رواية عقاب ابن الباديه الفصل الخامس و الثلاثون 35 - بقلم ريناد يوسف
٣٥&٣٦
عقاب ابن البادية الفصل الخامس والثلاثون.
في شركة يحيى..
آدم جالس على مكتبه يطالع بعض الأوراق، فدلف عمه يحيي من الباب دون إستئذان، نظر إليه آدم بطرف عينه وعاد إلى مطالعة الأوراق وهو يحدثه:
- الأبواب انعملت لتنطرق ويستأذن الداخل، وهاد اللي يفرق المكاتب والبيوت عن السوق ياعمي.
جلس يحيي ولم يأبه لحديثه ومد له يده ببعض الأوراق، فالتقطها آدم في صمت وتفحصها، فإذ بها عقود لتوليه الإدارة المالية للشركة كاملة، فتبسم آدم وهو يضع الأوراق أمام عمه ويردف بسخرية:
- ويش هاد الكرم كلا، ودك تسويني مدير مالي للشركه! ليش بدك تلبسني قضية إختلاس ولا ايش ياعمي؟
يحيي:
- حقك تظن فيا السوء لأن اللي حصل واللي شفته وسمعته عني مش قليل، بس صدقني ياآدم يابني انا فتحت صفحه جديدة معاك وخلاص نسيت الماضي كله وعرفت اني مليش غيره اخ واحد وابن اخ واحد، والدنيا زايله ومش هتفضل غير المحبه والأخوة، وعشان كده بقولك إنسى ياابن اخويا وتعالى نفتح صفحة جديدة..صفحه نبدأها بحسن النيه والتوكل على الله.
نظر له آدم ملياً وهو يتفحص وجه الحمل الذي ظهر على وجه عمه من العدم، وقدرته الرهيبة على التلون من حال لحال، للدرجة التي تجعل من لا يعرفه يصدقه على الفور ويتعاطف معه!
ولأن آدم لا تنطلي عليه مثل هذه الخدع، ولأن كشف الاقنعة المزيفة لُعبته كان يعلم جيداً ما ينتظره إن وافق عمه وأعطاه مراده، فتبسم وهو يردف بهدوء راداً عليه:
- ماراح أمضي ياعمي، انا راح ادير الشركة هيك بدون مناصب ولا شي، وبعدين تعا لهون، انت جاي تحكيلي ان الدنيا مو مستاهله شي بعد مااخدت كل شي؟! ، ايش فتت بالدنيا انت واستغنيت عنه لتحكي هيك، جاي تفتح صفحة جديدة وأنت ماسبت مكان بالكتاب القديم إلا وخطيت بيه اوجاع؟
خد هاي الاوراق ياعمي وروح من هون مو آدم اللي تنطلي عليه الاعيبك والاعيب ابنك، واي بدي احكيلك شي توصلهوله راح يسعده واااجد..كلها يومين وراح يشوف حلم عمره متحقق، بس للأسف مو هو اللي حققه، لا.. الحلم تحقق على يد غيره، خلي يذوق طعم ان الواحد يضل يتعب ويتعب ويجي حد ياخد تعبه عالجاهز، خلي يجرب الشعور اللي حس بيه خوك وكوى روحه، صحيح مو ياسين اللي لازم يجرب هاد الشعور وانت اللي لازم تشرب من الكاس، بس ماعلينا وجع ابنك راح يوجعك اكيد..
عزائي الكم مقدماً وارجوا عند سماع الخبر تتذكر إن الحياة لا تعطي الفرص للمغفلين.
- تقصد ايه بكلامك دا ياآدم
- ما اقصد شي، بس على رأي اهل السلف والحكمة..
مايحط يده بجحر الثعبان مرتين غير المهبول، وأنا شبعان من جحرك لدغات ياشقيق ابوي، ولهيك بعتذرلك ماراح اقبل تولي مناصب بشركتك بشكل رسمي، وأصلاً ليش اعملها وانا عاطي لروحي كل الصلاحيات؟ وازيدك من الشعر بيت.. انا الحين المتحكم الوحيد بالشركة كلها، وصارت كل كبيره وصغيرة بيدي، وبكلمه مني اوقف كل شي. بس انا للحين ماسويت هيك لأن الشركة فاتحة بيوت ناس وبشر، فخليها دايره لحين إشعار آخر.
