رواية غوي بعصيانه قلبي الفصل الثامن و الستون 68 - بقلم نهال مصطفي

الصفحة الرئيسية

    

رواية غوي بعصيانه قلبي الفصل الثامن و الستون 68 - بقلم نهال مصطفي

 
ثمـة الانتصار الحقيقي هو ذاك الذى تعبر من خلاله تلك الطرق الشائكة وتجد نفسـك هادئًا رغم تلك الجروح الدامية :
-” مبروك عليك مناقصـة مراسي يا هندسة .. كده أنتَ حبيبنـا ”
يتطاير الغضب من بين ثنايـا وجهه إثر فعله واستسلامـه لجملة التهديدات المتتالية التي انهالت فوق رأسه ، تجنب الأذى المهني والعاطفي الذي كان يحاصـر زوجته وصغيرها منفذًا أوامـرهم حتى ولو كانت تخالف مبادئه ، فتحت عالية باب الغرفـة التي يقطن بها منذ ساعات والسخط يحاوطها، وهتفت صارخة :
-أنت عملت كده ؟! انطق يا مراد ، اللي قاله تميم ده صح ؟!!
فارق مقعده الهزاز واضعًا يده بجيبه وقال مبررًا :
-عملت الصح .. وأهدي يا عالية وأنا هفهمك .
انفجر بركان غضبها بوجهه بصرخة مبطنة بالعجز والذهول:
-صح أيه !! أنتَ بتقول أيه ؟! ومين فهمك أن ده الصح ؟! أنت مصدق نفسك !!
حاول الإمساك بذراعيها لتهدأ ولكنها ثارت أكثر بوجهه لتتهمه :
-أنت معملتش الصح ، أنت رجعت لأصلك واللي كنت مخطط له من الاول !! بان وشك الحقيقي اللي حاولت شهور أنساه يا مراد .
ثم رمقته بنظرات السخط والاستنكار :
-أنا ازاي اتخدعت فيك للمرة التانية !! أنت عملت كل ده عشان الفلوس ؟! بتحارب أخواتي بدل ما تقف معاهم ! بتجر عداوتهم ليه ، كفاية اللي هما فيه ، حرام عليك .
ثم انفجرت مشدوهة وهي تضرب صدره بانفعال:
-أنتَ ازاي طلعت كده !! ليه تعمل فيا كده !
أمسك بمعصمي يدها كي تكف عن حالة الانهيار التي انغمست فيها بدون سيطرة :
-عالية أنتِ مش فاهمة حاجة .. متعمليش فيا كده .. أهدي أهدي عشان ابننا ! أهدي عشان نعرف نتكلم .
تصرخ متوسلة متضرعة له كى يصمت :
-بس بقا كفاية كذب .. أنتَ واحد كذاب يا مراد ، أناني مش بيفكر غير في نفسه وبس .
ثم أخذت تهذي فى كلمات انطوت فى ثنايا صراخها :
-ومتقولش ابننا دي !! ده ابني لوحدي وهربيه لوحدي ، أنت مجرد اسم وبس ! فاهم … اسم وبس ويارب ابني يسامحني على الغلطة دي .. غلطة إني مخترتش رجل ينفع يكون له أب .
كانت الكلمات سكاكين حادة تنهش بقلبه نهشًا .. دخلت سوزان إثر صوت صراخ ابنتها متسائلة :
-في ايه ؟!! مالكم .. في ايه ياعالية .. ما تتكلم يا مراد ..
انفلتت من أمامه وفتحت خزانة الملابس والحقيبة الكبيرة وأخذت تلملم ملابسه بجنون وهي تهذي مع نفسها :
-قولها !! قولها إنك خدعتني للمرة التانية .. قولها أد أيه أنت ندل وحقيــر !
ثم رمت بعض ملابسه بالأرض ووجهت الحديث لأمها :
-البيه اللي بينام على سريري راح رفع دعوى عليا أنا وعاصي ، بيطعن في نسبنا عشان يورث خالته .. شوفتي البجاحة وصلت لفين !!
ضربت الأرض بقدميها في حالة من الغضب والعجز :
-أنت ازاي تعمل فيا كل ده ! هونت عليك طيب ؟!
واجهته سوزان بأعينها المتسعة التي تحمل التوبيخ :
-صحيح الكلام اللي عالية بتقوله ده يا مراد ! أنت عملت كده ! لا آكيد في حاجة غلط !!
لم تمهله الرد اندفعت نحـوه وانهالت عليه بالضربات الجنونية وهي تدفعه للخارج :
-اطلع بره .. بره ، مش طايقة اشوفك ! مش عايزة اشوفك تاني ..
ركضت سوزان خلفهم تحاول منع ابنتها عما تفعله :
-استنى يا عالية نسمعه .
ردت بصراخٍ :
-مش عايزة اسمع حاجة ولا عايزة أشوفه قُدامي بره يا مراد بره .. عمري ما هسامحك .
وصلوا الثلاثة إلى الطابق الأسفـل حتى وقف مراد مستجمعًا شتاته ووقف أمامها بأعين يحاصرها الحزن وقال مبررًا :
-أنا مقدر رد فعلك ، بس أنا عمري ما جرحت ولا هقدر أجرحك يا عالية .. بس الريح المرة دي أقوى مننا كلنا فـ كان لازم ..
قاطعته صارخة بنبرة قوية اخترقت طبقات السحاب :
-كان لازم تفضحنا وتكشف سرنا قدام الناس وتخلي رأسنا في الأرض ، أنا رفضت اتكتب على اسم بابا عشان عاصي وتميم مفيش حاجة تمسهم ولا حد يستغل موضوعي ويعكر عليهم حياتهم ..
ثم فاض الدمع من عينيها :
-يا خسارة يا مراد ، يا خسارة ..
فأشارت ناحية الباب بسبابتها وقالت بحرقة:
-اطلع بره ومش عايزة أشـوف وشك تاني مهما حصل .. أنت انتهيت بالنسبة لي .
عارضها بحسم :
-مش رايح في مكان غير لما نتكلم وتسمعيني يا عالية، أنا مقدرش اسيبك كده .. ولا هقدر أبعد عنك .
رن جرس الباب في تلك اللحظة التي جاءت الخادمة ركضًا لتفحه فظهر منه كريم بوجهه المبتسـم وقال بترحاب :
-وحشتوني يا جدعان والله !! فينكم من زمان. ؟!
جففت عالية عبراتها بسرعة وقالت بندم :
-كنت عاملالك مفاجأة مع كريم .. وليا أسبوع بجهز تفاصيل اليوم ده ، بس أنت خربتها وخربت كل حاجة .. عاجبك كده ؟!
أحس كريم بأن هناك شك بالأمر ، فأقبل إليهم بعيون جاحظة :
-مالكم يا جماعة ، هو في حاجة ولا أنا متهيألي !!
تنهدت عالية بألمٍ :
-أقول لك ، خليك أنت هنا ، أنا أصلا مش طايقة البيت كله .. أنا راجعة لأخواتي يا مراد .. وأول واحدة هتقف في وشك هي أنا .. فاهم !
وقف كريم أمامها كي يمنع رحيلها :
-ماتستنى يا عاليـة !! آكيد في سوء تفاهم .. ما تتكلم يا مراد .. مراتك مالها؟!
تجاهلت حديث كريم وانصرفت من أمامه ركضًا ، كاد مراد أن يلحق بها فأوقفته سوازن بحزم وأشارت لكريم :
-روح ورا عاليـة يا كريم .. وأنت يا مراد تعالى عايزاك .. أنا لازم أفهم في أيه ..
‏هذه الحياة خُلقت من ضلع حربٍ طاحنة تحتاج إلى قوة جبارة من الصبر، إلى طاقة عالية تعين المرء على البقاء فيها ، تلك الحرب تحتاج للمزيد من الحيل والحلول كي يصل الإنسان لمبتغاه ..
*******
” عودة إلى الفنـدق ”
قلبي في الحب صادق جدًا وجميل للحد الذي يمكن أن تغار منه الفراشات ، أشعر بأن ذلك القلب خُلق ليعطي الحُب واللحن وكل الأشياء التي تمد الحياة بالسعادة ، ولكن مَعك فقط أحببت طريقتي في إعطاء هذا الحُب .. معك بات الحُب حُبين .. والقلب قلبين أحدهما أن غضب رق الثاني فورًا ، ألا أخبرك بأنني أحببت الحُب معك !!
انتهت حياة من لف الضماد الطبي حول مرفقـه بعناية بعد ما وضعت الكريم المُسكن فوقه حتى تلاقت أعينهم وسألته :
-تمام كده !! لسه بيوجعك !
هز رأسه متبسمًا ليطمئنها :
-ياستي متكبريش الموضوع بقا .. عادي بتحصل .
عاتبته بعينيها التي يتقاذف منها الخوف :
-أنتَ اللي حملت عليها طيب ومُصر تتعب نفسك بزيادة ، تاني مرة تخلي بالك .. مش كل شوية هتخض عليك كده .
