتِ زوجتي..
ظلت ترمق عقارب الساعة بفارغ الصبر حتى إذا ما أشارت لانتصاف الليل فحملت حقيبة يدها التي جمعت بها أغراضها الضرورية وخرجت من الغرفة تتسلل إلى الأسفل على أطراف أصابعها.
خرجت من الڤيلا واستدارت حيث أنه ينتظرها بسيارته عند البوابة الخلفية، وما لم يكن في الحسبان ، وما لم يكن يتوقعه بشر هو أن تصله فتجده مقيدًا ، جاثيًا على ركبتيه وآثار الضرب الوحشي باديةً على وجهه، والحارس الشخصي لوالدها يقف بجواره مصوبًا مسدسه نحوه .
هرعت إليه بصدمة ، ولكن تلك النبرة التي قصفت مدويةً باسمها جمدتها بأرضها وجعلتها تتسمر في مكانها دون حراك .
وبعد لحظات مرت عليها كدهر طويل ظهر سجانها، يقف أمامها عاقدا ذراعيه خلف ظهره بجمود وهو ينظر إليها نظرة جمدت الدماء بعروقها، ثم انتقلت تلك النظرة نحو حازم الذي يجثو أرضًا والدماء تخضب وجهه وتسيل من أنفه..
وبرز صوته كالرعد مدويًا بعدها وهو يقول:
ـ عاوزة تهربي معاه يا نسيم ؟ عاوزة توسخي اسم أبوكي وعيلتك عشان الكلب ده ؟!
تسابقت دمعاتها إلى خدها بخوف ونظرت إليه ترجوه قائلةً :
ـ بابا أرجوك بلاش تأذيه، عشان خاطري بلاش.. سيبه يمشي وأنا أوعدك هعمللك كل اللي انت عايزُه .
ـ بعد إيه بقا ؟ أنا تحطيني في موقف زي ده ؟ كان عندي حق لما مقدرتش أثق فيكي وراقبت تليفونك، لولا كده مكنتش عرفت اللي ناوية عليه انتِ والحيوان ده وكان زمانك هربتي معاه وجبتيلي فضيحة.
حاولت الاقتراب منه، لتستجديه، لتتوسل إليه، ستقبل يديه وقدميه إن لزم الأمر، ستطلب أن يضع ذلك السلاح برأسها ويطلق سراح حبيبها، أن يقتلها ويدعه ليذهب.. ولكن ذلكا الحارسان اللذان قيدا ذراعيها هما من منعاها من الوصول إليه..
فأخذت تبكي بقهر والتياع، وعيناها معلقة بعيني حازم الذي يبتسم إليها في إباء رغم وضعه، وكأنه يهديها الابتسامة الأخيرة ، فنظرت إلى أبيها وقالت تتوسله:
ـ عشان خاطري سيبه يمشي، صدقني هو ملوش ذنب أنا اللي قولتله ييجي.. لو بتحبني سيبه يمشي ، أرجووووك..
لم يُجب نداءها ، ولا توسلاتها، لم يأبه لدموعها ورجاءها، بل نظر بكل قسوة إلى منصور وأعطاه الضوء الأخضر ليطلق الرصاص على رأسه أمام ناظريها !!
صرخت، وازداد صراخها وملأ كل الأرجاء.. صرخت بكل قوتها حتى سقطت مغشيًا عليها..
~ عودة للحاضر ~
صرخت وهي تغوص في حالة من اللاوعي قد ابتلعتها وأسرتها بجوفها ، صرخت وهي ترى تلك المأساة تتجسد أمامها الآن واقعًا حيًا دمويًا..
وفجأة انفرج الباب ووجدت عمر أمامها، وخلفه چوليا ، ونادية التي هرولت نحو مصدر الصوت .
تعلقت عيناها بعمر وأخذت تنظر إليه بغير تصديق وهي تقول:
ـ عمر، عمر انت هنا ؟؟ انت جيت ؟
أومأ عمر مؤكدا وهو يضمها إليه بقوة ويقول:
ـ أنا هنا يا حبيبتي متخافيش، أنا جمبك يا نسيم.
ارتمت بحضنه وأجهشت تبكي بانهيار، بينما هو يحاول تهدأتها ويربت عليها قائلا :
ـ اهدي ، علشان خاطري اهدي ..
