Ads by Google X

رواية آصرة العزايزه الفصل الرابع 4 - بقلم نهال مصطفى

الصفحة الرئيسية

 رواية آصرة العزايزه الفصل الرابع 4 - بقلم نهال مصطفى 

♣️ الآصرة الثالثة ♣️

يروق لي دائمًا وصف نزار عن حبيبته :
"أنتِ خلاصةُ كلِّ الشعرِ.. ووردةُ كلِّ الحرياتْ. 
يكفي أن أتهجى اسمَكِ.. حتى أصبحَ مَلكَ الشعرِ.. 
وفرعون الكلماتْ.. يكفي أن تعشقني امرأةٌ مثلكِ.. 
حتى أدخُلَ في كتب التاريخِ.. وتُرفعَ من أجلي الراياتْ.."
ولكن سيظل الأجمل بالنسبة لي رسالـة أحدهم التي لخصت كل القصائد وكلمات الغزل :
-أنتِ حُلم كُل رجل ، أنتِ إمراة لا يأتي بها الزمان إلا مرة واحد .. 
ثم استعان بوصف نزار مرة آخرى وقال :
"أشهد أن لا إمراة إلا أنتِ ."

#نهال_مصطفى .

•••••••

تحمل صفيـة مائدة الطعام المعدنية التي تحوي على أطباق ممتلئة بالجُبن والعسل والبيض الغارق في السمنة الفلاحي .. ألقت عريضة أوامرها على الفتيات العاملات قبل رحيلهن وهي تُفارق المطبخ بخطوات متمهلة متجهـة نحو غرفة السيدة " أحلام " ضُرتها والزوجة الأولى لخليفة العزايزي التي عاشت معه عشرة سنوات حتى حسـم الطب مصيرها بالإنجاب وأنها إمراة عاقـر لا يمكنها أن تُنجب ، حينها أُجبر زوجها أن يتزوج من صفية ابنة عمهما صاحبـة السادسـة عشـر من العُمر وهو صاحب الخامسة والثلاثون عامًا  .. تسير صفية على مهلٍ حتى طرقت الباب بخفوت مستئذنة ففتحته وهي تقول لضُرتها السيدة أحلام :

-قلت ألحق اتعشى جارك قبل ما تنامي يا عمة . 

سلمت السيدة أحلام الجالسة فوق المقعد على يمينها ويسارها لتختم صلاتها وقبل البدء في أذكار نومها قالت :
-بت حلال يا صفية ، كُنت لسه هشيع لك .

وضعت صفيـة صنية العشاء على الطاولة وقالت باهتمام:
-خيـر يا عمـة ، عاوزة حاجة مني ؟

شرعت أحلام في نزع وشاح رأسها وهي تشكو لها :
-تعالي سرحيلي شعري ، البت لكتـه إكده ومشت ، محدش عيريحني غيرك . 

أردفت صفية بسعة رحب وهي تحضر فرشاة الشعر :
-من عيني .. أنا عارفاكي مفيش غير ضفيرة صفية الـ عتريحك .

ما كادت أن تخطو خطوة وتراجعت مقترحة :
-ما نتعشوا الأول قبل الوكل ما يبرد ! دا أنا عملاه عشانك .

أومأت أحلام موافقة اقتراحها ثم قالت متسائلة :
-ألا هارون فين ، له يومين مافاتش عليّ !! الواد دي اتعلم الجفا ميته !! 

قربت صفيـة مائدة الطعام منها وقالت :
-وهو لو جفا على كل الخلق  ، عمره ما يجفى عليكي يا عمة .. يلا مدي يدك عشان تأخدي دواكي ، وهخلي البت ترنلك عليـه ويفوت عليكِ قبل ما ينام . 

••••••
‏" كل الليالي التي يزورها الحُب ، آمنة ودافئه "

تنام على يسـارها متأملة ذلك الرجل الذي استمد لون بشرته من سنابل القمح .. والتي تختلف تمامًا عن لوني وجهه ومرفقيـه القاتمة والتي غازلتهم الشمس حتى طبعت بصمتها فوقهـم .. أخذت تمرر أطراف أناملها فوق تقاسيـم جسـده الرياضي صَلب البُنية ، وعيناها تتلألآن بالتسلية التي يغلفها الحُب حتى تمتمت بصـوتٍ خفيض :

-هشومي !! 

أتاها صوتـه المفعـم بالنوم وهو يجذبها لحضنه ، مع ابتسامته السـاحرة :
-منمتيش ليـه ؟! 

-مش عايـزة أضيع دقيقة واحدة من غير ما أملي عيني وقلبي منـك حتى وأنتَ نايــم .

ثم همست بصوت لاذع:
-ليه ما ينفعش نكـون مع بعض من غير بُعد !! ليـه حضنك ميكونش أول وآخر حاجة في يومي !! 

انقلب مستلقيًا على جانبه وهو يداعب خصلات شعرها الغجري بجفون يثقلها النـوم ، وأردف مغازلًا :

-وانتِ ليـه مش مبطلة تحلوي ، وكُل يوم بشوفك أحلى وأجمل من الـ قبله .

همست بصوت حنـون :
-صُحابي متجمعين فـ كامب .. تيجي ننزل لهـم ونرجع الصُبح !! 

عقد حاجبيـه وكأن الفكرة لم ترق له:
-أنتِ عارفة أنا مش بنسجم مع صُحابك المجانين دول ، بس لو حابة تروحي يلا . 

تحمست نبرتها وهي تحاول اقناعه :
-هنقعد لوحدنـا ، بعيد عنهم خالص ، أنا وأنتَ وبس .. بليز يا هاشم اتخنقت من جو البيت .. أنا بحب أخرج معاك وأعرف الناس كلها إني متجوزة سيادة الرائد "هاشم خليفـة" .

وافق على مضضٍ:
-طيب قومي أجهزي وأمري لله يا ستي .. 

-حالًا ...

لم تُصدق نفسهـا من شدة الفرحـة ، طبعت قُبلة سريعة على وجنتـه كوسام شُكر ثم ركضت بحماس الطفلة لتستعد لرؤية أصدقائها اللذين لم تلتق بهم منذ ثلاثة أشهر تنفيذًا لأوامره .. تقلب في فراشـه وهو يجلب هاتفـه بضيق منعكس بأنفاسه وبنبرته الصعيدية محدثًا نفسه :
-أنا مش عارف فين أهاليهم صحابها دول اللي حياتهم كُلها كامب ومليطة !! 

••••••

وصلت " ليلة " لقسم الشُرطة الذي يعمل فيه "شريف أبو العلا" بعد كثير من إستعلامها عن الطريق من المارة واتباعها أجهزة التتبع الخاصة .. وصلت لمكتبه بالدور الأرضي وسألت أحد العساكر وهي تحمل حقائب التيه فوق ملامحها والغُربة :

-لو سمحت يا كابتين، مكتب شريف فين ؟! 