لمعت عيناه بلائلئ حبها وهو يداعب وجنتها :
-وأنا معاكي بنسى الدنيـا بحالها ..
ثم انكمشت عينيـه متسائلًا بتخابث :
-أحنا بقينا الضهر ، أنت نسيتي شغلك !! مش عندك ميعاد بردو !
أرجعت خصلة من شعرها وراء أذنها بتوتر وأخذت تلملم في حقيبة الإسعافات الأوليـة :
-هااه !! ااه منا لغيته ، مش هقدر اسيبك في الحالة دي وانزل .
ابتسامة ماكرة اندلعت من شدقـه وهو يراقبها بعينيه الصقرية ويراقب تصرفاتها العشوائية عندما تريد أن تخفي شيئا ، اتكأ على مسند الأريكـة وبسط ساقيه واضعا واحدة فوق الآخرى وقال بخبث :
-أول وآخر مرة تعملي كدا !! لو عايزة تنجحي في البزنس يبقى مشاكلك الشخصية متأثرش على مواعيدك وشغلك فاهمة .. الشغل شغل !
وضعت صندوق الاسعافات بمكانه وعادت إليه بعد ما لملمت شتات فوضويتها قليلًا وقالت بتوجس :
-اللي حصل حصل .. أوعدك المرة الجاية هعمل كده..
ثم جلست على طرف الأريكة بجوار لتكون أمام مرمى عينيـه بالضبط وقالت :
-غريبة !! بقيت متحمس لشغلي أكتر مني وبتديني نصايح كمان !!.. مش شغلي ده كان مسبب لك أزمـة من يومين اتنين بس .
اعتدل في جلستـه واقترب منها قائلًا بنظرات مشحونة بالتحدي :
-بصراحة لما فكرت فيهـا ، قلت ليه لا ؟! أنا كعاصي مش بحب اشتغل في مكان من غير منافسـة .. فيها أي لو المنافس بتاعي بقا بالحلاوة دي .. كده هحب الشغـل أكتر ..
ثم غمز لها بطرف عينه بعمزة ساحرة :
-المهم الخصم ميستسلمش من أول جولة ويكون نفسه طويل زيي .. عشان يحلو اللعب .. ويحلو المكسب .
‏كل يوم أتأكد أن رغبتي فيك صادقـة جدًا لم أكن عندها
تحت تأثير أغنية أو فترة اضطرابية ، كنت بكامل قوايا العقلية والقلبية أريدك بطريقة أعمق مما أظن، وتظن وأي حد يظن .. تأرجحت عينيها بريبة وشك وهي تحاول إدراك ما يشر إليه بكلماته العذبة ، فسألته بشفاة مرتجفة :
-ومش هتزعل مني لما أخسرك !
ارتسمت ابتسامه واسعه على محياه والتف ذراعه حول خصرها العارٍ وهمهمَ بثبات:
-هرجع بالليل وأخد حقي منك ، وأعوض خسارتي .. نبقى كده خالصين 1:1 ، والصبح نبدأ من جديد !
فتلك المرة حالت نظراتها من القلق الى الحماس ؛ فسألته :
-طيب على فكرة في دي كمان أنا ممكن أغلبك ؛ كده هنبقى 2:0 يا عاصي بيـه .. قول لي هتعوض خساراتك الكتير إزاي .
أصدر صوتًا اعتراضيًا وهي يتذوق ملاذ الشهد من كلماتها وقال :
-تؤ .. خسارة الشغل شطارة منك ، أما الحاجات التانيـة مستحيل ، بس لو حصل هيبقى بمزاجي .
ختم جملته بتذوق ثمرة ثغرها المرتعش بقُبلة خفيفـة وأخذ بعدها نفسًا طويلًا ثم قال :
-موبايلي فين ، نشوف شغلنـا بقا ..
تلعثمت شفتيها التي طُعمت بسكر الحب وقالت بخفوت :
-زهقت مني بالسرعة دي !
-اسمها بهرب منك عشان عمري لو خلص جمبك مش هحس بيه .
وضعت أناملها فوق شدقه ليصمت ، متوسلة له:
-ما تقولش كده تاني .. بعد الشر عنك .
تعانقت الأعين للحظات ثم انصرفت من أمامه وركضت نحو حقيبتها وأخرجت هاتفـه ، أخذت تبحث بالغرفة عن شاحن كهربائي حتى وجدته .. وضعت الهاتف بجواره وأخبرته بهدوء :
-هاخد شاور وجاية ، تكون شوفت شغلك .
فتح عاصي هاتفه الذي انهالت عليه الإشعارات الصوتية واحدة تلو الآخر ، والرسائل النصية التي تخبره بهويـة المتصـل .. انكمشت ملامحه متعجبًا :
-أيه الاتصالات دي كلها !!
دارت إليه وهي تحمل المنشفة القطنيـة وقالت :
-كلم تميم طيب ، اطمن عليهم الاول .. بالمناسبـة ، كلمت البنات الصبح وقولتلهم إني راجعة بالليل ..
تجاهل جملتها ورفع حاجبه مندهشًا :
-شيرين بتتصل !!
رمت ما بيدها وتبدلت ملامحها فجأة واندفعت نحوه :
-والله !! ودي بتكلمك ليه ! رد ..
ابتلع ابتسامته المندلعة من نيران غيرتها الحارقة ، وكان أن يُجيبها ، فأشارت له بحدة:
-افتح المايك ..
لبى طلبها مطيعًا ، أجاب بنبرته الخشنة التي لا تميل إلا مع حياته :
-شيرين !! خيـر .
اتاه صوتها المرتجف من شدة القلق وقالت بلهفة اشعلت حقلًا من النيران بجوفها :
-عاصي أنتَ كويس أنت فين !! أنا عايزة اجيلك اطمن عليك ..
كادت أن تنفجر بوجهه ولكنه حدجها بنظرته الحادة وقال :
-جات سليمة ياشيرين ..
أصرت بإلحاح :
-أنا لازم اشوفك عشان اطمن ، أنت في أي مستشفى ؟!
رد برسمية :
-مفيش داعي ، أنا ساعة وهكون في القصـر ..
انخفضت نبرتها بحنو :
-هستناك ..
شدت حياة الهاتف من يده وأنهت المكالمة بغلٍ :
-ايه المسخرة دي !! عاصي البنت دي عينها منك و مش ناوية تجيبها لبر ، ولحد دلوقتِ أنا ساكتة بس عشانك .. ياما تنهي المسخرة دي ، يااما هنهيها أنا .. اتفضل اعملها بلوك حالا .
عارضها بإصرار :
-ليه ليه يا حياة ، معاكي أن ابوها وعمها مش ناويين على خير ، لكن البنت معملتش حاجة وحشة عشان أعاديها زيهم .
أقفلت جفونها بتحدٍ وعناد وبنبرة غير قابلة للجدال :
-اعملها بلوك يا عاصي .
-لا يا حياة ، واتفضلي اجهزي عشان السواق هيوديكي المطار .
شدت الهاتف من يده بعنفوان وابتعت عنه وحظرت رقم شيرين من عنده وهي تتمتم :
-انا بتكلم معاك ليه اصلا .. طيب أهو .
ثم اقبلت إليه :
-ولو البلوك اتلغى يا عاصي ورحمة قنديل المصري ما هتشوف وشي تاني .. فاهم !
حدجها بذهول :
-أنتِ اتجننتي خالص .. يالا يا حياة خليني اشوف المصايب اللي مستنياني .
ردت بنبرة منهية للحديث :
-يلا على فين ؟! أنا رجلي على رجلك ….!!
‏تحولت لقطة شرسة تحمي حبيبها من أي خطر ، قررت ترافقه كظله لا تود أن تفارقه أبدًا كفتاة تشارك حبيبها معطف صوف يحتميان فيه من برد الشتاء ، أن تستمد الدفئ والحنان والحب من قربه و أن يبقى دومًا هنا في بقعة بين قلبها وعيّنها كي يطمئن قلبها المتيـم …
*******
” قصـر دويدار ”
يتحدث تميم مع العسـكري القادم من قسم الشرطة يطلب بحضور المجنى عليـه عاصي دويدار للأدلاء بأقواله ، زفر تميم بغضب :
-يعني الحادثة طلعت بفعل فاعل ومدبرة ، مش قضاء وقدر .
أجابه العسكري :
-لازم عاصي بيه يجي عشان نقفل المحضر ..
ربت تميم على كتفه :
-اول ما اوصله هبلغه ، حاليـا محدش فاهم حاجة وبكلمه مش بيرد .. اتفضل انت .
انصرف العسكري فـ جاءت شمس التى تراقبهم بعيـد وسألته بقلق :
-وصلت لحاجة ؟! عاصي كويس ؟!
-كلمته وجاي …
انضمت لهما نوران باضطراب :
-صحيح الكلام اللي قالته البنت الصفرا دي !! عاصي عمل حادثة ؟!!