أسرعت چوليا برفقة عمر تساعدها للخروج من الحمام، ثم أوصلاها إلى سريرها ودثراها بغطاءها جيدًا، جلس عمر عن يمينها وچوليا عن شمالها، وهي تنزوي داخل حضن أخيها الذي يضمها إليه بقوة وقلبه يئن ألمًا على تلك الحالة التي وصلت إليها أخته ..
والسبب معروف.. والدهم .. راعي القسوة والجبروت في حياتهم.
وقفت نادية تطالعهم بحزن حقيقي..
الجميع هنا ضحية سالم مرسال.
ثم تنهدت بعجز وقالت بصوتٍ خافت :
ـ عمر، لما نسيم تهدى قوم خد شاور وغير هدومك دي، بلاش يرجع من بره يشوفك بالحالة دي.
وغادرت إلى غرفتها وتركت أولادها برفقة نسيم يحيطونها ويحاولون تهدئة روعها.
***
كانت نغم تجلس بجوار المحامي نادر بسيارته، حيث ذهب إلى المشفى بعد أن أوصل عمر إلى بيته فورا، وقام بإنهاء الإجراءات اللازمة للخروج وها هو الآن يصطحبها للبقاء بمنزل سالم كما وعدوها.
تلقى اتصالا من سالم فأجاب على الفور:
ـ أهلا يا سالم باشا..
ليصله صوت سالم قائلا:
ـ ها يا نادر إيه الأخبار ؟
ـ كله تمام يا باشا، الآنسة معايا واحنا دلوقتي في طريقنا للڤيلا..
ـ تمام.. أنا كنت في عزا في الشرقية وفي الطريق أهو راجع.. متتحركش من عندك غير لما أوصل لأني محتاجك.
ـ تحت أمرك يا فندم ، توصل بالسلامه إن شاء الله.
لم تهتم نغم لِمَ سمعته لأنها لم تفقه منه شيئًا ، وانشغلت عن التفكير اللامتناهي الذي يعيث فسادا برأسها بمراقبة الطريق من نافذة السيارة، وكلما قطعت السيارة كيلومترا جديدا ظهر الرقي والجمال من حولها أكثر، مما جعلها تتساءل.. هل يعيشون في الجنة أم ماذا ؟!
كانت تسند رأسها على مسند المقعد، وتغوص بجسدها الصغير داخله وهي تحيط نفسها بذراعيها بخوف لا يتبدد .
انتبهت إلى صوت الرجل الذي يجلس جوارها وقد انبعث فجأة كالمذياع فقال موقظًا جميع حواسها النائمة:
ـ مساء الخير يا فريد بيه..
اعتدلت بالمقعد بتأهب وكأنه يراها، ثم أرهفت السمع لكي تنصت جيدا إلى ما سيقول .
ـ أيوة معايا..
تحفزت نبضاتها، وامتدت يداها تمسكان بطرف المقعد الذي تجلس فوقه تستمد منه الدعم، ولم تتحرك من مكانها ولو قيد أنملة .
ـ تمام.. عمر بيه وصل من ساعة تقريبا، وكلمتهم وهما مجهزين كل حاجة متشغلش بالك.. مع السلامة.
أنهى الاتصال وأعاد الهاتف حيث كان، بينما هي تراقبه بطرف عينيها بوجل، إلى أن توقف نبضها لثوان حين قال:
ـ فريد بيه بيطمن عليكي بنفسه.
اللعنة! ثم اللعنة واللعنة واللعنة ….
يطمئن عليها بنفسه ؟ علامَ تدل هذه الجملة؟ وإلى ماذا تشير؟ بالتأكيد لا تشير إلى ما تعنيه أبدا، من مؤكد أن هناك قصدًا مستترا وراءه وهي لا تعرفه حتى الآن!
ابتلعت ريقها على نحوٍ يشي بالرعب الذي تحياه الآن، ثم تساءلت وهي ترجو أن يجيبها بما يهدئ من روعها وليس العكس .
ـ بيطمن عليا ليه ؟!
نظر إليها متعجبًا سؤالها، ثم أجابها بهدوء:
ـ بيسأل إذا كنتي وصلتي الڤيلا أو لأ.
توترت أكثر، وكلما هاجمتها فكرة أنها ستعيش برفقته تحت سقف واحد شعرت أنها ستفقد وعيها في الحال.