فسرعان ما وضحت هدفها مستفهمة :
-قصدي يعني الرائد شريف أبو العلا  ؟! 

أشار لها العسكري والغرابة تحاصر ملامحه حول هيئتها التي لا تدل إنها تنتمي لمركزهم  :
-أخر الطُرقة على شمالك هتلاقي مكتبه .

شكرته بعجل وهي تحمل حقيبتها الواسعة التي تحمل بها العديد من الأشياء الغير مبررة وكأنها حقيبة أم لثلاثة أطفال ، طرقت الباب عندما وجدت خلاء المكان من أي عسكري فأتاها صوته غاضبًا :
-ادخل ..

فتحت الباب ودلفت بخطواتها السريعة المحملة بالأعذار والعتب :
-يعني يا شريف سايبني في بلد لوحدي معرفش فيها حد وكمان قفلت موبايلك ولا حتى فكرت تتطمن عليا !! وكمان بتزعق لي !! 

وثب شريف الذي يحمل نسر رُتبته كرائد ، مندهشًا :
-إنتِ جيتي هنا أزاي !! وأفرضي مكنتش موجود ولا في مأمورية !! ليلة أنتِ لحد أمتى هتفضلي تتصرفي من دماغك كده ولا كأن في حد في حياتك أنتِ مُلزمة منه !! أنا مبقتش عارف اتعامل معاكِ !! بقول لك يمين بتروحي شمال!! دي مابقتش عيشة !

وبخته بتعجب :
-كل ده عشان نمت  من تعب السفر !

انفجر بوجهها غاضبًا :
-ومفكرتيش في الحمار الـ قلب الدنيا عليكِ لحد الساعة ١٢ مستني الطيارة وفي الآخر أنت مجتيش فيها !!

أغرورقت عينيها بالعبرات التي تنهار أمام الصوت العالي وأي نبرة تحمل العنف وهي تضع أصابعها على آذانها كمن يُعاني من صدمة نفسية مزمنة :

-شريف وطي صوتك ، حصل معايا ظروف وبدل ما تتطمن عليا وتعرفها واقف بتزعق وكل الـ هامك مصلحتك وأزاي تفضل مستنيني في المطار لحد الساعة ١٢ . 

بكل ما أوتى من غضب ، فجهر بنبرته الغاضبة الممزوجة بتلك الضربة القوية التي سددها فوق سطح المكتب وقال :
-تصرفات العيال دي !! كل الناس غلط غلط وأنتِ بس الـ صح ، أنتِ عمرك ما هتتغيري يا ليلة !! 

ترف جفونها بسرعة غير مصدقة:
-أنت عايز توصل لايه !! كل ده عشان منزلتش عـ الطيارة يعني وجيت بالعربية ! ما أنتَ عارف أنا بحب السواقة والسفر .. حاجة مش جديدة يعني !

وبخها مكملًا :
-حكمتي رأيك ونزلتي بالعربية ، وقفلتي موبايلك لتاني يوم حتى من غير رسالة تطمني وكذبتي يا ليلة !! وجاية تقاوحي وحتى مش بتفكري تعتذري عن غلطك !!اختفاء غير مبرر موبايلك على طول سايلنت .. بتظهري بمزاجك وتختفي بردو بمزاجك ..وأنا مش قادر اتحمل المزاجيـة دي . 

تفوهت بثغرها المشدوهة من هول الصدمة :
-أحيـه !! أنا لو مش عاجبك كده .. مكمل معايا ليه !! مين أجبرك عليا .. بص لي يا شريف هنا وو

هنا قطع فصل شجارهم المتكرر يوميًا صوت العسكري الذي يقف ورائه هارون العزايزي متواريًا خلف الحائط .. فأردف العسكري قائلًا :
-جناب العمدة وصل يا شريف بيه . 

بقبضتين مضمومتين يحاول تمالك أعصابه ، فـ أشاحت أعنيه لعندها وقال بنبرته التحذيرية وهو يشير نحو الأريكة السوداء التي تبعد قليلًا عن مكتبه :
-اتفضلي أقعدي هنا ومسمعش نفسك يا ليلة .. أنتِ فاهمة ! 

اكتفت بإصدار زفيرًا قويًا وهي تحمل حقيبتها وتجلس حيثما أمرها على مضض، عاد هو الآخر لمكتبه لمواصلة عمله وأمر العسكري بضيق:
-دخله أما نشوفه هو كمان . 

جلست ليلة على تلك الأريكة وهي تهز في ساقيـها المتوترة وتقضم بأصابعهـا ثم أخرجت هاتفها لتغتال به كافة مشاعرها المضطربة كعادتها .. وفي تلك الأثناء دخل هارون وهو يرتب عباءته الصعيدية متحمحمًا بصوتـه الأجش وقبل أن يسمح له شريف بالجلوس ، سحب المقعد المجاور لمكتبه وقال :
-خيـر يا شريف بيه !! كُل يومين لازمًا تبعت لي نتسايروا ! أنتَ مش وراك غيري اياك ؟!

رفع شريف جفـونه نحو العسكري :
-شوف هارون بيه يحب يشرب أيه  ده بقى صاحب مكان .

-ولا حاجة .. مش جاي اضايف ..
رفع كفـه معترضًا وهنا تعلقت عيناه بذات الأعين البندقية التي التقى بها ليلة أمس .. شبح ابتسامة خبيثة رُسـم على محيـاه ثم عاد للضابط شريف كي ينجز مهمته الثقيلة على قلبه :

-في ايه يا شريف بيه المرة دي!

-متقلقش كده يا عُمدة ، كلمتين على الماشي وهتروح .. 

تأرجحت عيني ليلة صوبهم وهي تتأكد مما تراه ، صُدفة جديدة للقدر ليجمعها بذلك الشخص الذي التقت به قبل أن تبحث عنه وكأنها خطة مجهولة من الأقدار لا تعلم عاقبتها ، ترف جفونها بسرعة غير مصدقة حيث وجدته جالسًا مع خطييها الذي لا يعرف السبب الحقيقي لمجيئها هُنا بل خدعته وقالت أنها ستلتقط بعض الصور للمعالم السياحية بالمكان لتقرير صحفي مميز .. وبعينيها اللاتي تتلألآن بالقلق غمغمت لنفسها بتيـهٍ :

-أحيــــه  !! 

بدأت أن تتابع حديثهم بفضول بعد ما فتحت التسجيل الصوتي على هاتفها ، رأته يدير الخاتم ذو القبة السوداء بإصبعه ويقول :

-قصدك أيه يا بيه !!

احتدت نبرة شريف قليلًا وقال بصوت مبطن بالاتهام :
-بيت سويلم مقدمين بلاغ أن رجالتك ضربوا عليهم نار إمبارح في فرح أخوهم .. أيه رأيك في الكلام ده يا عمـدة ؟! 