أومأت شمس بالإيجاب، فأردفت نوران بحماس:
-طيب هو وحياة فين ؟!! حصلهم حاجة؟!
توقف السيارة الأجرة أمامهم فدلفت منها عالية المنهارة التي اندفعت بكل قوتها ناحية تميم ، دفع كريم الأجرة وتابع خُطاها ، فتمتمت نوران بحنق :
-كريم !!!!!!!
تحاشت النظر إليـه تمـامًا واقترب من عالية التي تتضور حزنًا وهي تمسك بيدي تميم وتقول باستياء :
-أنا أسفة يا تميم .. والله ما كنت أعرف حاجة ، معرفش أنه خاين وكذاب كده .. انا مستحيل أرجع له ..
كارثة الإنسان الحنون هو إعتقاده بأن الجميع مثله ، الجميع صادق لا يكذب ، لا يبخل ولا يخدع حينها يفوق على صفعـة مثل التى فاقت عليها عالية .. تدخل كريم مدافعًا عن أخيه :
-يا جماعة أكيد في حاجة غلط .. مراد مستحيل يعمل كده .. وانتِ كمان يا عالية اهدي ، المفروض إنك أكتر حد عارف مراد .
انفجر تميم بوجهه بعد ما ضم عالية لحضنه وقال :
-أخوك هيفضل طول عمره ندل وعمره ما هينهي بحور العداوة ما بينـا .. وديني ما هرحمه .
تدخلت شمس لتلطف الموقف بإحراج :
-كريم ذنبه أيه بس يا تميم !!
ثم دارت بأعينها المعتذرة إليه :
-معلش يا كريم ، اعصابهم تعبانة شوية ، حمد لله على سلامتك .
رد مرغمًا :
-الله يسلمك يا شمس …
عادت شمس لعالية وأخذتها من حضن تميم لعندها وعانقتها بحنان :
-اهدي يا حبيبتي عشان صحة البيبي .. كله هيتحل ..
تجاهلت نوران الغاضبـة وجود كريم ونظراته المتوقة إليها وقالت لعالية بحنق :
-متزعلش يا عالية، واضح أن العيلة كلها ناقصة .. ومش عند كلمتها ..
اقتحمت سيارات عاصي برجاله القصـر في تلك اللحظـة فتشتت شمل الجميـع ، هبط عاصي من سيارته وتابعته حياة التي رفضت العودة قطعًا بدونـه .. أشار لرجاله بنظرة لم يفهمها سواهم .. أسرعت حيـاة لعالية الباكيـة ، فضمتها لتهون عليهـا عناء الخذلان :
-روقي يا عالية ، سوء تفاهم وهيتحل .
خرجت عائلة شاهين من القصـر عند سماعهم لصوت الضوضاء بالخارج .. ركضت شيرين ناحيـة عاصي بلهفـة :
-عاصي! سلامتك كنت هتجنن لو حصل لك حاجة .
عادت حياة لعند زوجها الذي لم توجه له بنت شفة طول الطريق ، تغلغلت أصابعها بفراغات يده وطالعت شيرين بغضب :
-سلامتك من الجنان ، عاصي حبيبي بخير وزي الفل .. متقلقيش ..
ثم تدخلت نوران لتنتقم منهن وقالت بدلالٍ يحمل الكيد :
-سلامتك يا باشـا ، معلش العين فلقت الحجر ، ودي كانت عين تنين أصفر وقصير .
ثم مالت لعنده بصوت مسموع وأكملت :
-وبعدين بلاش الحركات الحلوة دي في الجنينة ، أديك شوفت عنيهم بتوصل لفين !
أنهت حديثها بغمزة بسيطة لحياة التي أكملت قائلة بخبث :
-عندك حق يا نوران والله .. أنا مش عارفة الناس الوحشة عايزة مننا أيه !
هتفت شمس بامتعاض من ألاعيب اختها وقالت بحدة :
-نوران !!
زمجرت رياح غضب عاصي وقال لأحد رجاله :
-مراد المحلاوي يكون عندي النهاردة .. لو كان في بطن الحوت تجيبوه ، يلا اتحركوا .
تدخل كريم موضحًا :
-عاصي مش كده ، سيبني أنا هتكلم مع مراد وافهم منه .
رد باختصار :
-أخوك جاب أخري اللي ما ينفعش فيه كلام !!
ثم دار ليلتقى بشاكر وشاهين الأخوين وافقين بجوار بعضهم البعض .. تحرك عاصي بخطواته الواسعة واتبعه الجميع إلا نوران وكريم الذي أردف قائلًا :
-مفيش حمدلله على السلامة يا كريم ؟!
تمتمت بإمتعاض :
-هي فين السلامة دي !! أنت جاي بمصايب الدنيا في أيدك ولا مش شايف !
عقد حاجبيـه مندهشًا :
-ليه بس ، وأنا كنت عملت أيه .. أنا سايبهم مولعين في بعض ورجعت بردو لقيتهم على ده الحال.
ثم مال هامسـًا :
-أنا سبت الدنيا كلها ورجعت عشانك يا نوران .. وحشتنى نار الجماعة اللي عايشين هنا ..
دارت إليه فدار معها شعرها المعلق على هيئة ذيل حصـان وقالت :
-ارجع مكان ما جيت يا كريم .. لو راجع عشاني فـ أنت رجعت متأخر ، راجع بعد ما بطلت استناك .
كادت أن تنصرف ولكنـه وقف أمامها ليمنع خُطاها :
-نوران استنى ، أحنا لازم نتكلم .
احتشدت العبرات بمقلتيها :
-مفيش ما بينا كلام ممكن يتقال بعد ما دموعي خلصت عليك ..
ثم بللت شفتيها التي جفت من حرارة الذكرى وقسوتها عليها :
-أنت سافرت وسبتني في أصعب وقت ، وأكتر وقت محتاجة لك فيه .. بس دلوقتِ أنا مش محتاجة لك ولا عايزة أشوفك تاني .
ثم تأرجحت عينيها الباكيـة ، تردف بصوت متهدج :
-ابعد عن طريقي قبل ما حد ياخد باله .. كفاية أوي لحد كده .
-ليه كل ده يا نوران !! أنا أهو رجعت .. ليه القسوة دي ؟!
‏مرارة أن تشرح لشخصٍ أن موقفك الجاف كان دفاعًا عن قلبك وعن قسوة ما عانيته خلال فترة غيابه .. والعلقم المرير أن يكون هذا الشخص شخص تحبه كثيرا ولا يمكنك البعد عنه !! غزا قلبـه صداع عنيف من صمتها ودموعها وسألها بمرارة:
-يعني بطلتي تحبيني ! بطلت أجي على بالك كل يوم قبل ما تنامي ؟! دانتي حتى بطلتي تردي على اتصالاتي .. أنا وعدتك إني عمري ما هسيبك .. بتسيبني أنتِ !!
أسقط قلبه بين يديها ، اغرورقت عينيها وسرعان ما التقمت عبراتها إثر رؤيتها لشهد ، فابتعدت عنه جبرًا :
-خلاص يا كريم …..
~في ساحة القصـر ..
جهر عاصي مُعلنـاً وهو ينزع سترته السوداء ويرميها على المقعد ، أخذ يثني أكمامه بهدوء يـبث القلق برؤوس الجميع
:
-الـ 48 ساعة خلصـوا .. كده عداني العيب !
قهقهه شاكر باستهزاء :
-نعـم ، سبق وقلت لك أحنا مش هنمشي من هنا غير لما الحق يظهـر والمال يرجع لصحابه !!
أصدر إيماءة قوية وهو يقتـرب منه بتحدٍ :
-بمناسبـة المال وصحابه .. البيت اللي شهاب دويدار خلاني اشتريه من 17 سنة مع المحامي ، عشان يعملكم قيمة بين الناس .. بيتهد حاليـا .. ده لو مكنش بقا كوم حجارة …!!
ارتفعت الهمهمات وتعالت النفوس المشوهه بـ داء التمرد إثر ما سقط على مسامعهم ، فجهر واثقًا :
-زي ما سمعتوا .. البيت مكتوب باسمي وهديته ، وناوي اسيبه كده .. بس أحنا دلوقتِ قدام مشكلة بسيطة ..
ثم مال على أذني شاهين وأكمل :
-لما تطردوا من هنا هتروحوا على فين …!! قصدي لو فشلتوا أنكم تاخدو شبر واحد من أملاك دويدار هتعملوا ايه !! نصيحتي كلموا للأخر عشان لو مخدونش البيت ده هتقضوا باقي عمركم فالشارع .
تدخلت شيرين صارخة :
-عاصي !! أنت هتطرد أهلك مـ
أخرسها بإشارة واحدة من يده لتتحول كلماتها لعبرات مترقرقة .. تدخلت شهد التي ثارت من نظرات نوران الشامتـة :
-ما تقول حاجة يا عمو ..؟! ده بيبجح فينا كده قدام اللي يسوى واللي ما يسواش !