في الواقع هي تذوب خوفًا عندما تراه لخمس دقائق ، فكيف إذا اضطرت لرؤيته عدة مرات في اليوم واضطرت للتعامل معه ؟! كيف ستتماسك وتتظاهر بالقوة والثبات؟ والأهم من ذلك ، كيف ستبدو مريضة فاقدة للذاكرة فعلا لكي لا ينكشف أمرها أمامه؟ إنها على وشك التصدي لمغامرة تظنها محسومة النتائج.
حمحمت بتوتر تجلي حلقها فنظر إليها نظرة خاطفة ثم قال:
ـ واضح إن زيك زي ناس كتير بتخاف من التعامل مع فريد بيه مباشرةً .
نظرت إليه باهتمام وانتظرت أن يستطرد قوله فقال:
ـ بس لما تتعاملي معاه صدقيني هتعرفي إنه أطيب حد في العيلة .
ثم تبسم وقال:
ـ طبعا الكلام ده بيني وبينك .
وضحك فابتسمت وشردت قليلا ثم نظرت إليه وهو يقول :
ـ على العموم مفيش حاجه تستدعي القلق ده كله، انتِ مش هتكوني مضطرة تتعاملي معاه كتير، هو نادرًا لما بيروح الڤيلا .
نظرت إليه بتعجب وتغضنت جبهتها باستغراب وهي تقول:
ـ ازاي؟ هو مش عايش معاهم في بيت واحد ؟!
هز رأسه نافيًا وأجاب:
ـ لأ، عايش في بيت لوحده.
زفرت براحة شديدة وتمتمت تحمد الله لأنه أنقذها من أكثر عقبة كانت تشغل بالها وتشعرها بالخوف، فبما أنه لا يزور بيت والده سوى مرات نادرة فلا داعي للقلق، ستتجنب الظهور أمامه في هذه المرات ومن الممكن أن تظل حبيسة جدران غرفتها لحين مغادرته.. المهم أنهما لن يكونا في مواجهة بعضهما البعض طوال الوقت.
انتزعها من شرودها ذلك الطريق الذي بدأ يسلكه، هي تتذكره جيدًا إنه نفس الطريق الذي أُلقت به يومها، هنا تماما أمام تلك الصخرة، ثم ركضت مسافة بعيدة حتى استوقفت السيارة التي ركبتها، نعم.. هنا بالتحديد.
انتفض قلبها ودب الذعر بجوفها، ونبت الدمع بمقلتيها وهي تتذكر تلك اللحظات التي عاشتها يومها، ربما كان هذا اليوم واحدًا من أسوء الأيام التي عاشتها وأكثرها بؤسًا.
عج رأسها بالأسئلة الصاخبة، ماذا كان سيحدث لو أنها لم تركض وتصطدم بسيارة المدعو عمر ؟ هل كان ذلك الذئب سيتمكن منها ويغتالها بكل دناءة ؟ لذا هل يمكنها أن تعتبر ذلك الحادث هو طوق النجاة الذي أنقذها من مصير أسود؟
تنهدت وهي تراقب ذلك المبنى فريد الطراز الذي يلوح على مرمى البصر، يقف بمفرده راسخًا بشموخ، وازداد توترها وهي تستعد للانتقال إلى ذلك البيت الذي لا تعرف كيف ستكون حياتها بداخله.
رأت البوابة الكبيرة تنفرج على مصراعيها أوتوماتيكيًا فور أن اقتربت السيارة، فعبر المحامي للداخل ليزداد انبهارها بالمكان..
العديد من الرجال مفتولي العضلات يقفون على الجانبين، وفي واجهة الدخول يقف رجلا يرتدي ملابس سوداء ، أصلع الرأس ، ذو شارب كثيف، يرتدي نظارة سوداء.. كانت هيئته مختلفة تماما عنهم وعلى ما يبدو كذلك أن مكانته مختلفة عنهم.
صف نادر سيارته، ثم نظر إليها مبتسما وقال:
ـ اتفضلي انزلي.
فتحت باب السيارة المجاور لها، وما إن وطأت قدمها أرض هذا البيت حتى أحست بالرجفة تسري في عروقها، وقفت تنظر أمامها بتيه. ما هذا المكان ؟ إنهم يعيشون في الجنة فعلا !!
جالت عيناها على كل تفصيلة حولها، تلك الحديقة الواسعة، والمدخل الخرافي واللمسات الخضراء التي تزين كل ركن به..