يحدق بوجهها ميلا حيث تلاقت أعينهم لجزء من الثانية ، مازال محافظًا على ثباته وهو يدب بسبابته على سطح المكتب بهدوء وأجاب بثبات :
-محصلش طبعًا .

هز شريف رأيه غير مقتنعًا بإنكاره إثر علمه بالخلافات القائمة بين العائلتين ، اتكئ على مقعده وهو يطالع العسكري الذي يكتب بجانبه :
-ممكن تقولنـا كنت فين إمبارح يا عمده !!

رفت جفونها بخوف من أن يكشف سرها ليلة أمس وهي تحبس أنفاسها ، رد هارون باختصار :
-أي ساعة بالظبط ؟!

رد شريف بمكر مصرًا على إثبات التهمة عليـه :
-من أول اليوم .. ممكن تقولنا .

عقد حاجبيه محاولًا استعادة شريط اليوم الماضي وقال بفظاظة :
-كُنت في سوهاج بخلص مُصلحة . 

بنظرة اتهامية سأله :
-ورجعت أمتى ؟!

-قُرب العشيـة . 

لم تتوقف كفوفها عن الحركة وهي تراقبهم بذعر يتقاذف من مُقلتيهـا .. لم يتوقف شريف عن أسلوبه الاتهامي وأكمل :
-ضرب النار حصل الساعة ٩ بالليل .. معني كده كُنت وصلت البلد يا هارون بيه !! 

حدجه هارون رافضًا اتهامه بعصبية :
-حد فيهم قال لك أنه شاف هارون العزايزي ضرب عليه نار !! هاتهولي وأنا اخزق لك عينيه .

قفل شريف جفونه للحظة كي يتخذ نفسًا ويفكر قليًلا في كيفية التعامل مع ذلك الرجل الثُعباني الذي لم يستطع إدانته حتى الآن، فقال :
-أهدى يا هارون بيه إحنا هنـا بندردش بس وانتَ مش متهم ، دي إجراءات لابد منها .. 

جهر بعصبية :
-وأنا جاوبت وقولتلك كُنت في سوهاج وبعدها كان عندنا مجلس في المندرة .. 

رمقه شريف بنظرة محتدة :
-المعلومات الـ عندنا بتقول أنك وصلت المجلس متأخر الساعة ١٠ بالدقيقة .. وأنتَ لسه بتقول رجعت العشا !! يعني كان في ساعتين مجهولين والـ حصل فيهم نوش وضرب نار !! كُنت فين الساعتين دول يا هارون بيه ، ده لو مكنتش مع رجالتك فـ الفرح!! 

أصدر صوتًا متفهمـة وهو يُجاري ذلك الضابط الذي لم يتوقف عن محاولات توريطه ، ومع ابتسامة غامضة وهو يطالع ليلة التي تفاقم توترها :

-ما تقول إكده من بدري !!

ثم عاد ليطالعه:
-مع إنه ما يخصكش ، بس هقول لك عشان نقفلوا على الحديت ده من أبو آخر ..

مال شريف مستندًا بمرفقيه على سطح مكتبه وبنبرة خافته خارجة من وراء فكيه المنطبقين ، كرر سؤاله :

-كُنت فين يا عُمدة من ٨ لـ١٠ بالليل ؟! 

كان معصوب العينين وعلى محياه تلك الضحكة الخبيثة التي لا تُفارقه مع كل جولة ينتصر فيها وبنبرة مُغلفة بالأريحية وهو يُشر ناحية ليلة الجالسة بكتفين متجمدين و ركبتان تصطكان ببعضهما وبأعين متسعة ، أكمل :
-كُنت برحب ضيفتي الجديدة .. 

ثم دار بجسده نحوها وأكمل بثقة لا تقبل شكًا  :
-المذيعة ليلة الجوهري .. اتعشينـا وحكينا وخدت واجبها ووصلتها لحد اللوكاندة بنفسي .. وأهي قاعدة عندك واسألها . 

-أحيـه ! 
نوبة من الشلل المفاجئ بعقلٍ يتلوى بجمجمتها من شدة الصدمة وتلك التهمة الجديدة التي زادت الأمر سوءًا بينها وبين شريف الجالس وهو يأكلها بأعينه الغاضبـة ، شهقت ليلة محاولة تبرئة نفسها ، فوثبت كالملدوغة وهي تنفي كل ما قاله بثرثرة :
-لالا !! الكلام ده محصلش .. شريف أوعي تصدقه !! 

وقف أمامها متحديًا وهو يجلي حلقه ثم قال :
-هو أيه الـ محصلش يا استاذة !! 

ضربت الأرض بقدميها الأرض وهي تتوسل له بأعينها كي يصمت :
-أنتَ كذاب . 

ضرب كف على الأخر ، مكملًا مسرحيته إثر جهله بصلتها مع شريف ولم يعٍ حقيقة كونها خطيبته :
-خيرًا تعمل شرًا تلقى !! يابت الناس أنتِ مش كُنتِ معاي إمبارح !! أنا كدبت في أيه ؟

ثم غمز بطرف عينه بمكر الثعالب :
-بأمارة سندوتش الكُفتة الـ عجبك من عند توفيق مشاوي !! أنتِ الـ مش عاوزة تقولي الحقيقة ليه هتورط في مصيبة بسببك !! 

بعجز تام ثرثرت :
-اسكت !! ممكن تسكت .. أنت متعرفش حاجة أنت !! 

ثم غمغمت بحسرة :
-كُل حاجة باظت !!
أدركت فشلها الذريع في الجدال معـه ، فتوجهت نحو شريف الذي أمر العسكري أن ينصرف وهو يتوقد في حقل غضبـه .. اقتربت منه متضرعة :
-شريف أنتَ مش فاهـم .. مشي الجدع ده وخلينا نتفاهم!!

تجاهل شريف حالتها الهستيرية التي حلت بها ونظر لهارون وهو ينزع سلاحه من خصره ويلقيه بالدرج وسأله بصرامة :

-وأيه يثبت أن الاستاذة كانت معاك إمبارح ، في شهود ؟!

رفع هارون ساقه اليسرى فوق المنضدة الصغيرة التي تتوسط المقعدين المجاورين لمكتبه ، واستند عليها بمرفقه وقال بفظاظة مستمتعًا بحربه معها :

-طبعا ، عندك موظف أمن اللوكاندة ، والكاميرات ، وكمان دنقل الميكانيكي  طبعا عارفو كان بيصلح لها عربيتها طول الليل .. وغير كل ده والأهم ...

ثم حدق بها ولا يرمش مبتسمًا وهو يضع مفتاح سيارته على المكتب :
-محفظة الاستاذة نسيتها إمبارح في عربيتي ولو بعتت عسكري لبره هيلاقيهـا في الحفظ والصون .

