رواية صرخات انثى الفصل الثامن والعشرون 28 - بقلم ايه محمد رفعت

الصفحة الرئيسية

 رواية صرخات انثى الفصل الثامن والعشرون 28 - بقلم ايه محمد رفعت

(إهداء الفصل للقارئات الغاليات "وفاء وحيد"،"اميرة علي"،"هيام حامد"،"سامية أحمد"،"أم حنين"،"ام عبد الرحمن"  ، شكرًا جزيلًا على دعمكم المتواصل لي، وبتمنى أكون دائمًا عند حسن ظنكم..بحبكم في الله...قراءة ممتعة 💙)

توقفت سيارة علي أمام الجامعة الخاصة بطب الأطفال بلندن، فاتجهت بعينيها تجاه زوج شقيقتها تشكره بابتسامة جذابة: 
_مش عارفة أشكرك ازاي يا علي، مكنتش عايزة أتعبك معايا من البداية كده، كفايا إنك صممت إني أكون معاكم في نفس البيت ورفضت قعدتي في الأوتيل، وصممت إني أكون جنب فطيمة ودي في حد ذاتها كبيرة أوي ليا. 

انجرف بجسده تجاه مقعدها المستكين جوار مقعد قيادته، ليمنحها نظرة مندهشة انهاها بقوله المستنكر: 
_وبعدين معاكي يا زينب.. هو أنا مش نبهت عليكي وقولتلك إنك زي شمس بالظبط.. وأعتقد إنك معملتيش بكلامي لإن مفيش أخت بتفضل تشكر أخوها كل شوية بالشكل ده. 

اختصرت بسمة متهكمة على شفتيها وإن كانت مؤلمة بعض الشيء: 
_يمكن لإني مجربتش الاهتمام ده من اخواتي فمش متعودة عليه بس. 

ينجح دائمًا بلمس أوتار الآلآم النفسية العميقة لاعتياده لمسها بمهنته، يعلم بأن البشر بأكملهم بحاجة إلى طبيب نفسي حتى وإن كان متكاملًا فمن منا لا يحمل ألمًا يدفعه لخوض مرحلة مؤلمة من جراعات لا يود ارتشافها! 

تنهد علي مطلقًا صوت أنفاس مسموعه، وقال وعينيه تحيدان عن التطلع بها، بالنهاية يتوجب غض بصره عنها: 
_بصي يا زينب أنا مبحاولش أمارس مهنتي عليكي، بس خليكي متأكدة إني موجود وجاهز أسمعك في أي وقت من الأوقات.. وبقولك كده لإني حاسس إن في جواكي جرح كبير بتحاولي تداريه.. يمكن ذكريات مش لطيفة جواكِ أو مثلًا تكوني مريتي بتجربة صعبة.. فصدقيني لو احتاجتي مساعدتي في أي وقت هتلاقيني جنبك.. ممكن تعتمدي عليا. 

فور ذكره لتجربة سابقة احتل وجدنها صورته أمام عينيها، فانقبض قلبها وكأنه على وشك التخلي عنها ليلوذ بالفرار ، ابتلعت زينب ريقها ببطءٍ وهي تحاول تنظيم أنفاسها المضطربة لمجرد أن تذكرته، هو بالنسبة لها أبشع ذكرى، أبشع تجربة، أبشع كابوس، الأبشع في كل مقارنة ستخوضها طوال حياتها. 

استعادت اتزانها وهي تحاول رسم ابتسامة تخدع بها من تظن بأنه اقتنع وانخدع بها: 
_أكيد يا علي... بشكرك مرة تانية. 

حررت باب السيارة وخطت بخطوات سريعة كأنها تفر من وحش يمد بساطه ليسحبها لقوقعة الماضي المؤلم، وفجأة تبلدت قدميها حينما هبط من خلفها يناديها: 
_دكتورة زينب استني. 

استدارت إليه ونسبه للقلب الطبيبة لاح لها بابتسامة صغيرة، فعادت له ببسمة رقيقة: 
_خير يا دكتور علي! 