تقدم منها نادر وهو يشير إليها لكي تلحق به، فسارت خلفه خطوات ليستوقفها ذلك المدخل الذي من الواضح جدًا أناقته المتناهية ، وأخذت تتلفت حولها وهي تشعر وكأنها وطئت أرض الأحلام للتو ..
كل شيء خرافي، كل شيء ساحر ، كل شيء مثالي ورائع ..
فكيف بالمنزل من الداخل إذًا !!!
صعدت تلك السلالم الرخامية التي قادتها نحو الداخل وهي لازالت تنظر حولها بانبهار، وفجأة تعثرت خطواتها وسقطت على ركبتيها فوق الأرضية الملساء التي تسبق الباب المباشر، فنهضت وهي تنظر حولها بحرج، تتبين ما إذا كان رآها أحدهم أم لا، ثم دخلت من حيث دخل المحامي لتصعق بمدى جمال الڤيلا وعصريتها وفخامة كل تفصيلة فيها.
ابتسم المحامي ابتسامة جانبية وهو يراها تتطلع حولها بذهول، واستطاع أن يدرك لأي طبقة تنتمي هي من خلال نظراتها المتفحصة، ثم تحدث وقال :
ـ اتفضلي في الصالون لحد ما الباشا يوصل .
ازدردت ريقها بتوجس وتساءلت بخوف :
ـ قصدك مين ؟!
ـ سالم باشا .. متقلقيش مع الوقت هتتعودي على الألقاب، هنا مفيش غير باشا واحد وهو سالم باشا مرسال . إنما أولاده فريد وعمر هتقولي لهم فريد بيه وعمر بيه .
أومأت بموافقة وهي تتبعه نحو الصالون ، والذي هو عبارة عن غرفة واسعة تبلغ ضعف مساحة بيت خالتها، تضم أربعة أطقم صالونات من أفخم وأرقى الموديلات.
أشار إليها بالجلوس فجلست، وجلس هو أمامها بصمت واضعا قدم فوق الأخرى وهو يطالعها عن كثب وهي تراقب كل إنش بالمكان بانبهار لا يتراجع.
وبينما هي تحدق بالتفاصيل رأت فتاة شقراء تذكرتها على الفور، لقد زارتها بالمشفى برفقتهم، لفت انتباهها ما ترتديه تلك الفتاة، سروال جينز قصير يصل لأعلى ركبتيها وفوقه بلوزة بيضاء تحيط خصرها الجائع بدقة.
تعجبت بشدة كونها تتجول في الأرجاء بثيابها الداخلية !!
ولم تنتبه من شرودها وتحديقها بالفتاة إلا ورأت ذلك الشاب يعقبها، وكذلك استطاعت تذكره .. لقد رأته من قبل !!! ولكن أين !
صحيح.. هو من صدمها بسيارته!! تستطيع أن تتذكر تلك الملامح التي سجلتها ذاكرتها الفولاذية الفوتوغرافية جيدا .
إذًا هذا هو المدعو عمر !!
رأتهم يتقدمان نحوها فازداد خوفها وتوترها، وقبل أن يصلاها كانت شقراء أخرى قد ظهرت في الأرجاء ، تعرفها أيضا.. كانت برفقة الشقراء الأولى يوم زيارة المشفى !
وأخذت تتساءل بتعجب: أيعقل أن تكون الشقراوتين هاتين نتاج تزاوج تلك الطويلة خمرية البشرة وذلك الأصلع قاسي الملامح ؟!
رمقتها چيلان باستنكار واضح ولم تتفوه بحرف، ثم صعدت إلى غرفتها على الفور لحقت بها چوليا..
بينما توجه عمر نحوها مظهرًا ابتسامة أنيقة ، ووقف أمامها ثم مد يده إليها وصافحها قائلا:
ـ أهلا بيكي، أنا عمر.. اللي ..
وزم شفتيه وحك رأسه بحرج فأومأت وقالت بطلاقة :
ـ اللي خبطتني بعربيتك مش كده ؟
أومأ وقال :
ـ أنا آسف إني اتسببت لك في كل ده، ومش عارف ممكن أعمل إيه أكفر بيه عن غلطتي .
اهتز صوتها وهي تجيب بتوتر :
ـ ولا حاجة.. خلاص اللي حصل حصل.
