رواية دموع شيطانية الفصل الثاني و العشرون 22 - بقلم چنا ابراهيم
22• العشاء الأخير.
'دموع شيطانية'الفصل الثاني والعشرين'
•العشاء الأخير•
للكاتبة: چنا ابراهيم♡قطة♡
أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
❀❀❀
"حلمتُ بأملٍ يضيء لي ظلمات الدروب، لكنه كان كشمعةٍ أُطفئت قبل أن أصل إليها. قلب الأرض كان مليئاً بالجراح، وخريطتها كانت مشوهةً بالحروب. الغيمة البيضاء التي حملتني كانت مجرد وهمٍ تلاشى. الحزن يملأ قلبي، وأنا أسفة على كل ما فقدت."
وفي النهاية أتمنى لكم قراءة طيبة
وفي النهاية أتمنى لكم قراءة طيبة.
❀❀❀
ميرا إسحاق
اليوم،
27 ديسمبر
"ابنتك عبقرية."
ضوء يخترق الظلام، لحن هادئ في الخلفية، وعدد قليل من الوجوه الغريبة. أنا واحده منهم. ومن بين الغرباء، ميرا الصغيرة ذات الشعر الأشقر الطويل والمجعد المزين بشريط أسود.
يقول الرجل الغريب "عبقرية موسيقية!" وجهه مغطى بحاجز ضبابي. "ستصبحِ عازفة بيانو ماهرة للغاية عندما تكبرِ! على الرغم من أنني لا أعتقد أننا سننتظر حتى تكبر!"
وراءي مباشرة، ظلان أسودان يرتفعان. الوالدان. أم وأب. أبي ينحني بجسده الضخم المخيف نحوي، يلمس كتفي. لحيته الكثيفة ذات الشعيرات البيضاء ونظارته الصغيرة العظمية صفة مألوفة لي الآن.
عندما يبتسم، تضيق عيناه لدرجة أنهما يكادان يختفيان. يقول لي "يسعدني جدًا أن أراكِ متحمسة جدًا لشيء ما يا ابنتي"، "أليس كذلك؟ تحبين البيانو؟"
هذه الصورة العائلية السعيدة اختفت، وانتقلت المشهد إلى المستقبل مع الكثير من التشويش. ميرا الآن بالغة، وبوراك أمامها. بوراك يبتسم بسخرية.
"أقطع أصابعك..." يقول.
تعود المشهد إلى طفولتي، إلى الصورة التي رأيتها للتو، أبي هناك ويبتسم. "تحبين العزف على البيانو، أليس كذلك؟"
يظهر بوراك مرة أخرى. المشاهد تتغير بسرعة، أشعر بالدوار. "ولن تضطري بعد الآن لارتداء خاتم"، يواصل.
يتغير تعبير بوراك المتكبر مرة أخرى، ويتحول وجهه بسرعة البرق إلى تعبير أبي الجاد. يقول أبي "يقول معلمك إنك عازفة بيانو موهوبة جدًا".
ويكرر بوراك مبتسماً إلى ميرا البالغة "الكمان؟ أنتِ لا تحبين الكمان".
يُمسح أبي على رأسي. "ستكونين عازفة بيانو ناجحة للغاية".
"إذا قطعت أصابعك..."
"ترغبين في تحقيق هذا الحلم، أليس كذلك يا ابنتي؟"يسألني والدي
يقول كامبر "... ربما تحصلين على ما تريدين".
أجعد حاجبي. "ماذا أريد؟"
يبتسم بوراك بسخرية ويهمس لي بعمق "الحرية".
أهز رأسي نفياً. "لا أريد أن أصبح موسيقية يا أبي". يعبس أبي. يقف. يتنفس بعمق. ابتلع ريقي. أكرر "لا أريد أن أصبح موسيقية يا أبي".
يهمس كامبر في أذني "إذا قطعت أصابعك".
يغضب أبي ويقول "ماذا ستصبحين إذن؟ إذا واصلتِ هذا الهراء-"
"... عندها لن تضطري إلى ارتداء خاتم!"
تقول ميرا الصغيرة "لا أريد أن أصبح موسيقية".
يقول كامبر البالغ "أنتِ لا تحبين الكمان".
"هراء!"
"لا أريد أن أصبح موسيقية يا أبي!"
صمت. ميرا في الماضي والمستقبل صامتة، أبي صامت، بوراك لا يزال يبتسم بسخرية. عيناه الزرقاوان اللامعتان تشبهان عينَي وحش.
يهدأ قليلاً ويسألني في طفولتي "ماذا ستصبحين إذن؟"
بينما كان جسد ميرا الصغير ووجهها الصغير ينموان ويتطوران في أماكن وأزمنة مختلفة، وفي ملابس مختلفة، كانت تردد دائماً نفس الكلمات
"لدي حلم."
لكن بوراك كان يقف كحاجز أمامها. كان يقول لها "هل نسيتي؟ هل نسيتي أنك شاركتيني سرك يا ميرا؟"
"ما هو هذا الحلم يا ابنتي؟"
فجأة، يظهر ضوء ساطع وكأنه يشق الظلام في الأعلى، ولكن عيني التي اعتادت على الظلام بدأت تميز الجمهور الضخم الذي أمامي. كل مقعد في القاعة ذات الطابقين ممتلئ بظلال باهتة تختبئ وراء الظلام.
باستثناء مقعد واحد.
المقعد الأوسط في الخلف فارغ.
11273
أنا على المسرح، في وسط المسرح. كل العيون عليّ. كل العيون على ميرا البالغة، ولكن ميرا لا تحمل كماناً الآن ولا يوجد خلفها أوركسترا. هي وحدها تماماً على المسرح. إنه مشهد مخيف، مظلم وهادئ. لا يوجد ذلك الجو الدافئ والخافت كما هو الحال في حفلاتي الموسيقية. الجمهور متجمد الآن. أتمكن من اتخاذ بضع خطوات فقط.
"إن الله وحده هو المتكلم إلينا."
من يقول هذا؟ أنظر حولي في حيرة، أحاول أن أفهم الشخص الذي يتحدث، لكن لا يوجد شيء. على الرغم من أنها مليئة بالناس، إلا أنها هادئة وساكنة مثل المشرحة.
"إن الله وحده هو المتكلم إلينا."
أجعد حاجبي حائره، مستغربه هذه الهمسة التي تأتي وتذهب.
"بدمنا..."
أما الجمهور فلا يزال ثابتًا مكانه، بل على العكس... وجوههم مخفية وراء الظلال، بلا شكل. كأنهم شخصيات في مسرح الظل، لكنهم يفتقدون الوجوه. مجرد صفحات جلدية فارغة، دمى بلا عيون، تجلس وتراقبني.
يزداد خفقان قلبي خوفًا. وأنا أحاول التراجع خطوة إلى الخلف، أسمع صوتًا غريبًا مرة أخرى، يقول من بعيد "إن الله وحده هو المتكلم إلينا."
"من يقول هذا؟" أسأل بصوت مرتجف.
"يتحدث إلينا الله وحده." يرد صوت من خلفي. أشعر بنفسه على عنقي، وكأنه على بعد سنتيمترات قليلة.
ألتفت بسرعة، لكن لا أجد أحدًا.
أعود مجدداً إلى الأمام، منتظراً أن أرى نفس الجمهور المرعب عديم الوجوه، لكن في طرفة عين، أجد نفسي قد انتقلت إلى زمان ومكان آخرين تماماً.
مرة أخرى، غرفة مظلمة.
أو بالأحرى، لا أستطيع أن أطلق عليها غرفة. إنها أشبه بجحيم مظلم، أو مخزن قديم، أو ربما معبد واسع ذو هندسة معقدة. المصدر الوحيد للضوء هو الشموع.
توجد الشموع في كل مكان.
معلقة على الجدران الحجرية بسلاسل، موضوعة على أطباق على الحواف، موضوعة على أذرع الثريا الضخمة فوق رؤوسنا، وحتى في وسط الطاولة الكبيرة، هناك شمعدان ضخم ذو سبعة أذرع. في كل مكان!
وأنا أدور حولي، أكتشف برعب شديد أنها تحيط بي من كل جانب، وأن الأرض الحجرية مغطاة بالشمع الذائب في أماكن كثيرة، وأن الشمع اللزج يتسلق الجدران ويتساقط من السقف ليعود إلى الأرض مرة أخرى. وأنا أتساءل عن سبب وجودي في هذا الجحيم، في قلب هذا الظلام والجنون.
أما الشمعدان على الطاولة، فقد ذاب تمامًا، وتغطى بالشمع لدرجة أنه لم يعد شمعدانًا. لقد امتد على الطاولة ووصل إلى الأرض، مكونًا موجات بيضاء متجمدة من الشمع الذائب.
كان شمعدان الطاولة مغطى بطبقات من الشمع الذائب لدرجة أنه لم يعد يمكنني حتى تسميته شمعدانًا، وقد انتشر على الطاولة ووصل إلى الأرض. طبقات الشمع الذائب متجمدة لتشكل موجة بيضاء.
أثار هذا المنظر كل صدماتي، وكان ذلك الشمع الذائب، تلك المادة الدهنية الحارقة السامة، يحاول الوصول إليّ كما لو كان. فقدت توازني فجأة وشعرت أنني سأقع، لكنني تمكنت من الحفاظ على توازني.
لم أكن وحدي هناك.
أدركت ذلك متأخرًا جدًا. لقد أخفوا أنفسهم جيدًا في الظلام، لكن عيونهم الحمراء الشبيهة بشياطين الجحيم كانت تكشفهم.
كان الناس يحيطون بي وكأنهم قطيع من الضباع، يبتسمون بسخرية. كانت صورهم الظلية غير واضحة لكنهم كانوا هناك. عشرات! مئات! كانوا حولي من كل جانب، ينتظرون كحيوانات بدائية مستعدة للهجوم! لم أعرفهم أو أتذكرهم، لكنني شعرت غريزيًا منذ اللحظة الأولى بأننا أعداء.
تراجعت للخلف، وخطوت بضع خطوات حذرة استعدادًا للهرب، ثم التفت لأركض لكنني اصطدمت بجسم. أو بالأحرى، بصورة عاكسة.
آلاف الصور العاكسة....
أنا الآن في غرفة لا نهائية مزودة بآلاف المرايا، وضعت بين آلاف صورى العاكسة التي تتحرك معي وشعرت بالضياع والخوف.
همسات، ذكريات تتكرر في حلقة لا نهاية لها تمتد إلى الماضي والمستقبل، لحن كمان يأتي من بعيد، صوت ضحكة حلوة... كل شيء يختلط ببعضه، أينما ألتفت أرى انعكاسًا يتحرك في عالمه الخاص، يعيش ويجعل الآخرين يعيشون.