هز شاكر رأسـه بـ غضب مدفون ولكنه قرر بنصب فخه بوجه عاصي ، وقال بعد ما أخرج دفترًا من حقيبته السوداء :
-ده كان زمـان ، قبل مـا ….
ثم أخرج الورقـة التي تثبت تنازل تميم عن نصيبـه :
-شوف دي !! دي ورقة تنازل تميم عن نصيب .. بيع وشرا لعبلة ..
بدأت علامات النصر ترتسم على ملامح آل دويدار ، أكمل شاكر موضحًا :
-ودي الورقة اللي تثبت أن عبلة عمرها ما هتخلف ، لانها شايلة الرحم من قبل ما تتولد …
تمددت ابتسامة شاكر بشر دفين واخرج ورقة آخرى :
-ودي ورقة كمان ثبت أن عاصي ابن تحية ، اللي مفيش بينها وبين شهاب أخويا ألا ….
ثم غمز بطرف عينه :
-كلنا عارفين ..
ثم أخرج آخر ورقة وقال :
-ودي صورة من المحضر اللي عمله مراد المحلاوي صاحب المصلحة اللي بيطالب بنصيبه في ورث خالته .. ومن بكرة هيطلبوا عاليـة ويتعملها تحليـل DNA ..
ثم تدخل شاهين بحوارهم المشحون :
-أنتَ اللي طلبت عداوتنـا يا ابن أخويـا .. أحنا بس عايزين الحق .. بس أنت اللي غاوي محاكم وفضايح ..
تدخلت شيرين الباكيـة وهي تتوسل لأبيها:
-بابا أنتوا بتعملوا أيه ؟!! على أخر الزمن ولاد دويدار بيقطعوا في بعض !!
شدت سميرة ابنتها كي تفسح مجالًا لأبيها للحديث .. تدخل شاكر قائلًا بدهاء :
-بس في حل وهنعيش حبايب طول عمرنا وعيلة وعزوة ..
تبادلت الأعين الحائرة حتى هتف تميم قائلًا :
-عايز تقول أيه !! حابب اسمع .. يمكن يعجبنا
تأرجحت عيني شاكر بتردد :
-طيب ما نتكلم لوحدنا من غير حريم !! عشان الكلام اللي هقوله هيزعل .
اتسعت الأعين المتجولة والحائرة بينهم ، تمسكت حياة بيد زوجها لتتحامى به ، فأجابه عاصي :
-هات اللي عندك ..
هتف شاكر بحماس :
-نتراضى ونحط ايدنا في ايدين بعض … المحاضر تتلغى والفضايح تتلم .. في سبيل وو
اقترب خطوتين منه وأكمل بتخابث :
-شاهين أخويا كده كده كل فلوسه هتروح لبناته ، وأنا زي ما أنتو عارفين لا عيل ولا تيـل .. هاخد بس الشركة والمصنع اللي ف الشرقية وكده مرضى ، وكل واحد فيكم يتجوز واحدة من بنات أخويا ويأمن مستقبلها ، ونعيش أسرة سعيدة مع بعضينـا .. أيه قولك؟! من غير شوشرة وفضايح .. ونخلط الزيت في الدقيق .
شهقة مرتفعة اندلعت من أفواه الجميـع وملأت الهواجس أعينهم .. ثار الجميع إلا عاصي وقف ثابتًا يطالع كل من حوله بأعين حازمـة ، تمسكت شمس بزوجها كإعلان ملكية ، واقتربت حياة من زوجها أكثر وهي تنفجر بوجه شاكر :
-أنت مجنون !! جواز أيه اللي بتتكلم عنه ؟! ما تقول حاجة يا عاصي ..!
أجابها شاكر :
-شرع ربنا يا مدام ، وكله بالشـرع .. وأهو بدل ما تطلعوا بجرس وفضايح بحاول نفكر بصوت عالي ونلم الموضوع ..
تدخلت سميرة ساخطة :
-وانا مش هجوز بناتي لولاد دويدار ، على جثتي .
لمع بريق الأمل بأعين شيرين وقالت بحماس :
-عمو شاكر بيتكلم صح … بدل العداوة والكراهية وو
لكزتها شهد لتصمت فابتلعت بقية الكلمات بجوفها .. هبت الكلمات من فم الجميع كل منهما يعبر عن اعتراضه بطريقة مختلف حتى حسم صوت الرعد الامر وجهر بجبروت رُجت له الجدران :
-خلصتـوا !!!
هتف شاكر متحمسًا منتظرًا رد عاصي الذي غمغم بهدوء ما يسبق العاصفة :
-هجاوبك متستعجلش ..
ثم أشار لبكر إشارة فهم مغزاها جيدًا ، عاد عاصي لعمه وقال :
-بصراحة ديل ما يترفضش .. لو فكرت بالعقل هنطلع أحنا الكسبانين منه ، هدوان سر وفلوس وبنتين حلوين !!
تمتمت حياة بتوجس :
-عاصي !!
ضغط على كفها وكأنه يخبرها بأن تثق به .. زفر بضيق ثم قال :
-ومن اللحظـة دي لحد ما تثبتـوا أن ليكم حق هنـا ، محدش يقعد في بيتي ..
ثم طالع محشد الرجال بالخلف وآمرهم بنبرة لا تقبل نقاشًا :
-نضفوا البيت من اللي فيه بالقوة …..
🦋 الفصل السابع 🦋
<الجزء الثاني من الفصـل>
شيءٌ واحدٌ يمكنُ أن يجعل الحلم مستحيلاً، إنه الخوفُ من الفشل
-باولو كويلو.
••••••••
حول طاولة الاجتماعات الخاصة الاي لا يجلس حولها إلا مراد وروفان ، نظر مراد على ساعة يده ثم أردف متسائلًا :
-أنا من حقي أعرف دلوقتي ، عزمي بيه وعادل بيه الشيمي هيستفادوا أيه من ورا حرب ولاد دويدار !! في لغز محتاج أفهمـه .
تزحزحت أعين ” روفان ” عن شاشة الحاسوب الإلكترونية وتركت القلم من يدها قائلة :
-المكتب اللي أنت شايفه ده عبارة عن دايرة معارف ، كلها مصالح .. فـ وجود أي حد في اللعبة دي كله بدافع المصلحة وبس ..
ثم فارقت مقعدها وجلست بالمقعد المجاور له وأكملت :
-كل واحد له مصلحة غير التـاني .. زيك أنت مثلا مناقصة على أرض بـ ١٢٠ مليون جنيه بعتت مقابلها مراتك وأخواتها .. وكان ممكن تخسر أكتر عشان تكسبها .
ابتلع أشواك إهانتها بابتسامة خبيثة وسألها ليشتت تركيزها عن ذلك الموضوع :
-اشمعنا أنا ؟!
ابتسامة انتصار ارتسمت على شدقها وقالت :
-أنتَ الوحيد اللي مدام جيهان بتثق فيه ، والوحيد اللي قدر يقنعها تعمله التوكيل عشان يرفع دعوى باسمها .. ونرجع لنفس النقطة ألا وهي المصلحة يا بشمهندس !!
ثم بسطت كفها أمام عينيـه وقالت بدهاء :
-المصلحة بتجمع الأشخاص في كفة واحدة ..
امتدت سبابته ليزيح عن وجهها خصلة متطايرة وأكمل بنفس الابتسامة الماكرة :
-وروفان هانم معقولة متعرفش أيه نوعية المصلحة اللي تجمع كل دول في كفة واحدة !
أصدرت صوتًا نافيـا وبشفاه ممتدة ؛ هتفت ببطء :
-تؤ ..
-تؤ ، متعرفيش ؟! ولا مش عايزة تعرفينى ؟!
بعدت أنامله عن خصلات شعرها المتدلية وردت بمياعة وهي تنهض من جواره :
-الاتنين مع بعض .. عزمي بيه مستنيك جوه .. اتفضل .
وثب خلفها ممسكًا بمعصمها ومال هامسًا :
-أفتحي موبايلك هتلاقي فيه مسدج باللوكيشن و بالميعاد ، هستناكي نتعشى سوا .
تأرجحت عينيها بريبة ولكن فضولها نحر جذور الشك وقالت :
-بمناسبـة !
تعمد أن يقترب منها أكثـر مداعبًا تلك الخصلة التي تتدلى على وجهها وقال :
-المناقصة الجديدة ومعنديش حد احتفل معاه .. يرضيكي احتفل لوحدي !!
اتسعت ابتسامتها الماكرة :
-آه يرضيني ..
عقد حاجبيـه معارضًا :
-هستناكي متتأخريش .
********
-“مرتاح كده !! عملت اللي في دماغك وطردهم من البيت . ”
اقتربت منـه بخطوات متمهلة أثناء وقوفه بحديقة القصر .. رمى السيجارة من يده وعصرها بمشط حذائه وقال متوعدًا :
-ولسـه ، هوريهم النجوم في عز الضهر .. هما اللي ابتدوا
تحركت من جواره تتقف أمامه بنظرات إعتراضية :
-عاصي للأسف موقفكم ضعيف جدًا .. اتمنى تفكر بهدوء اللي عايزة أوصله ليه كل ده !! أحنا مش كُنا سبنا كل حاجة هنا وابتدينا من اول وجديد لحد ما بقى ليك مركزك واسمك ؟! ليه العداوة دي كلها ؟!