تنظر إليه نظرات محمومة ، وهمهمت:
-الله يخربيتك .. !!

ثم انفجرت منادية بنفاذ صبر وهي تتشبث بمعصمه كي يلتفت إليها :
-يا شريف !! 

صرخ شريف مناديًا على العسكري بصوته الذي ينافس صخب الرعد ، فـ لبى العسكري النداء على الفور  :
-تاخد متفاح عربية جناب العمدة ..

ثم أشاح بنظره لهارون على أملٍ أن يُكذبه :
-قوله هيلاقيها فين !! 

حدجهم هارون محاولًا معرفة صلة القرابـة بينهما ولكنه سرعان ما نفض غُبار فضوله مغيرًا هدفه بأن يُغطي على جريمته والتي كان ورائها بالأمس .. مد المفتاح للعسكري ووصف له مكان حافظة النقود الخاصة بـ ليلة التي شرعت أن توضح ما حدث لشريف جنبًا ولكن رفض قطعًا سماع أي جُملة قبل إنهاء تلك المهزلة وما الذي يجمعها بشخص مثل هارون العزايزي المعروف بمكره ودهائه .. سيل من النظرات المتنوعة يتدفق بينهم .. هناك أعين تحمل وميض الظفر ، وأعين تحمل العتاب والحسرة وآخرى مدججة بالغضب التي يتطاير منها .. مرت لحظات قليلة حتى عاد العسكري وبيده حافظة ليلة الشخصية التي سقطت بسيارته ذلك اليوم  .. ووضعها على مكتب شريف الذي انحنى ملهوفا وهو يفتش بها  .. إذن ببطاقاتها القومية والبنكية وصورة أبيها
تبادلت النظرات الحارقة بينهم .. تراجعت للخلف وهي تقضم في أظافرها حركتها المعتادة عندما يحل بها كابوس التوتر الذي تتعالج منه ، كان الغضب يتطاير من عيني شريف الذي طأطأة رأسه أمام هارون وعاد موبخا لليلة :
-ايه دي ؟!

احتضنت دمارها كي تقف بوجه التيار وشدت الحافظة من يده :
-بتاعي ، كانت ضايعة . 

-والله !! وبتاعتك بتعمل أيه فـ عربية هارون العزايزي ؟!

لقد وقعت ضحية مخالب مكره .. رمقته بعتب وما كادت ان تتفوه فقطع حديثها قائلًا:
-طيب دي مسائل عائلية أمشي أنا يا شريف بيه .. ولو عوزتني عارف هتلاقيني فين !

تكورت يده متحكمًا بأعصاب .. دار نحوه قائلًا بتلك النبرة الغليظة التي تحمل التهديد والتوعد وأن الجولة لم تنه هنا.. رمى له صورة المحضر المكتوبة وقال باختناق :
-أمضي هنا ..

لم يمسك بقلم شريف الرديء بل أخرج من جيبه العلوي قلمًا من الفضة محفور عليه اسمه صُنع خصيصًا لأجله  .. وقع على المحضر بإمضته المميزة ثم قفل قلمه ورجعه بمكانه :
-استئذن أنا عاد ..

امتلأت شقوق ملامحها بالقلق وهي تمسك بحقيبتها وتضع الحافظة بداخلها متعمدة أن تذهب كي تلحق بذلك المتغطرس الذي تركها على حافة الهاوية ورحل وهي تغمغم بندم :

-وأنا الـ قولت عليك جدع وشهم .. طلع ندل بصحيح !! كل حاجة باظت فوق دماغك ياليلة !! أهو هو ده الـ مش عاملة حسابه .

ثم أسرعت لتناول بعض الأقراص المهدئة مستعينة بقارورة الماء الموجودة على مكتبه هذه الأقراص التي تواظب عليها طوال الأربعة أعوام منذ رحيل والدها .. قفل شريف باب المكتب دون أن يلتفت لما فعلته ثم انقض على رسغها بعنف لتقف أمامه كالطير المبلل بسيـل الغيوم الضبابية التي انصبت جميعها فوق رأسها :

-أحكي لي أيه علاقتك بالزفت ده يا ليلة !!

عاندت إثر صوته المرتفع الذي يعرف جيدا بإنه يرعبها ولكنه دومًا ما يستهين بتلك الأعراض ظنًا منه بأنه دلال زائد منها :
-أنت بتشك فيا ؟! وصدقت كلام المجنون ده ؟!

رفع حاجبه محدقا بها :
-الله !! يعني الـ قاله مش صح !!

ردت بثقة ممزوجة بالبراءة :
-طبعا بيكذب .. أنا مأكلتش معاه كفته ده بيألف من دماغه .

بدأ غضبه يتصاعد مجددًا :
-ليلة !! بلاش أسلوبك المستفز ده !! تعرفي هارون العزايزي من أمتى ؟!

تفاقم توترها وهي تعارضه مصرة ألا تضعف أمامـه وأمام اتهاماته :

-انت بتصرخ في وشي عشان حاجات تافهة ، متستاهلش الصراحة..ودي مشكلتك عمرك ما حاولت تسمعني للاخر دايما أنا غلط وكل حياتي غلظ ومش عاجباك .

قالت جملتها وهي تشيح بظهرها وتحمل حقيبتها فأوقفها :
-أنتِ رايحة فين !! مفيش مشي من هنا غير لما أعرف تعرفي الزفت ده أزاي ومن أمتي ؟!

تأففت على مضض:
-أنت مش عايز تصدقه !! اتفضل صدقه يا شريف .. مش هو ده ال عايز توصله ؟؟

صرخ بوجهها فأجبرها على الإنصات إليه :
-محفظتك في عربيته كانت بتعمل أيه يا ليلة ؟!

-أكيد وقعت وهو بيوصلني إمبارح .. لان عربيتي عطلت على الطريق وعرض عليا يوصلني وبصراحة الرجل كان منتهى الشهامة والجدعنـة .. معرفش استندل ليه هنا ؟؟! وده الــ لازم اعرفه ؟!

وقف على نصل حماقتها :
-هو ده كل الـ هامك ؟! وكل ده بسببك وسبب جنانك .. وبصراحة كده الفيلم العربي ده ما دخلش عليا ؟!وهكلم عمتي دلوقتي وتقول رأيها في الجنان ده .

أربكتها سيرة والدتها حادة الطباع.. فانحنت شوكة تمردها :

-شريف أنتَ لازم تسمعني !! معقولة هتصدق كلام المجنون ده وتكذبني !! 

بنبرتها الانفعاليـة التي تحمل التبرير أردفت جملتها الأخيرة وهي تقف أمامه رافضـة فكرة ذهابه قبل أن يستمع إليها، حدجها شريف بنظرته الاستكشافية وهو يمسك كفها الخالي من محبس خطبتهمـا :

-فين دبلتك يا ليلة ؟!!!! 