ابتسم لها وهو يقترب، فأخرج من جيبه مبلغًا من المال وبترددٍ رفعه قبالتها وكأنه يجابه الحرج: 
_زينب لو رفضتي مني الفلوس دي همشي وأنا زعلان منك.. أكيد إنتي معاكي عملة مختلفة ويمكن تحتاجي أي شيء.. فخليهم معاكي. 

رفعت حقيبتها وكتبها إليها بخجلٍ، ودت لو انشقت الأرض وابتلعتها قبل أن تُوضع بموقف هكذا، فدنى منها علي أكثر بعدما لاح له فكرة ستعاونه برفع الحرج عن كلاهما: 
_بالمناسبة ده مقدم من مرتبك عشان تعرفي إني كريم معاكي.. مفيش مدير بيدي موظفينه فلوس قبل ما يستلم الشغل. 

رفعت عينيها إليه متسائلة بدهشة: 
_شغل أيه؟ 

سعد بمبادلتها سؤالها: 
_أنا بفتتح مركز ضخم وأكيد هحتاج لدكاترة أطفال وإنتي أول واحدة في التيم طب الاطفال ولا ناوية تتخلي عني! 

ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهها وقالت: 
_ما شاء الله.. بجد خطوة ممتازة يا علي ألف مبروك مسبقًا. 

وبتوترٍ استطردت: 
_بس أنا لسه قدامي سنين في الجامعة مينفعش أشتغل من دلوقتي! 

بدد ارتباكها وقلقها حينما قال: 
_دكتورة تحت التمرين يا دكتور... كده كده هيكون دكتور سيفو اتخرج لان دي أخر سنة ليه فهتكوني تحت ايده لحد ما تاخدي الشهادة. 

تساءلت باستغراب: 
_دكتور سيفو مين ده؟ 

ضحك بمرحٍ وهو يوضح لها: 
_صديق لينا أنا وعمران هينضم لينا. 

هزت رأسها بفرحةٍ وقالت بحماس طغى على نبرتها: 
_أكيد هفرح لو كنت معاك يا علي.. 

ابتسم لها بوداعةٍ وحرك رماديته للمال الذي يحمله قائلًا بعبثٍ: 
_طيب أيه هفضل رافع ايدي بالفلوس كده كتير ولا أيه يا دكتور؟ 

تنحنحت وهي ترفع يدها بارتباكٍ لتجذب منه المبلغ قائلة باستحياءٍ: 
_شكرًا يا علي. 

منحها نظرة غاضبة واستعاد وقفته للسيارة مرددًا: 
_نفس الكلمة اللي هتخضعني لدكتور نفسي على الصبح... ماشي يا زينب هشوفك على الساعة 5 عشان أرجعك البيت. 

وفتح باب السيارة وهو يتابع لها: 
_معاكي رقمي لو احتاجتي أي حاجة كلميني.. أوكي؟ 

منحته ابتسامة وإيماءة صغيرة من رأسها، والامتنان لوجود زوج أخت مثله بحياتها فجأة يزداد مع كل معروف يقدمه لها، فعادت للداخل بعد مغادرته تستكشف مقرها الدراسي الجديد بارتباكٍ وخوف تغلب عليها حينما وجدت أمام عينيها المحرمات تندرج بكل زواية. 

وكأن هؤلاء يستبحن المحرمات بكل مكان حتى مكان مقدس كالدراسة، هنا يتمدد اثنين يمارسان القذارة أمام أعين الجميع وكأنهما حيوانات مجردة من الحياء، وعلى الطرف الاخر مجموعة من الشباب والفتيات يلهون بصيحاتٍ مقززة وكلمات بذيئة.. 

لوهلة شعرت وكأنها ستتقييء ولكنها تماسكت وابتعدت عن كل ذلك، فدخلت للمبنى الجامعي تتأمل رؤية فتاة واحدة عربية. 

