رواية الغرفة المغلقة الفصل الثامن 8 - بقلم نور الشامي
في منزل مهجور بأطراف الصعيد.. كان الظلام يلف الجدران كأنه حارس للأسرار…فـ استيقظت رقية ببطء.. وملامحها غارقة في الألم والصدمة، بينما كان وائل يجلس بجانبها عينيه تراقبان الأرجاء بحذر، ويده تربت على كتفها ليهدئه حتي تمتم وائل بصوت منخفض:
رقية… لازم نفوق. مفيش وجت للضعف دلوجتي.. جوومي
رفعت رقية عينيها نحوه.. والدموع تتلألأ في مقلتيها.. ثم قالت بصوت مختنق:
شوفتهم يا وائل… شوفت أبوي وأمي بعيني. كانوا جدامي… بس إزاي؟! هما ماتوا… إحنا شوفناهم وهم بيطلعوهم جثث من البيت الجديم
حاول وائل أن يخفي اضطرابه، لكنه لم ينجح. رد بصوت متردد:
مش عارف أجولك إي.. بس الأكيد إننا اتجرينا في لعبة كبيرة جوي… إلياس… خدعنا كلنا كعادته
تجمدت ملامح رقية للحظة.. ثم اشتعلت عيناها بالغضب، وهتفت بصوت متحشرج:
إلياس! لازم يدفع التمن ماينفعش يفضل يلعب بينا زي العرايس اكده… لازم أوجفه، وبنفسي و
لم تنهي رقيه كلماتها حتي قطع حديثهما صوت خطوات ثقيلة تقترب من الباب.. تبعه صوت طرقات خافتة. تبادلا نظرات القلق.. ثم أشار وائل إليها بأن تصمت واقترب بحذر من الباب ووضع أذنه عليه ليستمع هذا الغريب وهو يردف:
افتح… أنا صبري
تردد وائل للحظة.. ثم فتح الباب ببطء ليجد صبري.. أحد الحراس الذين يعملون مع إلياس، يقف هناك. وجهه بدا شاحبا وعيناه تتحركان بحذر.. وكأنه يخشى أن يراه أحد واردف بصوت خافت:
لازم تتحركوا حالًا… إلياس بيه شاكك إنكم اهنيه أنا سيبت الحراسة والبوليس وجيت أجولكم
نظرت إليه رقية بعينين مشتعلة بالغضب، وهتفت بسخرية:
إنت حارس عند إلياس… ليه تساعدنا دلوجتي؟ انا مستحيل أمن لاي حد من عنده
تلعثم صبري للحظة. ثم اردف بتردد:
مش مهم تصدجيني ولا لع.. المهم إنكم تهربوا قبل ما حد يوصل ليكم.. أنا مليش مصلحة صدجوني بس انتوا صعبانين عليا
نظر وائل اليه ولم يقتنع كثيرا بحديث صبري… فأمسك بيد رقية وسحبها للخلف قائلاً بحزم:
مينفعش نثق فيه… ممكن يكون فخ و
قطع حديثهم صوت آخر بعيد لكنه يقترب بسرعة، كأن هناك مجموعة تتحرك نحوهم فنظر صبري إليهما بعجلة مرددا:
دلوجتي بجولكم اهربوا! لو عايزين تعيشوا، مفيش وجت للنقاش.. لو حد شافكم هيجتلكم والله
رمت رقية نظرة أخيرة إليه قبل أن تهمس لوائل:
مهما كان، لازم نمشي من اهنيع دلوجتي… لو فخ.. هندبر نفسنا.. يلا
أمسك وائل بيدها وبدأ يتحرك نحو الباب الخلفي، بينما صبري أشار لهما بالطريق الآمن قائلاً:
اهربوا من الناحية دي… وهشوف هصرفهم عنكم ازاي
تحركا الاثنين بخطوات حذرة بين الظلام، بينما صبري عاد للخارج، محاولًا إيقاف أي شخص قد يكون في طريقهم. وفي يوم جديد مشحون بالحزن والغضب.. وصلت سيارة إلياس إلى المنزل المحترق. ترجل منها برفقة أفنان ووليد وزينة بينما كانت الصدمة واضحة على وجوههم.حيث بقي إلياس للحظات واقفًا أمام الحطام، عيناه تتفحصان آثار النار التي التهمت كل شيء. الجدران المتفحمة والسقف المنهار كانوا شهودًا صامتين على الكارثة التي حلت فتقدم الياس بخطوات بطيئة حتى دخل الي المنزل. قبضته مشدودة وصوته خرج مليئا بالغضب المكبوت :