-ماهي كلمت بقا ؟!
غمغمت بحسرة وهي تفحص أصبع يدها اليمنى :
-أحيـــة !!فين الدبلة يا شريف؟!

ثم نظرت له بتوجس وأعين متراقصة :
-شكلي نسيتها في اسكندرية !!

اكتفى شريف قائلًا وهو ينزع دبلتها ويضعها بكفها الرقيق :
-خلصت يا ليلة .

ثم جهر مناديًا على العسكري الذي أمره قائلا:
-توصل الهانم للفندق بتاعها .. والصبح تعدي عليها توصلها المطار عشان ترجع لبلدها ..

~بسيارة هارون ..

"دع الندامة لا يذهب بك الندم .. فلست أول من زلت به قدم ..هي المقادير والأحكام جارية "

مهما مرت المواقف عليه لم يتخلى عن الشعر الذي يونسه دومًا .. ألقى على مسامعه تلك الأشعار الخاصة بابن معصوم المدني .. كي يخمد صوت ضميره المتصاعد عما فعله مع هذه المسكينة !! ربما يكون أخيها ابن خالتها ؟! قريبهم .. أو حبيبها ؟!! هنا سقطت أنظاره على دبلتها المندسة نصفها بزاوية معقد سيارته.. أمسك بخاتم خطبتها الصغير وكأنه ينتمي لطفلة لست إمراة جميلة مثلها وهو يديره أمام عينيه يحدق به ولا يرمش .. ابتسامة شاحبة رُسمت على محياه ولكنها مؤلمة :

-شكلها مُرزقة وتستاهل!!

مازال واقفًا أمام قسم الشرطة ففاق هارون على صوت هيثم المتأهب لدخول حربه مع شريف ، حيث هتف متحمسًا :
-شريف أبو العلا لازم يتربى يا هارون .. المرة دي مش هنعديهالـه زي كُل مرة ..

رمى دبلتها بداخل جيبه الصغير وفتح باب سيارته وهبط منها قائلًا بتفاخر :
-لا المرة دي أنا الـ علمت عليـه .. ولسه ، هيفضل ينخور في حفر ورايا ، هدفنـه فيها بالأخير .

تدخل هلال الذي يحمل سبحته الخشبية وسألته :
-ما الأمر يا هارون ! 

عقد ذراعيه أمام صدره متكئاً على سيارته:
-بيحاول يوقعني بس مش هيقـدر .. 

هتف هيثم متهامسًا لأخيه كي لا يصل اتفاقهم للشيخ هلال:
-بردو سيبني أعلم عليه ، وأجيب رأسه الأرض .. ده تعبان ومش هيجيبها لبر أنا عارفو  .

"منذ رحيل والدي بات اليوم بطول عام ، مضى زمن طويل وأنا أمضي معه .. بمنتهى الحماقة  سقطت مني أحلامي وأمنياتي وقوتي التي أهش بها على أوجاعي ، انتهت قصتي مع ذلك الرجل الذي ظننت أنه سيعوضني عن حضن أبي ، لم يبقى لي حضن واحد لأرتمى به ، حتى أمي حضنها جاف صلب لا يكلفني إلا أوجاع جديدة .. 
بات الخوف يسكن خلايا جسدي  أمضي هكذا وفي صدري أوهام كثيرة ومخاوف مرضية أخاف أن أقف فأسقط، أخاف أن أسقط فلا يلتقطني أحد، أخاف أن أمضي فيمضي الزمان معي.. ولا أصل أبدًا ... "

خرجت من قسم الشرطة تجر في ذيول خيبات يومها ، لقد خسرت نفسها للمرة التي لا يمكن إحصاؤها ، خسرت حلمها الوحيـد الذي قطعت أميال لأجله .. وآخيرًا تخلى عنها ذلك الرجل الذي كانت تحتمي بكتفه حتى ولو كذبًا حتى ولو لم يلفح قلبها بدفئ الأمان يومًا ما .. توقفت لبرهة لملمت فيها شعرها المموج للخلف وما سقطت عينيها على هارون الواقف مع رجلين يحملان يشبهونه قليلًا .. رمت حقيبتها بيد العسكري واندفعت بكل شرورهـا نحوه ، هتفت بوجهه صارخة:

-أنت عملت كده ليـه !! دي مش أوصول ولا مرجلة على فكرة !! 

ما أن اخترق صوتها مسامعهم ، طأطأ هلال وجهه بالأرض منغمسـًا بلف سبحتـه بعجـلٍ ، أما عن هيثـم الذي دار لهـا وهو يتفحصها من رأسها للكاحل مع صوت صفيره المسموع متمتمًا باندهاش :

-أوعى تقول أن دي المجرجراك على القسم !! أنا ممكن اتجرجر وراها لأبو زعبل عادي..

رمقته ليلة بخوفٍ يملأها إثر نظراته الفاضحة ، وهي تتراجع للوراء موبخه :
-أنتَ مين أنت كمان !!

أخترق هارون صف أخوتـه وسحبها خلفه ممسكًا بمرفقها بخفة :
-تعالى .. 

غرق هيثم في جمالها الذي لم يراه على أنثى من قبل .. اقترب من أخيـه مشدوهًا ذائبًا في تفاصيل تلك الجميلة التي سرقها أخيهم من بينهم ، كانت ترتدي فستانًا أسود من الصوف ينحت تفاصيل جمالها يصل لتحت ركبتها ويغطى فراغ ساقها ذلك الحذاء الطويل باللون الأحمر .. يعلوه سترة قصيرة من الجينز الأزرق وحول عنقها شالًا منقوشًا .. تنهد ذلك الهيثم يشكو صبابته لأخيه الذي دار وجهه عنها :

-أنا أتاكدت أن عمري ما شوفت بنات قبل كده يا هلال يا أخويا !! أيه الإصدار ده ده أول مرة ينزل نجع حمادي !! 

تحمحم هلال واعظًا بخفوت :
-لك النظرة الأولى وعليك الثانيـة .. اتقي الله يا هيثم وغض بصرك ، هذه فتنة للقلب . 

هام هيثم بخصلات شعرها المتطايرة وهي تتحدث مع أخيه :
-طيب خُد الأولى بتاعتك وملي عينك عشان تعرف أنا بتكلم عن أيه  ، وسيب لي التانية والتالتة ولأخر عمري واقف اتفرج عليها فِرجة .. البت كيف القمر .. لا هي تقول للقمر قوم وأنا هقعد مكانك .. دا أحنا معندناش حريم يا جدع ! 

لم يتحمل هلال سماع المزيد ، فـ جهر مُعلنًا :
-ياااا لله !! لا تسهب البصر ، فهو أول بوابة للشيطان .. كُف عن ذلك الله يُنير قلبك ودربك !! 