لاح لها الأمل بعد رؤية عدد بسيط من الفتيات المحجبات وتمنت أن تتعرف على احداهن، وان تكون منهن من ستشاركها فصلها، فاتجهت للفصل الصغير التابع إليها حتى وإن كان مازال على محاضرتها نصف ساعة ولكنها على الأقل ستكون على ما يرام بعيدًا عن كل تلك القذارة. 

فتحت "زينب" باب الفصل واستعدت للدخول فجحظت عينيها صدمة وتبلد جسدها وكأنها سُكب عليها ماء مثلج للتو حينما وجدت فتاة وشابًا في وضعٍ مخل جعلها تتراجع للخلف وهي تبرق بصدمة خاصة حينما انتبهت لها الفتاة ونهضت تقترب منها وهي تصيح بجراءة: 
_هيي أنتِ لماذا تقتحمين المكان هكذا؟  

بينما رفع الشاب نفسه وهو يغمز لها بوقاحة: 
_دعيها إيجا.. ربما تود أن تشاركنا.. ما رأيك يا فتاة فلتنضمي إلينا! 

تبلد حركتها وكأنها كانت اشارة صريحة إليه بموافقتها، ولطالما ينتابهم هوس جنوني تجاه الفتاة العربية التي تخبئ جسدها خلف تلك الثياب المحتشمة. 

جذب بنطاله يرتديه واقترب إليها ببطء، والاخيرة تحاول التراجع للخلف ولكن قدميها كانت ملتصقة بالأرض تأبى التزحزح وكأن مشهد من ماضيها اللعين يساق لها من جديدٍ. 
##
_يمــان... إنت فين؟   من فضلك الوقت اتاخر وأخويا هيزعقلي إنت روحت فين؟ 

نادته وهي تبحث عنه بين طوابق المنزل المتسع الشبيه بالڤيلا، لا تعلم كيف تمكن من كسب قلبها ومن بعده ثقتها ولم يمر على تعرفها به شهرين، كل ما تعلمه بأنها أحبته وأحبت اهتمامه الزائد بكل تفاصيلها.

تعشقه حينما يسألها بمنتهى الحنان هل يصيبها مكروه أو هل هي على مايرام؟ 
أسئلة فشلت يومًا بالحصول عليها من أخواتها وكأنها لقيطة يعطفون عليها بنفقة الطعام فقط، ومنذ أن تعرفت به كان يغدقها بالثياب والمجوهرات الثمينة وحينما كانت ترفض ذلك كان يغضب وبشدة وهذا ما كانت تخشاه.. غضبه! 

كانت أحيانًا تشعر وكأنه يمتلك شخصًا أخرًا داخله، شخصًا يتلبس، جسده وقتما تستميل غضبه، ولكن قلبها اللعين مازال يكرر عشقه لشخصه وفتنة شخصيته المختلفة عن كل الرجال، فعشقته ويا ليتها ما فعلت! 

تراه الآن أمامها، يخطو بكل ثقته بعدما تخلى عن قميصه وبقى ببنطاله فقط، يستعرض قامة جسده وتكوينه القاس من أمام عينيها، حتى بات يقف نصبها يقدم لها كأسًا من العصير ويمنحها بسمة متلاعبة: 
_كنت بحضرلك حاجة تشربيها، ميصحش تدخلي بيتي لأول مرة ومضيفكيش بالشكل المناسب يا حبيبتي. 

ابتلعت ريقها بتوترٍ، ورفضت تتناول منه الكوب، تراجعت للخلف وتمرد عنها الذعر المختبئ ليشدو بين مقلتيها، وبصعوبة أجبرت لسانها على النطق: 
_يمان أنت ليه قلعت قميصك؟ 

واستدارت راكضة للأريكة تحمل حقيبتها وهي تردد برجفة: 
_آإ.. أنا عايزة أمشي... من فضلك روحني. 