يحيي:
- يعني آخر كلام مش هتمضي؟
- اخر كلام مابمضي على شي، وماراح تقدر تورطني بشي، ولا راح اترك الشركة مهما حاولت.. ماراح اتركها الا بحالة وحدة بس.
نظر له عمه يحيي وقطب حاجبيه منتظراً منه أن يفصح عن الحالة الوحيدة التي سيترك فيها شركته، وأقسم أن يفعل ما بإستطاعته كي يخلق له هذه الحالة، ولكن إبتسامة آدم جعلته ييقن بأن هذه الحالة هي خراب الشركة، وأنه لن يتركها إلا وهي منتهية كلياً، فأمسك أوراقه ونهض متثاقلاً وهم بالمغادرة فأوقفته جملة آدم:
- عمي لا تتعب روحك بالتخطيط ولا تستنذف قوتك بالمحاولات الفاشلة، انا مو محمود اخوك المسكين اللي تاكل عشاه القطط، أنا عقاب ياعمي،، عقاااب اللي ماينقدرله..انا عقاب ابن القبايل والبوادي، انا عقاب ابن الصحاري اللي تربي وسط الهوايش والحلال وسل عني الخيل والليل والبيداء كلهن يعرفوني.
زفر يحيي بحنق وغادر المكتب على الفور وهو يجرجر اذيال خيبة أخرى، فألتقى بإبنه ياسين وهو يخرج من مكتبه، وبمجرد النظر اليه وإلى الاوراق التي بيديه أغمض ياسين عينيه وزفر بحنق وهو يقول لأبيه:
- قولتلك مليون مره متتعبش نفسك دا مش بني آدم، دا تعبان ومش هتنفع معاه الحيل الخايبه بتاعتكم دي، مش هينفع معاه غير اننا نخلص عليه بطريقة سريعة ومضمونة ومفيش غير طريقتين بس اللي هيجيبوا معانا من الآخر.. حادثه او رصاصة ترشق في قلبه أو دماغه غير كده كلها محاولات عبث.
صمت ابيه ولم يعقب على ماقاله وتحرك من أمامه مبتعداً وهو لا يجد سبيلًا لهزيمة ثعلب الصحراء هذا الذي اتاه ليدمر كل مابناه وخطط له طوال سنوات عمره، ومن سوء حظه أن آدم إكتسب سلطة لم يرى غيره يتمتع بها من قبل، فحتى في مقرات الشرطة له مقاماً يدب الرعب في الأوصال!
أما ياسين فوقف ينظر لآدم من خلف زجاج مكتبه ويراقبه وهو منكب فوق الأوراق يقلبها أمام عينيه ويطالعها بتركيز تام بعد ان يدون بعض الأشياء وكأنه يُحيك مؤامرة ويخطط لها بعناية.. وبعد مدة لا يعلمها من المراقبة واحاديث نفسه التي لم تنقطع حول مايراه أمامه من هيبة وهالة تحيط آدم، وحضور أمام الآخرين وتميز وتفرد، ولا يعلم من أين اكتسب كل هذه الاشياء في الصحراء الموحشة!
وغير هذا.. من اين له كل هذة الخبرة في عالم التكنولوجيا وكيف له ان يعلم مقرات كبرى الشركات العالمية ويجيد التعامل معهم بلغات مختلفة؟!
بإختصار سؤال اخذ يتردد في عقله حتى كاد يفقدة إياه.. من أين له كل هذا؟!!!
رفت عينا ياسين اخيراً على صوت مدحت أخيه الذي نكزه كي يلتفت له بعد أن تحدث معه كثيراً:
- ايه ياياسين رحت فين.. بقولك فين اوراق الطلبيه الاخيره اللي هنمضيها مع الشركة المستوردة، عايزين نبدأ وندي أوامر لعمال المصنع بالكمية ومواصفاتها ، الصفقة دي صفقة العام ومش عايزين لخبطه مع شركة كبيرة زي دي بتتعامل معانا لأول مره.