"فكر في ما يمكنك فعله"،
هذا الصوت... صوتي لكنه ليس أنا من يقوله.
أبحث عن مصدر الصوت القادم من بعيد وأشعر بأنني ضائعة في لا نهاية. آخذ خطوات صغيرة وحذرة لكنني لا أصل إلى مكان ما.
"إذا منحت إنسانًا كل هذه القوة فإنه بالتأكيد سوف يفسد"،
"يقولون إن الضمير ولد بعد تلك المرأة".
صوتي مرة أخرى. أدير رأسي بسرعة وأحاول تحديد صاحب الصوت من بين مئات انعكاساتي.
هناك، للأمام!
كل انعكاس لا يقلدني، فهناك أيضًا من يحيي ذكرياته الخاصة ويتحرك بشكل مستقل عني. ها هو واحد منهم! عيني تتبع جسده النحيل وهو يتجول بين رفوف الكتب. أصابعه الرقيقة تلمس أغطية الكتب بلطف وهو ينطق بكلمات حادة:
يقول "الحياة والموت"، "مع تطور أول أشكال الحياة على الأرض، ومع زيادة وعي الكائنات الحية بما يكفي لرومانسية الحياة، أصبح الحاجة إلى إيجاد طرق للتعامل مع هذا الجانب غير الرومانسي من الحياة، أي 'الحياة والموت'، غريزة ضرورية لبقائهم".
بينما تؤمن الحيوانات بغير وعي سوى بزيادة فرصها في البقاء، فإن البشر يضطرون إلى اختراع أعذار لتبرير قسوة الطبيعة المفاجئة، كالمولود الجديد والموت المفاجئ للزوج، وذلك لكي يتحملوا كل هذا العبء.
"كلما ذكي البشر، كلما أصبحوا أكثر رومانسية، وكلما أصبحوا أكثر رومانسية، كلما أصبحوا أكثر سذاجة. تحولوا إلى دمى جاهزة للاستخدام وقطيع أغنام مستعدة للقيادة."
سرت بين هذه الانعكاسات لكن مسافات لا نهائية تفصل بيننا، والزمن مقسم؛ كأننا في عوالم مختلفة، لا يمكننا لمس بعضنا البعض أو التأثير على بعضنا البعض.
كان هناك انعكاس آخر يلمع ويخفت كشريط فيلم باهت.
يقول أحدهم "أيهما أنت؟"
"ذئب بجلد خروف"،
وآخر يقول
"إذا قطعت أصابعكِ،"
اسكت الآن...
"لن تحتاجي إلى خاتم."
كان هناك انعكاس آخر، أيدي ضخمة على خدي ميرا.
يقول الجسد الذي ينتمي إلى تميم "كلمة واحدة منك يا ميرا تكفي"، "كلمة واحدة وسأدمرهم جميعًا من أجلك. سأدوسهم جميعًا وأخرجك منهم!"
ظلام، مدخل كبير. يدخل ضوء القمر من النوافذ التي تمتد حتى السقف.
تميم. يشير بمسدسه نحوي. هناك جثتان على الأرض بيننا مباشرة. جثتان مغطاتان بالدماء. أمي وأبي.
تتمتم ميرا وهي تبكي "تميم..."
ويقول تميم لها "سأفعل أي شيء من أجلك".
أبعد قليلاً، تسير ميرا بزي مدرسي أزرق داكن، وشعرها الأشقر يصل إلى كتفيها فقط، وهناك ابتسامة صغيرة متكبرة على وجهها. تحمل كاميرا في يدها وتصور المكان المحيط بها وهي تسير وتتحدث للكاميرا.
تقول "أنا ميرا"، "اليوم يوم خاص".
تتباطأ خطواتي تدريجياً، ويدور رأسي من كل هذا الفوضى، والفوضى، واللا نهاية.
وتميم هناك، على يساري.
"ما هو أكبر حلم لك؟"
"الحرية."
"بأي ثمن؟"
يشعرني أحدهم بلمسة باردة على كتفي. أشعر بقشعريرة. أدير رأسي بسرعة لأرى من هو. يقف أمامي شخص بشعر أشقر طويل ينسدل على كتفيه، وهذا الجسد لي. أنا هذه. ميرا.
ولكن ليس له وجه.
تمامًا مثل الجمهور، ليس له وجه.
"تذكري يا ميرا."
ليس لديه فم، ليس لديه فم، لكن الصوت يأتي منه، من داخله، من العقل الذي أشاركه.
كنت سأقول "ماذا؟" لكن صوتي انقطع فجأة. أحاول التحدث مرة أخرى، لكن لا أستطيع، يضيق مجال رؤيتي، ويبدأ كل شيء في الظلام كما لو أن ستارين أسودين ينزلان من الجانبين.
أميل برأسي وأنظر إلى يدي. تصل يداي إلى وجهي، وتبدأ أصابعي في لمس شفتاي اللتين تلتصقان ببعضهما بسرعة مخيفة. يبدو أن لحمي مخيط ببعضه، وخيوط وإبر غير مرئية تلتصق بشفتي العلوية والسفلية ببعضهما البعض.
أحاول الصراخ، لكن لا أستطيع، ويخرج من حلقي أنين خافت فقط. تلمس أصابعي عينيّ، وتغلقان بنفس الطريقة، ويصبح وجهي دمية بلا وجه.
"استيقظي يا ميرا. إنه يستهلكك."
"استيقظي يا ميرا."
"ماريا..."
"استيقظِ!"
استيقظت فجأة متعرقاً وأتنفس بصعوبة.
اعتقدت للحظة أنني عُدت إلى نفس الكابوس عندما رأيت الظلام أولاً، وأمسك بي الرعب فجأة، وكنت سأصرخ مرة أخرى لولا أنني أدركت أنني في مكان مختلف. بدأت ذاكرتي تعود إلي تدريجياً.
كنت في غرفة. غرفة كبيرة وبسيطة مظلمة بسبب الستائر المغلقة، وحدي في سرير مزدوج. نظرت حولي وفتشت في ذاكرتي بينما كانت قطرات العرق تتدفق من جبهتي إلى رقبتي.
أين أنا؟ أتذكر أننا غادرنا السفينة وبدأنا الرحلة، وكنا في السيارة آخر مرة، ويجب أنني نمت.
وقفت من السرير لكنني شعرت بالدوار وكأنني سأقع، لكنني تمكنت من الوقوف بصعوبة. استقبلني ممر خافت الإضاءة بنور في نهايته. سمعت أصواتًا خافتة تأتي من الطابق السفلي. كنت أقف عند سلم، ومسحت ببصري الطابق السفلي. كان تميم هناك، يحضر شيئًا ما في مطبخ مفتوح على صالة واسعة وحديثة. عندما نزلت إلى الصالة، التقت عينايا بعينيه، لكنني كنت مهتمة أولاً بمعرفة الجحيم الذي وجدت نفسي فيه. كان جحيماً جميلاً؛ تصميم عصري تقريباً قوطي، يهيمن عليه اللون الرمادي الداكن والأبيض.
و علاوة على ذلك، المنظر... كان من الممكن رؤية مدينة بأكملها من نافذة تغطي تقريبًا جدارًا كاملًا. ظننت للحظة أنني فوق السحب.
كانت الثلوج تتساقط.
عندما اقتربت من النافذة، اتضحت رقاقات الثلج التي كانت تطفو في مساء ضبابي، وكذلك اللحن الذي يرتفع من الراديو. كان هذا هو اللحن الذي يؤرقني، اللحن الذي يربطني بين الماضي والحاضر
جنوسيان...
مررت بمشاهد أفلام كئيبة لـ ميرا وهي تعزف البيانو في غرف وحيدة ومعزولة. شعرها الطويل منسدل على ظهرها، وأصابعها الرقيقة تلمس المفاتيح بلطف، وحواف فستانها الطويل تداعب الأرض. كان القمر الكامل، الذي يشبه لوحة ألوان رائعة لرسم، يبعث ضوءًا صوفيًا من نافذة غرفتي.
كنت أعرف أن تميم يتبعني بنظره، وتجاهلته وذهبت أولاً إلى النافذة. تمكنت من رؤية انعكاسي في الزجاج، ورفعت يدي تلقائيًا ولمست انعكاسي بلطف. كانت عيني، أنفي، شفتاي في مكانهم الصحيح، لكنها لم تبدو ككل متكامل في لحظة. عقدت حاجبي وأنا أنظر إلى نفسي، من الواضح أنني لم أستفق بعد من تأثير الكابوس.
"هل يجب أن أقلق؟"
فزعتني هذه المحاولة للتواصل مع عالمي الداخلي، حيث نسيت وجود تميم للحظة. التفتت إليه ورأيته خلف بار يفصل بين الصالة والمطبخ.
كان قد رفع أكمام قميصه الأبيض وكان يبرش شيئًا ما على المنضدة. قال دون أن يرفع عينيه عن عمله "أعني عندما استيقظت فجأة ونظرت إلى انعكاسك في النافذة".
أليس هذا سخيفًا بعد كل ما فعله لجعلي مجنونة؟
اقتربت منه بشك، كما لو أنه يخفي سلاحًا خلف المنضدة وينتظر الفرصة المناسبة.
سألته مباشرة "ماذا فعلت بي؟" كنت واقفة الآن أمام المنضدة.
وبدا مرتاحًا جدًا، على عكس شكوكى، واقترح "أو ربما كنتِ نائمة فقط وحملتك إلى السرير".
ما زلت أعبس، وسؤالي التالي كان حازمًا "هل أعطيتني دواء؟"
ابتسم وقال "هل نسيت أنكِ رميتِ كل الأدوية؟"
"ألا تتذكر عندما قلت لكِ أنني سأجعلك تندمين على عدم تناول الأدوية؟"
رفع رأسه ونظر إليّ مباشرة، حاجبه مرفوع وكأنه يتساءل عن سبب شكّي المفاجئ. ربما كان يتساءل عما إذا كنت أتذكر أي شيء.
صمتت وأنا أراقبه وهو يعمل. أضاف الفودكا إلى الخلاط الذي يحتوي على البرتقال والعسل والزنجبيل المبشور، ثم غلق الغطاء ورجّه.
بينما كنت أراقبه عن كثب، همهمت قائلة "أشعر بالتعب الشديد".
أجابني وهو يفتح الخلاط ويصب محتوياته في كوب "لأنكِ لم تأكلي أو تشربي بشكل صحيح منذ أيام".
ودفع الكوب نحوي.
