رواية و بالعشق اهتدي الفصل التاسع عشر 19 - بقلم ندى محمود توفيق

الصفحة الرئيسية

 رواية و بالعشق اهتدي الفصل التاسع عشر 19 - بقلم ندى محمود توفيق 

(( وبالعشق اهتدى ))
_ميثاق الحرب والغفران ج2 _
_ الفصل الواحد والعشرون_ ( الجزء الأول )

صدح صوت عمران الغليظ وهو يقول بنظرة نارية لزوجته:
_أنتي هترچعي بيتك وبيت چوزك معايا مش بيت أبوكي
رمقته بطرف عينها في نظرة قوية غير مكترثة للأوامر التي يمليها عليها، استشاط غيظًا بعدما رأى تلك النظرة وهب واقفًا ثم وضع ابنه على الفراش برفق واندفع نحوها ثائرًا ليقف أمامها ويهتف بنظرة منذرة لا تقبل الاعتراض:
_آسيا بزيادة عناد لغاية إكده، ومتخليش المشاكل تكبر أكتر قبل ما تخرچ عن سيطرتنا، أنا بقول هترچعي معايا يبقى هترچعي من غير اعتراض
عقدت آسيا ذراعيها أسفل صدرها وطالعته بنظرة تحدى كلها شجاعة وهي تقول بإصرار:
_هي المشاكل كبرت من بدري قوي يامعلم مش مستنياني أنا لما اخليها تكبر، ولو على الرچوع قولتلك مش راچعة
أظلمت عينيه بشكل مرعب وقبل أن ينفجر بها التفتت تجاه أمها وطلبت منها برجاء مهذب:
_ممكن تسبينا ياما نتكلم شوية وحدينا
تنهدت جليلة الصعداء مغلوبة وقالت بإيجاب:
_ماشي يابتي ربنا يصلح حالكم
راقبت بعينها خطوات أمها حتى غادرت الغرفة وفورًا التفتت له وقالت بنظرة ممتلئة بالخزي:
_ارچع ليه مع راچل بيعايرني بفضله عليه وبيشك فيا وفوق ده كله مش واقف في ضهري ولا سند ليا ولا بياخدلي حقي، بدل ما تروح تقف قصاد أمك وتعاتبها حتى مش تعاقبها واقف قصادي وبتوچهلي أوامر وبتغلطني، الحمدلله أن ربنا حفظلي ولدي وحماني منها وجه على الدنيا بخير وسلامة، أنت بسبب أمك مكنتش هتشوف ولدك اللي طاير من الفرحة بيه ده، رغم كل ده أنا استحملت وسكت ياعمران بس كلامك آخر مرة ليا كان النهاية، أنا كنت أتوقع الكلام ده من أي مخلوق بس منك أنت لا وكنت دايمًا يتباهي بيك واحمد ربنا أنه كرمني براچل واقف في ضهري كيف الوتد وكنت بقول أنا ليا ملجأ وحمى كل ما الدنيا تخبط فيا وناسي ياچوا عليا هچري في حضنه استخبى، لكن طلعت غلطانة
كلماتها أصابته في مقتل واشعرته بالخزي من نفسه والاشنمزاز فنظر لها بدفء أخيرًا بعد شجارات طويلة بينهم وعناد وقال باستسلام نسبي:
_أنا مكنتش داري بروحي ولا عارف أنا بقول إيه، أنتي عارفة أن غضبي عفش وأنا مكنتش شايف قصادي يعني الكلام ده قلته في لحظة غضب يا آسيا
هتفت بعينان دامعة ومقهورة:
_مهي المشكلة أنه اتقال في وقت غضب.. ووقت الغضب اللي بيتقال بيكون هو الحقيقة، أنت كنت شايل كل ده چواك ومدكنه ومنستش ولا سامحت على اللي عملته معاك زمان ولساتك شايل مني
مسح على وجهه وهو يزفر بنفاذ صبر ثم قال في لهجة رجولية رزينة:
_فكرك أنا لو لساتني منسيتش اللي عملتيه معايا كنت هقدر احبك ولا أخلف منك!!.. أعقلي الكلام اللي بتقوليه في مخك الأول وفكري بالمنطق
سالت دموعها الحارقة فوق وجنتيها وصاحت به منفعلة بألم:
_وأنا إيه يضمنلي بعد اللي قولتهولي أنك بتحبني صُح، إيه يضمنلي أنك متچيش عليا ولا تكسرني كيف ما عملوا معايا ناسي، ما أنت عاد شايف نفسك أنك كنت البطل اللي نقذني منهم واللي ضحى بسعادته ونفسه في سبيل ينقذني وليه الفضل عليا ولولاك أنا كان زماني ميـ....
منعها من استرسال حديثها بغضب حقيقي وحدة:
_كفاية يا آسيا خلاص متكمليش، مش عارف افهمك ولا اقولك إيه تاني عشان تصدقي أن مكنش قصدي اقول الكلام ده
رفعت أناملها لوجنتيها ومسحت دموعها ثم أجابته بقسوة وهي تشيح بوجهها للجهة الأخرى وتتحرك بعيدًا عنه:
_متقولش حاچة، هملني وبعد عني ياعمران
قبض على ذراعها ليوقفها عنوة ثم أدارها لجهته وقال بهدوء امتزج بنظراته الصارمة:
_أنا مش هسيبك أنتي وولدي تفضلوا بعيد عني فاهمة ولا لا
دفعت يده بعيدًا عنها وصاحت به بعصبية:
_قولتلك مش هرچع معاك عاوز تسمعها كام مرة عشان تفهم
خرج عن طور هدوئه المزيف هو أيضًا وصرخ بها:
_وأنا الكلمة اللي بقولها بتتنفذ، أنا مبحبش العناد ونشفان الراس
دخلت جليلة في تلك اللحظة مسرعة لتفصل بينهم وهي تهتف بحدة:
_وطوا حسكم چرالكم إيه وبعدين الواد نايم هيصحى مفزوع منكم، تعالي معايا ياعمران هتكلم معاك
قالت عبارتها الأخيرة وهي تجذب عمران من ذراعه عنوة معها للخارج وسط نظراته الملتهبة التي لا يحيدها عن زوجته، فور مغادرتهم الغرفة وقفت جليلة أمامه وقالت بحكمة وجدية:
_أنت لو عاوز تتطلقوا صُح مش هتتعامل معاها إكده، دي بتي وأنا عارفاها وحفظاها وطريقتك دي هتخليها تعاند وتنشف راسها اكتر، لو صح عاوز ترچعها ليك راضيها وبينلها حبك ليها هتلين وهتبقى في يدك
رفع عمران حاجبه بتعجب ثم همس بشك:
_خير ياحماتي من ميتا وأنتي في صفي، ما أنتي دايما كنتي مش راضية عن الچوازة دي ولا حباني، إيه اللي اتغير دلوك 
لوت جليلة فمها بحنق وقالت في مضض:
_ومازالت مش حباك ياولد إخلاص، بس هنعملوا إيه خلاص معدش في رچعة وأنا عارفة أن بتي بتحبك ودلوك بقى في بينكم عيل ملوش ذنب في عنادكم ومشاكلكم دي
مال ثغر عمران بابتسامة متهكمة رغم إعجابه بمحاولاتها لإصلاح الوضع المضطرب بينهم واستمع هي بإصغاء تام وهي تكمل بحزم:
_متقولش دلوك هترچع معاك، هي حتى لو وافقت أنا مش هوافق، البت لسا والدة امبارح واول ولادة ليها يعني تقعد معايا في بيت أبوها اراعيها واخدمها لغاية ما تقف على رچلها وتسند روحها، لكن انت هتاخدها معاك بيتكم مين هيراعيها.. أمك هتراعي بتي مثلا
عمران بصوت رجولي أجشَّ:
_دي مرتي وأنا هاخد بالي منها واراعيها
جليلة بغضب وجبروت:
_اسمع الكلام يا ولد الصاوي لو عاوز مرتك ترچعلك، متچبرهاش على حاچة وخليها تهدى وأنا بنفسي لما تبقى زينة وتقف على رچلها هقنعها وارچعهالك، سيبها في بيت أبوها ترتاح بعد الولادة شوية وبعدين يبقى يحلها ربنا
صاح عمران بعصبية وصوت جهوري:
_هسيبها لغاية ميتا دي كل مالها بتنشف دماغها اكتر وتصمم على الطلاق ده، يعني احسن حل أنها ترچع وتقعد في بيتها چاري
جليلة بحدة شديد وصوت صلب:
_وباللي أنت بتعمله ده مش هتنشف راسها يعني، سيبها خليها تعرف قيمتك في قلبها وأنها متقدرش تبعد عنك ووحديها هتلين ليك وترچع معاك وأنت كمان تراضيها
رفع يده يمسح على شعره نزولًا لوجهه وهو يطلق تأففًا حارًا بعصبية وقلة حيلة ثم ألقى عليها نظرة استسلام مضطرًا فابتسمت له بثقة ورتبت على كتفه متمتمة:
_متقلقش هترچعلك بس أنت خليك ناصح واتعامل معاها صُح وبحنية مش همچية وقسوة
أنهت عبارتها ودخلت للغرفة وتركته بالخارج يقف وهو يدور يمينًا ويسارًا بحيرة وهياج، يمسح على لحيته بقسوة يفكر في حل لمأزقه، لقد كان لا يتحمل غيابها ويتعذب كل ليلة فكيف سيتحمل غياب طفله أيضًا الآن، تلك الساحرة الشريرة تمارس عليه تعاويذها السحرية وتعذبه دون هوادة.
                                     ***
داخل منزل مروان، كانت خلود بغرفتها جالسة على الفراش وبيدها هاتفها الذكي تتصفح موقع التواصل الأجتماعي " الانستغرام" وبعد بحث طويل داخل الحسابات الشخصية أخيرًا عثرت على حسابه، وجدت به الكثير من الصور والذكريات المختلفة له في إيطاليا وفي مصر، بعضها كانت صور جماعية مع أصدقائه أو عائلته لكن معظمها كانت له، اخذت تقلب بين صوره وتتأملها بعينان هائمة وابتسامة ثغر محبة تزين وجهها، لا تعرف متى وكيف اخترق قلبها هكذا، ورغم خوفها من تلك المشاعر بسبب تجربتها السابقة ومحاولاتها للسيطرة عليها لكنه كل مرة يضرب بمحاولاتها السخيفة عرض الحائط بسبب أفعاله الرجولية ونبرته ونظراته اللطيفة.
وسط ذوبانها وهيامها بصوره ووسامته انتفضت فزعًا عندما وجدت الهاتف يصدح رنينه فجأة بين يديها معلنًا عن اتصال منه فبدت مضطربة وخائفة كمن مسك بالجرم المشهود، حاولت التحكم بانفاسها وردت عليه بصوت خافت:
_الو
وصلها صوته الذي يذيب قلبها:
_كمان عشر دقائق بظبط والباب هيرن هتفتحي هتلاقي في علبة خديها وادخلي
غضنت حاجبيها بحيرة وسألت بعدم فهم:
_علبة إيه دي؟
تمتم بصوت رجولي مفعم بالحنو ونبرة مرحة:
_بصي ياست البنات أنا الصراحة في معايا فرح واحد صاحبي شوية بليل، وأنا وقعت بلساني قدام والدته وأنا عنده وقولتلها أني اتجوزت في ايطاليا وهي صممت تشوفك وأجيبك معايا الفرح، فأعتقد دلوقتي أنتي خمنتي العلبة دي فيها إيه؟ 
اتسعت عيني خلود بعدم استيعاب وانعقد لسانها من الصدمة فسمعته يكمل باعتذار شديد وأسف حقيقي:
_قبل ما تردي وتقولي أي حاجة أنا عارف أنك هتتعصبي واللي أنا عملته ده تهور وغباء بس والله أنا لغاية دلوقتي مش عارف أنا قولت كدا ازاي فمعلش خلينا نمشي الليلة دي بس وتعالي معايا واوعدك مش هتتكرر تاني ولو أي حد سألني عنك بعد كدا هقوله أنك سافرتي ومش موجودة
مسحت على وجهها وتألقت بصوت مسموع ثم ردت عليه منزعجة بحزم:
_مروان أنت كيف تقولها أننا متچوزين، أنا متچوزة ولسا حتى مطلقتش من سمير
وصلها صوته الهاديء والمترقب لردها:
_يعني أنتي لو كنتي اطلقتي منه مكنش هيبقى عندك مشكلة؟!
ارتبكت بشدة وتلعثمت لكن بسرعة ردت عليه بحدة:
_مروان إيه اللي بتقوله ده!!
تنحنح بإحراج بسيط وهو يضحك ويقول معتذرًا:
_عندك حق أنا مش عارف أنا بقول إيه أصلًا انسي اللي قولته ده خالص دلوقتي، المهم قولتي إيه هتيجي؟
قالت بحسم ولهجة قوية:
_لا يامروان مقدرش آچي مينفعش وعايزني كمان البس فستان واتزوق.. مستحيل
هتف برجاء ونبرة رجولية لا تقاوم:
_عشان خاطري ياخلود ولا أنا مليش خاطر عندك، اقولها إيه الست دي بس لو قالتلي فين مراتك!