هنا استمعت إلى وقع أقدام مريبة ، شيئا ما أخبرها أنها أقدامه.. بالتأكيد تلك الانقباضة بصدرها لن تحدث سوى في حضرته..
وبالفعل صدق حدسها عندما رأته يقف أمامها متجهم الوجه ، يبدو مستاءً لأبعد حد ، رمقها بتفحص خاطف وكم أثارت انزعاجه بتلك الهيئة الفوضوية حيث ترتدي ثيابا لا تلائمها أبدا ..
ـ حمدالله على السلامة يا عمر .
قالها فريد مبتسمًا ابتسامة شحيحة جدًا ولكنها كانت كافية لتكشف لأخيه عن مدى صدقها ، فعمر يعرف أن أخوه لا يتواصل مع أيًا منهم عن قرب في مثل تلك اللحظات ، وبالتالي أصبحوا متقبلين الوضع ، وأساسًا هو لم يتوقع من فريد أكثر من ابتسامة ، لذا بادله الإبتسام قائلا :
ـ الله يسلمك يا فريد .
حانت منه التفاتة سريعة نحو نغم التي تطرق برأسها أرضًا في توتر، ثم قال :
ـ أنا هشوف نسيم وجاي .
ـ متقلقش هي بقت أحسن .
هز رأسه ولم يعقب ، وحث الخطى نحو الأعلى حيث غرفة أخته لكي يطمئن عليها ، فمنذ أن أخبرته زينب بالحالة التي انتابتها وهو لا يتمالك أعصابه ، لأنه كان يعرف أن يوم ميلادها لن يمر عليها مرور الكرام أبدا.. وكيف وقد عاشت به أسوأ ذكرى في حياتها على الإطلاق !
لم تفلح نغم في صرف نظرها عنه وهو يصعد درجات السلم ، وكأنه يأسر انتباهها وتركيزها في كل مرة تراه بها، ولكن دخول الباشا كما يلقبونه كان كفيلا بأن يجعلها تصرف انتباهها عن كل شيء وتركز على هيئته المهيبة هو فقط !
رجلّ ذو وقار جامح ، ينشر هيمنته أينما حلت قدماه، ويأسر أنظار جميع الحضور ويجعلهم يشعرون بالضآلة أمامه.
ابتسم ابتسامة مجاملة ووقف أمامها يدس يديه في جيبي معطفه الذي يصل لركبتيه، ثم قال بصوت لا يشي بشيء :
ـ حمدالله على السلامة وأهلا بيكي هنا وسطنا… وسط عيلة مرسال .
ابتلعت ريقها بريبة وقالت باقتضاب وهي تحاول درء خوفها :
ـ شكرا .
ـ زينب هتعرفك اوضتك فين وهتفهمك النظام هنا ماشي إزاي وهتعرفك على أفراد العيلة كمان.
هزت رأسها بموافقة فتابع:
ـ ومن بكرة زينب هتنزل معاكي تشتري كل اللي محتاجاه.
أومأت مجددا ورددت بتوتر وشعور بالقلق يخالجها :
ـ شكرا.
هز رأسه بترحيب ثم نادى على زينب التي أسرعت تلبي نداءه فقال :
ـ وصلي الآنسة أوضتها وخليكي معاها لو محتاجة حاجة.
أومأت زينب بطاعة ورافقت نغم حيث غرفتها ..
في تلك الأحيان كان فريد قد غادر غرفة شقيقته بعد أن اطمئن أنها قد خلدت إلى النوم ، ونزل درجات السلم لتتقابل نظراته بنظرات نغم التي أشاحت بوجهها سريعًا وكأنها رأت شبحًا .
استوقفه عمر قائلا :
ـ مش هتقعد معايا شوية ؟
ربت فريد على كتفه بابتسامة وقال :
ـ لما تستحمى الأول !
ضحك عمر وهو يهز رأسه بيأس من تصرفات أخيه و ردوده التي يفحمه بها دومًا .
بينما تقدم فريد نحو الباب وهو يرمق نغم التي تسير بخطوات أشبه بالركض لكي تختفي سريعا من أمامه ، فنادى زينب قائلا القول الذي جمدهم جميعا بمكانهم :
ـ زينب ، افتحي الأوضة بتاعتي ونضفيها ، أنا من بكرة راجع الڤيلا .
ــــــــــــــــــ
يتبع…
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية محسنين الغرام ) اسم الرواية