-دي من المحرمات في عُرفنا يا أخ هلال يعني نتفرجوا عليها براحتنـا .. هو لا وكل ولا بحلقة ؟!!

أتكئ هيثم بمرفقيه على السيـارة متنهدًا :
-كراميلا .. حتة بسبوسة بالقشطة.. 

ثم جهر متمردًا على أعرافهم  :
-روح يا اخي منهم لله العزايزة ، يسـد نفسهم زي ما سادين نفس الواحد عن الحريم الحلوة دي .. 

كاد هلال أن ينصحـه فقطعه هيثم بنفس النبرة الهائمة :
-أنا حاسس أن الكراميلا دي هتبقى هي حُب عمري الحقيقي !! 

ضرب هلال كف عـلى الأخر بعجز في إرجاع أخيه عن غزله الصريح :
-لا حول ولا قوة إلا بالله .. 

ثم أشار محذرًا :
-أن لم تصمت عن حديثك الخادش للحياء سـ ..

قاطعه هيثم متفهمًا :
-اتخرست .. هتفرج وأنا ساكت ..

غرزت سبابتها بصدر هارون وهي تعاتبـه بلوم :

-سؤالي واضح !! رد عليا من غير لف ودوران لو سمحت .. ليه عملت كده !! أنا عملت لك أيه لكُل ده ؟! 

رد بإيجاز وهو يتحاشى النظر إليها :
-كُنتِ هتعملي وجاية وناوية على خراب .. 

كادت أن تفقد عقلها من برودة أعصابه ونبرته الجامدة التي يتحدث بها :

-متجننيش !! طيب على فكرة بقا أنتَ مطلعتش جدع ، ولا شهم .. ولا بتحفظ السر .. وكمان كذبت عليا وفهمتني أنك بتشتغل عن جماعة تانيين وأخدت كُل معلوماتي وماقولتش إنك العُمدة الـ هنا !! 

ثم ازدات نبرتها حدة من شدة غضبها منه :
-وكمان بسببك أنا وخطيبي سيبنا بعض !! يعني شغلي باظ وكمان فرحي الـ كان بعد كام شهر بقا مفيش فرح خالص !! مرتاح أنتَ كده !! 

عقد حاجبيـه متسائلًا بفضول :
-شريف أبو العلا يبقى خطيبك !! 

ظلت ترمقه بنظرات خرساء ثم تأففت بنبرة موشكة على البكاء :
-أيوة يا سيدي ، مفاجأة مش كده !! وبعدين تعالى هنا !! أنا مأكلتش معاك كُفتة !! دا أنت حتى ما عزمت عليا بكوباية مية من أصلو .. قلت له كده ليه طيب !! بتكذب وتقول حاجات محصلتش ليه !!

ثم التفت لهلال صاحب الزي الأزهري .. فهرولت نحوه بخطوات واسعة تابع هارون خُطاها مناديًا ولكنها لا تُلبي النداء حيث كان يقود خُطاها غرور الصبا .. لكزه هيثم بمرفقه بقلب يتراقص فرحًا  :
-ولاه يا هلال !! حتة القشطة جاية علينا يا ولاه .. طيب بص بصة وصوم كفارة تلات أيام .. يخربيتك متبقاش فقري .. 

بدّ على ملامحها الضيق من نظرات هيثـم الهائمة .. تجاهلته تمامًا ثم أشارت لهـلال :
-باين أنك شيخ وتعرف ربنـا .. لو سمحت احضرنا وأحكم بالحق عشان الجدع ده شكله أونطجي ..

زفر هارون بامتعاض :
-كانت ليلة سودة يوم ما قابلتك يا شيخة .. 

ثم هتف مناديًا كي تصمت :
-أنتِ يا ست !!! 

تدخل هيثم معاتبًا :
-هما بيجوا للساكت ويكلموه ليه !! أنا ممكن أحكم عادي وبعرف أخذ وأدي في الحديت. .. 

-خليك في حالك أنتَ .
زفرت باختناق وهي تلوح له بكفها فـجاء هارون وأبعد أخيه المائل نحوها وحدجه بنظرة تحذيرية ، حيث هتف قائلًا :
-ما خلصنا يا سـت ، شوفي أيه يرضيكي وأنا أعمله وفُضينا عاد !! 

نظرت له بحزم :
-لما اتكلم مع فضيلة الشيخ تسكت خالص .. ولا عشان عارف بغلطك مش عايز تتفضح !! 

تحمحم هلال بإحراج وهو لم يرفع عينيه عن الأرض وقال:
-يا الله !! ربنـا ما يجيب فضايح .. ما هو الأمر الذي فيـه تستفتيان !! 

وبخه هيثم باهتمام وهو يدنو منها قائلًا :
-هو أخويا هارون عمل أيه !! 

صرخت ليلة بوجهه :
-قُلت خليك في حالك أنتَ ..كلامي مش معاك .

حدجه هلال كي يصمت ثم عادت أعينه متدلية بالأرض متحدثًا بلهجتهـم :
-أخي هارون عمل لك أيه ؟!

ثم عادت لهلال وأتبعت بغـلٍ:
-الـ عاملينه عُمدة ده طلع شخص مش محترم ومش أد كـ ...

قاطعها هيثم مستفهمًا :
-متهم تحرش!! ياريت ؟! ده خايب وميعملهاش؟! بس أنا أعملها عادي .

بكُل ما أوتيت من نيران دارت نحو هيثم كي تضع له حدًا :
-مش أنا قلت لك خليك في حالك !! 

زفر هلال بنفاذ صبر أما عن هارون اتكئ على سيارته وأشعل سيجارته كي ينفث بها صوت ثرثرتها .. تفوه هلال بملل من عبث أخوته الذين اعتادوا على فعل تصرفات لا تروق له ، وقال بهدوء وعينيه لم تفارق تلك البؤرة التي صنعها حذائه  :

-بالعقل ، أخويا هارون عمل أيه ، لعل وعسى يكون فيه سوء تفاهم .

رمقته بغل فوجدته غارقًا في سُحب دُخانه الذي أشعل المزيد من الغضب بجوفها وقالت بيأس :
-أخوك خرب بيتي يا عم الشيخ .

تدخل هيثم مندفعًا بالحوار وهي يدنو منها :
-يخربيت أبوه !! على طول كاسفنا .. 

فأتاها صوت هارون ساخرًا من تصرفات هيثم التي تضحكه دومًا وقال بفظاظة متعمدًا إثارة غضبها :
-طيب على فكرة أنتِ طلعتي زي القطط الـ بتاكل وتنكر .. يعني نسيتي توصيلة إمبارح ، وكمان تصليح عربيتك الـ مخدش حقـه ، وواقفة تشتكيني زي العيال لأخواتي !