تسارعت دقات قلبها بعد عبارته الأخيرة وخجلت بشدة فصاحت به بحدة:
_بردك بتقول مرتك!!!
كتم ضحكته بصعوبة وقال متأسفًا:
_أنا آسف ياست البنات، قصدي أنها فاكرة كدا يعني بعد اللي قولته، يلا بقى وافقي عشاني.. ده انا حتى منقيلك دريس روعة أنا واثق أنه هيعجبك أوي
هزت رأسها بالرفض وقالت بإصرار تام وحدة:
_لا لا يامروان متحاولش مش هقدر
اختفت بسمته وتقومت تعابير وجهه بشكل غريب ثم إجابها مضيقًا عينيه بتعجب:
_مش هتقدري ليه؟
التزمت الصمت ولم تجيبه لعدم معرفتها بماذا تجيب عليه وكيف تقول، بينما فاحتقن صوته الرجولي وهو يعيد سؤاله عليه بانزعاج ملحوظ:
_ردي ياخلود انا بسألك مش هتقدري ليه!!
ردت مجبرة بسبب الحاحه رغم معرفتها بأنها ستجرحه:
_أنا لساتني متچوزة مقدرش اطلع معاك قصاد الخلق على أني مرتك
تعرف أنه بالتأكيد سيفهم عبارتها خطأ، وربما سيظنها مازالت تكن الحب لزوجها في قلبها ولا تتقبل فكرة خروجها مع رجل غيره، لكنها لديها أسباب مختلفة أهمها أنها لن تتقبل نفسها أبدًا.. هي بدأت تكن له مشاعر الحب في قلبها وإذا فعلتها ستشعر وكأنها خيانة لنفسها وقلبها وهي مازالت متزوجة.
سمعت صوته المقتضب وهو بجيبها بغلظة:
_تمام براحتك ياخلود مش هغصب عليكي، سلام
ودعته بنفس الكلمة وهي عابسة الوجه وبقت على فراشها حزينة، حتى سمعت صوت رنين الباب فوثبت واقفة وهرولت مسرعة لتفتح وترى ذلك الفستان الذي اشتراه لها، عندما فتحت لما تجد أحد ووجدت العلبة أمام الباب على الأرض كما تخبرها فحملتها ودخلت بها للغرفة مجددًا وفتحت الغطاء فرأت فستان من اللون الأزرق بأكمام طويلة ومطرز بفصوص لامعة عند منطقة الصدر، التقطته فورًا بعينان متسعة بإعجاب فانسدل أمامه بطوله كله ليظهر جماله أكثر وهي تضحك بفرحة، وضعته على جسدها أمام المرآة تنظر لنفسها بوجه مشرق لكن سرعان ما ظهر العبوس مجددًا على وجهها وابعدت الفستان عنها لتنظر له من بعيد وهي تهمس بأسف تقصد مروان:
_حقك عليا عارفة أنك أكيد دلوك زعلت مني قوي، بس اعمل إيه غصب عني كان على عيني اروح معاك بس مقدرش
وضعت الفستان على الفراش وجلست بجواره عابسة الوجه ثم لمحت الحذاء الأبيض العالي الذي كان في أحد زوايا العلبة من الداخل فاخرحته ونظرت له وهي تبتسم بحب، اسرعت والتقطت هاتفها وفتحت الدردشة بينهم لتراسله وتقول " الفستان والچزمة حلوين قوي يامروان شكرًا " .
                                    ***
خرجت حور من بوابة الجامعة بعد انتهائها من آخر امتحان في السنة الدراسية ووقفت على جانب الطريق تنتظر وصول أي سيارة أجرة، لكن التفتت ناحية اليسار فور سماعها لصوت بوق سيارة مرتفع فرأت زوجها وهو يشير لها من داخل السيارة، رمقته بضيق وعتاب شديد ثم سارت إليه بخطواتها البطيئة وفتحت باب السيارة لتستقل بجواره دون أن تنظر لوجهه، فزفر هو بيأس وسألها باهتمام حقيقي:
_أخبار الإمتحان إيه، حليتي زين؟
 ردت بمضض وهي مازالت مضربة عن النظر إليه عقابًا له:
_الحمدلله
تنهد بلال الصعداء وقال مازحًا ليلطف الأجواء المشحونة بينهم:
_اممممم شكلك واخدة على خاطرك قوي مني، احنا نروح شقتنا عشان اوريكي التچديدات الأخيرة اللي عملتها وهناك نتكلم على راحتنا
التفتت له ورمقته بنارية ثم قالت بغضب واعتراض قاطع:
_لا مش عايزة اروح معاك مكان، روحني البيت
 ابتسم لها بثبات انفعالي وعينان مفعمة بالحب ثم مد يده والتقط كفها الصغير والناعم وانحنى عليه يلثم باطنه وهو يهمس:
_ما احنا مروحين البيت ياحوريتي، بس بيتنا احنا
جذبت يدها من قلتها بقوة وهي توفر بنفاذ صبر وتهتف له بعصبية:
_بلال!
اجابها بهيام وهو يرسل لها قبلة في الهواء:
_عيوني
مالت بوجهه للجانب وهي تتأفف مغلوبة منه بينما هو فانطلق بالسيارة يشق بها الطرق متجهًا لشقتهم الزوجية، وهي تجلس بجواره ساكنة تراقب الطريق فقط دون أن تخاطبه أو حتى تنظر له، دام الطريق لنصف ساعة تقريبًا حتى توقف أمام البناية فنزل هو أولًا والتف بسرعة من الجهة الأخرى حيث مقعدها وفتح لها الباب ثم بسط ذراعه بابتسامة عاشقة فحدقته بنظرة جانبيه تدل على قلة حيلتها، تجاهلت يده الممتدة أمامها ونزلت من السيارة بمفردها ودفعته برفق بعيدًا عن طريقها وعلى ثغرها شبه ابتسامة تكاد لا ترى جعلتها يبتسم تلقائيًا ويتأكد أنه نجح في نيل رضاها قليلًا.
اسرع خلفها لداخل البناية يصعد خلفها الدرج وهو يتأملها بغرام حتى وصلوا أمام باب الشقة فافسحت له الطريق ليمر من أمامها ويفتح الباب، ففعل ودخل قبلها ثم لحقته وتركته يغلق الباب خلفها وهو يضحك عليها، وقفت بمنتصف الصالة واستدارت له تسأله بفضول ونبرة مقتضبة:
_فين التجديدات اللي قولت عليها دي؟!
تقدم إليها بخطوات متريثة ثم حاوطها بذراعيه باحتواء وجذبها معه باتجاه الأريكة متمتمًا:
_تعالي بس الأول تچديدات إيه وبتاع إيه، ه‍و في حاچة أهم منك ومن زعلك
لوت فمها مغلوبة من كلامه المعسول الذي يلين قلبها رغمًا عنها، وجدته يجلسها بجواره دون أن يكون لها أي اختيار ويديه حول خصرها ونظرته الحانية مسلطة عليها وسط صوته الرجولي العذب:
_حقك عليا متزعليش مني، أنا عارف أني قلقتك عليا بس...
قاطعته استياء وعينان امتلأت بالعبرات:
_بس إيه يابلال أنت كان عندك استعداد تروح للراجل ده وتقتله وميهمكش حاجة
حاولت تلطيف الأجواء وإضفاء جو المرح فقال مازحًا وهو يضحك:
_قتل إيه بس ده أنتي كبرتي الموضوع قوى، بزمتك ده منظر واحد يقتل ده أنا حتى طيب وغلبان ومبعرفش أذى نملة
لم تضحك على مزحته بل صاحت به بشدة وهتفت بصوت مرتجف هي توبخه بقسوة:
_أنت حتى مكنتش بترد عليا وطلعت من غير ما تديني فرصة احاول اتكلم معاك، أنا من كتر ما حسيت نفسي عاجزة وهتجنن من الخوف عليك فضلت ادور على رقم أخوك واخدته من تلفون بابا من غير ما يعرف وكلمته عشان يلحقك قبل ما تتهور وتعمل في الراجل حاجة، مفكرتش فيا ولا في وضعي كان ازاي وأنت طالع من عندي ناوي تضيع نفسك وشايل كفنك على إيد....
انهارت باكية أمامه كالطفل الصغير ولم تستطع إكمال آخر كلماتها، فبسط ذراعيه فورًا وضمها لصدره ماسحًا على ظهرها بحنو وبشفتيها يتجول على رأسها بالقبلات الدافئة ويهمس بصوت مفعم بالآمان والحب:
_اهدى طيب أنا آسف، خلاص عشان خاطري متوچعيش قلبي عاد
توقفت عن البكاء لكن جسدها مازال تزوره نفضة بسيطة من أثر بكائها الشديد، فأبعدها عنه بلطف وهو يحتضن وجهها بكفيه وينظر في عينيها بغرام هامسًا:
_سامحيني أنا مقدرش على زعلك مني والله
ارتخت عضلاتها المتشنجة وهدأت نوبتها فنظرت له بعين محبة وقوية وهمست:
_توعدني أنك متكررهاش ومتعملش فيا كدا تاني
مال ثغره للجانب بابتسامة عاشقة ورفع أنامله يمسح دموعها بكل رقة ويميل عليها بوجهه يلثم وجنتها بحميمية هامسًا في صوت رجولي أثر قلبها:
_وعد ياحوريتي
ابتسمت له أخيرًا بخجل بعد قبلته ودفعته بعيدًا عنها برفق هاتفة بحدة متصنعة:
_أنت مش هتبطل تستغل كل موقف كدا
حرك حاجبيه بنظرات لعوب وعبثية فضحكت هي مغلوبة واستقامت واقفة تهرول راكضة تجاه أحد الغرف وتغلق الباب عليها من الداخل، وقف هو أمام الباب وطرق عليه يقول بضحكة عالية:
_افتحي مش هعملك حاچة تاني والله، دي كانت بوسة كدا لزوم الصُلح بس
                                      ***
داخل منزل جلال وفريال......
فاق جلال مفزوعًا هو وفريال على أثر طرق الباب القوي، فصاح بصوت غاضب على أولاده:
_إيه الخبيط ده!
انتفض معاذ وعمار بالخارج ندمًا وخوفًا من والدهم بينما فريال فقبضت على ذراع جلال هامسة له بلطف:
_براحة عليهم متزعقلهمش قوي.. عيال ياچلال وتلاقيهم عاوزين حاچة كيف عاويدهم
هب واقفًا من الفراش وقال بعصبية:
_اللي عاوزينه يستنى، لكن يصحونا مفزوعين إكده
كانوا يستمعوا لصباح والدهم الغاضب من الداخل وهم يتمنوا أن تنشق الأرض وتبتلعهم، كان عمار سيهم بالفرار وترك شقيقه الأكبر في وجه العاصفة بمفرده لكن معاذ قبض على ذراعه يوقفه ويجذبه عنوة:
_تعالى إهنه رايح وين، مش أنت اللي كنت بتخبط وقولتلك ابويا هيتعصب لو صحى بسبب الخبط الچامد ده
ازدرد عمار ريقه بتوتر وخوف ووقف مضطرًا بجوار شقيقه لمن كلامها انتفضا فزعًا عندما فتح جلال الباب على مصراعيه وهو ثائر، لا لإراديًا ارتفعت يد عمار وأشارت على شقيقه تقول لوالده بارتيعاد:
_ده معاذ يابوي اللي كان بيخبط مش أنا!
رمقه معاذ بصدمة ونظرة نارية متوعدًا بينما جلال فصاح بصوت جهوري:
_أنا مش نبهت مليون مرة مفيش خبيط بالمنظر ده على الباب
اطرقوا رأسهم أرضًا وهتف معاذ بصوت رزين على عكس شقيقه ذو الشخصية المتهورة والجنونية:
_احنا اسفين يابوي مش هتتكرر تاني
ثم رفع رأسه ونظر لشقيقه واكمل مغتاظًا:
_بس أصل عمار عرف أن عمتي آسيا ولدت وكان عاوز يقولك عشان تودينا نشوف العيل
رفع عمار رأسه لوالده وقال بحماس طفولي مضحك:
_ايوة يابوي خدنا أبوس يدك خلينا نشوف واد عمتنا وخالنا، واوعدك مش هنخبط على الباب تاني واصل حتى لو حصل إيه
لانت تعبيرات وجه جلال المتشنجة وهدأت ثورته فقال شبه مبتسمًا:
_روحوا على اوضتكم البسوا يلا
قفز عمار وهو يصيح فرحًا بجنون بينما معاذ فاكتفى بالابتسامة الهادئة واتجه لغرفته ليرتدي ملابسه.