نظراته تجاهها كانت غامضة مثل شخصيته الغريبة، وجدته ينحني ليضع العصير على الطاولة والحزن يتردد إليه، متابعًا: 
_معندكيش ثقة فيا يا زينب!   يعني كنتِ بتضحكي عليا طول الأيام اللي فاتت لما قولتيلي أنك بقيتي بتثقي فيا! 

حركت رأسها والتوتر يصل إليها زحفًا مع كل خطوة يقترب فيها منها، فرددت بتلعثم: 
_بثق فيك يا يمان، بس أأا... أنا اتاخرت وإنت عارف أخويا ما بيصدق أرتكب أي غلطة عشان يآآ... آآ.. 
انتزعت كلماتها حينما بقيت محاصرة أمامه والحائط من خلفها، فرفع يده يطرق على الحائط بغضب وصل من صوته القاتم: 
_اخوكي ده لو عاد يمد ايده الو*** دي عليكي هقتله! 

رفعت عينيها لعينيه بهلعٍ انتابها حينما تلاشى لون حدقتيه المميز وبات محمرًا كجمرات النيران المشتعلة، فانسابت دموعها وهمست إليه بتوسلٍ: 
_يمان أرجوك عايزة أمشي. 

منحها ابتسامة غريبة، معاكسة لاحمرار عينيه وتراجع عنها وهو يشير: 
_اشربي العصير وهنتحرك فورًا. 

تعلقت نظراتها بالكوب بارتباك، تخشى من سماع القصص المستهلكة بأن يكون وضع لها أي شيء، قلبها تألم من مجرد رؤيتها مشهد كذلك، هو الوحيد الذي وثقت به وسيقتلها إن كان ينتمي لتلك الفصيلة الوضيعة. 

اغتصبت ابتسامة تخادعه بها، وهي تدنو من الطاولة، تلتقط الكوب باصابع مرتشعة وتقربه لفمها، فتعمدت أن تسقطه أرضًا. 

تراجعت للخلف مدعية احراجها، وانحنت تجمع الكوب المنكسر مرددة: 
_أنا أسفة مقصدتش... هلم حالًا الازاز وهنضف المكان. 

وضع ساقًا فوق الاخرى وهو يراقبها بابتسامة ساخطة، فأشار بيده: 
_قومي وابعدي عن الازاز يا زينب.

ونهض فجأة إليها يقترب حتى جذب معصمها ودفعها خلفه فانخفض ضغط دمائها، ويدها الاخرى تستميت بتحرير معصمها: 
_يمان إنت واخدني على فين؟    سيب ايدي من فضلك أنا عايزة أروح! 

دفعها بقوة تجاه تلك الطاولة المستديرة، فاستقامت بوقفتها خاطفة نظرة للمكان من حولها، فوجدت أنها بالمطبخ ووجدته يتجه للبراد فجذب دورق من نفس العصير يرتشف منه أمامها وألقاه بقوة أسفل قدمه، فتراجعت بخوف من رؤية الزجاج ونظراتها العاجزة عن فهم ما يحاول فهمه تتجه إليه فوجدته يصيح غاضبًا: 
_أكيد مش هأذي نفسي لو كنت حطتلك حاجة في العصير زي ما أنتِ شاكة فيا. 

وتابع وهو يغادر المطبخ بعصبية: 
_هغير هدومي وهنزل أوصلك.. لو عايزة تمشي لوحدك مش همنعك انتي عارفة طريق الباب. 

غادر للطابق العلوي تاركها تفرك أصابعها بضيقٍ مما فعلته، بينما يتشح هو بابتسامة خبيثة ليتها تراها، فخرجت للردهة تنتظر هبوطه. 

استغرق خمسة عشرة دقائق وهبط إليها بملابسه السوداء المعتاد بارتدائها وكأن اللون الاسود لا يخص الا هو، فمنحها بسمة ساخرة: 
_غريبة انك لسه هنا!  مخوفتيش أحاول أكرر اللي كنت بعمله أحطلك تاني مخدر وأعتدي عليكي مثلًا!! 