رد بإختصار :
-ده رد على حادثة امبارح وبس ..
ضاقت عينيها على غصون الدهشة:
-حادثة إمبارح!! ازاي ؟!
انفجر بوجهه بغضب يتطاير كحبات الدقيق :
-فكوا فرامل العربية ، من حسن حظهم بس أنها جات فيا ، ورحمة مهـا لو كان جرالك حاجة ما كانوا هيشوفوا الشمس تاني .
صدقًا ما يُقال أن في بعض عيون العشاق حكايات لم تروى بعد .. وتكدست العبرات بعينيها من شدة الحزن الذي وقع على قلبها تمتمت :
-مهـا !!
أدرك حجم المصيبـة التي ذُل بها لسانه ، تنهد بعجز مبررًا :
-مش قصدي يا حياة ، حقك عليا ذلة لسان وو
قفلت جفونها رافضة سماع أي شيء إضافي :
-خلاص يا عاصي مش عايزة اسمع حاجة ..
ثم تحولت نبرتها الباكية لآخرى حادة وقالت :
-على العموم عايزة الفت نظرك لحاجة .. أنتَ معاك بنات والشوشرة والمحاكم والفضايح مش كويسة عشانهم .. حاول تلم الموضوع بعيـد عن البلطجة وفكر في بناتك بكرة وبعده وشكلهم قدام الناس ..
سالت بعض العبرات التي لم تسيطر عليها وأكملت بحسم :
-خلص مشاكلك بسرعة عشان لازم نتكلم .. لازم النقط تتحط فوق الحروف .. مش هزود عليك الحِمل أكتر من كده الله يعينك .
كادت أن تنصرف ولكنه منعها قائلًا بنبرة خجل :
-حياة قولتلك ذلة لسان ..
أخذت نفسًا طويلًا ثم قال بإيجاز :
-عاليـة هترجع معانا الغردقة عشان تغير جو شوية ..
ثم شدت ذراعها المتمسك بها وقالت بصوت خافت:
-ابعد أيدك يا عاصي ….
أن يُجرح القلب مرّة في العمر جرحًا أليمًا لكنه يصبر بعده كي لا يُجرح خشية من جرح أعمق ، كأنك لم تكن ترى قبل أن تُجرح هذا الجرح كأن أحدًا شقّ شفتا عينيك بموس حادٍ فبات نازفًا وداميًا لكنك تُبصر لكنك تَرى لكنك لا تتحدث !!
******
~بأحدى الغرف الفندقية ..
-اسمع يا شاكر أنتَ تبعد عن جوزي وبناتي وكفاية، كفاية فضايح لحد كده .
هبت رياح غضب سميرة بوجه شاكر بعد مرور ساعات مشحـونـة من القهر والخزى ، والطريقة التي خرجا بها الجميع من القصر .. وثب شاكر جاهرًا :
-منتهتش ، وأحنا لسه بنبدأ .. واحد ابن زنا والتاني ملهوش ورث عندنا والتالتة مش من دمنا !! وجبل من الفلوس متتعدش .. نسيب كل ده ليهم ؟! بصفتهم مين ، دول لا شرع ولا قانون في صفهم.
أشارت بسبابتها بوجهه بحدة أكثر :
-هقولها لآخر مرة ابعد عن جوزي وبناتي يا شاكر أحنا مش عايزين حاجة .. كفاية ، عاجبك بهدلتنا دي !! نازلين في لوكاندة وياعالم هنروح على فين .. حتى بيتنا اتهد .
زمجر شاهين غاضبًا :
-اسكتي يا سميرة ، وحق خرجتكم من البيت ده لكل اللي جاي على عاصي واهله دمار .. أنا هنسفهم من على وش الأرض ..
ضربت سميرة كف على الآخر :
-أنتوا الاتنين اتجننتوا رسمي خلاص!! خلاص مبقاش في منكم رجا .. اسمع يا شاهين ياما تتراجع عن اللي أخوك بيعمله .. يإما هاخد بناتي ومش هتعرف لنا طريق .
نهضت شهد التي امتصت داء الطمع من أبيها وعمها :
-بابا وعمو معاهم حق ، دول محترموش الدم بينا ولا عملوا حساب لحد .. لازم يندموا آخر ندم …
جهرت شيرين الباكية :
-ما كفاية بقا !! أنتوا أيه مش بتزهقوا، أحنا معانا اللي يكفينا ويعيشنا كويس ، ليه الطمع !وليه العداوة ..أنتوا أكتر حد عارف أن عاصي مش بيرحم اللي يقف قدامه ! واقفين قدام القطر ومش عايزينه يدوسكم !!
هبت شهد بوجهها معارضة :
-خلاص يا شيرين ، طريقك مع عاصي مسدود ، بلاش تدافعي عنه أكتر من كده .
رمقت أختها بنظرات العتاب الدامية وانصرفت على الفور ، تدخل شاكر قائلًا بغل :
-من بكرة هقدم كل الاوراق دي في المحكمة ، ومش هيبقى في وجود لعاصي دويدار تاني .
******
~بالقصـر ..
ربت تميم على كتف كريم بعد وداعهم لعاصي وعائلتـه وقال :
-انتَ رايح فين ، أطلع أوضتك فوق استريح من السفر ..
أحس كريم بالحـرج وقال :
-بلاش يا تميم .. كفاية أوي المشاكل اللي بتحصل أنا هـشوف أوتيل وو
قاطعه تميم بحزمٍ :
-بطل جنان .. أطلع أوضتك أنتَ ماسمعتش عاصي قال أيه !!
ضحك كريم ضحكة من قلب النيران وقال :
-قالي اخليني جمبك ، قصده احرسك يعني و بس
أصر تميـم ناهيـًا للحوار بينهم :
-يبقى اطلع كده وفوق تكون شمس جهزت لنـا العشا .. وأنا هلف على الرجالة عشان يتأكدوا من تأمين القصـر ..
عانقه كريم باشتياق :
-مكنتش عارف إني بحبكم أوي كده .. أنتوا عيلتي يا تميـم ..
ربت تميم على ظهره :
-نورت بيتك ، متسافرش تاني .. خليك هنا وهنكسر الدنيا سوا .
غادر كريم تجاه غُرفـته ، وشمس ونوران يعدان الطعام بالمطبخ ، لم تتزحزح أعين شمس الفاحصة عن أختها ، فأردفت بشدة لا تقبل المعارضة :
-كريم هيقعد معانا هنـا .. تخلي بالك من تصرفاتك ، وبلاش كلام كتير والأحسن مايبقاش فيه كلام خالص .. أديكي شوفتي أخوه عمـل أيه في عالية ..
فزعت نوران مدافعة عنه رغم غضبها منه :
-بس كريم مش زي مراد يا شمس ..
شرعت شمس بتقطيع السلطـة :
-بس أخوه يا قلب أختك ، وجايين من نفس البطن .. يبقى نسمع الكلام ونبعد عن الشر ونغني له كمان ..
تمتمت بعدم اقتناع وقالت :
-طيب يا شمس ، متقلقيش ..
“~بالطائرة الخاصة التابعة لممتلكات عاصي ”
أن تغزو القلب المخاوف والهواجس فتصبح المسافة نحو الاطمئنان تستغرق عمرًا كاملًا كي يهدأ قلبك كي يستقر نبضه كي يدرك ملاذ الحياة الحقيقي أن يتخلص من كل الشكوك التي تمزق بعينه ثوب الحب .. تجلس ” حياة ” بجوار النافذة صامتـة شاردة رافضة حتى التطلع إليه .. القوة ليست دائمًا في ما نقول ونفعل ونصرخ وجعًا أحيانًا تكون فيما نصمت عنه، فيما نتركه بإرادتنا وفيما نتجاهله ، قطعت عالية حبال الصمت الممتدة بينهم وقالت متسائلة :
-عاصي مفيش خبر عن …
ثم بللت حلقها وتمتمت اسمه بحنق :
-مـ مراد !
قفل هاتفـه ونظر لعالية قائلًا :
-هيروح فين ، رجالتي قابلة الدنيا عليه ..
ثم مسح على رأس أختـه وقال :
-عالية متفكريش في حاجة خالص .. أنت جاية معايا عشان تغيري جو وبس .. أهم حاجة عندي صحتك أنتِ والبيبي .. تمام يا حبيبتي .
تكدست مقلتيها بالعبـرات وضمت كفه قائلة بترجي :
-لو ألف ورق وألف حكم اثبت اننا مش أخوات ، بس أنا عمري ما هبطل أشوفك غير أخويا الكبير وأبويا اللي مشوفتوش ..