قال "اجلسي". كنت أقف بجانب الكرسي مرتبكة، ليس لأنه طلب مني ذلك، ولكن لأنني لم أكن أملك القوة للوقوف. جلست على الكرسي العالي كما طلب.
بينما كنت أنظر إلى المشروب، قال بصوت هادئ عميق "يجب أن تستعيد طاقتك. اشربي". كان ينظر إليّ من أعلى، بتعبير دقيق، يراقبني باستمرار.
"كان من الصعب أن أرفض طلبًا كهذا، خاصة تحت هذا الضغط، لذلك شربت رشفة من الكوكتيل."
راقبني عن كثب منذ أن لامست شفتي الكوب وحتى آخر لحظة ابتلعته. كانت المذاق نافذًا ومرًا لدرجة أنني شعرت بالغثيان، لكنني أجبرت نفسي على شربه حتى النهاية، لأنني لم أرد أن أمنحه متعة إجباري على شرب هذا المشروب.
في تلك اللحظة، سألته "أين نحن؟" كنت أتساءل عن سبب وجودنا في هذا المنزل، في هذه الناطحة الشاهقة، وعن اسم المدينة خارج النافذة.
أجاب "أنقرة".
فتذكرت كل شيء فجأة.
همهمت "صحيح". تذكرت كيف انتهى بنا المطاف في أنقرة بسبب عمل تميم "السرّي" بدلاً من مقابلة خليل في إسبرطة.
أخرجني تميم من أفكاري قائلاً "أنتِ تتعرقين. هل رأيتِ كابوسًا؟"
أجبت على الفور "لا، يجب أنني نمت لفترة طويلة".
قال لي "حوالي 23 ساعة".
وسعت عينيّ بدهشة "ماذا؟"
"وربع ساعة"، أضاف وهو يرفع يده لينظر إلى ساعته.
أي أنني كنت أنام كالخنزير بينما كان خليل ينتظرني؟ لعنة!
حاولت أن أخفي قلقى عن تميم، لكنه لاحظ التغيير الطفيف في تعبيري، ورفع حاجبه دون أن يقول شيئًا. ثم ترك المنضدة بخطوات بطيئة وتوجه نحو الصالة.
تابعته بنظري، منتظراً منه أي حركة أو كلمة غير متوقعة، لكنه ظل صامتًا لبعض الوقت. كان يرتدي بنطلونًا قماشيًا وقميصًا أبيض، وأكمام القميص متدلية حتى مرفقيه، ويداه في جيبيه. وقف أمام النافذة ينظر إلى الخارج، وحاولت أنا أن أفرغ كوبي.
قال فجأة، وبدت عليه علامات الضيق "لدي عمل قصير. لن أكون هنا لمدة يوم. كنت أتساءل عما إذا كان يجب عليّ تركك وحدك".
توسعت عينيّ فجأة عندما أدركت الفرصة التي أتيحت لي. هل سيغادر؟ هل سيتركني وحدي؟
مسحت حلقي وأنا أحاول إخفاء حماسي "لست طفلة. يمكنني الاعتناء بنفسي".
ساد صمت قصير، ثم التفت إليّ ببرود وهو يرمقني بنظرة من فوق كتفه. سألني بصوته العميق الهادئ الذي يبعث على القلق "هل هذا صحيح؟"
ابتلعت ريقي وأنا أشعر بأن هناك شيئًا ما خاطئًا. لكن تميم بدا هادئًا وهو يفكر في الأمر.
قال وهو يقف أمام النافذة بجسده الضخم "حسنًا، سأغادر في وقت مبكر غدًا، لكني أريد أن أتناول معك عشاءًا قبل ذلك. عشاءًا رسميًا". توقف ثم أضاف "أعتقد أنك ستحبينه".
عشاء مناسب؟ لم يكن يقصد موعدًا رومانسيًا، أليس كذلك؟
قبل أن أسأله عن سبب رغبته في ذلك، أمرني "أنتِ جائعة بالتأكيد، اذهبي واستعدي. لقد أحضرت لكِ فستانًا أعتقد أنك ستعجبين به".
لم يمنحني أي خيار، حتى فيما يتعلق بما سأرتديه. كان هو المتحكم بكل شيء، وعليّ أن أطيع. قبضت على يدي بغضب ونهضت من الكرسي.
لكنني قلت لنفسي "لا بأس، ميرا". سيغادر غدًا وسيتركني وحدي. سأهرب، سأجد خليل، وسأعاقب تميم على كل ما فعله بي. لذلك قررت أن أتحمل الأمر دون أي مقاومة، وتوجهت إلى غرفتي.
كان المكان غريبًا جدًا. بعد كل الأماكن التي زرتها، والتي كانت مليئة بالزخارف الخشبية المنحوتة والطلاء الذهبي، تجسد كل منها جوًا أرستقراطيًا قديمًا، وجدت نفسي فجأة في مكان عصري للغاية. ناطحة سحاب في قلب المدينة، تصميم عصري وهادئ بألوان داكنة.
هل كان ذلك لأن زهير دعاني إلى منزله في ناطحة السحاب، والذي ادعى أنني أرغب فيه بشدة؟.
بينما كنت أتجول في المكان، شعرت وكأنني قفزت في الزمن مئة عام إلى الأمام. بعد كل تلك الرحلات الفاخرة والحفلات الراقصة، وجدت نفسي في مكان بارد وبسيط. لم أرَ تلفازًا منذ فترة طويلة، فتفاجأت عندما رأيت تلفازًا مثبتًا على الحائط في غرفة النوم.
كان هناك طاولة مكياج بجانب سريري، ولم ألحظ في البداية كل تلك الأشياء الصغيرة عليها، أو بالأحرى مستحضرات التجميل.
كان هناك فستان أسود ملفوف في كيس، وبجانبه أحذية ملفوفة بشريط أحمر بجانبها. لم تكن تحمل علامة تجارية معروفة، بل اسم مصمم غير مألوف. ومع ذلك، بدا الاسم مألوفًا لي. همهمت قائلة "الفنان". ثم دخلت الحمام.
لم يكن هناك قفل على الباب، لذلك ارتديت ملابسي الداخلية داخل الحمام خوفًا من دخوله. وكالعادة، حاولت تجاهل الندبة على بطني، لكنها كانت موجودة هناك. كانت خياطتها سيئة للغاية. ألم أطعن بسكين في الماضي لأتمكن من الهرب إلى الطبيب؟ لم يكن ذلك انتحارًا، بل خطة ماكرة. لكن يبدو أن تميم لم يأخذني إلى الطبيب، يا لها من وحشية.
دخلت الغرفة وأخرجت الفستان من الكيس ورفعته أمامي. كان فستانًا أسود ضيقًا بلا أكمام، ولكن مع قفازات سوداء من الدانتيل تصل إلى المرفقين. وكان هناك جزء من القماش الأبيض عند نهاية القفازات يشبه الأكمام المنتفخة، وينتهي التنورة الضيقة عند الركبة.
تجنبت النظر إلى انعكاسي في المرآة ومسكت المشط وبدأت في تمشيط شعري. تركته منسدلًا ومتموجًا قليلاً، معتقدة أنه يتناسب مع الفستان. ربما أضع شريطًا أو ربما أغرز فرشاة الماكياج في حلقي من الغضب على نفسي، لا أعرف.
بعد كل الصدمات التي مررت بها، هل أرتب نفسي لموعد عشاء؟ هل الحياة تستمر بهذه الطريقة؟ أم أنني أحاول أن أبدو جميلة في نظر تميم؟ أعتقد أنني بدأت أفقد عقلي.
بدأت في وضع المكياج. حتى علب المكياج كانت مزينة بزخارف صينية. ضحكت على هذه المنتجات الفاخرة التي ستختفي تحت طبقات المكياج. على الرغم من أنني رأيت كوابيس مرعبة قبل ساعات، إلا أنني وضعت ظلال عيون لامعة.
في النهاية، وضعت أحمر شفاه أحمر داكن. كنت جاهزة وخرجت من الغرفة. كان ينتظرني جالسًا على الأريكة، كان يراقب المدفأة، مستنداً بمرفقه على ذراع الكرسي الذي كان يجلس عليه، ويسند صدغه بأصابعه.
عندما سمع صوت كعب حذائي، رفع رأسه ووجهه إلى الخلف، باتجاه الدرج. لاحظت أنه ابتلع ريقه أولاً؛ تحركت تفاحة آدم صعوداً وهبوطاً مع عينيه، وتابع نزولي إلى الأسفل بعناية.
عندما تمكن أخيراً من استعادة وعيه، نهض وتقدم نحوي وهو يسدل أزرار سترته. التقينا في المنتصف بعد بضع خطوات، وجدنا أنفسنا وجهاً لوجه، لكنني لم أستطع اللحاق بطوله حتى بكعبي العالي؛ كنت أصل إلى كتفه بالكاد، وشعرت بأنني صغيرة جداً مقارنة بكتفيه العريضين.
لم يرفع عينيه عني، كما يفعل دائماً، لكنني على عكس المعتاد، لم أعبس عليه بل ابتسمت.
بعد كل شيء، كانت تلك ستكون آخر عشاء لنا معاً، ويمكن اعتباره احتفالاً بالنسبة لي، وقد قررت في قرارة نفسي أن أستمتع بهذه اللحظة.
في تلك الأثناء، رأيت على الطاولة المقابلة 7 صناديق صغيرة سوداء مزينة بزخارف ذهبية على شكل أزهار. سألت "ما هذه؟"
يبدو أنه نسيها تماماً عندما رآني، وأدركها معي وهبطت عيناه. قال مترددًا وكأنه تذكر للتو "هذه... هدايا". ثم ابتلع ريقه مرة أخرى.
التفت إلى الطاولة المنخفضة وأخذ أحد الصناديق وفتحه.
"أنت لطيف معي بشكل مبالغ فيه هذه الأيام"، قلتُ بسخرية. "ألم تكن قد قلتَ إن الأمور ستزداد سوءًا؟ هل كل هذا بسبب ذلك؟ هل تعتني بي جيدًا مثلما يعتنون بالماشية قبل ذبحها، لتقدمني كقربان؟"
ضحك وهو يخرج زجاجة عطر من الصندوق، كانت ضحكة صادقة لدرجة جعلت عينيه تتضييق. "لطالما أحببت خيالك وصراحتك"، قال بصدق.
عطر؟
أومأ برأسه موافقًا وهو يتقدم نحوي بزجاجة العطر في يده، بابتسامة ماكرة. "ربما"، اعترف. وقف أمامي، محافظًا على ابتسامته. "ربما أعتني بك جيدًا لجعل لحمك ألذ"، قال وهو يمسك معصمي ويرفع ذراعي. "أريد أن أستمتع بوجبة شهية، أليس كذلك؟"
أصابني ألم في بطني من المعنى المخفي خلف كلماته الخطيرة. كنت أنظر إلى معصمي، لكنني كنت غير قادرة على نسيان كلماته المتوترة ونظراته الثاقبة.