لعقت شفتيها في محاولة لابعاد الجفاف عنها يكفيها مرارة حلقها: 
_يمان أنا أسفة، أنا والله بحبك وبثق فيك بس اللي عاشته فطيمة أختي واللي أنا عشته مع اخواتي خلاني فقدت الثقة في كل اللي حوليا حتى نفسي! 

أبدى تعاطفه معها فدنى منها يفرق ذراعيه قائلًا بمكرٍ: 
_أنا مش عايز غير حضنك يا زينب... وأنا واثق إني العوض ليكي عن كل المعاناة اللي عيشتها. 

وضعت رأسها أرضًا وضمت حقيبتها مجددًا وهي تجاهد خروج الكلمات التي حتمًا ستغضبه: 
_مش هقدر أقربلك غير لما يكون في بينا رابط رسمي يا يمان... أنا جيت هنا معاك عشان متزعلش مني وتشيل كل أوهام عدم الثقة دي من راسك لكن غير كده سامحني مش هقدر. 

أخفض ذراعيه وأطبق أظافره بلحم يديه معًا بقوةٍ وغضبٍ يعاكسه تلك الابتسامة الجامدة ونبرته: 
_ولا يهمك... أنا مقدر كل ده ومستني لما اليوم ده يجي وتبقي مراتي يا زينب. 

واتجه للباب يكرر لها: 
_يالا عشان متتأخريش.

استعادت وعيها في تلك اللحظة التي رفع بها يده ليجردها من حجابها، وكأنه بلمسته ألقى عليها لعنة، فدفعته بكل قوتها للخلف وركضت للخارج كمن لقت شبحًا يود افتراس لحمها. 

والأبشع لها بأنه هرول من خلفها بغيظٍ على ما فعلته، اتجهت زينب للدرج الضخم تهبط للاسفل وعينيها المرتعبة تتفحص ذاك الذي يهبط من خلفها. 

التوى كاحلها وكادت بالسقوط، فاستندت ذراعيها على من يقابلها في لحظة صعوده للطوابق العلوية حيث يختص الطابق الاخير من المبنى تاركًا الطوابق الاولى للسنوات المبدئية للطلاب الاصغر سنًا ليتفاجئ بتلك التي تندفع بجسدها نحوه ووجهها مسلط للأعلى! 

شعرت بأن جسدها يستند على جسدًا قاس، يحيل عن سقوطها أرضًا، فاستدارت برأسها للأمام لترى ماذا يحدث معها؟ 

وجدته يصوب عينيه لها بنظرة مهتمة لمعرفة ما يصيب تلك الفتاة المحجبة، فضيق عينيه بتيهةٍ وهو يحاول تذكر أين تمكن من رؤية تلك الملامح المألوفة إليه؟  

بينما كانت هي تجد الغوث قبالتها وإن كان بأي شخصًا سيظهر لها بذلك الوقت، فاعتدلت بوقفتها تترجاه ببكاء: 
_ساعدني من فضلك... هذا الشاب يلحق بي ويريد الاعتداء علي! 

تحركت حدقتيه المشتعلة بغضب تجاه ذاك الشاب العاري من خلفها، والذي أشار له بكل فظاظة:
_تراجع عنها والا سأحطم عنقك.. دعها لي وأعدك بأنها ستستمتع برفقتي كثيرًا. 
 احتل الغضب كل خلية بجسد سيف، فجذب معصمها ليرغمها على هبوط الدرج لتلك الطرقة، وقدم لها كتبه والبلطو الخاص به، ثم نزع عنه ساعته الباهظة ليضعها فوق الكتب ومازالت زينب تراقب ما يفعله باستغرابٍ، وقبل أن تتمكن من تحليل ما يفعل وجدته يصعد الدرج بخطوات بطيئة بدت خطرة للغاية، وقد صدق حدسها حينما انهال على ذاك اللعين بلكمة قوية جعلته يسقط عن الدرج ليستقر أسفل قدميها. 