تركه ياسين ودلف إلي مكتبه لإحضار الأوراق المطلوبه، وهم بمغادرة المكتب ولكن إشعار قفز على شاشة الحاسوب جعله يعود للجلوس مرة أخري، فقد كانت رسالة من الشركة المستوردة، ومحتوى الرسالة الصادم كان بمثابة ضربة له فوق رأسه، فقد كانت عبارة عن إعتذار وإلغاء للصفقة وإلغاء للعقود التي تم إرسالها لهم، والسبب أنهم وجدوا شركة ستوفر لهم كامل الطلبية بسعر أقل ومواصفات وجودة اعلى.
كاد أن يجن واخذ يتخبط ويضرب بقبضته كل شيئ في طريقه وهو ذاهب لمكتب أبيه، فقد بنى آمال كبيرة على هذه الصفقة وأهمها إنهاء مشروعه المتعطل.. دخل علي ابيه كالإعصار وبغضب عارم رمى الأوراق على المكتب أمامه وأردف بصوت غاضب:
- الشركة لغت الصفقة معانا، والسبب انها لقت شركة بأسعار ومواصفات احسن، أنا مش عارف ازاي ده وإحنا مقدمين اقل عطى وهامش ربحنا يعتبر نص هوامش ربح الشركات التانيه، معقولة يكون فيه شركة داخله صفقة عشان تخسر وصاحبها يدفع من جيبه، أو عالاقل تدخل مشروع بدون ربح.. طيب ليه؟
أمسك يحيي بالاوراق ونظر إليهم ثم نظر لإبنه ولم يعرف بما يجيبه، ولكن نظراً لحالته إضطر لتهدئته، فقد كان على وشك الإنفجار، او انفجر بالفعل.
حالة هرج ومرج أحدثها ياسين في الشركة في هذا اليوم، غضب إنصب على كل الموظفين، أما آدم فقد كان يراقب في صمت ويرى صدى ضربته الأولى، أما القاضية فمتعتها ستكون أضعاف.
عاد الجميع بعد يوم عصيب إلى القصر، وهناك كانت راحة آدم التي ينالها بعد يوم عصيب، أولها بين ذراعي أمه، وآخرها في عيون حياة التي أصبحت مقترنة بإبتسامته وراحته النفسية ودقات قلبه.
أما هى فكانت تنتظره متلهفة كالعادة، مشتاقة لكل مافيه، أحاديثه ونظراته وجلسته وحتى سكوته، فقد إحتلها هذا الدخيل للدرجة التي جعلتها تهجر العالم كله وتسكن عالمه فقط.
أنهى أحاديثه مع امه وذهبت إلى غرفتها وحان وقت أحاديث القلب، الحديث الذي يزيل عن صدر آدم كل هموم الدنيا، الكلمات التي تخرج من فم زهرة اللوتس التي أنبتها الله في وسط هذا المستنقع البغيض ولكنها حافظت على نقائها وجمال روحها وقلبها صافي بريئ.
خرج من القصر وبعد دقائق تسللت هي خلفه فألتقيا بالحديقة الخلفية، وماأن التقت العيون حتى تعانقت القلوب وباحت الأفواه بكل جميل..
- اشتقتلك واااجد يابعد هالروح والقلب والعين.
- وانا كمان اشتقتلك يا آدم، انت متعرفش الساعات اللي بتكون فيها بعيد عني انا بيكون شعوري ايه، انا بكون تايهه ومتلخبطه ومخنوقه وحاسه ان الهوا اللي حواليا اختفى.. قلبي دقاته مبتكونش منتظمه من كتر الإشتياق ليك.
- ياروح الروح انتي والله ياحياتي كانك توصفيني، توصفي مشاعري وتوصفي إحساس هالقلب.
- طيب ايه؟
-ايش؟
-انا شايفه إننا هنفضل عالحال دا كتير اوووي، أو يمكن للأبد، نشتاق ونتعذب ونتلاقى في السر وحبنا منقدرش نبوح بيه لحد لأنه شبه محرم.. وعارفه إن كل الاطراف مش هيوافقوا على ارتباطنا ببعض.