دخل جلال غرفته ثانية وأغلق الباب ليرى فريال تضحك بقوة على تصرفات ابنها الصغير فيقول لها مغلوبًا:
_معرفش أنا چايب الچنان ده منين، بيخليني اطلع عن شعوري
قهقهت فريال بنعومة ثم استقامت من الفراش وردت عليه بنظرة جانبية مبتسمة:
_مش عارفة يعني جايبه منين.. مهو طالع شبهك ومعاذ معاذ من خاله عشان إكده هما الاتنين دايمًا بيتخانقوا زيك أنت وعمران
اقترب منها بتريث ووقف أمامها ثم انحنى عليها وخطف قبلة دافئة من جانب ثغرها متمتمًا بسعادة:
_أنا اعتبر الضحك والهزار ده خلاص معدش في زعل
 لوت فمها ورمقته بطرف عينها في مكر ثم قالت بجفاء متصنع:
_هو أنا عشان اتكلمت معاك أبقى خلاص نسيت، تحب نرچع مفيش كلام حتى بينا
مسح على وجهه متأففًا بنفاذ صبر وقال بجدية:
_لعلمك المفروض أنا اللي ازعل واخد على خاطري، لو ناسية افكرك أن أنتي اللي غلطانة واتصرفتي من ورا ضهري
 فريال بثقة وصلابة وهي تعقد ذراعيها أسفل صدرها:
_وأنا اعتذرت منك وكان عندي استعداد اكمل اعتذار لغاية ما تسامحني لكن أنت چرحتني لما مشيتني من البيت، واحدة غيري كانت هتهمل البيت وتمشي واصل بس أنا عملت حساب أني أنا كمان غلطانة زيك وقررت اعاقبك وأنا في بيتي
ضحك رغمًا عنه وتمتم مرددًا عبارتها:
_قررتي تعاقبيني!!.. ماشي وادي عاقبتيني وكيف ما قولتي احنا الاتنين غلطنا بزيادة عاد.. احنا إكده متصافيين يافريالي
رفعت حاجبها مبتسمة بدلال وقال بعناد جميل وهي توليه ظهرها وتتجه نحو الحمام:
_لا لما تعرف قيمتي الأول وتندم على اللي قولته، لازم اخليك تشتاقلي وأنا چارك عشان بعدين متطلبش مني إكده تاني تحت أي ظرف
لحق بها بلهفة وحاوطها من الخلف يحتضنها بغرام حقيقي ويهتف بصوت يملأه الندم والشوق:
_ومين قالك أني مندمتش، بعدين هتخليني اشتقلك أكتر من إكده إيه بلاش تقسي قلبك عليا عاد ياحبيبتي، غلطة ومش هتتكرر
ابتسمت فريال بحب وعاطفة جيَّاشة وسكنت لعناقه لها، لكن لم يدم استسلامها سوى للحظات معدودة حيث رسمت الحزم على تعابيرها مجددًا وابعدته عنها برفق متمتمة:
_لا لسا أنا مش حاسة أنك اشتقتلي كفاية
تركته واتجهت إلى الحمام وهي تتمايل بغنج في خطواتها فتظهر منحنيات جسدها الأنثوي لتثير جنونه أكثر، بينما هو فوقف واضعًا كفيه فوق خصره من الجانبين ويهتف مناديًا عليها بغيظ:
_فريال!!!
وقفت عند باب الحمام والتفتت له برأسها وهي تبتسم بدلع وتحرك اصابعها برقة مودعة إياه ثم دخلت الحمام وأغلقت الباب لتتركه بالخارج بتحرق من شوقه وغيظه منها.
                                     ***
داخل منزل خليل صفوان بتمام الساعة الثامنة مساءًا، اتجهت جليلة للباب لتفتح للطارق بعدما ظنته ابنها أو فريال، لكن تجمدت مكانها عندما رأت إخلاص أمامها وهي تبتسم له بشيطانية وتقول بود مزيف:
_كيفك ياچليلة؟ 
طالعتها جليلة بنظرة ملتهبة ووقفت بكل جبروت أمامها وشموخ وقالت بابتسامة متهكمة:
_كنت زينة قبل ما أشوفك 
قهقهت إخلاص باستهزاء واضح وتمتمت بنظرة يملأها الحقد:
_هتفضلي دايما كارهاني ومبتحبنيش إكده عشان عارفة أني احسن منك
تمالكت جليلة انفعالاتها بصعوبة وردت عليها بثبات مزيف يعكس العواصف التي قامت بداخلها من مجرد رؤية تلك المرأة الحربائة:
_چاية بيتي ليه يا إخلاص؟! 
إخلاص ببرود مسفتز وثقة تامة:
_چاية اشوف ولد ولدي.. حفيدي واطمن عليه
للحظة كانت ستغلق الباب في وجهها وترفض إدخالها منزلها لكن لم تفعل وافسحت لها الطريق هاتفة بنظرة مشبعة بالنقم:
_دلوك ولد ولدك افتكرتيه، كنتي وين امبارح طول اليوم وبتي كانت في العمليات
ابتسمت إخلاص وقالت بنبرة فظة وقاسية:
_أنا ميهمنيش بتك طالما حفيدي چه الدنيا بخير وسلامة
اشتعلت عين جليلة بنظرات نارية مخيفة وخرجت من طور ثباتها المزيف لتظهر عن مخالبها وحقيقتها البشعة والشريرة، حيث غارت على إخلاص وقبضت على رقبتها تخنقها دون شفقة وهي تهددها بصوت اقرب لفحيح الأفعى:
_اسمعي ياولية يا سوء انتي، أنا دلوك هخليكي تطلعي تشوفي حفيدك ده اللي هامك قوي بس قسمًا بالله لو قولتي لبتي كلمة ولا عملتي أي حاجة تضايقها لادفنك في أرضك ومفيش حاچة هتهمني فاهمة ولا لا 
دفعت إخلاص يد جليلة عنها بعنف وأخذت تسعل بقوة وهي تصيح بها غاضبة:
_انتي اتخبلتي في نافوخك ولا إيه، أنتي عاوزة تموتيني يامچنونة
جليلة بنظرة مرعبة ومحذرة:
_اطلعي شوفي ولد ولدك يا إخلاص قبل ما اطردك ومخلكيش تشوفيه واصل 
نظرت لها بوعيد شيطاني وغل وبغض حقيقي متمتمة:
_ماشي ياجليلة مبقاش أنا إخلاص الصاوي إما دفعتك تمن اللي عملتيه معايا ده
اندفعت إخلاص للأعلى حيث الطابق الثاني تجاه غرفة آسيا ووقفت أمامها ثم دخلت دون أذن، فزعت آسيا عندما رأت إخلاص أمامها وبمنزلهم وكانت خلفها أمها، هتفت آسيا تسألها بذهول:
_بتعملي إيه إهنه؟
ردت إخلاص ببرود مستفز وعينان تبحث عن حفيدها في الغرفة:
_چاية أشوف الغالي ولد الغالي
سقطت عينها على الفراش الهزار الصغير بجوار فراش آسيا والنائم به حفيدها الصغير، فاتجهت نحوه بعينان تلمع من السعادة وبينما كانت على وشك أن تنحني عليه وتحمله صرخت بها آسيا برعب ووقفت حائل بينها وبين فراش ابنها تقول بغضب وخوف:
_بتعملي إيه، بعدي عن ولدي متقربيش منه!
ضيقت إخلاص عينيها باستغراب والتفتت تجاه جليلة التي كانت تنظر بنفس علامات الاستفهام والحيرة، ثم عادت بوجهها لآسيا مجددًا وابتسمت بسخرية تقول:
_مقربش منه ده إيه، حفيدي وعاوزة اشوفه واخده في حضني مالك يابت خليل هتمنعيني عن ولد ولدي ولا إيه!! 
وقفت آسيا أمامها بكل شراسة وقالت بنظرة مميتة:
_أه همنعك ومش هتقربي من ولدي يا إخلاص، لو أنتي نسيتي فأنا لساتني فاكرة
فهمت إخلاص ما تلمح إليه فتقوست تعابير وجهها باحتدام شديد وقالت في نبرة صوت رخيمة وابتسامة متكلفة لتهدأ من حدة الأجواء:
_ده موضوع وخلص يا آسيا.. دلوك أنا ولد ولدي چه على الدنيا ومفيش حد فرحان بيه قدي
ضحكت آسيا بقوة في استهزاء منها وصرخت بصوت جهوري مرعب:
_أنتي فكراني هبلة هتضحكي عليا.. قولتلك مش هخليكي تلمسي ولدي
بتلك اللحظة تحديدًا كان عمران وصل بالأسفل مع جلال بعدما تقابلوا أثناء طريقهم للمنزل، سمع كل منهم صوت صياح آسيا المرتفع وكان عمران يسبق جلال في الركض للأعلى مفزوعًا ومرتعدًا على زوجته وابنه، وقف بالغرفة وهو يلهث أنفاسه وينظر لأمه وزوجته وهم يقفون أمام البعض بتحدي في دهشة، بينما إخلاص فالتفتت تجاه ابنها وهتفت بحرقة وغضب:
_مرتك مش عاوزني اشيل ولدك ياعمران، بتقولي مش هتقربي منه ولا تلمسيه 
نظرت آسيا لزوجها بكل جبروت وبدت مصممة على قرارها، أخذ عمران نفسًا عميقًا بعدما فهم سبب تصرف آسيا واتجه نحوهم لخطوات متريثة وبهدوء مريب ثم اقترب من فراش ابنه وانحنى عليه ليحمله بين ذراعيه ويضمها لحضنه مقبلًا رأسه بحنو مبتسمًا ثم انتصب في وقفته ونظر لآسيا بحدة يقول:
_بعدي يا آسيا مينفعش اللي بيتعمليه ده ولا يليق بيكي يابت الأصول
رمقته بنارية وغل ومدت يدها لتجذب ابنها من بين ذراعيه هاتفة:
_هات الواد ياعمران، أمك مش هتقرب من ولدي ولا تلمسه
مال بنصف جسده العلوي بعيدًا عنها وهو يضم صغيره بحضنه وينظر لها بحدة ويقول بصوته الرجولي يحذرها:
_آســيـا 
كانت جليلة ساهم بالاندفاع نحوهم والدفاع عن ابنتها والوقوف بصفها لكن جلال قبض على ذراعها يمنعها بنظراته الصارمة وهو يهمس:
_استنى ياما ملكيش صالح
راقبت آسيا عمران وهو يضع ابنها بين ذراعين جدته بنظرات محتقنة ومتلألأة بالعبرات، التزمت الصمت المؤقت وسكنت وهي تراقب تفاعل إخلاص وفرحتها الحقيقية وهي تمطر حفيدها بوابل من قبلاتها الدافئة.
كانت إخلاص تتأمله بعينان دافئة كلها حب صادق وللحظة كرهت نفسها لأنها حاولت قتله والتخلص منه، ندمت أشد الندم بعدما وضعته بين ذراعيها، رفعت رأسها لعمران وقالت له بعين يملأها العبرات:
_فولة واتقسمت نصين، هيطلع راچل ليه هيبته وشنته ورنته كيف أبوه
ابتسم لها عمران بحب ومسح على كتفها بود بينما هي فظل تداعب في حفيدها الصغيرة وتقبله لدقائق ثم إعادته لأحضان ابيه مرة أخرى وهي تردد بصدق:
_يتربى في عزك ياولدي وعقبال ما تفرح بيه وبشهادته وچوازه
حمل ابنه بين ذراعيه ورد على أمه بابتسامة عذبة:
_أمين ياما 
تنهدت إخلاص ثم نظرت لآسيا وقالت على مضض وهي تهم بالانصراف:
_حمدلله على السلامة
رمقته آسيا شزرًا ثم راقبتها وهي تغادر الغرفة بوعيد شيطاني ولحقت بها جليلة وكذلك جلال غادر وترك آسيا وعمران بمفردهم، انحنى عمران على فراش ابنه ووضعه به برفق ثم اتجه نحو باب الغرفة واغلقه وعاد بخطواته لآسيا التي كانت ترمقه بنظرة خزي وكره ليهتف صائحًا:
_بتبصيلي إكده ليه، إيه أنتي عاوزاني احرم ولدي من چدته!!
اندفعت نحوه ثائرة وصاحت بقهر:
_أه چدته اللي كانت هتحرمك منه وكانت هتسقطني وتموته
عمران بنفاذ صبر وسخط شديد:
_ لساتنا في الموضوع ده مهنخلصش منه!!! 
حدقته بشراسة وقالت بتحدي وعناد يليق بأثنى متجبرة مثلها:
_مش هنخلص، وأنا النهاردة سكت وعديت اللي حُصل بس أمك مش هتقرب من ولدي تاني
عمران بعصبية حقيقية:
_أنتي اتخبلتي في نافوخك ولا إيه!! 