قطعه هيثم مُتفاخرًا بشهامة أخيـه :
-ما هو الرجل صلح لك عربيتك أهو زعلانة من أيه بس !! 

ردت بإحباط إثر اتفاق الأخوة عليها وقالت بنبرة ساخرة :
--والله !! أخوك ده كتر خيره ، صلح عربيتي وبوظ حياتي.

تدخل هُنا العسكري الواقف جنبًا يحمل حقيبتها :
-يا استاذة الوقفة دي متصحش ، شريف بيه ممكن يجازيني فيها !! 

رمقته بنظرة توحي بقبول طلبه ثم تجاهلت الجميع ووقفت أمامه رافعة سبابتها بوجهه ، وهي تطرد الحروف من قاع غضبها منه :

-اسمع يا هارون العزايزي أنت .. أنا مش عايزة أشوف وشك تاني ، عشان لو شوفتك مرة كمان صدقني هتزعل . 

أشاح بوجهها في استهانة ثم ظهر الإنشراح على أساريره ، فألقى السيجارة من يده ثم سحقها بمقدمة حذائه جاهرًا وهو يُطيل النظر بعينيها التي أعلنت عليه الحرب  :
-يلا بينا يا هيثـم !!

تدخل هيثم معترضًا :
-يلا بينا على فين !! والله ما يحصـل .. الست واقعة في مشكلة ، ومحدش هيحكم فيها غير الحج خليفة العزايزي والشيخ هلال !! ولا ايه ؟!! 

ثم اقترب من ليلة خطوة إضافية :
-أنتِ تركبي العربية معانا ونروح على البيت ونحلو خلافك مع كبيرنا !!  قولتي أيه ؟! يلا بينا على المندرة !!  وتاكدي حقك هيرجع تالت ومتلت فوقه ألف بوسة مني. 

عصفت بها سلسلة احاسيس متتابعة من الغضب ، فاكتفت بنبرة ساخطة لا تختلف قليلًا عن تلك التي طالعت هارون بها .. ودارت ظهرها ناظرة للعسكري :
-يلا أنت كمان  .. 

جهر هيثم نادمًا :
-طيب اسمك أيه على الفيس بوك ابعت لك طلب صداقة  !! 

يأس من ردها فدار على شماله وجد هارون استقل سيارته .. كاد هلال أن يركب مع أخيه فأوقفه :
-أنت رايح فين يا هيـلو .. خد كده مفاتيح عربيتي وحصلنا وانا هركب مع هارون ..

ثم أدخل رأسه من نافذة السيارة قائلًا :
-يا هرن تحكي لي قصة البت دي من طقطق لسلامو عليكو . 

-لو قلت هِرن دي تاني !! هدوسك بعربيتى ، وحل عن سمايا الليلة دي يا هيثم .

قفز هيثم بداخل سيارته :
-وربنا ما هحلك غير لما أعرف ، ده أنا وزعت هلال عشان ناخدو راحتنا .

•••••••

امرأة تنتمي لنسل الفراشـات ، جمالها خفـة روحها أن حلت بمكانٍ زادته بهجـة .. بألوانها الخلابة التي تلف الأنظار مثل رونق ملامحها المتميزة التي توحي بأنها من سُلالة جميلات البدو .. جاءت رغد المتمسكة بمرفق هاشـم بوجهها الضاحك مما جعل كل الأنظار تلتف إليهـا ، مرتدية فستانًا باللون الأبيض طويل ذو أكمام طويلة بناء على رغبته ، وتعقد فوق رأسها وشاحًا بالطريقة السيناويـة، ضمت ذراعه لصدرها وقالت بسعادة وهي تتفقد المكان الصحراوي المُطل على البحر  :
-مش متخيلة إنك وافقت .. الله يا هاشم ، أنا ليـا هنا ذكريات جميلة أوي ، بس تعرف كل ده ولا حاجة قصاد إننا سوا .. 

تحمحم بخفوت وهو يتهامس بأذنها ناصحًا :
-رغد ، تقعدي جمبي ومتتحركيش ، ومش عايز ضحك ومرقعة وتفضلي ساكتـه ، عشان صحابك دول كُلهم شمال وأنا مش بالعهم .

توقفت معارضة على أعتاب " الكامب" :
-والله ، طيب والـ يكلمني بقا !! مردش عليه ؟

رد بحزمٍ وهو يعض على شفته السُفلية بتوعد :
-مترديش عليـه ، هرد أنا .. 

وقفت أمامه ورفعت أصابعها الأشبه بسلة رود وداعبت وجنته بضحكتها الساحرة كي تُلطف الأجواء :
-قلت حاضر ، فُك التكشيرة دي بقا وبلاش العرق الصعيدي يطلع النهاردة عشان خاطري ..

فتاةٌ مثلها معجونة بماءِ اللُطف ، وطحين الحُب ، مُحمَرّةُ الخُدود ، عليها سبعون ألف رشّة أُنوثة .. استطاعت أن تُلجم غضبه الثائر بهدوئها الذي ختمته بإعترافها :
-بحبك على فكرة . 

اكتفى بطبع قُبلة رقيقة على أطراف أناملها وقال موبخًا :
-مالها قعدة البيت مش فاهم !! أحنا كمان عندنا بحر على فكرة .. 

على الجهة الأخرى لكزت شاهندا فؤاد الجالس أمام " البار" يرتشف مشروبًا من النبيذ وقالت بتخابث :

-فؤاد شـوف مين جاي عليـنا !

دار فؤاد بفضول لمعرفة هوية من انضم إليهما فوجدها رغد ، تلك الفتاة التي رفضت حبه بدل المرة عشرة .. حاول بشتى الطُرق أن تكون له رغم ثرائه الفاحش إلا أنه لا يمكنه إغوائها .. تبدلت ملامحه بامتعاض :
-وكمان جايباه وجايه بيه هنا !! صحبتك جاية تغيظني يا هانم . 

اتسعت ابتسامة شاهندا وهي تطالع هاشم العزايزي ذو الوسامة الطاغيـة والملامح الحادة وعيناه الثابتة والواثقة .. بنيتـه القوية خطواته الهادئة ورأسه المرفوعة التي تحمل الغرور مال نحو رغد المتعلقة بذراعه كالطفلة وأشار لمكان هادئ :
-هناك مفيش حد .. تعالي !

حدجته بتردد:
-طيب على الأقل نسلـم !! 

رمقها بنبرة المدججة بالغيرة :
-أنا قولت أيه !! 

وافقت على مضض:
-الـ تشوفه يا هاشم .. تعالى . 