تبسم لها ليبث الإطمئنان في نفسها واردف هامساً:
-اوعاكي تحملي هم شي وانا موجود، عقاب إذا اراد يسوي شي ماتقف قباله الدنيا ومن فيها، بس الحين مو وقته وانا عندي اشيا اهم اسويها، اشيا تترتب عليها حياتي القادمة، مستقبلي وراحة قلبي، وماتنفع تتأجل للأسف وإلا كان إسمك الحين مقرون بإسمي.
- الانتقام ياآدم مش كده؟
- الانتقام وترتيب مستقبلي ياحياة
- لسه مصمم تنتقم؟
- تعتقدي إن من العدل اسامح واسكت واصكر فمي وعقلي عن كل اللي صار واللي مازال عم يصير؟ ودك اكون جبان ياحياة؟! هاد تفكيرك بآدم يعني؟
صمتت ولم تجبه وأخفضت عيناها للأرض وكسى الحزن ملامحها فاردف آدم مواصلاً:
- اعلم انهم أهلك، بس الباغي يابنت الناس لابد تدور عليه الدواير.
- انا قولتلك قبل كده ياآدم انا مش هدافع عنهم ومش هطلب منك تعفوا عنهم لان دا حقك.. انا كل الحكاية إني خايفه عليك انت، خايفه وانت ماشي في سكة الإنتقام توصل لنقطة مينفعش فيها رجوع ومفيش بعدها سلامة،
خايفه من انك وانت بتاخد قصاصك تأذي نفسك او هما يأذوك، انا كل خوفي عليك إنت والله.
- تنهد وهو ينظر لعينيها مجدداً فيأخذ منهما الكثير من العزم والقوة ورد عليها بصوت متعب:
- ماتخافي علي ياحياة الروح، ربك الحارس وكله قدر ومكتوب، والحين تعي واحكيلي ويش سويتي بيومك، ايش اكلتي وشربتي، مع مين تكلمتي ويش قولتوا، تبسمتي كم مرة اليوم وشاف الضو سنونك اللولي وصفن فيهم وتأمل وانا المحروم، كم مرة داعب النسيم خصلات شعرك وما منعتيه وتعرفين حبيبك يغار عليك من النسيم إذا لمسك.
تبسمت وهي تنظر إليه وإختلفت وتيرة نبضات قلبها فور سماعها لهذه العبارات التي تذيب قلبها ولم تجبه وأكتفت بالتمني، ولا تعلم لِم منذ بعض الوقت بدأ خوف يتسلل إلى قلبها، ونبضةخائفة تقتحم النبضات الحالمة، أهو خوف طبيعي أم إنذار بشيء ما؟ لا تعلم. ولكنها مطمئنة له ومطمئنة بقربه وتشعر بأنها تمتلك العالم بأسره.
لم يكونا وحيدين في الحديقة كما ظنا، فقد كانت هناك اربعة عيون متربصة تراقب، عينا أم آدم وعينا ياسين الذي كان بالقرب الكافي خلفهم ليستمع إلى كل ماتفوهوا به، وقد نزل الكلام على قلبه كالجمر، فها هي فتاته التي يخبئها لنفسه كجائزة يحصل عليها بعد أن ينتهي من ترتيب حياته ومستقبله سرقها منه ذلك اللص الذي أتى ليسلبه كل شيئ دفعة واحدة.
تقدم نحوهم كالريح ووقف امامهم وأخذ ينظر لحياة بنظرات نارية قبل أن يجذبها من ذراعها ويهوى على وجهها بكفه يفقدها توازنها فتسقط على المقعد متألمة،
وما أن رأي آدم هذا حتى انقض عليه كما ينقض العقاب على فريسته، فأخذ يضربه بعنف وعشوائية غير مبالٍ لما سيحدث له، أو لأنه ربما ينهي حياته إثر إحدي ضرباته القاسية، والتي يعلم جيداً اين يسددها.