نظرت له بخزي وعين متلألأة بعبرات الانكسار والقهر وهمست:
_كان نفسي تخيب ظني مرة واحدة وتقف چاري، لكن كيف كل مرة بتقف في صف أمك وبتاچي عليا أنا ومش بتنصفني، بتخليني احس نفسي عريانة ومليش ضهر اتحامي فيه، بحس أني وحيدة أنا وولدي 
اتسعت عيني عمران بدهشة من كلماتها المأساوية وقال لها بانزعاج بسيط محاولًا الدفاع عن نفسه في قلة حيلة:
_أنا عملت إيه لده كله، أنتي عاوزاني اعمل إيه يعني مهو من جهة أنتي وولدي ومن جهة أمي وأنتوا الاتنين مقدرش اخسركم
ابتسمت بتهكم وعينان غارقة بالدموع ثم دفعته في صدره وهي تضربه بغل متمتمة:
_أنت خسرتني أصلًا من بدري، اطلع برا مش عاوزة اشوفك.. اطلع!
كانت تضربه في صدره تحاول دفعه تجاه الباب لكنه كان كالحصن يقف شامخًا وصلبًا ودفعاتها لا تؤثر به فصرخت به بهستيريا وبكاء شديد:
_اطلع برا قولتلك مش عاوزاك.. اطــ..ل..ع برا
احتضن كفيها بين يديه الكبيرة ليمنعها عن ضربه أكثر ثم جذبها إليه وضمها لحضنه بقوة محاوطًا إياها بذراعيه بتحكم حتى لا تجد مفر من النفور منه والابتعاد عن صدره وأخذ يمسح على شعرها وظهرها بحنو وهو يهمس لها بحب:
_تمام.. تمام.. اهدى خلاص كفاية
حاولت التملص من بين ذراعيه وسط بكائها الشديد وهي مستمرة في لكمه على صدره هاتفة:
_بعد عني.. متقربش مني.. بعد بقولك هـ...ملنـ..ي  
لم يكترث لمحاولاتها البائسة ولا حتى رغباتها، استمر في ضمها لصدره وبشفتيه انحنى على رأسها يلثم شعرها بعدة قبلات رقيقة وبيده يمسح على ظهرها بحنو ليهدأ من ثورانها، لكنها ظلت تبكي بشدة وجسدها يرتجف بين ذراعيه ومازالت مقاومتها له مستمرة حتى سكنت أخيرًا بعد دقائق وتوقفت عن البكاء، فمال بجزعه للأمام وهو يضمها وحملها فوق ذراعيه واقترب بها من الفراش ثم وضعها فوقه برفق شديد وجلس أمامها على الطرف ليمد يده ويمسح عن وجهها مياه دموعها الغزيرة، فدفعت يده بعيدًا عنها ومالت بوجهها للجهة الأخرى حتى لا تنظر لوجهه، فتنهد هو الصعداء بحنق وظل مكانه يتأملها بوجه مهموم حتى ارتفع صوت بكاء صغيرهم، فاستقام واقفًا ليتجه إلى فراشه ويحمله بحنان أبوي جميل ثم يعود لفراش آسيا بجوارها وهو يمد ذراعيه بالطفل هاتفًا:
_خدي رضعيه
اعتدلت جالسة وحملت ابنها لحضنها وهي تهزه برفق متمتمة له بحنو أمومي:
_حاضر ياحبيبي أنت چعت ياغالي، خلاص متبكيش حاضر
عدما ضمت ابنها لصدرها وكانت على وشك أن تخرج ثديها لترضعه لكن رفعت رأسها ونظرت لعمران الذي كان يراقبهم بابتسامة عاطفية ومحبة وعيناه عالقة عليها مترقبًا ليشاهد تلك اللحظة الامومية الجميلة وهي ترضعه، لكنها افحمته بردها الصارم:
_بص الناحية التانية! 
رفع حاجبه بدهشة مستنكرًا طلبها السخيف الذي لا يفهم سببه..خجل أم غضب أم ماذا، وجدها تكمل هي بغيظ امتزج بقسمات خجل لاحظها في نظرتها ووجهها:
_إيه!! .. ياتبص الناحية التانية ياتقوم تمشي!
مال بوجهه للجهة الأخرى وهو على ثغره ابتسامة جانبية ساحرة، لكنه لما يكن أمينًا حيث عينيه كانت تنظر من الطرف وتراقبهم، مرت دقيقة على هذا الوضع حتى تنهد هو الصعداء بضيق ونظر لها ولابنه ثم انحنى على رأسه وهي ترضعه وقبله بحب متمتمًا في حزن:
_على عيني اهملك وامشي ياحبيبي بس نعمل إيه في دماغ أمك الناشفة، مش عارف كيف هستحمل اقعد بعيد عنكم
ثم انتقل بشفتيه إلى رأس آسيا بعدما استقام واقفًا وطبع قبلة دافئة متمتمًا:
_تصبحي على خير وخدي بالك من روحك ومن الواد
لم تخرج كلمة فمها واكتفت بمتابعتها له بعينيها حتى انصرف وغادر فنظرت لطفلها المشنغل بوجبته الصغيرة من ثدي أمه وحدثته بأسى وعين دامعة:
_طول ما أبوك مش هيتغير أنا مش هنخ ولا هرچعله واصل ياسليم 
                                     ***
داخل وكالة الصاوي كان بشار يجلس بغرفة المكتب الداخلية مكان عمار ينهي الأعمال التي بقت على عاتقه هو بسبب انشغال عمران منذ الأمس مع زوجته ومولوده الجديد، بينما كان لا يرفع رأسه عن الأوراق والحسابات التي أمامه اخترق أذنه صوت طرق الباب فرد بخشونة دون أن ينظر إلى الباب:
_ادخل
انفتح الباب بغل ودخلت رحاب تخطو بحذائها خطواتها الرقيقة رغم صلابتها، فرفع هو رأسه ليتفقد هوية الطارق بعدما شعر من دخوله وصوت خطواته بأنه ليس من جنس الرجال، وبالفعل رأى رحاب أمامه فضيق عينيه باستغراب وقال لها بحزم:
_رحاب.. أنتي بتعملي إيه لغاية دلوك برا.. الوقت أتأخر!!
اقتربت من مكتبه وجلست على المقعد المقابل له بعنجهية وقالت ببساطة:
_كنت بشتري شوية حچات أنا ومنى من السوق واحنا وراچعين خليتها تروح على البيت وأنا چيتلك اشوفك
رفع حاجبه بنظرة مستنكرة أسلوبها الجديد في الحديث واخفض نظره بتفحص نفسها السفلي وهي تضع قدم فوق الأخرى وتنظر له باحتقان تخفيه خلف قناع النعومة الذي ترتديه على وجهها، أخذ نفسًا عميقًا وأخرجه زفيرًا متمهلًا وهو يسألها بصوت رجولي أجشَّ:
_مالك يارحاب في حد مضايقك ولا إيه؟ 
ردت عليها دون تردد وبنظرة ملتهبة:
_أه في 
سألها للمرة الثانية رغم أن يتوقع الإجابة لكن حافظ على هدوئه وتمتم:
_مين؟ 
رحاب بعصبية وحقد:
_أنت يابشار هيكون مين غيرك!! 
مسح على رأسه ووجهه متأففًا بانزعاج ملحوظ من أسلوبها المثير للأعصاب، وأثر الصمت وعدم الرد حتى لا ينسب شجار بينهم لكنها تابعت وهي تسأله بغيرة حارقة:
_أنت مش قولتلي لما تفوق خطيبتك دي هتفسخ الخطوبة وتنهي كل حاچة، وأهي فاقت يا بشار لساتك معاها ليه
لوى فمه بحنق وقال بصوت رخيم يحمل الأسف:
_مقدرش اسيبها يارحاب وهي في الحالة دي، هي مش فاكرة حاچة ومحتاچة الكل يكون چارها عشان تفتكر تاني 
ضحكت باستهزاء وقد بدأ عليها عدم الاقتناع بحجته الواهية للتمسك بها فقالت متهكمة:
_ناقص تقولي كمان أنها فاكرة الكل ونسياك أنت بس كيف الافلام والمسلسلات وأنت هتساعدها عشان تفتكرك
طالت نظرات بشار الثاقبة لها وهو صامت والتي كانت تؤكد ما قالته للتو، فاختفت بسمتها وظهر الذهول على محياها الذي سرعان ما تحول لهستيريا جنونية ووثبت واقفة تصيح به:
_وأنت صدقتها!.. صدقت الكلام الفارغ ده!!.. مش بعيد تكون بتضحك عليك عشان تخليك چارها ومتسبهاش، ولا أنت عاد عاچبك الحوار وعاوز تفضل چمبها وتفكرها بذكرياتكم مع بعض
هب بشار هو الآخر واقفًا وهتف بصوته الرجولي التحذيري:
_وطي حسك يارحاب.. متعلهوش عليا 
عقدت ذراعيها في خصرها وأخذت تجوب الغرفة يسارًا ويمينًا وكأنها تسير على جمر من النيران ودمائها تغلي في عروقها من الحقد والغيرة، ثم نظرت لبشار بشراسة ولكمته في صدره بقسوة صارخة به:
_لما أنت مش بتحبني ومش هاين عليك تفترق عنها سبتني أتأمل ليه بحبك ليا وأنك هتتچوزني.. لـــيـه!!!.. أنت اناني يا بشار 
استمرت في لكمه على صدره بقوة من فرط غيظها وهي تصرخ به، فجأة وجدته يقبض على يديها بكل قوة وقسوة ليوقفها عن لكمه أكثر وهو ينظر في عينيها بلهيب مرعب ويصيح بها:
_أنتي أكتر واحدة عارفة أنا كيف كنت بحبك وعاشقك وبتمناكي كل ليلة تكون مرتي وچاري
ارتخت أعصابها المتشنجة واتسعت عينيها بصدمة مرددة كلمته:
_كنت!!! 
تجاهل كلمتها وتابع بانفعال وجموح غريب وهو يخرج ما دفنه بقلبه منذ سنوات، يخرج كل البشاعات التي كانت تؤرقه كل ليلة في فراشه وتجرحه من أعمق نقطة في قلبه:
_أنتي لما اتخطبتي للـ**** ده كنتي عارفة إني بحبك وعارفة أني اتكلمت مع عمتي وكنت ناوي آجي اتقدملك، بس أول ما لقيتي فرصة احسن واحلى وواحد هيريحك بالفلوس خدتيه هو ومهتمتيش بيا، كنت بتعذب وانا بحاول انساكي ومش عارف واخر حاچة خطبت على أمل أني اطلعك من قلبي واحب خطيبتي
سكت للحظة ثم تابع بنظرة حزينة ونبرة مريرة:
_بس كنت بضحك على نفسي ولقيت نفسي بظلم الغلبانة مريم معايا وهي ملهاش ذنب ورغم أني عارف كل ده عنك وعارف إنك اخترتيه هو ومهتميش بيا أنا وافقت اكمل معاكي لما فسختي خطوبتك من كتر حبي ليكي وقولت معلش غلطت وكلنا بنغلط وهي لساتها قليلة الخبرة واكيد عرفت أن محدش هيحبها قدي وقررت أني اسيب خطيبتي وأكمل معاكي أنتي ونتچوز بس اللي حصل غير كل حاچة، وأنتي دلوك بتتهميني وتقوليلي أني اناني ومش بحبك بعد كل ده
امتلأت عين رحاب بعبرات القهر والصدمة ثم تمتمت بصوت مبحوح وخافت:
_ياه كل ده شايله في قلبك ومعبي مني، بس عمومًا أنا مش هچبرك تكمل معايا وتسيب خطيبتك عشاني يابشار، خلاص كل واحد يروح لحاله 
أنهت عباراتها واستدارت وهي تندفع لخارج الغرفة والوكالة بأكملها مسرعة وتبكي، بينما هو فوقف مكانه لثواني يستوعب ما حدث للتو وما قاله دون وعي فمسح على وجهه متأففًا ولحق بها ركضًا وهو يصيح مناديًا عليها:
_رحـــاب استني.. رحــــاب
ولكنه تأخر عنها فقد كانت غادرت بالفعل الوكالة وتسير في الطريقة مسرعة باتجاه منزلها، فظل بأرضه يمسح على شعره بعصبية وندم على السخافة التي تفوه بها.
                                    ***
بمنزل ابراهيم الصاوي.......