"هل يعجبك العطر؟" سألني.
وجدت صعوبة في تجنب نظراته للحظة. "إنه مجرد عطر"، أجبتُه بتجاهل، لكن قلبي كان ينبض بسرعة، وكان هناك دفء مألوف في هذا العطر. لقد غطت جزيئات العطر بشرتي في لحظة، وكشفت لحظة عن حاجز الذاكرة بيني وبين ميرا الحقيقية.
"يتم إنتاج سبع زجاجات فقط من هذا العطر كل خمس سنوات"، قال بصوت هادئ. "وأنتِ يا ميرا"، ابتسم، "كنتِ دائمًا تأخذين السبع زجاجات. أنتِ الوحيدة في العالم التي تريد أن تشمي هذه الرائحة".
وضع زجاجة العطر في راحة يدي وتراجع، ثم التفت وشد ربطة عنقه ورتب ياقته ووقف أمام المرآة. "كنت أنتظر إعادة إنتاجه منذ خمس سنوات"، قال، "وأخيرًا تم إنتاجه. الآن، السبع زجاجات لكِ".
كانت الزجاجة في راحة يدي، زجاجة صغيرة سوداء بارتفاع 30 ملليليتر مزينة بنقشة زهرة. "ميرا..." كان الأمر أشبه برغبة في أن أكون مثلك، أن أفكر مثلك، أن أدخل عقلك، أن ألامس روحك. كانت رابطة غريبة، لكن عقلي كان قادراً على تكوين هذا الارتباط الصغير، وكان يطلق هرمونات غريبة. رشيت العطر مرة أخرى. لم أشم قط رائحة بهذا القدر من الغموض والخشبية الأنثوية في حياتي. كانت جذابة للغاية، ساخنة وباردة في نفس الوقت، عميقة، غامضة. كانت بالتأكيد خاصة بـ ميرا فقط... لم أستطع أن أغضب منها لأنها احتفظت بهذا العطر لنفسها.
ومع ذلك، لم أستطع إلا أن أقول، "يا لها من أذواق فاخرة". "هل كان من المهم حقًا أن تكون هي الوحيدة في العالم التي تشم هذه الرائحة؟"
في المرآة، رأيت ابتسامة خبيثة. "ميرا..."، صوته الذي خرج من صدره بعمق وهو ينطق اسمي هكذا جعلني أبتلع ريقي. "كانت امرأة شديدة الغيرة"، تابع. "لم تستطع مشاركة أي شيء يخصها".
كم نحن مختلفات عن ميرا في الماضي... لا يمكن أن تكون مشكلتي الأخيرة في العالم هي أن أشم رائحة مختلفة عن الآخرين.
واصل تميم شرحه "كل شيء كان لكِ"، قال. "كانت ميرا تكره الثقافة الشعبية والعلامات التجارية المبالغ فيها، وأزياء الموضة. كان لديها أسلوبها الخاص، ومجموعة ألوانها الخاصة، وتفضيلاتها الخاصة في الأقمشة والخياطة... كانت تطلب خياط العائلة لخياطة كل ملابسها. باختصار، لم يكن بإمكان أي شخص آخر في العالم أن يمتلك أي شيء يخصك".
إذن، يجب أن يكون قد طلب من خياط العائلتنا خياطة هذه الملابس، ولا ينبغي أن أتفاجأ من أن اسم المصمم يبدو مألوفًا.
ليست مدللة، وليست متكبرة، لكنني لا أحب هذه التصرفات المبالغ فيها لـ ميرا بطريقة ما. لا يمكن أن تكون تحاول أن تكون مختلفة، فهي مختلفة بما فيه الكفاية بطريقة عيشها وأصولها العرقية، فلماذا تهتم بهذه الأمور الصغيرة؟
يجب أن يكون هناك سبب لهذا نمط الحياة، لهذا التفكير، دافع ليس مجرد غرور، "يجب ان أشم هذه الرائحة"، بل شيء مختلف... ربما كانت لديها فكرة مثالية. شخص يكره الثقافة الشعبية إلى هذا الحد، يريد الابتعاد عن الناس الذين يشبهون بعضهم البعض وعن ذوقهم، يكره المجتمع الراقي...
هززت رأسي بشدة وخرجت من شرودي، ثم قلت بتجاهل "مهما يكن، لنذهب الآن".
عندما التقت عينيه بعيني في المرآة، كنت قد تركت العطر بالفعل وكنت أتجه نحوه. كان المخرج في ذلك الاتجاه، لكنني لم أستطع المرور به لأنه دار بجسده الضخم قليلاً وسد طريقي، وكانت يداه لا تزالان على ياقته، وهو يعبث بربطة عنقه. عدلها مرة أخرى بخطأ.
قال أخيرًا وهو يحرك رقبته كما لو أنه غير مرتاح "هل ربطة عنقي مرتبة؟".
ألقيت نظرة سريعة على جسده الضخم ببدلته الرسمية، ثم قلت "لا"، وتجاوزته وتوجهت نحو المخرج. بالطبع، لن أعدل ربطة عنقه. هل يعتقد أننا في فيلم رومانسي لأدام ساندلر؟
سمعت أنفاسه العميقة وهو يتبعني بصبر، لكنه لم يقل شيئًا وتبعني إلى الخارج. كنت قد ارتديت معطفي الأسود وخرجت.
كنت أسير وحدي عندما شعرت بيد على خصري، لم تحاصرني ولكنها وضعت بلطف لتوجيهي. كان بجانبي مباشرة ولم يزِل يده حتى دخلنا المصعد، وفقط بعد ذلك استطاع أن يفصلها، لكنه ضغط على زر الطابق الأعلى.
عندما أغلقت أبواب المصعد وبدأنا في الصعود، عكست حاجبي. همهمت "كنت أعتقد أننا سنخرج".
ألقى نظرة سريعة جانبية وهو يضع يده في جيبه. في كل مرة يفعل ذلك، تبرز كتفيه بشكل أكبر، ويأخذ وضعية ذكورية مهذبة ولكنها تثير غرائز بدائية... أتمنى لو أنه يتوقف عن فعل ذلك.
عندما قال "كل ما نبحث عنه هنا"، كنت قد ضللت الطريق بالفعل، ولم أفهم حتى ما يقوله.
نظرت بعيدًا ومسحت حلقي بلطف، وبدأت أراقب المنظر من خلال نافذة المصعد الزجاجية.
همهمت بغضب "بالطبع، أنت لا تريد أن تتجول معي هكذا"، لم يكن يريد اصطحابي إلى عالم طبيعي، إلى مكان لا يوجد فيه أي من معارفه. لم يجب على ذلك.
بينما كنت أشاهد حيوية المدينة في المساء من الخارج، سألت "هل سنعود إلى ذلك المنزل الجبلي مرة أخرى؟" كنت قد وضعت خطة جديدة في ذهني في حالة لم أستطع الهرب.
قال "سنعود"، "عندما أنتهي من أعمالي".
همهمت "رائع"، كنت أريد أن أعرف ما الذي يوجد في صندوق تميم المقفول، كان ذلك لغزًا بالنسبة لي.
عندما توقف المصعد في الطابق الأعلى وفتحت الأبواب، حاولت أن ألتفت وأخرج، لكن تميم وقف أمامي مرة أخرى وضغط على الزر وأغلق الأبواب.
توقفت وتراجعت بدهشة. سألته "ماذا تفعل؟" ونظرت إلى تعبيره المضطرب.
اقترب مني وسألني "ما الذي يعجبك؟"
توقفت في مكاني دون أن أفهم سبب توتر هذا الجو فجأة.
وقف تميم أمامي، بيني وبين جدار المصعد الزجاجي، ومد يديه ومسك درابزين المصعد. كان قريبًا جدًا مني؛ حتى لو لم يلمسني، أو حتى لو لم تتلامس أي نقطة منا، كان يمكنه الاقتراب مني إلى هذا الحد، ويمكنه أن يقطع أنفاسي بهذه المعاملة الوقحة، أو بالأحرى، بغزوته.
ميل برأسه نحوي. وسأل بهدوء وفضول "لماذا تريدين العودة إلى المنزل الجبلي؟".
قبل أن أفهم من أين جاء هذا السؤال، أجبت ببساطة وبغرابة "كنت أشعر براحة أكبر هناك".
اجتمع حاجبيه كما لو أنه لم يكن راضيًا عن إجابتي. وقال "السفر على يخت فخم، والهدايا، وحفلات المجتمع، والحفلات الراقصة، وناطحة سحاب فريدة من نوعها، وملابس مصممة لا مثيل لها، وعطور"، ثم سأل "ألم يعجبك كل هذا؟ لماذا تريدين العودة إلى ذلك الجبل الآن؟".
توقفت في مكاني مندهشة مما إذا كان هذا حقيقيًا أم لا، ولكن عندما استعدت وعيي و أدركت أن هذا ليس هجومًا بل نداء بائسًا، بدأت أبتسم بسخرية على عكسه.
"هل كنت تحاول إرضائي عن كل شيء منذ البداية؟" سألتُه بسخرية كبيرة، وكأنني لا أصدق ذلك. كان تميم يراقب رد فعلي بارتباك وعدم ارتياح، وحتى بعض الغضب، ينتظر إجابة دون أن ينطق.
هززت رأسي إيماءً على فهمي. وقلتُ وأنا أطبق شفتي، وألقي نظرة جانبية على تميم بطريقة تهديدية، كما كان يفعل بي عندما يشعر بالضعف "أفهم الآن". "تحاول أن تتكيف مع حياة ميرا الفاخرة السابقة، وأن ترضيني. ربما بسبب زهير وبوراك، أو بسبب ما قدموه لي في الماضي أو ما يمكن أن يقدموه لي في المستقبل... وربما تحاول إثبات لي أنك تستطيع أن تكون أفضل مني رغم كرهك لي".
عندما رأيت تميم يبتلع ريقه، أكملتُ سخريةً "أنت تعتبرهم منافسين، وتتنافس معهم". وفي النهاية، أضفت بكبرياء لم أستطع إخفائه "كارثه... أليس هذا الأمر ساخراً حتى بالنسبة لك؟".
لم يستطع أن يعترض، بل نظر إلي بغضب، وهو ما اعتبرته انعكاسًا لضعفه، وسألني "ماذا تريدين؟ ما الذي ترغبين فيه؟ أي فستان، أي منزل، أي نمط حياة، كم من قيراط من الماس تريدين يا ميرا؟".