رأت أمه عايده كل هذا فهرولت إليه صارخة مستنجدة، وعلى صوت صراخها اتى الجميع، وقاموا بفض القتال الذي لم يكن متكامل الأركان نهائياً، وركع يحيي بجانب ياسين إبنه وأخذ يتفحص جروحه ونظرات قاتلة يوجهها لآدم وهو يسأله ماذا فعل له إبنه ليفعل به هكذا؟
لم يتحدث آدم وإكتفي بالنظر بعيداً، ولكن مايحاول حجبه عن الجميع لم يكن بالشيئ الخفي، فكلهم يعلمون بأن ياسين يريد حياة، والجميع أيضاً لاحظ تقرب آدم منها في الآونة الاخيرة وإنجذابها إليه، فالمحبة لا تُخبأ كثيراً وكل الدلالات عليها تظهر للعيان.
نظرت عايدة لحياة بلوم ثم نظرت لإبنها وطلبت منه مرافقتها على الفور، وطلبت من زوجها محمود الحضور ايضاً،
وما إن أغلقت باب الغرفة عليهم حتى رفعت إصبعها امام آدم محذرة:
- آدم تنسى اللي بتفكر فيه دا واللي عايز تعمله وتبعد عن بنت فاطمه فوراً.. يابني أنت ناقص عداوات جديدة مع الناس دي، إحنا كل يوم بيعدي علينا وانت عايش بنحمد ربنا فيه ألف مره، وبعدين انت ملقتش غير حياة دي، انا حطيت ايدي على قلبي لما شفت النظرات اللي بينك وبين كارمن وقلبي ماارتحش غير لما بعدت عنها، وفهمت انك قربت منها مصلحة، وأفتكرت أن قربك من حياة لنفس الغرض، لكن اللي اتبينلي بعد كده إن اللي بيحصل مابينكم شيئ خطير وميتسكتش عليه،
وادي اول بشايره بانت.. حب وإرتباط مع بنت فاطمه لأ وألف لأ ياآدم
محمود:
- على فكره مامتك بتتكلم صح ياآدم، فيه حاجات يابني وقرارات متنفعش، مش لأنها غلط لأ، لكن عشان هتتسببلنا في الأذى ومش هتكون لصالحنا حتى لو كانت صحيحه ومن حقنا.
تنهد آدم وفتح فمه كي يرد على ابويه ولكن يد أمه التي لجمت فمه منعته من الحديث وهمست له راجية:
- أرجوك ياآدم متتكلمش ومتجادلش وفكر، فكر وإسأل واستشير وانا متأكدة إن كل اللي هتعرض عليه الموضوع هيرفض اللي انت ناوي تعمله .. ارجع يابني لعمك قصير، ارجع لصاحبك سالم ارجع لرابح للشيخ منصور كلهم هيقولولك لأ ومينفعش ابداً.
رفعت يدها من على فمه وحررت شفتاه وتمنت من كل قلبها الا يجادل هذه المرة، تمنت لمرتها الأولى أن يصمت ذات الكلمات العذبة التي لا تريد إنقطاعها عن مسامعها، تمنت ألا يتحدث لأول مرة لأنها تعلم أن ماسيقوله لن يكون لصالحه أو لصالح أحد، سيكون عناد والعناد يولد الضياع، ولكنها حمدت الله حين غادر إبنها دون التفوه بكلمة، تعلم جيداً انها أوجعته وحطمت كل احلامه وأمنياته، ولكن الوجع وضياع الأمنيات أفضل بكثير من ضياع الروح، فكل شيئ قابل للتعويض إلا الحياة.
أخذ آدم سيارته واخذ يحوم بها في الطرقات وهو يفكر، لم يرغب بالحديث مع أحد فهو يعرف رأي الجميع بخصوص حياة وإرتباطه بها، فقرر ان يستفتي عقله، يستفتى المنطق ويسكت صوت قلبه المعارض على مجرد التفكير في الأمر.