وصل عمران للمنزل بعد عودته من منزل خليل من عند زوجته وابنه، قاد خطواته بثقل تجاه الدرج من فرط التعب والإرهاق طوال اليوم، ثم صعد درجات السلم حتى وصل للطابق الثاني، لا يعرف لماذا قدميه قادته تجاه غرفة أمه بدلًا من غرفته لكنه كان ينوي التحدث معها عن ما حدث بمنزل خليل، وصل إلى باب غرفتها ورفع يده ليكرف على الباب قبل أن يدخل لكن كف يده توقف في الهواء عندما سمعها وهي تتحدث في الهاتف مع منى وتضحك بشماتة متمتمة:
_لو كنتي شوفتي وشها يامنى لما عمران خد من يدها الواد وحطه في حضني غصب عنها، كانت هتولع من غيرتها وغيظها
انزل كف يده المعلق في الهواء ببطء شديد بعدما جذب انتباهه موضوع حديثها مع منى وقرر أن يسمعه للنهاية فوجدها تكمل بعدما جاءها الرد من الأخرى:
_متقدرش تعمل حاچة عمران هيطلقها خلاص، أنا مش قولتلك مبقاش أنا إخلاص الصاوي أما بعدت الحرباية دي وخلصت ولدي منها خالص، وأهم هيطلقوا كيف ما قولت يابت
اختفى صوتها للحظات ثم تابعت بنبرة حماسية وشيطانية:
_يطلقها بس ونخلص منها ومتقلقيش أنا هفضل ورا عمران لغاية ما يتقبلك ويوافق يتچوزك وتبقى أنتي مرت المعلم عمران الصاوي ياغالية
لحظات أخرى وصدح صوتها بالكلمات التي كانت بمثابة نقطة النهاية والتي جعلت البركان الخامد في ثناياه ويحاول السيطرة عليه ينفجر وستكون هي من أول ما يطولها حممه النارية: 
_عمران ميعرفش ومش هيعرف، هي كام مرة تحاول تقوله عشان تخليه يصدق أني أنا اللي زقيتها من على السلم وهو مش مصدقها وحتى التسجيل اللي سجلته ليا أنا مسحته، يعني الحرباية دي بت چليلة مش هتقدر تفرقني عن ولدي مهما عملت
انفتح الباب فجأة على مصراعيه فانتفضت هي فزعًا والتفتت خلفها لترى ابنها يقف كالثور الهائج وتعبيرات وجهه لا تنم عن خير أبدًا فازدردت ريقها بتوتر وقالت:
_عمران!! 

.......... نهاية الجزء الأول من الفصل ...........
(( وبالعشق اهتدى ))
_ميثاق الحرب والغفران ج2_ 
_الفصل العشرون_

مرت ساعة تقريبًا منذ وصولهم للمستشفى ودخولها لغرفة العمليات، وجميعهم القلق وجد طريقه لأنفسهم المحبة والمهتمة بابنتهم، بينما عمران فكان يقف بجوار غرفة العمليات مباشرة مستندًا بظهره على الحائط وعاقدًا ذراعيه أمام صدره، نظراته تائهة في الفراغ وعقله مشغول بالتفكير في زوجته وابنه، دقات قلبه تتسارع مع مرور الوقت بشكل مرعب من فرط قلقه خصوصًا وأن موعد ولادتها لم يأتي بعد وكان من المفترض أن يكون لها زيارة لطبيبها الخاص ليتابع معها حالتها الأخيرة، لكن ما حدث فجأة أثار قلق الجميع وأصابه بالرعب خشية من أن يصيبها شيء هي أو طفله، ظل يردد آيات من القرآن ويذكر ربه باستمرار ليهدأ من اضطرابه.
على مسافة قريبة منه نسبيًا كان كل من جليلة وجلال وحمزة يجلسون على المقاعد الحديدية وحالهم ليس أفضل من حاله، الجميع في حالة سكون قاتلة ينتظرون خروج الطبيب وسماع صوت بكاء الطفل ليطمئن قلبهم المضطرب، لكن الوقت كان يمر كالسلحفاء والساعة كأنها عام، وعندما تعدت الساعة والنصف فقد عمران أعصابه وراح يجوب يمينًا ويسارًا أمام الغرفة وهو يمسح على وجهه ويتأفف بعصبية امتزجت بقلقه، لكن روحه الثائرة هدأت ونسي كل شيء حتى انتظاره لوقت طويل وهو يتحرك على جمرة من النيران بسبب خوفه عندما صك سمعه صوت بكاء طفله المرتفع، تسمر بأرضه ولمعت عينيه بفرحة وصعدت البسمة الدافئة على ثغره، وكذلك حلال البقية أشرقت وجوههم العابسة فرحًا وهب جلال واقفًا يقترب في خطاه من عمران ليقف بجواره في انتظار خروج الطبيب، لكن دقائق وخرجت الممرضة وهي تطلب ملابس الطفل فناولتها جليلة فورًا الملابس بفرحة وراحت تسأله بخوف:
_بتي كيفها، عاملة إيه طمنيني الله يخليكي؟ 
ردت الممرضة بابتسامة عذبة:
_الحمدلله كويسة زي الفل هي والطفل 
مسح عمران على وجهه وهو يزفر براحة بينما جلال فربت على كتفه وهنئه بسعادة:
_مبروك يامعلم يتربى في عزك وعقبال من تخاويه
ابتسم له عمران بصفاء وتمتم ضاحكًا:
_الله يبارك فيك يا أبو معاذ
اتجهوا للغرفة الخاصة التي ستمكث فيها فور خروجها من غرفة العمليات، ودقائق معدودة حتى دخلت الممرضة وهي تحمل بين يديها ولي العهد الصغير وهو ملتف بالملابس الثقيلة والأغطية، استقام عمران فورًا واقفًا وعيناه علقت على ابنه بلهفة فأسرع نحو الممرضة وبسط ذراعيه فوضعته داخل أحضانه بكل حرص، تمعنه بنظرات أبوية دافئة وسعادة غامرة وهو بين ذراعيه، تأمل ملامح وجهه البريئة التي تشبهه تمامًا وحركته القليلة داخل أحضانه فانحنى بوجهه عليه ولثم رأسه بقبلة دافئة وللحظة شعر فيض من الدموع سينهمر لكنه تمالك انفعالاته وراح يكبر في أذنه بالآذان كاملًا في صوت هادئ.
استقامت جليلة واقفة واقتربت من حفيدها الصغير تنظر له بحنو وهو بين ذراعين والده، فبسط عمران ذراعه وناولها إياه بكل حذر بعدما قبَّله ثانية، ثم نظر للمرضى وسألها باهتمام:
_المدام امتى هتطلع؟
أجابته بهدوء تام:
_ربع ساعة بالكتير وتكون طلعت أن شاء الله
هز رأسه لها بتفهم وعاد يتأمل في طفله الذي يسكن بين ذراعين جدته وعادت بسمته السعيدة تزين ثغره مجددًا.
                                      ***
بمكان آخر داخل مستشفى أخرى...
كان بشار يقود خطواته الأشبه بالركض باتجاه غرفة مريم، بعدما وصلته البشارة من والدها في الهاتف بأنها استعادت وعيها أخيرًا، كانت الفرحة والراحة تحتل مركزها فوق تعابير وجهه الرجولية، ولا يمكنه إنكار حقيقة مشاعره المتلهفة لرؤيتها وسماع صوتها.
وصل أمام باب الغرفة وطرق عدة طرقات خفيفة فسمع صوت والدها من الداخل يسمح للطارق بالدخول، فتح الباب ودخل وعلى ثغره ابتسامة عريضة تكاد تشق طريقها لأذنه وسقطت عينه أولًا عليها وهي تحدقه بنظرات غامضة لم يفهمها لكنه لم يكترث فقد كانت سعادته بعودتها تنسيه كل شيء، التفت إلى والدها وألقى السلام عليه في عناق حار وهو يردد له بنبرة رجولية:
_حمدلله على سلامتها ياعمي
أجاب والدها بابتسامة واسعة:
_الله يسلمك يابني 
فعل المثل مع شقيقها وكذلك أمها الذي اكتفى بمصافحتها في دفء، وأخيرًا وصل للحظة الحاسمة التفت لمريم وطالعها بنظرة حانية واقترب منها ليجلس على المقعد المجاور لفراشها ويهمس في صوت رجولي ساحر:
_حمدلله على سلامتك، إكده تحرمينا منك طول المدة دي؟! 
ابتسمت له مريم بخجل بسيط ونقلت نظرها بين عائلتها ثم عادت له ونظرت له بامتنان وسألته في عدم ثقة:
_أنت بشار صح؟
تجمدت تعابير وجهه على أثر سؤالها وتلاشت ابتسامته تدريجيًا حتى اختفت تمامًا، وعينيه اتسعت وهو يحدقها بقوة محاولًا استيعاب سؤالها وفهمه، ثم التفت تجاه عائلتها يحدقهم بصدمة واستفهام فرأى تعبيرات الأسف والأسى على وجههم، واستقام والدها واقفًا ليقترب منه ويقول له في ثبات متصنع مربتًا على كتفه:
_تعالي معايا يابني برا نتكلم شوية
نقل بشار نظره بينهم بعدم استيعاب وكأنه ليس بوعيه، ثم نظر لمريم ثانية فرأى نفس النظرة الغريبة في عينيها تمامًا كما تنظر لشخص غريب عنها، وبالأخير استقام واقفًا وهو في حال ذهول لما يحدث حوله وسار مع والدها للخارج.
وقف بالخارج وسمع لوالدها وهو يهتف بحزن شديد:
_للاسف مريم في تفاصيل واحداث كتير من فكراهم والدكتور قال أنه فترة فقدان الذاكرة مؤقتة ومع الوقت هترجع تفتكر كل حاجة بس لازم كل اللي كانوا قريبين منها قبل الحادثة يفضلوا جمبها الفترة دي عشان يساعدوها على التذكر بشكل أسرع
مسح بشار على وجهه في ضيق وأسي شديد ثم نظر لوالدها وسأله بيأس:
_يعني هي نسيتني دلوك؟ 
زم والدها شفتيها وقال في عبوس: 
_اه للأسف بس لما اتكلمنا معاها افتكرت شوية تفاصيل زي الخطوبة وغيره بس مش فكراك لا شكلًا ولا اسمًا احنا اللي فكرناها بيك
طالت نظرة بشار الحزينة والتائهة له فتابع هو بابتسامة دافئة:
_خليك جمبها يابني وان شاء الله هي هتفتكر كل حاجة قريب
ربنا بشار على كتف والدها بلطف وتمتم في حنق ملحوظ:
_ان شاء الله ياعمي، أنا هروح الحمام
التفت وسار باتجاه الحمام مبتعدًا عن غرفته وهو يزفر بأسى وضيق على حالها، شعر بنغزة مؤلمة في قلبه عندما أكتشف أنها تتذكر الجميع معادا هو، ربما يكون هذا هو عقابه.
                                        ***
دخل عمران المستشفى بعدما انتهي من شراء الدواء الذي كتبه الطبيب لزوجته، وصل أمام غرفتها وفتح الباب ببطء ودخل، لحسن الحظ أنها كانت بمفردها في الغرفة بعد رحيل جدها وشقيقها وحتى أمها خرجت لقضاء أمر ما سريعًا داخل المستشفى وستعود لها، سقطت عينه على أفضل مشهد قد يراه في حياته وهي جالسة ومستندة بظهرها على وسائد ناعمة ومريحة خلفها وبين ذراعيها طفله وتقوم بإطعامه من ثديها، ابتسم بحب وعينان لامعة كلها سعادة ثم تقدم نحوهم ووضع كيس الدواء على المنضدة المجاورة لفراشهم ورغم أنها رأته لكن تجاهلته ولم تنظر لوجهه، لم يكترث لها فسعادته بوصول بمولوده الأول كانت أقوى من أي شيء يمكنه أن يعكر مزاجه.
انحنى على رأسها ولثم شعرها بغرام حقيقي وهو يهمس لها:
_حمدلله على السلامة يا أم سليم 
أجابته آسيا بصوت خافت خالي من المشاعر:
_الله يسلمك يامعلم 
طال تمعنه لصغيره وهو بين ذراعيها وتطعمه فمال عليه وقبله من رأسه بحنو، ثم جذب مقعد وجلس بجوار الفراش وهتف لآسيا بابتسامة عريضة وهو لا يحيد بنظره عن ابنه:
_طالع شبهي قوي، للدرچادي كنتي دايبة في حبي ياغزال
رفعت رأسها له ورمقته بنظرة قوية قبل أن تقول في جفاء متصنع:
_كيف ما قولت.. كنت.. يعني كان في وخُلص 
رفع نظره عن صغيره أخيرًا ورمقها مطولًا بنظرة ثاقبة قبل أن يميل عليها للإمام ويقترب بوجهه منه حتى أصبح لا يفصله عنها سوى سنتي مترات قليلة وقال بعين مفعمة بالثقة وبسمة ثغر جانبية متهكمة:
_لسانك بيقول كلام وعينك بتقول العكس
ظهر الاضطراب البسيط عليها من قربه الشديد ونظراته الواثقة، فأجابته بنظرات زائغة وتوتر امتزج بغضبها:
_بعد عني ياعمران! 
استنكر سؤالها الساذج فابتسم مغلوبًا وهتف بنبرة رجولية غليظة وهو ينقل نظره بينها وبين طفله:
_بعد عني دي تقوليها لراچل غريب ملوش حق يقرب منك، لكن أن چوزك وأبو ولدك
تأففت بنفاذ صبر ومالت بوجهها بعيدًا عنه ثم عادت له بنظره مجددًا وقالت في غيظ:
_أنت عاوز مني إيه تاني مش مكفيك اللي قولته ولا اللي عملته! 