رفع كفها لمستوى ثغره وطبع فوقه قُبلة رقيقة :
-وأنا عمري ما هشوفك غير بنتي الصغيرة .. اللي قسيت عليها كتير أوي بس لسه بتحبي .. أنتِ من اير ما تحسي علمتيني أهم درس في الحياة يا عالية ..
-ولا عمري هزعل منك يا عاصي .. أنا ماليش غيرك أنت وتميم ..
ثم سألته متحيرة :
-بس الهدوء اللي أنتَ فيه ده قالقني ..
ارسل لها ابتسامـة خفيف بثت الأمان بجوفها وقال :
-أخوكي جبـل ، محدش هيقدر يأخد منه حاجة غصب عنه .. عشان كده بقولك أهدى ومتشليش هم حاجة ، كله هيتحل .
-أنا واثقـة فيك .. ومتأكدة من كل ده ..
ثم شاحت بنظرها لحياة التي تجلس بعيدًا عنهم وقالت راجية :
-حياة مش كويسة وفيها حاجة ، لو مزعلها قوم راضيها عشان خاطري .
أومأ بالإيجاب وانتقل لعندها ، لم يجلس جارها بل جثى على ركبتيه أمامها وأخذ يدفيء بروده كفها المُثلج بقبلاته الخفيفة ورفع عيناه المعتذرة لعندها وقال :
-هتفضلي مكشـرة كده كتير !
سحبت كفيها بتردد وقالت له بصوت متهدج بالحزن :
-عاصي مش حابة اتكلم .
-وأنا مش حابب أشوفك بالشكل ده .. كل ده عشان ذلة لسان !!
كانت أن تجهر بالحديث الذي جذب أنظار عاليـة فتراجعت قائلة بتأفف :
-عاصي قولتلك مش حابة اتكلم …
وثب قائمًا ثم سحبها من كفها عنـوة وراءه إلى الركن الخاص بحمام الطائرة .. وقفت تحت ظل عينيه فبادر بالحديث قائلًا :
-هتغيري من واحدة تحت التراب !
أغرورقت العبرات بعينيها وقالت بحزن وخيم :
-اللي تحت التراب دي محفورة هنا ، هنا في قلبك .. وللأسف وجودي في حياتك بديل ليها .. أنا عرفت سبب كل حاجة دلوقتي ..
انعقد حاجبيه مستفهمًا :
-كل حاجة اللي هي أيه ؟!! حياة بلاش اسلوبك ده بيجنني !! دي ماكنتش كلمة !
تطلعت إليه بتلك الأعين التي مزقها القهر وسألته بشفاه مرتعشة :
-عاصي أنتَ بتحبي … !!
زفر دخان ما يحمله على عاتقه بوجهها بملامح حمراء ينفجر منها براكين الغضب .. وقف أمام مقلتيها عاجزًا متحيرًا عن إجابته .. حتى أردف بتعب وهو يشير إلى قلبها :
-أسالي ده وهو هيجاوبك….
ثم تركها وغادر مشحونًا بهمٍ يضاهي كل هموم عائلته بمشاكلهم ، جلس بجوار عاليـة متأففًا فسألته :
-حصل حاجة ؟!
رد بفتور :
-كبري دماغك يا عالية .. حياة ربنا يعينها على دماغها الفترة دي غريبة ومش فاهمها ومش عارف اتصرف معاها .. ساعة تبقى كويسة وساعة تقلب .. بجد مش فاهم ..
ابتسمت عالية بحماس وهي تتمتم له بحذر :
-طيب ممكن تكون حامل ودي لخبطة هرمونات يا عاصي ، اسألني أنا كنت زيها كده واضرب x عشرة .
شُلت خلايا مخه إثر وقع الكلمة على مسامعـه .. فتمتم معارضًا :
-لالا حمل أيه !! أصلا مأجلين الموضوع ده شوية لحد الدنيا ماتستقر .
لاحظت عالية عدم رغبته في الحديث بشأن هذا الموضوع ، فاختصرت الكلام قائلة :
-ربنا يهدي سركم يا حبيبي …..
~عودة إلى القصـر ..
دخلت شمس الغُرفة بخطوات بطيئة جدًا وهي تتألم من قسوة اليـوم حيث ارتمت بمنتصف الفراش متنهدة بارتياح ، تابعها تميم وقفل الباب خلفهم وشرع في نزع ملابسه بكلل وتعب تأوهه جهرًا .. حيث أردف :
-أنا بس أخد شاور وعايز أنام شهر بحاله ..
غمغمت بتعبٍ وهي تتنفس ببطء :
-أنت بتقول فيهـا !! أنا هسبقك من دلوقتِ ..
فتح خزانة ملابسـه باحثًا عما سيرتديـه وقال متسائلًا :
-هدوء عاصي مريب وقالقني !!
اعتدلت شمس من نومتها لتنزع حذائها :
-عاصي ما يتخفش عليـه يا تيمو ..
قفل الخزانة معترفًا :
-عارف أن دماغه داهية !! بس صدقيني بقلبها في دماغي بكل الأساليب ملهاش مخرج يا شمس !! مقفولة ضبـة ومفتاح .
-أنا متأكدة أنه هيطلع بحاجة هتخرس الكل …
شرع بنزع ساعة يده متجهًا ناحية الطاولة ليتركها فسقطت عيناه على جهاز اختبار الحمـل .. تسمر في مكانـه وهو يتأكد مما تراه عينه .. جهر قائلًا بحماس طفولي :
-الخط الأحمر يا شمس..خطين لونهم أحمر تعالى شوفي أهو ..
لقد تناست أمر ذاك الاختبار تمامًا ، فزعت من مرقدها إليه تفحص النتيجة وبفاه متفرغٍ :
-تميم، أنا حامل ..
هجر بأنفاس متقطعة من صاعق الفرحة :
-أيوة أيوة الخطين أهم !! أقولك مش أنا أهلاوي !! من النهاردة مش هشجع غير الزمالك بعد الخطين دول ، دي إشارة ليا !!
خرت ضاحكة بحضنه فرحة ممزوجة بالدموع :
-تميم بجد أنا مش مصدقة !! يعني هبقى مامي ازاي أنا!!! الله ؟! معقولة ؟
ضمها إلى صدرها بفرحة لا يمكن وصفها وقال :
-وأحلى مامي ..
ثم أدرك أمرًا ما وانحنى كي يحملها :
-أنتِ واقفة ليه ؟!! من النهاردة رجلك دي متلمسش الأرض ، فاهمة ..
ثم عقد ملامحه متعجبًا وهو يحركها بين يديه :
-وكمان خاسة !! لالا أنتِ لازم تتغذي كويس من النهاردة هخلي البنت نوران تأكلك وبس …
وضعها برفق في مرقدها فتمسكت به رافضه بعده لتقـول بهمسٍ:
-أول مرة أشوفك بتضحك ومبسوط كده .
طبع قُبلة على أرنبة أنفها وقال :
-عشان النهاردة حلمي اكتمل .. في سريري أرق بنت في الدنيا وبعد كام شهر هكون أب .. أنا ملكت الحياة بيكم ياشمس ..
تمسكت بياقـة قميصـه وقالت بحنو :
-اعترف لك اعتراف كمان بمناسبـة الخبر الحلو ده .. أنا حبيتك من أول يوم شوفتك فيه .. حسيت أن أهم حكاية في عمري هتبدأ من العيون الحلوة دي .. ولقد كان يا بيشمهندس …
غمر الحب فؤاده وقال معترفًا :
-نفس أحساسي بالظبط ….
أؤمن بأن القلب لا يضخ حبًا لقلبٍ لم يتبادل نفس الشعور معه بل ويفوقـه .. القلوب أرواح أخرى تسكن أقصى يسارنا .. توجهنـا ، تنير لنا الطريق ، تقرأ عيون البشر .. وتراسل نجوم السماء ، القلوب لا تعترف بتقدم التكنولوجيات وأساليبها ، فقط يمكنك على فراشك أن تلمس قلبك بعمق وتهمس للقلب الذي تود إبلاغه بحبك ، أنك تحبه ، حتمًا سينهض مفزوعًا من مرقده يبحث عنك ..
*******
“~صباحًا ”
فارق مُراد فراشـه بصدره العارٍ لتمتد أنظاره لـ ” روفان ” النائمـة بملابس خفيفة بجواره .. تناول سترته البيضاء ليرتديهـا ثم تحرك نحو الثلاجة وأخرج منها قارورة الماء .. نهضت روفان من نومتها بتكاسل وألم يضرب برأسها وسألتـه :
-أحنا فين ؟!
ركل الثلاجة الصغيرة بقدمـه ثم أقبل إليها قائلًا :
-قولي صباح الخير الأول ؟!
تمسكت برأسهـا بذهولٍ :
-مراد !!! هو أيه اللي حصل ، أنا مش فاكرة حاجة ..
ثم تجولت حولها بصدمة :
-فين شنطتي واللاب توب بتاعي ؟!! أنا أنا أخر حاجة فاكراها أنك جيت خدتني من قدام المكتب ..
ثم رفعت الغطاء عنها وقالت :
-لازم امشي ..