كل ده… بسببهم.. كل حاجه حوصلت في حياتي غلط بسببهم هما
نظرت أفنان إليه ولم تفهم قصده.. لكنها شعرت بثقل الكلمات و اقتربت منه بحذر مردده بصوت قلق:
تجصد مين يا إلياس؟ مين ال عمل اكده؟
صمت الياس للحظة وكأن الكلمات كانت معلقه في حلقه.. ثم استدار بحدة ليواجهها وعينيه مليئتان بالغضب والمرارة:
رقية… ووائل.. هما ال عملوا اكده.. هما ال جتلوا مرت عمي
تراجعت أفنان خطوة للخلف و عيناها تتسعان بذهول وهي تهتف بصوت مرتعش:
رقية؟! أنت… أنت بتجول اي عاد.. ازاي يعني مستحيل
أشاح الياس بوجهه عنها للحظة، وكأن المواجهة كانت أصعب مما توقع ثم التفت إليها مجددًا واردف بحدة:
أيوه… رقيه ووائل.. هما ال عملوا اكده. حرقوا البيت… وجتلوا مرت عمي… وكل ال كانوا اهنيه
نظرت افنان اليه بصدمه وكأن هذه كـ صفعة على وجهها..ثم استندت على الحائط المحترق بجانبها وهي تهمس بصوت مختنق:
بس… بس أنت جولت إنها مش اهنيه جولت إنها مش موجوده اصلا.. كنت بتضحك عليا؟ ليه كدبت عليا
نظر وليد بضيق ثم اقترب منها محاولة لتهدئة الموقف ووضع يده على كتف إلياس مرددا بحذر:
الياس… مش وجته دلوجتي. إحنا لازم نفكر في الخطوة الجاية بدل ما نضيع وجتنا في الكلام
نظر الياس إلى وليد بعينين مشتعلتين واردف بغضب:
الخطوة الجاية؟.. الخطوة الجاية هي التار! أنا مش هرتاح إلا لما أدمرهم زي ما دمروني.. هاخد بتاري منهم كلهم… مفيش عزا… مفيش حد هيعيط اهنيه العزا هيكون لما آخد بتاري… لما أشوفهم هما ال بيتحرقوا جدامي.. ابعت الكل علي البيت التاني وجيب العمال والمهندسين علشان يصلحوا البيت دا.. عايزه يبجي احسن من الاول مليون مره… ومن دلوجتي اي حد هيوجف جدامي مش هرحمه
القي الياس كلماته وذهب وترك أفنان التي مازالت تقف مكانها، دموعها تملأ عينيها، لكن بداخلها كان هناك صراع أكبر. كلمات إلياس أصابتها بصدمة، لكنها في نفس الوقت أيقظت في داخلها إحساسًا بالخطر والخوف والشك في كل شئ يحدث حواليها وفي المساء في قصر إلياس الياس الجديد بعد منتصف الليل… كان الليل هادئا إلا من صوت الرياح التي تصطدم بالنوافذ، وكأنها تحاول كسر سكون المنزل الكبير. فـ جلست افنان في الصالة الواسعة و عيناها تنظران إلى الفراغ وقلبها غارق في دوامة من الأفكار. لم تستطع النوم بعد كلمات إلياس في المنزل المحترق. شعرت وكأن الأرض بدأت تهتز تحت قدميها وفجأة، سمعت صوت الباب الأمامي يُفتح بعنف فـ التفتت سريعًا، ورأت إلياس يدخل مترنحا. كانت ثيابه غير مرتبة ورائحة الكحول تفوح منه فتقدمت نحوه بخطوات مترددة واردفت بصوت منخفض:
إلياس… إنت كنت فين عاد؟!