ابتسمت بسعادة وقلت "وستعطيني كل هذا؟". "أريد التخلص منك إذن".
"ما لم يكن مستحيلاً"، صحح لي حق الطلب الذي منحه لي. "اطلبي شيئًا غير مستحيل".
"أريدك أن تنسى مسألة الانتقام"، واصلت القائمة. "أريدك أن تسامحني على كل ما فعلته".
نظر إلي بقلق وقال "لا تجربي حظك".
"أريدك أن تعطيني يومياتك"، عندما قال "ميرا" تشنج فكه.
"أريدك أن تخبرني بكل شيء من البداية إلى النهاية"، ظل صامتًا. "أريد أن أحصل على كل ممتلكاتك، كما ينبغي أن يكون، بالطبع"، واصلت.
نظر تميم إلى وجهي بغضب بسبب هزيمته، وابتسمت ابتسامة ماكرة. وقلتُ بلامبالاة "إذا لم تتمكن من تحقيق ذلك، فإن الهدايا باهظة الثمن التي يشتريها رجل رخيص مثلك ليس لها قيمة في نظري. لذلك، لا تهدر أموالك القذرة على البذخ غير الضروري".
تحركت للخروج من بينه وبين الحائط، لكنه أمسك بكتفي فجأة ودفعني إلى الحائط. في ثوانٍ، لف أصابعه حول ذراعي، وحاصرني بجسده الضخم، وجعلني سجينة في سجنه من اللحم والعضلات.
خرج أنين خافت من شفتي، بينما كان أنفه يفرك خدي وهو يتنفس بقوة باتجاه وجهي ويقول "رجل رخيص مثلي، أليس كذلك؟".
ظننت أنني سأنهار تحت ضغطه، لكني حاولت الابتسام رغم ذلك، وبثقة لا أعرف من أين أتت، قلت "أعتقد أن المال هو ما يجعلك رخيصًا". "سيارتك الفاخرة، وحفلاتك، ومكانتك التي اكتسبتها بالدم، والهدايا باهظة الثمن التي تحاول التباهي بها... أنت لست سوى صعلوك شارع حصل على المال، كارثه".
على الرغم من أنني قلت ذلك، كنت أعرف أنه ليس صحيحًا. لم يكن تميم مجرمًا فحسب، بل كان أيضًا رجل أعمال، ومحاميًا؛ لقد بنى إمبراطوريته بنفسه في مجال تنافسي شرس للغاية، ولم يكتفِ بترك بصمته الذهبية، بل سيطر على القطاع بأكمله.
لكنني لن أخبره بذلك، سأجعله يعتقد أنه لا يستطيع أن يتفوق علي، ولا أن يؤثر علي.
حاول أن يهدئ نفسه، وكأنه يحاول كبح غضبه، وقال "هذه الليلة... كانت ستكون ليلة جميلة". "كان يجب أن تكون كذلك".
قاطعته قائلة "وأفسدتِها مرة أخرى، أليس كذلك؟" كنت أجبر نفسي على استخدام آخر قطرات صبري. كنت أعرف أنني أتجاوز الخطوط، وأن استفزازه أمر خطير، لكنني لم أستطع السيطرة على نفسي. كان لساني ينطلق تلقائيًا، مع كل ذلك الاحتقار والكبرياء والرغبة في الاستفزاز.
"أعتقد أنك تعاني من عقدة نقص"، قلت له، رغم صعوبة الكلام بسبب حصر جسدي بينه وبين الحائط الزجاجي، إلا أن ميرا كانت ستستمر في الاستفزاز حتى لو فقدت فكها.
"كنت ابنة ملياردير"، قلت مبتسمة بسخرية. "كانت ميرا تستطيع امتلاك العالم لو أرادت. ولأنك لا تستطيع تلبية متطلبات حتى شعرة منها..." واصلت النظر إليه بازدراء، بعبارة "يا لك من رجل حقير".
"بالطبع، يجب أن تكون قد تحطمت"، تابعت نشر السم. "أعني، من ناحية لديك بوراك وزهير، وهو رجل نبيل يستحق عائلة إسحاق، ومن ناحية أخرى..." وهبطت عينيّ إلى أسفل بازدراء.
كنت أهدف فقط إلى إيذائه، لكنني كنت أعلم أيضًا أنني أتجاوز الحدود.
"أنت..." قلتُ وبدأت أضحك. حاولت تجميع الذكريات والمعلومات التي أعرفها عن ماضيه، لكنني لم أهتم بمدى صحتها في تلك اللحظة. "هل كنت في عصابة؟ أم كنت تدير ملهى ليلي؟ ماذا كنت تفعل؟ هل كنت وسيطًا؟ هل كنت تبيع النساء؟ شيء تافه من هذا القبيل، أليس كذلك؟" سخرت منه بسعادة.
كان ينظر إليّ بتعبير جامد، وكأنه ينتظر أن أنهي كلامي. ربما للمرة الأولى رأيت تشققات في جدرانه الصلبة وأقنعته المثالية. على الرغم من هدوئه المثالي، إلا أن التردد الصغير في عينيه، تلك اللحظة من الذهول، كشفت كل شيء بالنسبة لي.
"بل حتى ظفر بوراك لا تستطيع أن تكون"، تابعت.
كنت أعرف أنه يشبك يده على الدرابزين بقوة، وأن مفاصل أصابعه قد بيضت، لكنني تجاهلت ذلك وابتسمت له بسخرية، واقتربت وجهي من وجهه
"لا تستحق ميرا أبدًا يا تميم "، همست له. "أنت لست حتى في نفس مستوى بوراك. بماضيك القذر ونمط حياتك، أنت لست مؤهلاً حتى لذكر اسم ميرا".
توقف، يكفي يا ميرا، اسكتي يا ميرا! لماذا أشيد بـ بوراك فقط لإيذاء تميم؟ أكتشف صفة جديدة في نفسي كل يوم، واليوم هي: أنني مستعدة للاحتضان حتى الثعبان إذا غرقت في البحر!
سكتت، لم أستطع المتابعة، الخسارة أقل ضررًا. أتمنى أن يكفي هذا لإنقاذي.
لم أكن أعرف كيف كان حال تميم، أو ماذا يفكر، أو ماذا يشعر، حتى أنني تجنبت النظر إليه. لقد أفسدت هذه الليلة، ولم أرغب في تأجيج الأمور أكثر من ذلك، وحاولت تجاوز الرجل الذي كان يحبسني بين ذراعيه وجدار الزجاج.
ولكنه لم يسمح لي بالخروج، بل رفع إحدى ذراعيه التي كانت تحاصرني ووضع أصابعه على ذقني.
"أهكذا الأمر؟" تنفست بهدوء، بينما يستعيد نفسه ويشد عضلات رقبته، متصارع مع غضبٍ يكاد يخنقه، وشعرت بأن أنفاسه لن تعود أبداً.
"لنتحدث قليلاً عن حالة ميرا الحالية الآن" قال، وقد أصبح جسده متلاصقاً مع جسدي لدرجة لا تُوصف، مما أثار فيَّ شعوراً غريباً.
"أين خطيبك المثالي الذي لن أكون سوى ظفر في قدمه الآن، يا ميرا؟" سأل وهو يحرك صدره بقوة، وكأنه يحاول كبت غضبه، واصطدم بصدري. "إذا كان نبيلاً إلى هذا الحد، وإذا كان عريساً مثالياً لعائلتك، فليأتِ لإنقاذك من هذا القبر الذي دفنتك فيه."
كان يجبرني على النظر إليه بضغط أصابعه على ذقني. بينما كانت عيني تتسع من الصدمة، كانت عيناه تتألقان بالكراهية والغضب.
"أنتظر عائلتك القوية والنبيلة" قال. "سأدفنهم في الأرض مرة أخرى مهما حاولوا النهوض، يا ميرا، ادعيهم لِيأتوا ويأخذوكِ مني."
حاولت إبعاد يده عن ذقني بكل قوتي، لكنه لم يتحرك. أضحكه ذلك الجهد البائس، وحرك يده بيده وبدأ يحرك رأسي يميناً ويساراً بسخرية، وظهرت ابتسامة مزيفة ومخيفة على شفتيه.
"وانظري إلى ميرا إسحاق أيضاً" قال، وحاولت دفع يديه عن صدري، لكنهما علقتا بسبب قربه الشديد.
ضحك عليَّ تميم قائلاً "كنتِ أصغر مليارديرة". ثم ابتعد قليلاً ونظر إلى عيني اللتين بدأت تشعران بالحرق تحت رموشي المتحركة.
وأضاف وهو يستمتع بإشعال النار بداخلي "لم يعد لديكِ مال ولا ممتلكات". وأغلقْتُ عينيَّ وتنفسْتُ بعمق من شدة الغضب، لكنه لم يسمح لي بذلك، بل اقترب أكثر وكأنه يريد أن يمنعني من تجنب النظر إليه.
وتابع وهو يلمس جبهتي بإصبعه "لم يتبقِ لكِ سوى عقل صغير، وقد أخذته منكِ أيضاً".
كنتُ على وشك أن أكسر أسناني من شدة الضغط، ورأسي يدور من الغضب الذي ينتشر في جسدي. كانت عينيَّ وأنفي تحترقان، وشعرت بثقل وحقارة يتجمعان في جانبي الأيسر.
ولاحظ تميم ذلك على الفور، وسألني وهو لا يزال قريبًا جدًا "هل تبكين بالفعل؟".
وهددتُه بصوت غاضب ومخيف "ابتعد عني".
ولكنه تجاهلني وقال "لم أنتهِ بعد". وكان أنفه يلامس أنفي تقريبًا. وأضاف وهو ينفث أنفاسه الحارة على بشرتي "سأعد لكِ كل شيء حتى الصباح".
"لو شئت يا ميرا، لسردت لكِ تفاصيل طردي لتلك العائلة المثالية من تاريخها. سأخبركِ بكل تفاصيل نفاق معايير حياتكم التي لا أستطيع حتى الاقتراب منها."
ازداد غضبه تدريجياً، لكنه استمتع بذلك أيضاً، وهاجمني بشدة. لقد أراد تدميري كما لو كنت شيئًا.
"سأخبركِ كيف فقدت كل ما لديكِ لأنكِ لستِ سوى مغرورة مدللة، وكيف أن عائلتكِ لم تحبكِ أبدًا، وأن بوراك الذي كان يحبكِ كان سيكره نفسه بسبب أنكِ ساحرة أنانية للغاية."
كان تنفسنا سريعًا ومتداخلًا. كنت أنظر إليه بدهشة مما سمعته، وكان يرد عليّ بالكراهية. قال "هذه هي اللعبة التي سنلعبها، سأخبركِ يا ميرا، سأخبركِ بكل ما تريدينه عن حياتكِ 'المثالية' و'النبيلة'."