هبط إليه سيف ودفعه ليجثو من فوقه، ويديه تقدم لها ما تلاقنه تلك السنوات من تعليم قابض بالملاكمة، فجعل وجهه كالخريطة العابرة، لا يعلم ذاك الوقح بأنه لم يكن ذلك الشاب الذي يقمع قوته لأبشع درجة ونادرًا ما يسوقه أحدٌ ليدافع عن نفسه، وللعجب أنه يفعلها للمرة الاولى ولأجل تلك الفتاة!! 

أربعة سنوات قضاها بتلك الجامعة ولم يجرأ يومًا على رفع يده على أحدٌ من قبل، كان يستقيم ويمضي بمفرده دون صحبة، لإنه وببساطة هو الشاب الهادئ الذي يفضل البقاء بمفرده منعزلًا، حتى بتجمعات أخيه واصدقائه كان يختلي بنفسه بغرفته للمذاكرة فقط، لم يعرف صديقًا قط فكان يوسف هو الأخ والصديق والأب وكل شيء يمتلك، حتى زاره أول صديق "أيوب بن الشيخ مهران". 

ارتعبت" زينب" وهي تراقب ما يحدث أمامها، وقد تسنى لعقلها تذكر ملامحه، ويا لحظها هو نفس الشاب اللطيف الذي قابلته بالمطعم ذاك اليوم وقدم لها المثلجات واعتذر أكثر من مرة بلباقة عن وقاحة صديقه، لا تعلم لما ابتسمت وهي تتابعه بنظرات ساكنة. 

جذب سيف رأسه إليه وصاح بحدة: 
_استمع لي أيها المعتوه، إن لحقت الفتاة مجددًا أعدك بأنني من سيقتلع عنقك الوضيع هذا، هل سمعت؟ 

أومأ برأسه عدة مرات والذعر يفترسه من ذاك العتي، فدفعه بركبته وهو يأمره بصرامة: 
_والآن اغرب عن وجهي. 

فور سماعه لتلك الكلمة رحل راكضًا، فكان يخطو الدرج وكأنه سيحلق من فوق كل ثلاثة درجة، حتى سقط مرتين وهو يلوذ بالنجاة، بينما انتصب سيف بوقفته بثقةٍ وهو يعود ليسترد كتبه والبلطو الخاص به وأخيرًا ساعته، متسائلًا باهتمام: 
_انتِ كويسة؟ 

هزت رأسها ويدها تحاول ازاحة دموعها عنها، ورددت بصوتٍ منتحب: 
_لولاك مش عارفة كنت هكون كويسة ولا لأ.. 
وتابعت بارتباك وهي تتجه للدرج، فجلست عليه تجاهد ارتجاف جسدها: 
_ده أول يوم ليا هنا ومكنتش أعرف إني هشوف كل المناظر المقززة دي وأخرهم في الClass، أنا مش عارفة إزاي مسموح بالقرف ده جوه الجامعة. 

ابتسم ساخرًا على جملتها، واتجه نهاية الدرج مجلس مناسب له، ليجيبها: 
_هنا بيتسمى تحرر وحرية شخصية وممكن لو حد سمع اعتراضك هيسموه بالجهل. 

تهاوت دموعها بانكسار وسألته وهي تستدير بجلستها إليه: 
_يعني أيه؟  أنا هكمل وسط القرف ده السنتين اللي فاضلين ليا؟؟ 

وتابعت بانهيار تام: 
_أنا مستحيل أقدر أندمج مع القذارة دي.. أنا كده مستقبلي هيضيع! 

شفق عليها حقًا، فإن كان هو رجلًا يجد صعوبة بالتعامل مع ذلك الوضع الذي سبق لاخيه الخوض به لذا يصمم عليه بجنون أن يزوجه سريعًا فكيف لفتاة تتحمل رؤية كل تلك المشاهد المقززة. 

أجلى سيف صوته المحتبس وقال: 
_مضطرة تتحملي الوضع ده مؤقتًا يا آ... 