وقف أمامها لمنعها :
-هتمشي تروحي فين !! النهاردة أجازة من المكتب ، ومفيش خروج ..
زاحت شعرها عن وجهها وقالت بقلق لا يعلم مصدره :
-معلش يا مراد ، هنتفق ونتقابل كتير ، دلوقتى لازم امشي عندي شغل مهم .
ما كادت لتخطو خطوة ثم تراجعت :
-أنت أخدت ورق المناقصة ؟! مش كده !!
طوقها بمكرٍ لتقع آسيرة بين مخالب يديه وقال :
-طيب ليه الاستعجال ده ؟! مش هنفطر سوا على الأقل .
اتسعت ابتسامتها مجاملة :
-هنفطر ونتغدى كمان ، بس مش النهاردة .. خليك معايا وأنا هخليك من أغنى رجال الأعمال في البلد دي ..
-أنا كده كده معاكي خلاص !!
كاد أن يُبادرها الحب الزائف ولكنه تراجع إير رنين هاتفـه ، فهربت روفان من بين يده متحججة :
-موبايلك بيرن ..
******
~الغردقة ..
فزعت عاليـة من نومتها صارخة إثر رؤيتها لكابوس كان شعورها أشبه بمن خلا فمه من الأسنان ولكنه يخشى مواجهة المرآة كي لا تُصبت له تلك الحقيقة المروعة ، ركضت إليها تاليـا التي تشاهد فيلمًا كرتونيًا على ” الأي باد” وقالت بلهفة :
-مالك يا عاليـة !! عمتو حضرتك كويسة !
تناولت كأس الماء من جوارها بكفها المرتعش وشرعت بأخذ أنفاسها الأخيرة التي هدأت تدريجيًا ، وضعت يدها على جوفها الذي يحمل صغيرها وسألته بتوجس وهي تتحسس حركته:
-مالك أنت كمان !!
أردفت تاليـا ببراءة :
-عمتو أقول لبابي يكلم الدكتور !!
ربتت عاليـة على كتف الصغيرة بحب :
-لا ياحبيبتي أنا كويسه .. روحي كملي لعب ..
فتحت حياة الغرفة في تلك اللحظة ، ما أن رأتها تاليـا ارتمت بحضنها :
-مامي وحشتيني أووي .
عانقت صغارها بحب واطمأنت عليهن ثم سألتهم :
-عاملين أيه مع الناني الجديدة ، نمشيها !!
هتفت تاليـا قائلة :
-هي طيبة وبتحكي لنا حواديت قبل ما ننام وبتلعب معانا .. بلاش تمشي .
رمقتها حياة مفتعلة الزعل :
-افهم من كده هتحبوها أكتر مني !!
اعترضت داليا بحماس :
-أنتِ مامي لكن هي الناني بتاعتنا ..
قبلت صغيرتها بحب :
-طيب خلاص هي هتقعد معاكم فترة صغيرة عشان أنا هكون مشغولة شوية عنكم .. وأول ما أخلص الشغل نمشيها .. وكمان عالية هتقعد معانا كتير ..
مرح الفتيات بحماس وهن يعانقونها .. تحركت حياة لعند عالية وسألتها :
-مآلك ياحبيبتي مش كنا اتفقنا مش هنفكر في حاجة !
-لا كويسة يا حياة .. كابوس بس وراح لحاله ..
مسحت حياة على رأسها وقالت :
-كل حاجة هتبقى زي الفل .. كلمت محل الموبيليا ومن بكرة أوضتك هتبقى جاهزة .. أنا هروح الشغل وبالليل لو حابة ممكن نخرج .
عالية باستغراب :
-شغل إيه يا حيـاة ؟!
-بعدين هقولك …
ثم أوقفتها بسؤالها الأخير :
-عاصي فين !
ردت بخزى :
-عاصي مجاش من إمبارح، وصلنا ومرجعش من ساعتها .. متشغليش بالك ..
صوت طرق خافت للباب .. شدت عالية حجابها فنهضت حياة لتتفاجئ بيونس أمامها ، سألته بامتعاض :
-خير يا حبيبي ..
تحمس يونس قائلًا :
-مش نازلة الشغل ؟! يلا بينا ..
-يلا على فين ؟! أنت مش ماسك ادارة المطاعم لعاصي ؟!
رد بيقين :
-أنا هسيب شغلي مع عاصي ، وهنزل معاكي الوكالة .. مش هسيبك لوحدك …
~بالغرفة الثانيـة..
-أنا المفروض استنى لحد أمتى ؟! قولي ؟!
أردفت فريال جُمتلها بتلك النبرة الغاضبة بوجه رشيد الذي لم يلتف لوجودها .. أحكم قفل الباب من الداخل كي لا يراهم أحد ، وأجابها متأففًا :
-عايزة أيه يا فريال ؟! قولتلك لما الشقة تجهز ، أعمل أيه يعني!!
انفجرت بوجهه :
-وأنا اعمل ايه يعني بعد اللي عملته .. طيب نكتب الكتاب والفرح براحتك ، طمن قلبي يا رشيد .
دنى منها مرتديًا قناع الوجه الملائكي :
-حبيبتي ، أنتِ خلاص مراتي ومفيش قوة هتفرقنـا ، اطمني أنا مش ندل عشان اسيب البنت اللي بحبها في نص الطريق ..
أسبلت عينيها بمكر أنثوي وهي تعانقه بنبرتها الكاذبة :
-انا قلقانة يا رشيد وكل يوم بضعف وبجيلك زي الحراميـة في نص الليل ، لازم يكون لها آخر .. أنا من حقي أقول إنك جوزي قدام كل الناس .
هز رأسه بخبث مسايسًا :
-هيحصل يا حبيبتي، ومتنكديش علينا بقا ، ما أحنا زي الفل أهو ..
في تلك اللحظة اشتعلت شاشة هاتفه بوصل رسالة نصية من ريم :
-حبيبي ، أنا رايحة المينـا أخلص شغل هناك ، هستناك نتغدى سوا ….
*******
-هنفضل مصدرين الوش الخشب ده كتير ! بتعصب أنا .
أردف كريم جملته على تلك الفتاة التي تنظف بساتين الورد بالحديقة الخلفية الخاصة بالقصـر ، لم تتكفل بالنظر له وقالت :
-ارجع مكان ماجيت يا كريم ، و أنت هترتاح منه !
شد أبريق الماء من يدها :
-نوران بطلي بقا وكلميني زي ما بكلمك ، أنا قبل ما اسافر اتقدمت لك واترفضت وأنت أول واحدة رفضتي !! ولما رجعت بردو بتعاقب .. في أيه ؟!!
شدت منه الإبريق الذي تروى به الزرع :
-أنت عايز مني أيه ؟!
-أنا راجع عشانك، عشان اطلب ايدك مرة واتنين وعشرة ، ليه العنـاد ده !! اقفي جمبي .
فتاة متمردة مثلها لا تعرف بلسعة نيران الحب ، جهرت معاندة :
-أنا عندي أحلام كتير أهم من الجواز والحب اللي بتتكلم عنه .
رد بنفاذ صبر :
-سمعيني، عايز اسمع .
تركت الإبريق من يدها وطالعت السماء بشغفٍ :
-عايزة ادخل معهد تمثيل وأبقى ممثلة كبيرة وأمثل مع أكبر النجوم ، أعيش كل يوم قصة حب جديدة ومختلفة بدل ما اتسجن في قصة حب واحدة وجواز ..
تعالت الدهشة ملامحه مما ترويه على مسامعه وهو يشاهد تلك الفراشات الوهمية التي تتطاير من فمها ، لم يجد إلا إبريق الماء وسكبه فوق رأسها لتصحو من تلك الأوهام .. شهقت كالغريق :
-انت بتعمل أيه !
رد بحزمٍ
-بفوقك … عشان واضح أنها هبت منك على الآخر ، تمثيل ومسخرة أيه يا نوران !
انفجرت بوجهه :
-واحد مش مقدر حتى أحلامي ولا معترف بيها ، ارتبط بيه ازاي ؟!
-أحلامك اللي هي كل ليلة اجيبك من حضن فنان مختلف ؟!! أنتِ اتهطلتي ؟!!!!!!
صرخت بوجهه معاندة :
-أنت بتكلمني كده ليه !! انا حرة وبراحتي وهعمل اللي عايزاه .. وأنت ملكش كلمة عليـا .
عاندها بحزمٍ :
-هتشوفي يا نوران ، هتشوفي .. دي مش أحلام دي كوابيس على دماغك .
*********
حل مساء يوم الجمعة بدون أي أحداث تذكر .. صمت مريب من شاكر وأخيـه ، الأجواء جميعها على ما يرام ، يتجول عاصي بحديقـة منزلـه وهو يتحدث بالهاتف والسعادة تنحت ملامحه :
-لا عفارم ! ولا أجدعها ضربة معلم .. ولسـه ، يتلقوا وعدهم مني .. الجاي سواد على دماغهم ..