خرج نفس مرتعش من شفتي. قلت له "ابتعد"، كنت سأغشي في تلك اللحظة. "أحذرك للمرة الأخيرة، ابتعد يا تميم."
استمتع هذا الرد به تمامًا، وظهرت ابتسامة عريضة على وجهه. "وإلا ماذا ستفعلين؟"
بدأت عضلاتي تؤلمني من شدة توتري. "تميم..."
واصل هو تجاوز حدوده، متجاهلاً إياي قائلاً "أم تخبرين خطيبتكِ بي؟ هل خطيبتكِ زومبي أم ماذا؟ صحيح أنه غبيِ ولكن-"
"تميم يكفي!"
كنت أرتعش من الرأس إلى القدم من الغضب، ولو لم أمسك نفسي لأبكي بحرقة، لكني أجبرت نفسي على التحمل حتى لا أمنحه هذا اللذة.
تباطأ تنفس تميم، وراقب رد فعلي للحظة وجيزة. وكأنه يزن في ذهنه ما إذا كنت قد تعلمت درسي أم لا، وفي النهاية اقتنع. لكنه أضاف تحذيرًا أخيرًا قائلاً "إذا قارنتني مرة أخرى بذلك الرجل-" لكنني قاطعته بشدة لأنني أردت إنهاء كل هذا في أقرب وقت
"لن أفعل"، قلت على الفور، "لن أقارنك به مرة أخرى."
توقف، وقلل من ضغطه على ذقني، وأخيراً منحني مساحة صغيرة لأتنفس.
همهم قائلاً "أحسنت". جعلني هدوئه المفاجئ أعتقد أنه مجنون تمامًا. شخص كهذا متقلب المزاج وغير متزن مخيف للغاية.
قال "الآن"، وقد أزال يده عن ذقني وحتى قام بتسريح شعري المتناثر قليلاً. "سنذهب لتناول العشاء اللعين هذا وسنتناول عشاءنا بسلام، وستجلسين بهدوء في مكانك ولن تثيري أي مشاكل أخرى."
كان يحدق في عيني بإصرار. "هل اتفقنا؟" هززت رأسي ببطء دون أن أنظر إليه، لكنه أصر قائلاً "لم أسمع؟"
"حسناً"، قلت بصوت بارد وميكانيكي. كانت يداي ترتعشان لا تزال، فقبضت عليهما بإحكام على جانبي حتى لا يراها. أخيراً ابتعد عني و ضغط على الزر مرة أخرى.
انفتح الباب، ومسح حلقه بأدب، ورتب ربطة عنقه، وانتظرني وأنا أخرج بمد يده قائلاً بابتسامة خبيثة "تفضل يا أميرة".
خرجت من المصعد دون أن أنظر إليه وعبرت الرواق الزجاجي الواسع بخطوات ثابتة وكأنني أريد أن أشقه. كان تميم يتبعني دون أن ينطق بكلمة. و بينما كنت أسير في الرواق بوجه عابس ومزاج متوتر، نظر إليّ نادل قادم من الجهة المقابلة بعبوس.
في نهاية الممر كان هناك مطعم. كان مكانًا عصريًا وأنيقًا محاطًا بالزجاج ومضاء بإضاءة خافتة، وكانت هناك موسيقى بيانو لطيفة تصاحب عددًا قليلًا من الزبائن.
عندما وقفت عند مدخل الباب، جاء تميم بجواري ولكن هذه المرة وضع يده على خصري. وكأننا لم نكن نحاول قتل بعضنا البعض منذ لحظة، وكأنني لم أشعر بالكراهية نحوه ضعف ما أشعر به الآن، وكأننا سنأكل عشاء رومانسي جنباً إلى جنب في مكان كهذا؟
حاولت أن أتنفس بعمق وأتجاهل نظراته. اقترب منا نادل ودود، وأرشدنا إلى طاولتنا بجانب النافذة، وأخذ طلبنا وتركنا وحدنا.
كنت أشعر بضيق شديد، ورغم أن معدتي كانت خاوية، إلا أنني فقدت شهيتي للأكل، ومررت بدقائق طويلة وأنا أجبر نفسي على تناول بعض الطعام، وألعب بالطعام في طبق، وأراقب منظر المدينة بملل، فقط لتجنب الجدال مع تميم.
كان عقلي لا يزال يفكر فيما قاله عن بوراك. قال إن بوراك كان يحبني في الماضي، لكن كل ما أتذكره هو حياة بائسة. كيف يمكن أن يكون ذلك؟ تشبه قصتي معه قصتي مع تميم. أولاً الحب، ثم الكراهية، أليس كذلك؟
"ميرا، هل تصيبين كل من تقابلينهم بالجنون؟"
نظرت إليه بملل وسألته بصراحة "هل تسخر مني؟" واستندت بذراعي على الطاولة ووضعت ذقني على راحة يدي، ونظرت إليه بنظرة متضجرة.
تظاهر بأنه لا يفهم المشكلة وقال بنبرة بريئة "كنت أعتقد أننا قد اتفقنا." وكان النادل قد جاء بـزجاجة نبيذ بناءً على طلب تميم.
وأدركت أنه يستمع إلينا، فقلت دون أن أشعر بالإهانة "لقد سكتني بالتهديد فقط، هذا ليس اتفاقًا."
لا أستطيع وصف الكفاح الذي بذله النادل لتجنب النظر إلي. كان يفكر فيما يجري هنا بالتأكيد، لكن نظرة قصيرة من تميم كانت كافية لإنهاء عمله بسرعة والرحيل.
أجاب تميم في النهاية "يبدو أنك تستمتعين بإزعاجي".
كان من المستحيل الفوز في أي جدال معه. تنهدت بضيق وقلت "لقد شبعتم، أريد العودة".
كما هو معتاد، تجاهل رغباتي وشرب رشفة من كأس النبيذ. لم ألمس كاسي حتى الآن، فإذا كنت سأرحل من هنا غداً، فلا أريد أن أكون متعبة. لاحظ تميم ذلك، ورفع حاجبه قليلاً عند ملاحظة عدم رغبتي في شرب الكحول، لكنه لم يقل شيئاً.
بدلاً من ذلك، وضع يده في جيب سترته، ونظرت إليه بحذر لمعرفة ما يفعله. أخرج من جيبه ظرفًا، وكانت هذه حركة غير متوقعة. وضع الظرف على الطاولة بيننا، وبدأ قلبي يدق بسرعة بسبب هذا المجهول. ما هذا الظرف؟ كان ظرفًا أبيض عاديًا مزخرفًا، يشبه دعوة زفاف. ولحظة شعرت بالخوف معتقدة أنه من خليل.
رد علي بهدوء، وأشار إلى الظرف بعينيه قائلاً "افتحيه".
"من أين جاء هذا الآن؟" شعرت بالقلق وأنا أمسك الظرف من على الطاولة. وكان تميم يراقبني بدقة، وكأنه يتعمد زيادة توتري. كنت أشعر بالخوف الشديد، وكنت أخشى أن يتم القبض علي في أي علاقة مع خليل.
خرج من الظرف خطاب بخط يد مائل، وكان مكتوبًا فيه
السيدة ميرال العزيزة،
سمعت أنكِ ذهبتِ إلى أنقرة. أتذكرين أنني دعوتكِ إلى منزلي في إسطنبول. إذا كان عملكِ قريبًا من هنا، فلا تترددي في زيارتي والرد على الدعوة. وسأكون سعيدًا جدًا إذا أردتِ الانضمام إلي حتى لو لم يكن عملكِ قريبًا. علاوة على ذلك، سيكون من الجيد جدًا أن تعطيني أي عنوان يمكنك من خلاله التواصل معكِ.
ملاحظة صغيرة: أرجو أن يبقى هذا الأمر بيننا ولا يصل إلى مسامع تميم. أتمنى أن أراكِ قريبًا.
مع خالص تحياتي،
زهير هرمان.
قرأت الرسالة حتى النهاية بتوتر شديد، وكدت أغشي من الخوف قبل أن أرى توقيع زهير هرمان في النهاية، وظننت أنني سأموت من الخوف بسبب اعتقادي بأنني قد تم القبض علي مع خليل. ولم أنتبه إلى خطاب "ميرال" في البداية، ولكنني استرخيت تقريبًا بعد نهاية الرسالة. كانت ركبتي ويدي وقدمي ترتجف، وكنت أتعرق. لحسن الحظ، تمكنت من إخفاء كل هذه الآثار عن تميم.
أعدت الرسالة إلى الطاولة ورفعت عيني إلى أويغار. كان أويغار قد أفرغ كأس النبيذ في رشفة واحدة.
قال وهو يبتلع ريقه بغضب: "هرمان... يهتم بكِ".
أخذت نفسًا عميقًا وتظاهرت باللامبالاة وقلت "زهير يهتم بكل أنثى".
لم أكن لأهتم بذلك الخنزير الهوس.
ولكن بدا واضحًا أن تميم يهتم بالأمر، ولم يرفع عينيه الحادتين عني للحظة. سألته "ماذا تنظر؟ هل ستتهميني بأنني أغويه؟ ليس لي أي يد في هذا الأمر يا تميم."
كنت أنتظر منه أن يتهمني ويبدأ شجارًا جديدًا بيننا، لكنني أدركت أن المشكلة ليست هنا. بدا تميم وكأنه يؤمن بي هذه المرة، بل وكأنه يعرف الحقيقة.
بدأ يشرح قائلاً "زهير يتآمر مع طلال ضدي".
حاولت تذكر من هو طلال. كل ما أعرفه أنه شريك أعمال سابق لـ تميم، وكان مرتبطًا بعصابة إجرامية منذ سنوات.
وتابع قائلاً "إنهم يحاولون إيقاعي في فخ".
"وسيران واحدة منهم أيضًا"، أضفت ذلك لسبب ما. شعرت بغرابة لأنه لم يذكر أن سيران خائنة أيضًا.
ولكنه أضاف "سيران في صفي".
عبست. "لم تبدو كذلك عندما كانت تمارس الجنس مع زهير".
تنهد. "لا يهمني حياة بلين الخاصة. إنها تجسس لصالح الطرفين".
شعرت بعدم ارتياح غريب. سألت وأنا أشعر بالغضب في داخلي "هل تثق بها؟".
قال ببساطة "إنها تعمل لصالحى".
توقفت للحظة ثم قلت بغضب "مهما يكن، لماذا تظهر لي هذه الرسالة؟ ماذا تريد مني؟".
تنهد وهو ينظر إلي. قال "زهير لا يريدكِ لهذا السبب فقط".