أجاب عمران بكل ثبات انفعالي وبرود مستفز وهو يمسح على رأس ابنه ويمسك بكفه الصغير في دفء:
_عاوزك أنتي وولدي
ثم رمقها بحزم وقال في نظرة مخيفة كلها إصرار:
_لو لساتك فاكرة أني ههملك وأهمل ولدي يتربى بعيد عني واطلقك كيف ما أنتي عاوزة تبقي بتحلمي
اشتعلت نظراتها بنيران السخط وصاحت به بعصبية:
_وأنا مش عاوزاك بعد اللي قولته كل حاچة انتهت بينا خلاص
رقمها بنظرة تحذيرية مرعبة وهتف في صوت رجولي أجشَّ:
_وطي حسك الواد نايم في حضنك هيصحى مفزوع 
لوت فمها بتهكم وردت في حزن وغيظ:
_أه أنت أصلًا كل اللي هامك ولدك بس ومش فارق معاك حاچة تاني
ابتسم وقال في جدية وحنق:
_انتي لو ادتيني فرصة وبطلتي نشفان الراس واعترفتي بغلطك هتشوفي وتتأكدي بعينك كيف أنتي فارقة معايا وتهميني كيف ولدي
ضحكت بسخرية وقالت في صوت خافت لكنه سمعه جيدًا:
_أنا بس اللي غلطانة واللي أنت قلته مش غلط!! 
مسح على وجهه متأفف بامتعاض وقال لها في حدة:
_مش وقته الكلام في الحديت ده دلوك انتي تعبانة وأنا كمان مش عاوز حاچة تعكنن عليا فرحتي بولدي
كانتعاى وشك الانفجار به صارخة لكن قطعها دخول جليلة التي عندما رأت عمران لوت فمها بضيق ولم تتحدث بل اقتربت من ابنتها واطمئنت عليها ثم حملت عنها " سليم " ووضعته في فراشه الصغير، وظلت آسيا تتبادل النظرات النارية مع عمران الذي استقام واقفًا وقال برجولية:
_أنا معايا مشوار صغير مسافة ساعتين وراچع، لو احتچتوا أي حاچة اتصلوا بيا
مالت آسيا بوجهها للجهة الأخرى تأبى النظر له من فرط الغضب بينما هو فانحنى عليها وقبَّلها من شعرها بحنو هامسًا في صوت لم يسمعه سواهم:
_خدي بالك من روحك يا أم الغالي وبلاش العصبية اللي ملهاش داعي دي على أمور مش هتتم، هدى نفسك عشان متتعبيش وأنا مش هتأخر عليكم
تأففت بانزعاج وابعدت رأسها عنه بينما هو فانتصب في وقته واقترب من ابنه يودعه قبل أن يغادر وسط نظرات جليلة وآسيا له التي قالت ساخرة فور انصرافه:
_فاكر أني هسامحه ولا انسي اللي قاله أو حتى هرچعله، أنت اللي شكلك لسا متعرفنيش زين يامعلم 
                                      ***
خرج عمران من المستشفى وكان أمام سيارته مباشرة على وشك أن يفتح الباب ويستقبل بمقعده لولا صوت خافته الذي أوقفه فأخرجه وأجاب على الرقم المجهول برجولية:
_الو مين؟ 
وصله صوت أنثوي ناعم يبدو عليه الانهيار من فرط البكاء والقلق:
_أنا حور ياعمران مرات بلال، الحقه بسرعة قبل ما يضيع نفسه هو كان عندي وجاله تلفون تقريبا يخص موضوع الراجل اللي قتل عني ابراهيم وهو عرف مكانه وطلع بسرعة عشان يروحله
اتسعت عين عمران بدهشة ثم سألها بقلق وهو يستقل بسيارته لينطلق بها:
_طيب مسمعتيش أي حاجة من المكالمة أو هو مقالكيش المكان ده فين ياحور؟ 
أجابته بالنفي وهي تبكي بحرقة:
_لا هو مدنيش فرصة احاول امنعه حتى ولا أفهم منه وطلع بسرعة، أنا حتى معرفش هو وصل ولا لا دلوقتي لأنه طلع من بدري وأنا كل ده كنت بحاول اجمع رقمك
عمران بصوت رجولي غليظ يحاول بث الطمأنينة لنفسها المضطربة:
_متقلقيش أن شاء الله هعرف مكانه وهلحقه اهدي
أنهى الاتصال معها وفورًا حاول الاتصال بأخيه ولكن النتيجة كانت عدم الرد، استمر في الرنين المستمر لوقت طويل متأملًا أن يجيب عليه لكن دون جدوى وبالمرة الأخيرة قبل أن ينتهي الرنين بآخر لحظة أجاب بصوت المحتقن:
_أيوة ياعمران 
عمران بصوت مرتفع:
_أنت فين؟ 
وصف له المكان المتواجد به بالضبط فهتف عمران بعصبية موجهًا له أوامره الصارمة:
_أنا چايلك دلوك، خليك مكانك متتحركش خطوة من عندك 
تأفف بلال بضيق واكتفى بالرد الصامت على أخيه ثم أنهى الاتصال وراح يتجول بنظره على وجوه الناس من حوله حيث كان يجلس بمقهى صغير وعقله مشغول بما حدث معه، يحاول إيجاد الحلول والإجابات المنطقية لتهدأ روحه الثائرة، ولم يدم انتظاره لأخيه كثيرًا حيث نصف ساعة تقريبًا ووصل عمران له، فور جلوسه على المقعد المقابل له هتف بانفعال:
_أنت شكلك اتخبلت في نافوخك، عاوز تروح لحالك لمنصور وتضيع روحك
زفر بلال بانزعاج وقال في يأس:
_واديني مروحتش ارتاح عاد
عمران بعنلامتت استقام بادية على ملامحه:
_مروحتش كيف يعني؟!.. هو أنت مش عرفت مكانه!
مسح بلال على وجهه متأففًا بامتعاض وبدأ يسرد له ما حدث:
_عرفت وروحت المكان اللي المفروض مستخبي فيه ملقتش حد، واللي اكتشفته إن دي شقة جلال ومن كام يوم جه بلاغ أن منصور موجود هنا وبلغوا عنه هو وجلال ولما اتمسك جلال وملقوش عليه أي دليل طلعوه واعتبروه بلاغ كاذب 
ضيق عمران عينيه بعدم فهم وهتف بصوت خشن متسائلًا:
_بلاغ!!.. وهو مين ممكن يكون عارف مكان منصور وعاوزه يتمسك ويبلغ عليه هو وجلال؟ 
بلال بنفس تعبيرات الحيرة البادية على وجه أخيه:
_مهو ده نفس اللي بسأله لنفسي ليا ساعتين وبحاول افكر مين ممكن يعمل إكده، لأن مستحيل يكون حد منينا لا أنا ولا أنت ولا عمي ولا حتى بشار نعملها
رجع عمران بظهره على المقعد للخلف وجلس يإريحية أكثر ليجيب وهو مبتسم بثقة وغيظ:
_ده حد مش عاوزنا نوصله
هز بلال رأسه مؤيدًا لكلام أخيه بينما عمران فتابع برزانة تليق به:
_متشغلش بالك مسير المستخبي يبان، ومنصور مسيره يقع تحت يدنا هيفضل هربان إكده لغاية ميتا يعني
دام الصمت بينهم لدقيقتين قبل أن ينظر عمران لبلال بعين لامعة بوميض جديد ويقول بفرحة حقيقية:
_إيه أنت مش هتبارك لأخوك ولا إيه؟!! 
حديقه بلال بنظرة مستفهمة في حيرة واستغرق لحظات طويلة نسبيًا حتى استطاع تخمين مقصده فقال بدهشة وتعبيرات وجه مشرقة:
_آسيا ولدت؟!! 
ضحك عمران واماء له بالإيجاب فهب بلال واقفًا من مقعده واندفع نحو أخيه ليعانقه بحرارة وهو بربت فوق ظهره بسعادة صادقة من القلب ويهنئه هاتفًا:
_مبروك يامعلم يتربى في عزك يارب، أنت مقولتش لحد ليه؟! 
ابتعد عن عمران الذي قال بملامح وجه ظهر عليها الضيق:
_أنا روحت عشان ارچعها البيت وطبعًا هي رفضت وكانت في مشكلة كبيرة وفجأة بدأت تصرخ ولما خدناها على المستشفى الدكتور قال ده طلق الولادة وولدها، مع أن لسا معاد ولادتها كان لسا فاضل عليه شوية
بلال باهتمام وقلق: 
_طيب هي والواد كويسين؟ 
عمران بابتسامة عريضة:
_زي الفل الحمدلله
ردد بلال ( الحمدلله ) براحة ثم سأله وهو يلوي فمه ضاحكًا:
_محدس يعرف في البيت طبعًا، دي مرت أبوي لما تعرف أن مرتك ولدت وأنت مقولتش ليها هتخرب الدنيا
قهقه عمران وقال مغلوبًا بجدية:
_هتصل بيهم دلوك وابلغهم كلهم في البيت
تنهد الصعداء بابتسامة ودية ثم قال بحماس جميل:
_أتا ورايا كام مشوار إكده هخلصهم وآچي على المستشفى طوالي عشان اشوف المعلم سليم الصغير
عمران بنظرة صارمة تحمل الشك:
_مشوار إيه ده؟! 
قهقع بلال بمرح وقال في نبرة جادة:
_متقلقش يامعلم مشوار تبع شغل ملوش علاقة بمنصور
هز رأسه بتفهم وراحة بينما بلال فتابع وهوويربت على كتفه غامزًا بخبث:
_خليك چارها عاد اليومين ده عشان تلين وتهدى عليك والمشاكل اللي بينكم تتحل
ابتسم عمران بقلة حيلة على نصائح أخيه الصغير، ثم أجابه بحزم والإبتسامة مازالت على ثغره:
_طيب كلم مرتك وطمنها يامصلح العلاقات عشان هي اللي كلمتني وكانت خايفة عليك
اسماء له بالموافقة ثم ودعه وغادر ليترك عمران وحيدًا يفكر في حلول للفجوة العميقة التي بينه هو وزوجته.
                                     ***
داخل منزل خليل صفوان.....
خرجت غزل من غرفتها وهي ترتدي بنطال جينز فضفاض قليلًا متماشيًا مع موضة الفتيات هذه الفترة واعلاه بلوزة قطن بيضاء بحمالات رفيعة وتنزل بفتحة دائرية عند الصدر وفوقها قميص خفيف بكم كامل يغطي ذراعها كله وتتركه مفتوحًا ليظهر البلوزة البيضاء وجعلها أكثر أناقة وتترك شعرها الناعم ينسدل بحرية على ظهرها وكتفيها وبعض الخصلات تنزل على جانب وجهها بشكل مثير يجعلها أثني على جمرة من النيران.
كانت في طريقها للأسفل لتطمئن هل عاد الجميع من المستشفى أم لا ولكن أثناء مرورها من جانب غرفة " علي " سمعت صوته يتحدث في الهاتف ويقهقه بصوت مرتفع، جذب انتباهها صوت ضحكاته الرجولية وانجذبت لا إراديًا تجاه غرفته ووقفت تستمع له من الخلف أو بالمعنى الأدق تتصنت عليه، فاتسعت عينيها بدهشة عندما فهمت أنه يتحدث مع فتاة وانصتت أذنيها أكثر لتسمع حديثه وتعرف هوية تلك الفتاة لكنه لم يظهر أي شيء، صابها شعور غريب بالحنق والغيظ أنه يتحدث مع الفتيات وتساءلت بينها وبين نفسها.. أن كان يحب أخرى فلماذا يمنعني من الحديث مع الشباب ويتحكم بملابسي ويريدني أن ارتدي الملابس المحتشمة.
ودت لو اقتحمت عليه الغرفة الآن وصرخت به واجبرته على أن يفسر لها كل شيء ويخبرها مع من يتحدث، لكن تمالكت أعصابها وظلت مكانها وبسبب شرودها لم تنتبه أنه أنهى حديثه في الهاتف ولم تقف سوى على الباب وهو ينفتح فجأة فتميل هي للداخل ولولا يديه التي أحاطت بها قبل أن تسقط، تلاقت أعينهم المندهشة  ببعضهم البعض، هو يرمقها بعدم فهم وهي تمنت بتلك اللحظة أن تنشق الأرض وتبتلعها، لحظات معدودة وانتفضت بسرعة واقفة تبتعد عن ذراعيه وأحضانه لتسمعه يقول بذهول:
_أنتي كنتي بتتصنتي عليا؟!
 أجابت بارتباك شد وهي تنفي ما قاله:
_لا لا طبعًا أنا هتصنت عليك ليه، أنا بس كنت جاية أسألك عن حاجة
ابتسم " علي " بعدم اقتناع ووضع يديه في جيبي بنطاله ليستند على جانبي الباب ويهتف بخبث:
_حاچة إيه دي عاد ياغندورة؟!