أما عن حياة، فبمجرد دخولها لغرفتها فوجئت بفريال خالتها تقتحم عليها الغرفة وتقف امامها مثل اسد غاضب واخذت تزمجر بصوت مخيف:
- بصي بقا يابت فاطمه، انا مش هسمحلك تكوني سبب في إن ابني يتعرض لأذي من أي نوع، انتي عارفه إن ياسين عايزك ولمحتلك بكده بدال المره عشره، واصلا من غير تلميح المفروض انتي عارفه وحاسه، تقومي تتجاهلي كل ده وتروحي توالسي مع ابن عايده ومحمود ألد أعدائي؟
اسمعيني كويس ياحياة، انتي هتتجوزي ياسين، ياكده يأما ملكيش قعاد هنا في القصر، ولو صممتي واتجوزتي آدم انا بأكدلك انك هتترملي قبل حتى ماتلحقي تستوعبي انك اتجوزتي، دا غير عداوة معايا هتستمر العمر كله، فيابنت الناس عقلك في راسك تعرفي خلاصك، انا عرفتك العواقب وانتي قرري.
انهت كلماتها وغادرت الغرفة تحت صمت حياة المطبق، فها هى خالتها كانت أولى الموبخين، ومن بعدها لاحت أمها في الممر آتية إليها، فما كان من حياة إلا ان اغمضت عينيها وزفرت بقلة حيلة وهي مضطرة لسماع المزيد من التوبيخ من أمها، وبدأت تستعد لذلك.
ولكن المفاجأة أتتها على هيئة إبتسامة واسعة تشكلت على فم أمها ونبرة حنونة تحدثت بها معها وهي تقترب منها وقالت:
- برافو عليكي ياحياة، انا بجد فخوره بيكي لانك طلعتي بتفكري صح وعندك طموح بالظبط زيي، وعرفتي لوحدك إن آدم هو العمله الرابحه اكتر من ياسين.
كادت حياة أن ترد عليها ولكن أمها قاطعتها:
- عارفه انك بتحبيه ياحياة، وعارفه إن حبك ليه دا هو طاقة السعادة اللي اتفتحتلك وبتطل عالجنه ومش بس انتي اللي هتدخليها لوحدك، لا داحنا كلنا هندخلها معاكي.. وأخيراً القصر وكل الأملاك دي هيكونوا بتوعنا إحنا، ملكنا، وبدال مافريال هي اللي بتتحكم فيا وذالاني على قعادنا هنا انا اللي هطردها من القصر هي وأولادها طردة الكلاب.. أوراق ملكية القصر من ساعة ماعرفت إن آدم عينه منك وبيحبك وهما معايا، سرقتهم من اللي فاكره نفسها مخبياهم مطرح مالقرد مخبي إبنه ومفيش حد هيقدر يوصلهم.. دول من النهارده حقك انتي، ملكنا ياحياة، إحنا اللي هنبقى أصحاب القصر وإحنا اللي هنقف عالبساط اللي آدم بيسحبه من تحت رجلين فريال وولادها وحده وحده.. متعرفيش ياحياة أنا فخوره بيكي ازاي وحاسه إني مخلفتش غير فيكي، زي أمك دايماً محدده اهدافك وبتسعيلها.
أغمضت حياة عيونها مرة أخرى وتجرعت الألم، فقد ظنت للحظة بأن أمها ستوبخها خوفاً عليها من مستقبل مظلم على يد ياسين ومواجهات لن تنتهي إلا بإذائها، ظنت أن خوفها هو ما أتى بها، ولكن للأسف ماأتى بها هو طمعها وليس خوفها عليها.
غادرت فاطمة الغرفة بعد إن قبلت جبين إبنتها وتمنت لها التوفيق فى ماهو قادم، وتركتها لحيرتها وحزنها، وقلبها الذي كاد يُجن وهو لا يعلم مامصيره بعد أن أصبح عشقه لآدم مشاع على الملأ.
أما كارمن فكانت تجلس بغرفتها على فراشها مبتسمة بسعادة، فها هو آدم يختبر شعور الضعف والعجز الذي جعلها تتذوقه يوماً ما، نعم تخطت ولم يكن بالأمر الجلل، وإنتهت قصتها معه قبل أن تصل لمرحلة موجعة، وأن قلبها الآن يدق لغيره، ولكن يظل الرفض والإقصاء إهانة لا تتقبلها اي أنثي، وخاصة لو فضل عليها أخري وإبتعد عنها من أجلها..هنا يلح الانتقام لأنوثتها المهانة..ومن لا يستطيع الإنتقام ينتظر أن تأتيه لحظات الشماتة حاملة للنشوة والمتعة، فقط يؤمن بقدومها وستأتي، تماماً مثلما يحدث معها الآن.