على الرغم من أنني كنت أعرف ما يعنيه، إلا أنني تظاهرت بالجهل وسألته "أي سبب؟".
بدى مترددًا في الإجابة، وكأنه لا يريد أن يزعجني. قال "طلال يعرفكِ".
وتابع "إنه يعتقد أنكِ معي".
أكملت جملته "يعني أنه يعرف أنكِ مهمة بالنسبة لي، وأنه يريد من زهير أن يأخذكِ مني، ليستخدمكِ ضدي".
"نعم"، قال ذلك فقط.
رفعت عيني عنه وكأنني لا أستطيع النظر إليه. "لماذا لم تمنعني من التعرف على زهير إذن؟ لماذا أخذتني في تلك الرحلة البحرية؟ وأنت تعرف جيدًا نوع هؤلاء الأشخاص-"
قاطعني قائلاً "لقد عرفوكِ قبل ذلك يا ميرا. كان طلال يعرفكِ منذ سنوات، لكنني جعلته يعتقد أنكِ ميتة. ولكنه اكتشف الحقيقة بطريقة ما".
لذلك تركنا ذلك المنزل الجبلي.
ابتلعت ريقي ونظرت إلى الطاولة. الموسيقى الخافتة، ومنظر المدينة، وأكواب النبيذ... كنت على وشك أن أضحك من غضبي.
همهمت قائلة "عشاء رومانسي لتخبرني عن المشاكل التي تجرني إليها".
استند بذراعيه على الطاولة وانحنى نحوي. وقال بصوت حازم "لن أسمح لأي منهما بالاقتراب منكِ".
توقف، واجتمع حاجبيه معًا مما أعطى وجهه مظهرًا قاسيًا. "هناك رجال أسوأ بكثير في الخارج لا تستطيعين تخيلهم".
فكرت في خليل، ربما يكون خطيرًا أيضًا. لا يهمني حقًا، سأجرب حظي. لا يمكن أن يكون أسوأ من تميم، أليس كذلك؟.
هززت رأسي للتخلص من هذه الأفكار وقلت بلا مبالاة "لم تترك لي أي حياة خارج هذا المكان".
"لماذا تخبرني بكل هذا الآن؟ لماذا تحاول تخويفني لكي أتخلى عن ذلك؟"
نظر إلي وراقب رد فعلي، ثم استند إلى الخلف.
شرح لي بوضوح "لا تتوقعي مساعدة من الخارج، وفي نفس الوقت أشكريني لأنني أحميكي".
ضحكت بغضب من غروره. قلت "أنت من جلب كل هذه المشاكل علي يا تميم. أنت من أحاطني بكل هذه المتاعب. هل تتباهى الآن لأنك تحميني من مشاكلك الخاصة؟"
"هل تعتقدين أن كل المشاكل من صنعى؟"
عقدت شفتي وكأنني حزينة. قلت بنبرة مدللة "ربما جرحت مشاعر شخص آخر أيضًا؟".
سقطت عيناه على شفتي، ثم أعاد تركيز نظره على عيني. قال لي بتحذير لطيف "كنت أعتقد أنكِ تعلمت درسًا منذ قليل".
"أم أجد لكِ شغلاً آخر يشغل لسانكِ يا ميرا؟" طرح علي هذا العرض بنبرة تهديدية.
شعرت وكأنني تلقيت لكمة في معدتي، لكنني حاولت إخفاء هذا الإثارة وهذا الشعور بالعار الذي لا أستطيع كبته، وقلت فقط "أنت مقرف".
قال ببرود "كان سؤالًا بسيطًا".
قلت "أنت وأنا..." لم أستطع إكمال الجملة بصراحة، وقلت: "انس الأمر". "لا تمزح حتى".
بدت عليه الدهشة كما لو أنني قلت شيئًا غريبًا. قال بابتسامة خفية "كنتِ تفكرين بشكل مختلف في المسبح".
كذبت قائلة "كنت أكره ذلك".
قال بشفتيه المشكلتين بخبث "بصراخ؟".
ابتلعت ريقي. كنت سأرى النجوم لولا أنني كنت سأفقد وعيي في تلك الليلة.
ولكني واصلت الكذب قائلة "كانت مجرد ردة فعل لا إرادية من جسدي".
كانت لمساته تلك الليلة، واستغلاله لجسدي بلطف ووحشية في نفس الوقت، وقبلاته الرطبة الناعمة التي احتضنتني ككل واحد، شعورًا مقدسًا. لم نفعل شيئًا تقريبًا، ولم تتلامس شفتانا حتى في تلك الليلة، لكن هذا هو ما أخافني أكثر! فإذا كانت مجرد لمسات بسيطة يمكن أن تدمرني هكذا، وتجعلني أفقد سيطرتي على نفسي وكرامتي، فماذا يمكن أن يفعل أكثر من ذلك؟
"ما مدى ضعف إرادتكِ يا ميرا؟" قالها بنبرة تهديدية.
كرر عبارتي قائلاً "تقولين إنها مجرد ردة فعل لا إرادية من جسدكِ". وكان قد ملأ كأس نبيذه مرة أخرى. ماذا يفكر؟ كان ينظر إلى الكأس بتعبير شارد ومبتسم.
قال "إذا كان هذا هو ما تكرهينه، فلا أستطيع تخيل كيف ستجنين إذا أحببتِ ذلك".
شعرت بأنني أفقد نفسي، وازداد تنفسي. أردت أن أصرخ في نفسي وأقول "يا ميرا، كفي عن هذه الهراء، وكوني هادئة". ضغطت على شفتي بقوة. لماذا تشعر معدتي بكل هذه الأفكار الخطيرة؟ لقد مر وقت قصير جدًا منذ شجارنا في المصعد. يا إلهي، ميرا، احترمي نفسكِ قليلًا.
أبعدت نظري عنه وقلت "للأسف، لن تعرف أبدًا". قلت ذلك وأنا أشعر أن هذا الحديث يزداد خطورة. "هل يمكننا المغادرة الآن؟"
❀❀❀
"
ميرا،"
"ميرا، ميرا،"
"ميرا، أنتِ تبدين جميلة،"
كان بوراك واقفاً بجانب غريب، طويل القامة، يرتدي زيًا عسكريًا.
شعر ميرا قصير، وقد دخلت قميصها الأبيض في تنورتها القصيرة المطبعة. وتركت ضمادة بيضاء على رأسها.
"يا أطفال، ماذا تفعلون في هذه الشمس؟" يسألهم. يحمل كاميرا في يده، ويوجهها نحوهم فتظهر وجوههم المبتسمة في الإطار.
"كنا ننتظركم."
كان بوراك بجانبي بعد بضع خطوات، ووضع ذراعه حول كتفي. "لماذا تقوم دائمًا بتصوير كل شيء بالفيديو؟"
"لكي لا أنسى أي شيء."
بدأت أشعر بوخز في جسدي مع أصوات الطرقات.
كنت قد استيقظت للتو من حلم جديد، وكان حلقي جافًا جدًا، ورأسي ينفجر، وشعور بالاختناق الرهيب ينتشر في معدتي. تمكنت بالكاد من النهوض، وتوجهت إلى الحمام بعيني نصف مغمضتين، ولم أستطع أن أوقظ نفسي إلا بالماء البارد من صدمة الماضي.
في البداية، كانت الأصوات التي أسمعها تأتي من الأسفل، وقفت عند بداية الدرج وراقبت تميم لفترة. كان قد جهز حقيبة صغيرة لنفسه. كانت الساعة تشير إلى السابعة صباحًا. نزلت أنا أيضًا عندما ارتدى معطفه أخيرًا. حسبما رأيت من النافذة، كانت الثلوج قد تساقطت بكثافة وغطت كل شيء؛ كان يومًا عاصفًا وباردًا.
وبالطبع، عندما لاحظ تميم أنني قد وصلت، التفتت عيناه نحوي ولم تفارقني حتى وصلت إليه. أول ما قاله كان "عمل قصير". وأضاف "سأكون هنا في وقت مبكر صباح الغد".
كان داوود مضطرًا لتركني وحدي اليوم أينهى عمله في إسبارطة، لكننا كنا في ناطحة سحاب في قلب المدينة، كنت آمنة؛ وكان هناك حراس أمن تابعون للشركة عند الباب.
وأوضح وهو يحاول تصحيح ربطة عنقه دون النظر إلي "طلبت الطعام". "وضعته في الثلاجة، يمكنك تسخينه وتناوله. أليس من السهل جدًا أن تستخدم الميكروويف؟"
لم آخذه على محمل الجد، فبقيت صامتة وأنا أقف أمامه. نظر إليّ باستمرار منذ البداية، لذلك تساءل عن سبب اقترابي منه حتى آخر خطوة.
مددت يدي وبدأت في تصحيح ربطة عنقه مع ياقته، هذه المرة برغبتي الخاصة، قبل أن يسألني، كانت إشارة على أنني لا أريد رؤيته مرة أخرى.
كان ينظر في أعماق عينيّ أثناء قيامي بعملي. بدا وكأنه قد فُجع، وكأنه كان مندهشًا من حركة بسيطة كهذه، وكما هو الحال الآن بالضبط، كان ينظر إليّ بذكرياته التي يحملها خلف عينيه، بذكريات المرأة التي أحبها ذات يوم.
عندما انتهيت من عملي، كنت سأنسحب لكنه أمسك بذراعي. كانت قبضة لطيفة، فتوقفت ونظرت إليه مرة أخرى مستفسرة عن السبب.
قال لي "ميرا"، وكان على وشك أن يقول شيئًا لكنه سكت. أدخل أصابعه في شعري ومررها خلف أذني. كانت يد واحدة على ذراعي والأخرى في شعري؛ وعيناه في عيني. قال لي "احذري".
وبابتسامة ساخرة، قلت له "نحن لا نصور فيلمًا بعنوان وحيد في المنزل". "هل سيأتي أشرار إلى المنزل؟"
عقد حاجبيه وظهرت خطوط على جبينه. قال "لن أسمح لأحد ...". "بالاقتراب منكِ".
أنت لا تستطيع حمايتي من نفسك يا تميم.
تنهدت وابتعدت عنه وعن لمسته، لأن النظر إليه بهذه الفارق في الطول أصبح يؤلم رقبتي.
ولحسن الحظ، لم يتأخر أكثر من ذلك، وأخذ حقيبته وتوجه إلى الباب. كنت لا أزال أراقبه وهو يغلق الباب من مكانه. قبل أن يخرج تمامًا، نظر إليّ مرة أخرى أخيرة ثم أغلق الباب وراءه. كان قلبي يدق بشدة مرة أخرى، لم يكن هناك يوم واحد لم يعاني فيه هذا القلب المسكين من تسارع دقات القلب!