تنحنحت بإحراج شديد وسكتت تحاول التفكير في أي شيء تنقذ نفسها به من ذلك الموقف البشع فقالت بسرعة فور تذكرها:
_آااه كنت عايزة أسألك على آسيا أخبارها إيه هي والنونو ولدت كويسة يعني؟
ضحك بخفة وهتف بإيجاب وهو يعبث معها متعمدًا:
_أه كويسة الحمدلله، عقبالك
اضطربت أكثر وصيفا عينيه باستغراب لتهتف بجدية:
_عقبالي إيه I'm not married !!
غمز لها لؤم وقال بنبرة تضمر خلفها معاني وتلمحيات جريئة:
_مهو عقبالك لما تتچوزي وتچيبي النونو زيها
 تنحنحت بخجل شديد واشاحت بوجهها بعيدًا عنه بينما هو فكبح ضحكته بصعوبة ثم خرج من غرفته وتحرك بخطواته بعيدًا عنها لكن أوقفه صوتها الرقيق الذي صابه في مقتل وهي تصيح عليه:
_ علي ! 
التفت له وابتسم باتساع وقال في نظرة هائمة:
_نعمين 
تقدمت إليه بخطوات بطيئة وهي تتمايل برقة ثم قالت له مبتسمة:
_طيب ممكن تاخدني توديني المستشفى عند آسيا 
  رفع حاجبه مندهشًا من طلبها وقال ضاحكًا:
_أنا أخدك.. ده من امتى ده عاد إيه اللي چرالك؟! 
هزت كتفيها ترفض الرد وهي تبتسم برقة تذهب العقل، كان سينصاع خلفها كالمغيب بعد تلك النظرات الساحرة لكنه تمالك انفعالاته بصعوبة وقرر اللعب على أوتارها قليلًا حتى لو كان صعبًا عليه أن يفوت فرصة على طبق من ذهب هكذا لكن أجابها بأسف:
_بس أنا للأسف مش فاضي دلوك ومعايا مشوار
ظنت أنه سيذهب لمقابلة تلك الفتاة فصاحت تسأله بغيظ وفضول:
_مشوار إيه أنت رايح تقابل مين؟! 
علي بتعجب:
_نعم!!! 
هدأت من ثورتها وقالت بخفوت مزيف وحنق واضح:
_قصدي يعني مينفعش تأخر مشوارك ده عشاني شوية وتوديني
هز رأسه لها بالرفض وهو يزم شفتيه بأسف فجزت على أسنانها بعصبية وغيرة تأججت في صدرها، بينما هو فاستدار وتركها وذهب وهو يبتسم باتساع وانتشاء.
                                      ***
داخل المستشفى تحديدًا بغرفة آسيا كانت فريال تجلس بجوارها وتحمل بين ذراعيها ابن أخيها الصغير وهي تبتسم بسعادة وتقول ضاحكة:
_نسخة من عمران يا آسيا
ابتسمت لها آسيا وهي تهز رأسها مغلوبة دليلًا على أنها لا تستطيع الإنكار أنه يشبه والده حقًا، ثم هتفت بود وحب:
_ربنا يقومك بالسلامة
التفتت لها فريال وقالت في قلق:
_ يارب يا آسيا أنا لسا كنت عند الدكتور امبارح قالي هنستنى لآخر الأسبوع ده لو مچاش طلق الولادة هولد قيصري، أنتي عارفة أنا اتأخرت قوي والمفروض كنت أولد من بدري لولا أني مستنية الطلق ومعدش ينفع نصبر اكتر من إكده
مسحت آسيا على كف يدها بحنو وتمتمت:
_متقلقيش سبيها على الله وأن شاء الله خير وهتقومي بالسلامة انتي والحلوة الصغيرة دي
رددت فريال " يارب " من صميم قلبها ثم عادت تتأمل في وجه ابن أخيها السببين ذراعيها وتتبادل أطراف الحديث مع آسيا حتى دخل عمران واقترب من ابنه يحمله عن شقيقته وهو يتمعنه بنظرة دافئة كلها حب، لكن فريال لاحظت العلاقة المضطربة بينه هو وآسيا ونظراتهم الغاضبة فتنهدت الصعداء بحنق وهمست لشقيقها بجدية:
_عمران تعالي معايا برا عاوزة اتكلم معاك شوية
اقترب من زوجته واعطاها صغيرهم بكل حذر ثم استدار وسار خلف شقيقته للخارج وسط نظرات آسيا الفضولية.
فور خروجهم من الغرفة وقفت فريال أمامه وقالت له بانزعاج:
_آسيا حكتلي على اللي أنت قولته ليها ياعمران
ابتسم بتهكم وقال في عصبية:
_قالت أو مقالتش يافريال اللي هي بتطلبه وعاوزاه تنساه عشان مش هيحصل، أنا طلاق مش هطلق
فريال بغضب مماثل له:
_وهو أنا بقولك طلقها، لا طبعًا أنتوا معاكم عيل إيه ذنبه يكبر وأبوه وأمه منفصلين، أنا بتكلم معاك عشان افهمك أن اللي قولتله ليها صعب أوي وأنا ذات نفسي اتصدمت لما قالتلي أنك أنت اللي قولت الكلام ده، يعني أنت غلطان ياعمران مهما كان غضبك مكنش يصح تعايرها بحاچة زي دي وتفكرها بيها وكأنك بتتفضل عليها
مسح على وجهه وهو يزفر بقوة ويستغفر ربه ثم أجاب على شقيقته بحدة:
_أنا مكنش قصدي يافريال اللي فهمته هي عصبتني وخرچتني عن شعوري وخلتني مش داري باللي بقوله
ارتخت عضلات وجهها وابتسمت لأخيها بلطف وقالت بعينان لامعة بوميض الأمل:
_طيب ما تفهمها الكلام ده عشان تهدي والمشاكل دي تتحل بينكم
عمران بعناد وانفعال شديد:
_طول ما هي مش عاوزة تعترف بغلطها متنتظرش مني أني اجري وراها وابررلها أفعالي، وغصب عنها هتفضل مرتي وهترچع بيتها معايا
تأففت فريال بنفاذ صبر من عنادهم المثير للأعصاب وقررت الأكتفاء بهذا القدر من تقديم النصيحة وتركت الأمر للوقت عله يجعلهم يدركوا قيمة بعضهم البعض.
                                         ***
بتمام الساعة العاشرة مساءًا داخل المستشفى حيث غرفة آسيا......
فتح عمران الباب ببطء شديد ودخل فوجد زوجته نائمة في فراشها وجليلة على الأريكة المقابلة للفراش نائمة أيضًا حتى صغيره نائم، ابتسم واغلق الباب بحرص شديد حتى لا يصدر أي صوت ويزعج نومهم ثم تحرك ببطء تجاه فراش ابنه وانحنى عليه يلثم شعره الخفيف بحنو ويهمس له في ضيق:
_يرضيك اللي أمك عملاه فينا ده ياسليم!! 
سكت لثواني ثم تابع همسه له يشكي له همه وكأنه يسمعه ويدرك مايقوله:
_أنا تعبت معاها، لا الحنية ولا الشدة نافعة معاها.. امال اعملها إيه عاد!
التفت برأسه للخلف تجاه فراش آسيا عندما سمعها تهمس باسمه وسط نومها، فابتسم بعاطفة جيَّاشة وانتصب في وقفته ليقترب منها ويجلس بجوارها على طرف الفراش ثم يمد يده ويمسح على شعرها بحب فوجدها مالت بوجهها للجانب على كفه العريض وهي تبتسم وسط نومها ظنًا منها أنه ضمن حلمها لكن عندما فتحت عينها ببطء ورأت وجهه أمام عينيها، انتفضت فزعًا ودفعت يده بعيدًا عنها هاتفة:
_أنت بتعمل إيه چاري، أنا مش قولتلك متقربش مني ولا تلمسني
احتدمت نظرته وتعابير وجهه أصبحت حادة رغم صمته وعدم رده على كلماتها السخيفة وهي تمنعه عن الاقتراب منها، بينما هي فالتفتت برأسها تجاه فراش ابنها تطمئن عليه فوجدته نائم في ثبات عميق، اعتدلت في نومتها تريد الذهاب للحمام ورغم الصعوبة التي واجهتها في محاولاتها للوقوف بمفردها لم تطلب منه المساعدة وهو ظل يراقبه بعيناه المغتاظة حتى وجدها أطلقت آه متألمة رغمًا عنها فهب واقفًا وحاوطها بذراعيه يساعدها لكنها نفرت بعيدًا عنه بغضب وقالت:
_بعد عني، ملكش صالح بيا أنا هقوم لوحدي
رأت ظلام عينيه المرعب الذي لا يبشر بالخير ودون أي مقدمات وجدته ينحني عليها ويحملها بين ذراعيه متجهًا بها إلى الحمام، احتقن وجهها بدماء الغيظ وفتحت فمها على وشك الاعتراض وتوبيخه باستياء اسكتها بعبارته الرجولية ونظرته المرعبة:
_ششششش اقفلي خشمك ومسمعش حسك واصل، أمك والواد نايمين متخلنيش اعلي صوتي
لوت فمها بغيظ وسكتت مجبرة حتى وصل بها لداخل الحمام، انزلها على الارض ووقفت أمام الحوض تغسل وجهها وهو خلفها مباشرة يديه حول خصرها يمسكها بإحكام خوفًا من أن يحتل توازنها وتسقط وهي تلتفت له برأسها كل لحظة والأخرى وتقول بنظرة ملتهبة:
_عمران بعد يدك عني!! 

 رأته يصر على أسنانه بطريقة مرعبة وملامح وجهه تقوست وعنادًا بها تمسك بها بقوة أكثر وضمها إليه حتى التصق ظهرها بصدره، فاصدرت هي تأففًا قوى وصاحت به بعصبية:
_وبعدين معاك، قولتلك مليون مرة أنا معدتش عاوزاك ولا بحبك
احتقن وجهه بدماء الغضب واشتدت قبضته على جسدها أكثر، حتى أنه جذبها إليه واقترب بها إلى الحائط وحاصرها بهيبته ورجوليته ونظر في عينيه بغضب وقال:
_ولما أنتي معدتيش بتحبيني بتهلوسي بيا في نومك ليه
اتسعت عينيها بدهشة وارتبكت قليلًا لكن سرعان ما ردت بقسوة ونظرة ثاقبة:
_ده أكيد كان كابوس
رفع حاجبه مستنكرًا زيف كلماتها وشد على جسدها بيده ثم قال بوعيد حقيقي:
_طالما انا كابوس بنسبالك، بوعدك تفضلي عايشة في الكابوس ده طول حياتك مش في الحلم بس
ابتسمت له بسخرية وعدم مبالاة ثم مالت بوجهها بعيدًا عنه وقالت بمضض:
_بعد عني ياعمران لآخر مرة هقـ......
لم تكمل كلمتها عندما وجدته يمسك بذقنها ويدير وجهها نحوه بغضب حقيقي وغيظ امتزج بنظرة الشوق في عينيه وأبحر معها في لحظاتهم الخاصة التي رغم كل شيء كانت تحفها العاطفة والمشاعر الصادقة، لم ينتشلهم من عمق عشقهم سوى صوت بكاء ابنهم الرضيع فدفعته بعيدًا عنها فورًا وكأنها فاقت من غيبوبة بعدما كانت تحت تأثير سحره ورمقته شزرًا ثم تحاملت على نفسها وسارت ببطء للخارج تذهب لطفلها، لكنه كان بخطواته اسرع منها ووصل لفراشه ثم انحنى عليه وحمله بحرص بين ذراعيه وهو يهزه في برفق ليتوقف عن البكاء وبالفعل هدأت حدة بكائه، نظر لآسيا بحدة التي كانت تريد أخذه منه وقال بلهجة آمرة:
_اقعدي على السرير عشان ترضعيه، هتشليه كيف وأنتي واقفة وتعبانة
فاقت جليلة على صوت بكاء الطفل وقالت بفزع:
_ماله الواد يا آسيا
ردت على أمها باقتضاب بسبب أفعال زوجها:
_ملوش ياما صحي وجعان هأكله دلوك، كملي نومك أنتي أنا كويسة
نظرت جليلة لعمران الذي يحمل ابنه بين ذراعيه وراقبت نظراتهم النارية لبعضهم البعض بتعجب، ثم تابعته وهو يقترب من آسيا بعدما جلست على الفراش ووضع الصغير بين ذراعيها لتبدأ في إطعامه، وهي تنظر له بوعيد غريب لم يفهمه سواهم بعد استغلاله للموقف داخل الحمام وتقبيلها.
                                      ***
داخل منزل فريال وجلال.......