ضحك إلياس ضحكة مائلة للسخرية وهو يتكئ على الباب ليمنع نفسه من السقوط مرددا:
كنت… بحتفل… بحتفل بخراب حياتي وموت مرت عمي.. بحتفل بكل المصايب ال حوصلتلي في حياتي
نظرت إليه بصدمة وعيناها مليئتان بالاستنكار وهتفت :
تحتفل بإي؟ أنت سايب الدنيا كلها مقلوبة، الناس بتدور عليك، وأنا اهنيه جاعدة مش فاهمة أي حاجة وانت بتجول بتحتفل
اقترب منها إلياس ببطء، وعيناه الزائغتان تحاولان التركيز عليها ثم مد يده ليشير إليها مرددا :
إنتي دايما اكده… بتفضلي تسألي، وتفتشي، وتحكمي! مش كفاية إني جاعد بحاول أحميكي من كل ده.. مش كفايه انك. من ضمن الاسباب لكل ال حوصل دا اصلا.. انتي بتدخلي في كل حاجه ليه
تراجعت أفنان خطوة للخلف، لكنها لم تستطع إخفاء ارتعاش صوتها واردفت:
تحميني من إي يا إلياس؟ وانا السبب في اي عاد
ابتسم بسخرية وهو يميل نحوها:
لسه هتجعدي تسألي تاني برده.. كفايه
نظرت افنان إليه بعينين متسعتين.. ولم تفهم ما يقصده. حاولت أن تتمالك نفسها، لكن صوته قطع أفكارها مرددا:
رقية… ووائل… كل حاجة كانت ماشية تمام، لحد ما انتي طلعتيهم من المكان دا. انتي ال خلتيهم يعملوا كل دا و
لم ينهي الياس كلماته و فجأة اقترب منها أكثر ولمست يداه كتفيها فحاولت التراجع، لكنه أمسك بها بحزم وعينيه رغم حالت السكر كانوا مليئتين بمزيج من الغضب والضعف فهمست وهي تنظر إليه بخوف:
إلياس، سيبني
لم يستمع الياس اليها ورفع يده ليلمس وجهها و عيناه تحدقان بها وكأنه يبحث عن شيء ما داخلها حتي تمتم بصوت متحشرج:
إنتي الوحيدة ال لسه موجودة… الوحيدة ال بتحسسيني بالذنب ناحيتها.. انا مبجيتش عارف اكرهك ولا احبك ولا انتجم منك ولا احميكي… مبجيتش عارف اعمل اي حاجه
نظرت افنان اليه بتزتر حاولت أن تدفعه بعيدًا، لكنه كان أقوى منها، وأقرب مما توقعت فهمس بجانب أذنها :
مش عايزك تتكلمي ولا تجولي اي حاجه
القي الياس كلماته وهو يقترب اكثر فشعرت بحرارة أنفاسه على بشرتها و فتجمدت مكانها، بينما يده الأخرى انزلقت من كتفها إلى خصرها. حاولت أن تقاوم، لكن جزءًا منها شعر بالضعف أمامه فأردفت:
إلياس… إنت مش في وعيك، سيبني… مش بالطريجة دي
نظر الياس اليها بعينين زائغتين، لكنه هذه المرة بدا وكأنه يحاول أن يقرأ مشاعرها واردف:
يمكن… أنا عمري ما كنت في وعيي معاكي. دايمًا إنتي ال بتخليني أفقد السيطرة علي نفسي.. وعلي كل حاجه.. انا دا مش طبعي… مش عايز ابجي ضعيف اكده جدام اي حد
القي الياس كلماته واقترب منها أكثر ووجهه كان على بُعد أنفاس منها فـ شعرت بشيء يشتعل بداخلها… مزيج من الخوف والغضب والانجذاب الذي لم تستطع تفسيره ولكن هذا زوجها علي حسب تفكيرها وهذا الانجذاب طبيعي جدا وفجأة تركها الياس وخطى بضع خطوات للخلف وأمسك رأسه بيده كما لو أنه يحاول أن يوقف صراعا داخليًا و جلس على أقرب كرسي وهو يدفن وجهه بين يديه مرددا:
أنا مش كويس يا أفنان… مش كويس خالص ومش عارف اعمل اي
تقدمت افنلن نحوه ببطء وقلبها ينبض بقوة شعرت بشيء مختلف، وكأن إلياس الذي تراه الآن ليس الرجل الذي تعرفه. ووضعت يدها على كتفه مردده بهدوء:
محتاج توجف كل ده، إلياس. الكره… الانتجام… الشرب… هتدمر نفسك قبل ما تدمر أي حد تاني.. حرام عليك نفسك والله العظيم.. صدجني انا خايفه عليك
رفع الياس رأسه لينظر إليها، وعيناه كانتا تلمعان بشيء لم تره من قبل. لكنه لم يقل شيئًا. فقط، بقي ينظر إليها وكأنه يبحث عن مخرج من الفوضى التي صنعها بنفسه ثم فجأة اقترب منها اكثر فـ شعرت بيديه تحيطان بها، وسحبها نحوه. حاولت أن تقاوم قليلا لكن ضعفت أمام تلك النظرة التي جمعت بين الألم والرغبة. كان لديها شعور أن ما يحدث خطأ… لكن جزءًا منها لم يستطع التراجع ولا مقاومته فـ همس بجانب أذنها وصوته كان مليئًا بالضعف والانكسار مرددا:
مش عايز أفكر دلوجتي في اي حاجه ولا عايز اتكلم
نظرت افنان اليه بتوتر وشعرت بشيء يشتعل داخلها…لم تدرك متى توقفت عن المقاومة فـ اقترب منها أكثر، ولامست شفتاه شفتيها برفق، وكأن العالم توقف للحظة. كان يطلب شيئًا أكثر من مجرد القرب… كان يبحث عن الخلاص من كل هذا الصراع الذي يدور بداخله والنظرات بينهما أصبحت أقرب حتي المشاعر المتراكمة انفجرت دفعة واحدة. الوقت بدا وكأنه تباطأ.. والمكان من حولهما تلاشى تمامًا. لم تكن هناك كلمات.. فقط أحاسيس متشابكة بينهما فـ سحبها معه بخطوات بطيئة إلى الفراش القريب و عيناه لم تفارقا وجهها. وكأنها كانت كل ما تبقى له في هذا العالم. وبكل هدوء، تركا المسافة بينهما تختفي.. واستسلمت أفنان للحظة.. وسمحت لنفسها أن تنسى كل شيء، تمامًا كما أراد هو ولكنها لم تعلم انه ارتكب اكبر خطأ في حياته الان وفي صباح يوم جديد كانت الشمس بالكاد بدأت ترسل أول خيوطها إلى الأفق معلنة عن صباح جديد. في الغرفة الواسعة حيث كان إلياس مستغرقًا في النوم بينما المكان يحيط به هدوء ثقيل وكأن الليل لا يريد أن يغادر لكن فجأة انفتح الباب بعنف ودخل وليد بخطوات متوترة و ملامحه تحمل مزيجًا من التوتر والخوف و اقترب بسرعة من الفراش مرددا بحده:
إلياس! اصحى.. يلا اصحي بسرعه
تقلّب إلياس في مكانه قليلًا قبل أن يفتح عينيه بتكاسل، واردف بنبرة غاضبة:
إي ال صحاك بدري اكده؟ في إيي يا وليد؟
اقترب وليد أكثر، وصوته مليء بالذعر واردف :
مش لاجيهم.. مش موجودين
حدق فيه إلياس بارتباك ثم جلس على السرير ببطء وهو يحاول أن يستوعب:
مين ال مش لاجيهم؟ بتتكلم عن مين عاد؟
تردد وليد للحظة.. لكنه واردف بصوت خافت :
مش موجودين بجولك نهائي
تجمدت ملامح إلياس للحظات ثم نهض من السرير فجأة، وكأنه تلقى صفعة أيقظته بالكامل وهتف:
بتجول إي؟ مش موجوين يعني إي؟ فتشتوا في كل مكان.. حوصلهم حاجه جصدك
هز وليد رأسه بسرعة مرددا:
فتشنا في كل مكان يا إلياس، هما هربوا
وقف إلياس للحظة، محاولًا استيعاب ما يحدث قبل أن يخطو بخطوات سريعة نحو وليد مرددا:
هربوا؟! إزاي؟ إزاي محدش خد باله.. وراحوا فين عاد.. وليه اصلا يهربوا
نظر وليد اليه بضيق مرددا :
سمعت شغالة الصبح بتتكلم إنها شافت أفنان وزينة بيتكلموا بالليل… وزينة كانت بتجول لأفنان إنها مش مرتك وإنها هنا بسبب فقدان الذاكرة. بعدها… محدش شافهم.. افنان عرفت كل حاجه.. وسابونا نهائي يا الياس
نظر الياس اليه بصدمه وفجأه و
- يتبع الفصل التالي اضغط على (الغرفة المغلقة) اسم الرواية