جاءت تاليا في تلك اللحظة فأنهى المكالمة على الفور وعاد لصغيرته وضمها لقلبـه بعد ما قبلها ، سألته بجزل طفولى :
-بابي وحشتني أوي .. حضرتك مش بتيجي تنام جمبنا زي زمان ليه !
عقد حاجبه مفكرًا ليخرج من ذلك المأزق :
-هي مش عالية معاكم في الأوضة ؟! لو جيت هيبقى ليا مكان جمبكم .
أيدت ببراءة :
-طبعا في مكان .. مامي حياة كمان قالت هتنام معانا النهاردة ..
-يعني أيه تنام معاكم ؟! وأنا انام لوحدي ؟!!
هزت كتفيها ببراءة ساحرة :
-حضرتك كبير مش بتخاف ، لكن أحنا لسه صغيرين وبنخاف ..
رد بنفس نبرتها الطفولية :
-لا أنا كمان بخاف ، الإنسان مهما كبر لازم يخاف يا حبيبتي .
اتسع بؤبؤ عيني تلك الصغيرة :
-يعني حضرتك بتخاف زينا !!
-آكيد ، بس بخاف اخسركم ، بخاف حد منكم يتأذى ، أنا بخاف عليكم وبس ، لكن غير كده مش بخاف من أي حاجة تانية ..
تاليا بلطفٍ :
-وأنا لما أكبر ، مش هخاف زي حضرتك !
رد بثقة :
-ماينفعش تخافي أبدًا ، لأنك بنت عاصي دويدار .. فاهمة يا حبيبتي ..
ثم وشوش لصغيرته متبعًا :
-ممكن تنادي حياة ، قوليلها بابي جرحه بيوجعه أوي ولازم تيجي بسرعة .
هزت رأسها نافية :
-بس حضرتك مش تعبان يا بابي ومفيش حاجة بتوجعك!
تمددت ملامحه بمزاح :
-هتعرفي اكتر مني يعني !! يلا أجري قوليلها كده وهجيبلك حاجة حلوة الصبح ..
غمزت له صغيرته :
-يعني كده وكده ؟!
داعب ارنبة أنفها :
-أيوة كده وكده .
~بالغُرفـة ..
تجلس عالية مع حياة يتسامرا بتلك الليلـة الممتلئة بالحزن الذي فاض من عينيها ، تفوهت عالية بمرارة :
-كل شوية بدور عليه ، بفتح موبايلي ، مفكرش حتى يتصل يا حياة .. طيب هو وحش فعلا وأنا اللي اتخدعت فيه .. دماغي هتشت .
ربتت حياة على كتفها بعجز :
-حقيقي مش عارفة أواسيكي ولا أواسي نفسي .. الحياة فجأة كشرت في وش الكُل .. بس لازم يكون في حل ..
جاءت تاليا تركض من الباب بلهفـة مصطنعة :
-مامي ، بابي جرحه تعبان أوي ، ومستنيكي في الاوضة ..
فزع الاثنتان بقلق فربتت حياة على كتف عالية :
-خليكي ، وأنا هشوفه ..
ركضت كالهائمة وهي تتسابق مع الهواء حتى وصلت لغُرفته فوجدته يعبث بضماد ذراعه ، اندفعت لعنده بغضب :
-أنت بتعمل أيه !! بتجيب الأذى لنفسك !!
ابتسم بمكر لنجاح خطته :
-مش بحب حاجة تكتفني !
وبخته بحرقة وهي تفك الضماد برفق :
-هو يعني بمزاجك !! ما تبطل دلع بقا يا عاصي ؟!
خطوات هادئه يخطوها إليها فتستقبلها بخطواتٍ أخرى تتراجع فيها للخلف .. تعمدت تجاهل تلك النظرات الحادة والأنفاس المحرقة التي تنفرد بمشاعرها حتى ارتطم ظهرها بالحائط فأدركت ما حل بها ؛ معارضة :
-عاصي أنت بتدلع مش كده ! دي حركة من بتوعك !
حاوطها بكلتا ذراعيه مستغلًا قوته وفرق الطول بينهما وقال :
-سمعت إنك ناوية تباتي مع البنات !! استأذنتي ؟!
ألقت نظرة على ذراعه المُصاب لتكتشف حقيقة ألاعيبـه وقالت بعتب :
-بتعلم البنت الكذب يا عاصي !! طيب لو سمحت وسع !
عقد حاجبيه ساخطًا :
-وفين الكذب!! ، أنا تعبان فعلًا .. تعبان وبنادي على الوحيدة اللي عندها دوايا .
رمقته بعدم تصديق :
-فين ده ؟!! عاصي أنت صحتك أحسن مني ؟!
ثم زفرت باختناق :
-عاصي مش هينفع كده !
-أيه اللي مش هينفع !! لسه زعلانة ..؟! زعلانة عشان جبت سيرة أم بناتي !!
أن يناضل الشخص ليظهر عكس شعوره ، رفعت حاجبها بأعين تغمرها الغيرة :
-هي أم بناتك ؟! وأنا ؟! أنا مليش وجود في حياتك يا عاصي .. أنا ولا حاجة ..
-مين قال كده ؟!!! أنتِ كل حياتي يا حياة ، وقت الحادثة أنا كنت خايف عليكي وبس ، حتى مفكرتش في نفسي .. انا بعاني من وهم إني اخسرك لأي سبب .
ثم زفر ممتعضًا :
-البنت اللي تشقلب حياة راجل بالشكل ده تبقى أيه بالنسبة له ؟! أنا سبت الدنيا كلها وجيت جمبك ابتدينا من الصفر ، بعدت عن كل الحاجات اللي ممكن تزعلك ، استغنيت عن عالم عاصي دويدار اللي أنتِ اكتر واحدة عارفة كان عامل ازاي ؟!! واكتفيت بيكي ..
انتقلت يده من الحائط لترسو على كتفيها :
-سيبك من كل ده !! قلبك معايا عمره شم ريحة واحدة غيره بتشاركه في حبك !! أنا كل يوم بحاول اطلع مني افضل نسخة عشان أرضيكي وبس ؟! لكن أنتِ دماغك سيباها تسوحك يمين وشمال .
انهمرت العبرات من مقلتيها فتلقاهم بابهامـه :
-مش بقول لك كده عشان تعيطي ، بقول لك كده عشان تواجهيني .. تيجي تقوليلي عاصي أنا زعلانة وحصل كذا وكذا ، لكن تصرفات العيال دي أنا مش مسئول عنها ، ولا مسئول اتحمل عقابهـا وانا مش فاهم حاجة ..
أثر الكلمات الصادقة ليس في رواجها وكم التناغم فيها ولكن في قوتها ومضائها ورجّة وقعها على القلب .. انشق وادٍ جديد للحزن بقلبها كي تهرب من تلك الهزيمة الساحقة تحت عيني رجل حبه يرج الفؤاد رجّا … دائمًا ما يعود المرء لنفس الطريق كي يحدد مصيره .. أردفت بتردد :
-عاصي ، أحنا هنفضل مأخرين موضوع الخلفة ده لأمتى ، أنا فعلا عايزة حاجة تشغلني عنك لان حتى الشغل أنت بتكون فيه قدامي !!
ارتجف قلبه للعنة فقد جديدة ولكنه بلع مخاوفه قائلا:
-طيب ممكن تستنى لحد الدنيا ما تستقـر معايا ، وبعدين هاخدك ونسافر أمريكا عند أكبر دكتور هناك .. ممكن يا حياة .
ردت بإصرار كي تضغط عليه أكثر :
-لا ، أنا هروح لدكتور بكرة .. ولا أنت عندك مانع !
زفر باختناق :
-طيب هحجزلك عند دكتور ونروح سوا ، تمام كده !!
ردت بحزم وهي تتأهب للانصراف:
-لا أنا هروح لوحدي ..
-حياة عشان خاطري ، شهرين بس اظبط فيهم الدنيا وهنتكلم وهعمل لك كل اللي عايزاه ..
بللت حلقها متسائلة :
-هتفرق أيه ؟!
رد بكلل :
-ياستي كده هكون مرتاح أكتـر .. والحال يكون اتظبط .
رمقته بأعينها الدامعة :
-شهرين يا عاصي !
-وعد شهرين ، وهنسافر أمريكا وأعملك كل اللي تطلبيه ، عايز أبقى مطمن عليكي أكتر .
-تمام ..
فأوقفها بيده الحديدية ، فتلاقت أعينهم فقال بحسم :
-رايحة فين ؟!
-راجعة للبنات ..
-أنتِ مش هتتحركي من هنا ؟!
اتسع بؤبؤ عينيها :
-ده ليـه بقى ؟!
جذبها إليه عنوة لتلتحم أنفاسهما وعطورهمـا وتمتزج قلوبهما المتشابكة في فخ الحب الذى يخدر الأوجاع والألم وينسي المرء من يكون وما يحمله بقلبـه من عداوة ، مردفًا :
-عشان أنا عايز كده ….
******
    google-playkhamsatmostaqltradent