منذ انتهائهم من تناول العشاء ودخول الأولاد لغرفتهم ليخلدوا للنوم وهو يراقبها بعينيه المشتعلة، تتحرك حوله ببطء بسبب بطنها المرتفعة وحملها وترتب المنزل خلف الأولاد ولكن لا تنظر له ولا تخاطبه، يبدو أنها تريد إثارة جنونه أكثر هي حتى لا تجلس في غرفتها بعيدًا عن أنظاره كما قالت، بل تستمر في التجول حوله بكل طبيعية وتتجاهله كأنها لا تراه من الأساس، لا يذكر منذ الصباح أنها وجهت له كلمة واحدة حتى، هي حقًا تعتبره لا وجود له وليس العكس كما قالت أنها ستشعره وكأنها ليست موجودة.
فاض وطفح كيله فقرر هو البدء في أي محادثة بينهم حيث قال بسخط ملحوظ:
_فريال اعمليلي كوباية شاي
تعمد التحدث بلهجة فظة وحازمة معها على غير عادته ليستفزها ويجعلها تتحدث لكنها فاجأته بانصياعها التام دون أي اعتراض أو التفوه بكلمة واحدة، واتجهت إلى المطبخ لتقوم بتحضير كأس الشاي له، استقام هو واقفًا بسرعة وهرول خلفها ووقف بجوارها في المطبخ مستندًا على الرخام وهو يراقبها بعينيه منتظرًا أن تلتقي عينها بعينه لكنها جعلته يشك بنفسه أنه غير مرئي، ظل محافظًا على هدوئه رغم أنه يشتعل من الداخل إلى أن انتهت من تحضير الشاي ووضعت الكأس أمامه على الرخام دون أن تنظر له وهمت بالالتفات والرحيل لكنه امسك بالكأس وسكبه في الحوض بغل وهو يقول متعمدًا إثارة جنونها:
_اعمليلي واحد غيره
التفتت له والتقت أعينهم أخيرًا في نظرة خالية من التعابير وكانت الصدمة أنها كانت على وشك تحضير كأس آخر له دون أي اعتراض أو كلمة واحدة، فثار جنونه هو بدلًا عنها وصاح منفعلًا:
_أنتي إيه اللي بتعمليه ده، هتفضلي إكده لغاية امتى يعني
أطلقت زفيرًا حارًا ونظرت له ببرود وقالت:
_عاوز اعملك الشاي ولا امشي
انفجر كالبركان من فرط الغضب وقبض على ذراعها منفعلًا يصيح:
_أنتي عارفة أني اكتر حاچة اكرهها هي التچاهل، وبتعملي ده كله ليه عشان طلبت منك تروحي تقعدي عند أمك كام يوم لغاية ما أنا وأنتي نهدى، ولا أنتي كنتي عاوزة الأمور تكبر بينا كيف ما حصل زمان، ده چزاتي إني كنت بفكر فينا وفي علاقتنا وچوزانا رغم أنك غلطانة بس أنا تغاضيت ونسيت وعذرتك أنك كنتي خايفة عليا كيف ما بتقولي
اخذت نفسًا عميقًا وبكل ثبات انفعالي قالت:
_أنا مش بتجاهلك، ممكن تسبب يدي عاد 
ارتخت عضلات يدهعلى ذراعها بسبب برود أعصابها المدهش وصدمته أن تلك المرأة هي زوجته، بينما هي فتحركت بخطواتها واتجهت نحو الغرفة الفارغة المجاورة لغرفتهم لتنام بمفردها كليلة أمس، لم يفق من ذهوله سوى على صوت صفع الباب البسيط فالتهبت عينه بنيران حارقة واندفع نحوها ثائرًا ليدفع الباب بكل عزمه ويقول بنبرة رجولية لا تقبل النقاش:
_اطلعي قصادي على اوضتك مفيش نوم إهنه لوحدك
لوت فمها بقلة حيلة وقالت في هدوء غريب:
_أنا مرتاحة إهنه، روح أنت نام ملكش صالح بيا 
صاح بعصبية وصوت جهوري:
_فريال سمعتي أنا قولت إيه!! 
رغم اشتعالها من الداخل لكن لا يمكنها افساد خطتها بسبب انفعالها اللحظي، ستكمل التصرف بالامبالاة ورغم رفضها للنوم معه في نفس الغرفة ستسايره فقط لتثير جنونه أكثر فكلما طاوعته وأظهرت البرود وعدم الاكتراث سيزازد اشتعالًا.
تحركت قبله بخطواتها البطيئة لخارج الغرفة ومنها لغرفتهم معًا، وبعد دخولها وقفت أمام الفراش كالصنم فدخل هو وأغلقت الباب خلفه وهتف بحزم:
_إيه هتفضلي واقفة بتبصي على السرير إكده كتير ولا إيه، كأني مش چوزك وغاصبك تنامي چاري
لم تتفوه بكلمة وتمددت على السرير لكن على الطرف بعيدًا عنه، وهو مد يده لكبس الكهرباء واغلق الضوء ثم اقترب من الفراش وتسطح بجوارها وبدأ يقترب منها أكثر وأكثر حتى التصق بها وضمها إليه من الخلف ودفن أنفه بين خصلات شعرها يستنشق رائحتها التي تذهب بعقله، ابتسمت هي لا إراديًا وقالت بجفاء متصنع وهي تلتفت له برأسها:
_أنت فاكر لما تحضني إكده أنا هلين ومش هتچاهلك وانسى اللي قولته يعني
صرت على أسنانه مغتاظًا وقال وهو يضغط بذراعيه عليها ويحضن بطنها بيديه هامسًا:
_نامي يافريال وأنتي ساكتة
فريال بقلة حيلة:
_ طيب ممكن تبعد عني شوية
هتف بنبرة متهكمة وانزعاج:
_هبعد اكتر من إكده إيه تاني، ده أنا كارمك على كدا 
كتمت بكف يدها ضحكتها العالية التي كانت ستنطلق منها لا إراديًا لكنه شعر بضحكتها المكتومة وابتسم بحب ثم لثم رقبتها وشعرها بقبلات مغرمة، بينما هي فقررت أخذ هدنة صغيرة هذه الليلة وبصباح اليوم التالي تستأنف مخططها الخبيث.
                                       ***
بمكان آخر داخل المستشفى التي بها مريم...
وقف بشار أمام باب غرفتها مترددًا في الدخول، كلما يتذكر نظراتها التائهة له في الصباح وكلمات والدها بأنها لم تعد تتذكره يشعر بنغزة قلبه تزداد ألمًا، لكنه أخذ نفسًا عميقًا وطرق الباب أخيرًا فسمع صوتها من الداخل تهمس برقة:
_ادخل
فتح الباب ببطء ودخل ولحسن الحظ أنها كانت وحيدة بالغرفة في ذلك الوقت، وقف على مسافة بعيدة نسبيًا عنها وراقب تفاعلات وجهها عند رؤيتها له، فصابه الإحباط والأسى الشديد.. تنظر له بأعين فارغة وابتسامة صافية كأنها تنظر لغريب لا تعرفه.. اختفت نظرات عينيها المفعمة بالشغف واللهفة عندما تراه.. حتى صوتها الرقيق وهي تصيح فرحًا باسمه لم يعد يسمعه، ماذا حدث لها وماذا يحدث له لا يفهم شيء، هو منذ أيام فقط كان ينوي الانفصال عنه ولم يكن يكن لها أي مشاعر في قلبه، من أين ولدت فجأة في يوم وليلة هكذا.
فاق من شروده الكئيب على صوتها الناعم وهي تهمس له:
_اقعد يابشار أنت واقف ليه؟! 
تحرك بقدم ثقيلة تجاه المقعد المجاور لفراشها وجلس عليه دون أن يحيد بنظراته البائسة عن وجهها، فاجفلت عينيها أرضًا حزنًا واضطرابًا بسيط ثم نظرت له وقالت بمشاعر صادقة:
_أنا عارفة أنك أكيد زعلان ومضايق أني مش فكراك ونسيت كل حاجة بينا، بس صدقني أنا كمان زعلانة أوي زيك بظبط
امتلأت عينيها بالدموع وانهمرت فوق وجنتيها غزيرة وتابعت له بصوت مبحوح:
_أنت متخيل أنا أفوق من غيبوبة بعد حادث أنا مش فاكرة أصلًا حصل إزاي ولا فين ولا امتى والاقي ماما وبابا واخواتي وأهلي كلهم وصحابي حواليا وابقى فكراهم وأنت الوحيد اللي مش فكراك واهلي يقولولي أني كنت مخطوبة وأنا أصلًا مش فاكرة شكل خطيبي ولا اسمه ولا أي تفاصيل بينا، أنا حاسة نفسي دخلت في فجوة زمنية ومش فاهمة أيه اللي بيجرى اشمعني أنت الوحيد اللي انساك
توقفت عن الحديث للحظة التقطت أنفاسها وتمسح عبراتها ثم أكملت بنظرة تحمل مشاعر صادقة:
_أنا يمكن مش فكراك فعلا بس صدقني حاسة أنك مش غريب عني وفي حاجة جوايا بتخليني اطمنلك وارتاح واتبسط أوي من جوايا لما اشوفك
كان يستمع إليها وعينيه متلألأة بالعبرات العاطفية والمهمومة، عندما وجدها ستكمل حديثها وبكائها سيزداد مد يده وتحتضن كفه بحنو هامسًا لها بنظرة بثت الطمأنينة في روحها ونبرة صوت رجولية اخترقت قلبها:
_مريم أنا كنت زعلان ومقهور بجد وأنتي كنتي مغمضة عينك ومش وسطينا.. وكنت بتمنى تفوقي وترچعيلنا، فلو رچعوك كان في سبيل نسيانك ليا أنا موافق ومعنديش مشكلة
رمقته بنظرة كلها مشاعر وامتنان له بينما هو فتابع بأمل قوي وابتسامة ساحرة وسط عينيه الممتلئة بالدموع:
_مين عالم يمكن ربنا عاوزنا نبدأ من أول وچديد مع بعض ونعمل ذكريات چديدة بس المرة دي تكون بالحب بچد
اختفت بسمة وجهها وظهرت الدهشة والحزن على ملامحها وهي تسأله:
_ليه هو احنا مكنتش بنحب بعض ولا إيه؟ 
تنحنح بشار بارتباك بسيط وبسرعة تدارك الموقف وقال ببساطة:
_لا بس احنا اتخطبنا بشكل تقليدي ومكناش نعرف بعض واصل وكنا لسا بنتعرف على بعض يعني في مرحلة التعارف اللي قبل الچواز في الخطوبة لكن دلوك قصدي أن الوضع أعتقد هيكون مختلف
عادت البسمة تصعد لثغرها مجددًا لكنها كانت خجلة هذه المرة وسمعته وهو يكمل بوعيد رجولي حقيقي:
_اطمني أنا هفضل چارك ومش هسيبك أبدًا لغاية ما تفتكري كل حاچة تاني
هزت رأسها له بالموافقة في استحياء وسحبت يدها من كفه ببطء بسبب خجلها وهميه له بصوت يكاد لا يسمع:
_شكرًا أنك مش هتسيبني في المحنة دي وهتفضل جمبي
ابتسم ورد غامزًا بمداعبة:
_أنا مش هرد عليكي دلوك بس هسيب الأيام هي اللي ترد عليكي
اشاحت بوجهها بعيدًا عنه وهي تضحك بخجل ورقة وهو يتمعنها مبتسمًا كأنه يرى ملامحها لأول مرة.
                                        ***
بصباح اليوم التالي داخل غرفة آسيا بالمستشفى.....
خرجت آسيا من الحمام بعدما انتهت من ارتداء ملابسها للرحيل والعودة للمنزل وكان عمران يجلس بابنه على المقعد يحمله بين ذراعيه وهو ينظر له كل لحظة والأخرى ويبتسم، وعندما رأى آسيا وهي تخرج من الحمام بمساعدة أمها رفع رأسه لهم وراقبهم بنظراته الثاقبة ثم سمع صوت آسيا وهي تقول بتلقائية:
_اتصلي ياما بچلال أو علي عشان يچوا ياخدونا ويوصلونا البيت 
رفع عمران حاجبه وأظلمت عينيه فراح يجيبها بتهكم وصوت رجولي مريب:
_وماله وابقي خليهم كمان يوصلوني في طريقهم للبيت أصل أنا بتوه ومش بعرف اروح لحالي وبخاف
كتمت جليلة ضحكتها بصعوبة وردت علي آسيا بجدية وسط بسمتها الظاهرة:
_واتصل بأخوكي ليه يابتي مهو چوزك قاعد هيوصلنا
رفعت آسيا نظرها لعمران الذي كان يرمقها شزرًا فازاحت عينها عنه بسرعة بالامبالاة متعمدة ثم قالت لأمها بتعب بسيط:
_عاوزة اقعد في أي اوضة في الدور الأول ياما مش هقدر اطلع لغاية الدور التالت أنا في بيت أبوي
صدح صوت عمران الغليظ وهو يقول بنظرة نارية لزوجته:
_أنتي هترچعي بيتك وبيت چوزك معايا مش بيت أبوكي

........... نهاية الفصل ............

  •تابع الفصل التالي "رواية و بالعشق اهتدي" اضغط على اسم الرواية 

google-playkhamsatmostaqltradent