عدتُ ووقفت عند الباب وحسبت في داخلي حتى العشرين. ثم ركضت إلى الباب. تمكنت من رؤية جسد تميم الطويل وهو يسير في الممر من خلال الفتحة. بعد فترة وجيزة، اختفى عن الأنظار بعد أن اتجه إلى الزاوية.
أول ما حاولت فعله هو فتح الباب بالطبع.
كنت أعتقد أنه لن يقفل الباب، لأنه يعلم أنني لن أخرج طواعية لأن الشرطة تبحث عني. ولهذا السبب تركني وحدي، لكنه اتخذ احتياطاته وقفل الباب على كل حال.
يا لها من وحشية!
إذا كان هناك إبليس، فإنه يعد لك غرفة خاصة في الجحيم. ستطرد الشيطان نفسه!
حسنًا، لا بأس. لدي وقت أكثر.
خرجت إلى الشرفة، وهبت عاصفة باردة جداً وجمدت جسدي. اقتربت من الحديقة الزخرفية التي تمتد على جانبي الشرفة الواسعة وأنا أرتجف. في هذا القسم الضيق، كانت هناك أشجار الأرز اليابانية وحصى على أقدامها. أخذت أكبر قدر ممكن من هذه الحصى في يدي واقتربت من سور الشرفة.
لم أكن أعاني من الخوف من المرتفعات، لكن عندما نظرت إلى الأسفل، شعرت بدوار بسبب المنظور المرعب. خاصة أن كل شيء كان أبيض بسبب الثلج، وكان من شأنه أن يعميني تقريبًا. واعتقدت أن غياب أي زجاج بيني وبين هذا الارتفاع والرياح القوية ستجرفني مثل ورقة.
نظرت حولي، لم يكن هناك أحد، كانت الشرفات فارغة والنوافذ وحيدة. والمنزل واسع جدًا، لذلك لم أستطع الوصول إلى نافذة أو شرفة الشقة المجاورة بأي شكل من الأشكال، لكنني تمكنت من رؤية شرفة الطابق السفلي. كان علي أن أنحني قليلاً، لم تكن هناك مشكلة، كنت أتجمد فقط.
حاولت رمي الحصى واحدة تلو الأخرى على شرفة شقة الطابق السفلي. اصطدمت الحصى بدرابزين الشرفة، والكرسي المجمد خارج النافذة، والأرضية الرخامية، والوعاء على الحافة، وأصدرت صوتًا، لكن لم يخرج أحد لفترة.
عندما نفدت الحصى من يدي، نهضت لأخذ المزيد، لكن في تلك اللحظة حدث شيء.
قال صوت رجولي عميق "ماذا يحدث؟" وظهر صاحب الصوت في مجال رؤيتي. سار الرجل بلا هدف على الشرفة ووصل إلى الدرابزين ونظر لأسفل بحثًا عن مصدر الحجارة.
لطمت جبهتي. يا له من أحمق، كيف يمكنه أن ينظر لأسفل بحثًا عن الحجارة التي سقطت على شرفته؟
قلت له "سيدي!" ليلفت نظره إلي. قفز الرجل خائفًا وكأنه سمع صوتًا من العدم وأدار جسده بالكامل لينظر إلى الأعلى. بالطبع، رآني، وعقد عينيه ونظر إلي بنظرة حائرة تسأل عما أريده.
وجهت إليه واحدة من ألطف ابتساماتي. وسألت ببراءة "أليس الجار محتاج إلى جاره؟"
سألني الرجل في منتصف العمر بفضول "هل هناك مشكلة ما يا سيدتي؟" وبالطبع، كان لا يزال ينتظر مني أن أشرح كل هذا.
قلت له "انظر، هناك مشكلة في بابي. وهاتفى نفد شحنه. هل يمكنك الاتصال بالاستقبال وطلب المساعدة؟ ولكن بطبيعة الحال، قم بالاتصال باسمك، ثم يمكنك توجيههم إلى غرفتي".
عندما فهم الرجل المشكلة، وضع يده في جيبه على الفور لأخذ هاتفه. وقال "سأتصل على الفور ... لكن، لماذا لا تريدين أن أوجههم مباشرة إلى غرفتك؟"
هذا الاحتياط كان لمنع موظف الاستقبال من إخبار تميم.
ولكن بدلاً من أن أخبره بذلك، قلت له فقط وبكل أدب "الجيران يحتاجون إلى بعضهم البعض، أليس كذلك؟ عندما يسأل الجار عن الخبز، لا تسأله لماذا. إذا كان بإمكانك التعجيل قليلاً ... لدي عمل".
قال "سأتصل الآن".
قلت "شكرًا لك!"
دخلت إلى الداخل على الفور، وبينما كان جاري يتعامل مع الأمر عند الباب، عدت إلى السلم. عندما فتحت باب غرفتي بقوة، توجهت مباشرة إلى طاولة الزينة.
كنت سأسافر إلى إسبرطة، وكنت بحاجة إلى المال، وتميم لا يحمل معه أي نقود على الإطلاق. اضطررت إلى بيع شيء ثمين، ولحسن حظي، كل شيء في هذا المنزل، حتى فرشاة الأسنان، كان ذا قيمة.
فكرت أولاً في بيع قلادة اللؤلؤ التي قدمها لي تميم، ولكن من يدري كم دفعت تميم مقابلها؟ ربما كانت تصميمًا شهيرًا، وقد تكلف ملايين، وهذا سيسبب لي مشكلة. فهل يسألني أحد لماذا أحاول بيع قطعة من تيفاني أو بولغاري في السوق بهذا الشكل؟
لذلك تخليت عن فكرة المجوهرات. والعطر كذلك. الشيء الوحيد الذي يمكنني بيعه هو ملابس وأ...
أزرار القميص! لقد تبقت أزرار القميص!
غادرت غرفتي ودخلت إلى غرفة تميم. بالطبع كانت غرفته مليئة برائحته، وعلى عكس غرفتي، لم تكن الستائر مغلقة ولم تكن الأشياء مبعثرة. كانت غرفة مرتبة وبسيطة.
بدأت في البحث في خزانته. كان لديه الكثير من القمصان، بالتأكيد ترك زوجًا منها. بالإضافة إلى ذلك، ما مدى غلاء زوج من أزرار القميص؟ بالتأكيد لن تكون باهظة الثمن، يكفي أن تكون فضية. على الأقل ستكون كافية لتمكيني من الذهاب إلى إسبرطة دون أن يسألني أحد.
كانت كل الملابس تقريبًا في الخزانة إما سوداء أو بيضاء؛ قمصان قطنية، وسترات صوفية، وبنطلونات قماشية... كانت أنيقة ومنظمة، وبسيطة ولكنها تعكس ذوق الأثرياء، ألوان داكنة...
الفيلم الذي يقول "الشيطان يرتدي برادا" كان محقًا حقًا.
وجدت ما أبحث عنه، وأخذت معي زوجًا من أزرار القميص التي اعتقدت أنها فضية. كان لديه ساعات على الطاولة، لكنها كانت باهظة الثمن مثل قلادتي. إذا حاولت بيعها، فإنهم سيبلغون الشرطة بالتأكيد.
اعتقدت أنني سأتمكن من إدارة الأمور بهذين الزوجين، وعادت إلى غرفتي. ارتديت بنطالًا أسود ضيقًا وسميكًا، وقميصًا أبيض، وكنزة صوفية باللون الأخضر الزيتي الغامق. ومعطف من الكشمير يغطي وركي، وشال أسود حول رقبتي، وأحذية تصل إلى فوق الركبة... كل هذا لحمايتي من البرد.
أنهيت استعداداتي ونزلت إلى الأسفل. كان هناك صوت يأتي من الباب، وفي الوقت المناسب، تمكنوا من فتح الباب بعد كل تلك الضوضاء المزعجة. فتحت الباب على مصراعيه بفرح كبير. كان هناك رجلين، أحدهما عامل لم أره من قبل، وكان يضع أدواته في حقيبته، والآخر كان جاري الذي رميت الحجارة على شرفته.
قلت لهما بامتنان "أوه ... شكراً!"
قال العامل "كان الباب مقفلاً فقط". "لم تتمكنوا من فتحه بالمفتاح؟"
كان الرجل الآخر ينظر إليّ بفضول وسأل "هل أنتِ بخير؟"
اقتصرت على الابتسام وقلت "أنا في عجلة من أمري"، ومررت بهما بسرعة وعبرت الممر دون أن أنظر إلى الوراء.
كان قلبي يدق بسرعة عندما دخلت المصعد. اعتقدت أن المصعد اللعين لن يصل إلى الطابق الأرضي أبدًا، لو كان من الزجاج لقفزت منه. كان هناك الكثير من الإثارة في دمي، لم أستطع البقاء في مكاني.
شددت الشال حول رقبتي حتى وصل إلى أنفي. عندما فتح الباب، لم أنظر إلى موظف الاستقبال أو الأمن، واختلطت بالجمهور وخرجت بسرعة.
عدت من الشارع الجانبي، وتوقفت في مكان خالٍ تمامًا، وظهري إلى الحائط لأفكر قليلاً، وأستريح، وأستعد.
لقد خرجت، خرجت تمامًا من ذلك المكان الآن.
مدينة ضخمة وأنا وحيدة بلا مأوى.
شعرت بصغر حجمي الشديد في هذه المدينة، وشعرت بالضياع والخوف لدرجة أنني انتظرت هناك نصف ساعة فقط لأجد الشجاعة لاتخاذ خطوة واحدة. حاولت تنظيم تنفسي، وطرد القلق الناتج عن هذا الغموض من جسدي.
إلى أين سأذهب؟ وكيف سأذهب؟ ماذا لو فشلت؟ ماذا لو أبلغ الموظفون تميم؟ ماذا لو تم القبض علي؟ كيف سأجد طريقي؟ على من أعتمد؟
ظننت أنني سأموت تحت وطأة كل هذه الأفكار. لم أستطع حتى اتخاذ خطوة واحدة من هنا إلى هناك، ناهيك عن الذهاب إلى مدينة أخرى بمفردي.
قلت لنفسي مرارًا وتكرارًا "يمكنك يا ميرا". "لا شيء يمكن أن يكون أسوأ مما يفعله تميم. بمجرد وصولك إلى هذا العنوان، سيحل كل شيء خليل. سيحل كل شيء خليل ..."
أخذت نفسًا عميقًا آخر مرة وطهّرت رئتي من كل الأفكار السيئة، واتخذت خطوة كبيرة بحزم إلى الأمام.
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية دموع شيطانية) اسم الرواية