أما آدم فقد عاد إلى القصر اخيراً بعد منتصف الليل، ظن ان الجميع نائمون، ولكنه وجدها تنتظره في شرفتها، عينيها تلمع فى الظلام وكأنهم قناديل يضيئون له دربه، تقدم ووقف اسفل شرفتها وأخذ ينظر اليها وهو يواصل التفكير فى كلام أمه، ولكن إبتسامتها بخرت جميع القرارات التي يحاول إتخاذها، وجعلت قلبه ينتفض دفاعاً عن ذلك الشعور الجميل الذي يشعر به في حضرتها، ويريدون حرمانه منها ومنه.
تحرك من امامها ودلف للقصر فوجد أمه بإنتظاره هى الاخرى وتبدوا وكأنها مستعدة لجولة أخري من المجادلة والإقناع، ولكنه ألقى عليها السلام وقبل يدها ورأسها ودلف إلى غرفته بعد أن اخبرها بأنه متعب وذاهب للنوم، وبهذا قطع كل سبل النقاش فلا طاقة له للمزيد من الأحاديث حول هذا الموضوع.
وبات ليله وهو يفكر، فلا نوم يجرؤ على زيارته الليلة ولا قلب سيهداء مادام أمره لم يُحسم بعد.
فعادت عايده إلي غرفتها وأرتمت بين أحضان محمود تلتمس منه الطمأنينة لقلبها، بكلماته التي تبث السكينة في روحها، ولكن هذه المرة لم تجد منه إلا الصمت، فقد كان غارقاً في نفس محيط التفكير والقلق الغارقة هي فيه، ولا سبيل لإنقاذهم سوى عناية إلاهية تتدخل في الوقت المناسب.
إنقضى الليل وحل صباح جديد يحمل في طياته الكثير من المفاجآت، والكثير من القرارات الحاسمة بغض النظر عن عواقبها.
قرار آدم بعد طول تفكير بمواصلة نضاله من أجل حياة قلبه التي لن يخسرها مهما كلفه الأمر، وقراره بمفاجئة ياسين اليوم بالشركة الجديدة وتوجيه القاضية له في منتصف قلبه، أما القرار الأخير فهو بطرد عمه وأولاده وزوجته من القصر اليوم دون تردد، فقد حان وقت إتخاذ هذه الخطوة التي تأخرت كثيراً.
نزل آدم الدَرج وكان الجميع ملتفين حول طاولة الطعام، تركهم جميعاً وتفحص بلهفة من بينهم ذات العيون الذابلة التي من الواضح أن النوم خاصمها بالامس مثله تماماً.
ومن بعدها نظر للجميع وكان التجهم ربيع الوجوه، حتى أمه وأبيه لم تخلوا وجوههم ونظراتهم إليه من الغضب،
ولكنه غضب من نوع آخر ممزوج بخوف وحب لا يقبل الجدال.
كل هذا متوقع بالنسبة لآدم، ولكن الشيئ الغريب الوحيد هو إبتسامة الرضى التي رآها على وجه فاطمة ونظرات القبول لأول مرة، وكانها وقعت بالأمس علي معاهدة سلام معه!
جلس وحاول تناول طعام الإفطار، ولكن لم يستطع تذوق شيئ، فامسك بكوب الشاي واخذ يرتشف منه وهو يطالع ياسين ويراقب نظراته لحياة، وأقسم لو أنه نظر لها بتمني سينهي مابدأه بالأمس وليحدث مايحدث.
ولكن ماحدث أن ياسين كان طوال الوقت ينظر للفراغ أمامه، وكانه يدبر لشيئ ما، لم يلتفت لأحد ولا يرف له جفن، فقط يرفع يده ويتحسس بأطراف أصابعه الكدمات التي بوجهه من حين لآخر وكانها يستمد منهم الدافع للانتقام.
انهى آدم كوب شايه ووقف مستئذناً أباه في الخروج، وغادر وهو ينوى على تفجير القنبلة اليوم في مقر شركة عمه.
•تابع الفصل التالي "رواية عقاب ابن الباديه" اضغط على اسم الرواية