سار الثنائي كحمامتي سلام كل منهما يرتدي اللون الأبيض ، بسط مفرشًا بالمكان المختص وجلسا يديران ظهرهما عن الجميع متأملين موج البحر .. تغلغلت يديها بذراعه ومالت على كتفـه وهي تطالع نجوم السمـاء وكأنه تعلن صبابتها للموجودات الكونية لتشهد على حبها :
-"لقد وقعتُ في حبِ رجلٍ جعلني اعيدُ النظر في أن العالم كُله قد يباع لو كانَ ثمنهُ دقيقةً بجواره "

ثم غمغمت بهدوء :
-أخبار شغلك أيه !! 

رد بإيجاز كعادته عندما تسأله عن عمله:
-كله تمام ..

ثم غير مجرى الحديث وقال بإمتعاض :
-هرجع من البلد الإجازة دي واخلص شرا البيت .. مش كل شوية يجي الأفندي ده ويخبط عايز الإيجار .

عقدت حاجبيها بإعتراض:
-هاشم سعر البيت كتير وأنا مش عايزة أكلفك ، نشوف شقة أو نروح عند ماما نعيش معاها !! أنتَ ليه مُصمم على البيت ده !! 

مسح على رأسها وقال بحب :
-مفيش حاجة تغلى عليك يا ست البنات .. 

طبعت وسام عشقها لذلك الرجل بقُبلة طويلة على عضلات ذراعه التي أوشكت أن تفجر القميص وقالت له :
-أنتَ أحلى حاجة حصلت لي !! تعرف ، مفيش قصة حُب كاملة دي الحقيقة ، بس لما بقعد أفكر مع نفسي يا ترى أيه الـ مش كامل في قصتنا ، مش بلقى جواب .. حبنا متفصل على مقاسنا بالملي !! يعني أنا عشت عمري كله رافضة الارتباط لاني متأكدة مش هلاقي الموصفات الـ بحلم بيها في أيه حد .. 

ثم أسهب النظر بعيون التي لا ترى غيرها وأكملت :
-معرفش ، وقابلتك أنت !!

قاطعها وهو يحوى كفها الصغير بداخل صَدفة كفه الخشنة وتمتم بصوت خفيض منسجمًا معها مُكملًا غناء " سيرة الحُب " لأم كلثوم حتى شاركته الكلمات على الفور :
-وقابلتك أنتَ لقيتك بتغير كل حياتي ، معرفش أزاي حبيتك ، معرفش أزاي يا حياتي .. 

توقف عن الغناء ليستمتع بملامح عصفورته المُغردة بسماء الحب ، والتي أكملت دندنة الكلمات بصوت لا يشاركه غيرهما :
-من همسة حُب لقيتني بحب وأدوب في الحُب ، صُبح وليـل على بابـه .. 

ذاب بحبها أكثر ، فـ همس مقترحًا  :
-ما تيجي نلم بعض !! 

عقدت حاجبيها متسائلة إثر مصطلحاته الصعيدية الغريبة عنها :
-يعني أيه ؟! مش فاهمة !! 

وشوش لها بلهجته الصعيدية :
-يعني نرجع بيتنا وألمك في حُضني لحد ما يطلع علينـا نهار .. 

-"رغد أنتِ هنا مش معقولة !! أيـه المفاجأة دي .."
جاء صوت شاهندا من الخلف ليقطع صفو ضحكة رغد التي ملأت المكان بصُحبة مجموعة من أصدقائهما المشتركين ، جلست شاهندا بدون إذن وتابعها مجموعة من الأشخاص، شباب وفتيات معاً مما أشعل نيران الغيرة بصدر هاشم التي ربتت عليه رغد بخفوت كي يهدأ ويعدي ليلتهم على خير.. حلقة مُنعقدة من الأشخاص شاركوا الثنائي مجلسهم .. فأكملت شاهندا التي لم تتزحزح عينيها عن هاشم :

-القُبطان هاشم خطفك مننا  يا ديدي !! 

بادلتها بابتسامة مجاملة ، وتعمدت القُرب من هاشم أكثر متجاهلة النظر لفؤاد الذي يحرقها بأنظاره : 
-سيادة الرائد خطفني من العالم كله ، وبصراحة دي أجمل خطفه حصلت لي . 

تدخلت شاهندا بفضول متعمدة إثارة غضب فؤاد الذي يتجرع النبيذ بُزجاجة عصير :
-قوليلي مفيش بيبي في الطريق ، مش هبقى خالتو قُريب ..

فتدخلت رحمة مُكملة :
-واو بجد !! رغد الشيمي الـ كانت رافضة الجواز والأرتباط ، هتكون مامي وتربي أطفال كمان ! 

فأكملت عُلا :
-أنتو متجوزين ليكم أد أيه يا رغود ..

تفوهت بثقل وهي تخشى تصرفات وردود فعل هاشم الغير متوقعة :
-سنة وشهرين بالظبط .. وعقبال العُمر كُله وأحنا سوا .

اشتعلت الغيرة في صدور الفتيات اللاتي يحقدن عليها وعلى زواجها من شخص مثله ذو سيط كبير وشُهرة بمرسى علم .. تدخل فؤاد متعمد جر إشكاله :
-وأنت منين يا هاشم بيه ، سمعت إنك صعيدي .

تحمحم هاشم بخفوت وقال بإختناق :
-من قنـا .. 

هز فؤاد رأسه وعيناه يلتهب منها الحقد :
-ليا معارف كتير في قنـا ، قولت لي من عيلة مين في قنا ؟!

رد بجمود :
-ما قولتش .. ومش هقول ، لإنه ميهمكش يااا ..

عرفه بنفسه :
-فؤاد العمري...اكيد سمعت عن العُمري جروب .
-مش بسمع أي حاجة  من صوت الرصاص الـ بضربه طول اليوم .

ثم نظر لرغد المرتعشة بجانبه خوفًا من تهوره :
-يلا يا رغد !!

جُملة هاشم الأخيرة أثارت ضحك الجميع مع نظرات الانبهار المنبعثة من مُقلتي شاهندا إليه ، أحس فؤاد بالضيق ، فوثب قائمًا بملامحه المنكمشـة وهو يبتعد عن مجلسهم بغل خاصة بعد ما قلل هاشم منه أمام الجميع .. وقف بعيدًا وهو يحرق بنظراته ذلك الرجل الذي سرق حبيبته منه ويراقبهما عند مغادرتهما للمكان ، فأجرى مكالمة تليفونية مع أحد معارفه قائلًا بغلٍ :

-اسمعني ، في حتة ظابط هنا اسمه هاشم خليفـة ، عايزك تجيب لي قراره .... 

يتبع
*******
متنسوش الڤوت واللايك ❤️❤️
عايزة كومنتات كتير كتير وبلاش استيكر عشان مش بيخليني اشوف كل الكومنتس ❤️❤️❤️

 •تابع الفصل التالي "رواية آصرة العزايزه" اضغط على اسم الرواية 

google-playkhamsatmostaqltradent