رفعت عسليتها إليه وعلى استحياءٍ قالت: 
_زينب. 

ابتسم لها وهو يستطرد: 
_أنا عذرك وفاهمك.. علشان كده هنصحك باللي قدرت أتخطاه هنا طول السنين دي. 

سألته وعينيها تتابع كتبه بفضول لمعرفة بأي صف هو: 
_هو إنت في سنة كام؟ 

لمح نظراتها الفضولية التي تود استكشاف كتبه، وقال بصوته الرجولي: 
_أنا في أخر سنة، وكان عندي حلم عبيط أكون دكتور جامعي بس لما جيت هنا وقررت الاستقرار غيرت رأيي لأني مش هقدر أتكيف على الوضع ده فالأفضل اني اتخرج بسرعة واستلم شغل بعيد عن هنا بسرعة. 

وجاء دوره ليتساءل: 
_دي أول سنة ليكي؟ 

هزت رأسها نافية وأجابته: 
_التانية.

بنفس ابتسامته قال برزانة وتعقل: 
_طيب بصي يا زينب، عشان تعدي اللي فاضلك هنا لازم تكوني واعية ومدركة للي هتخوضيه هنا، أولًا متدخليش فصلك الا في معاد المحاضرة بالدقيقة ويُفضل تكوني أخر واحدة تدخلي الفصل وأول واحدة تطلعي منه، أول ما المحاضرة تنتهي مش بس تسيبي الفصل وتنزلي لا الجامعة كلها... 

هزت رأسها بلطف وهي تستمع له باهتمام وكأنه يلقنها نصائح للخلاص، فتابع هو: 
_وأوعي تكوني صداقات مع أي حد، لإن للأسف مش هتقدر تفهمي عقليتهم ولو حصل ممكن تجيبي لنفسك مشاكل انتي في غنى عنها، لو حظك كان حلو واتعرفتي على بنت متدينة زيك تمام محصلش خليكي في نفسك وبس، أي شخص حاول يضايقك انسحبي من المكان فورًا ومتفكريش إنك بلجوئك لادارة الجامعة هتقدري تاخدي حقك، لإن القوانين هنا شوية مش منصفة لينا. 

عادت بتحريك رأسها إليه، فسألها مجددًا: 
_انتي قاعدة في سكن للطالبات؟ 

نفت باشارة جديدة من رأسها وكادت بأن تجيبه فأوقفها رنين هاتفها، أخرجته بارتباك من حقيبتها وهو يتابعها باهتمام انقلب لقلق حينما رددت: 
_ألو... أيوه سمعاك.. لأ أنا آ... 

رفعت الهاتف إليها فانصدمت حينما وجدته مغلق بعد انتهاء بطاريته، فهمست بضيق: 
_ده وقته هيقلق عليا! 

لا يعلم لما انتابه ضيقًا وغيرة غريبة وكأنه وقع في عشق فتاة منذ أعوامٍ!  عنف ذاته الغريبة ونظف حلقه قائلًا: 
_لو حافظة الرقم ممكن تطلبيه من على موبيلي! 

وكأنه اليوم أتى بنجدة كوارثها، منحته زينب نظرة ممتنة ورددت بحرجٍ: 
_لو مش هتقل عليك يعني. 

ابتسم وهو بستقيم بوقفته ليخرج هاتفه: 
_لا أبدًا... تحت أمرك. 

قدم لها الهاتف ولكنها فضلت بأن تملي عليه الأرقام، فعبث باللائحة يضع الأرقام من خلفها، وحرر زر الاتصال فضيق عينيه هاتفًا باستغرابٍ: 
_ده رقم علي!! 

رفرفت باهدابها بدهشة: 
_إنت تعرفه؟

أكد لها وهو يتابع انطلاق رنين المكالمة: 
_طبعًا دكتور علي صديقنا هو وعمران أخوه.

زوت حاجبيها بذهول وابتسمت وهي تردد بتخمينٍ مرح: 
_يكونش إنت الدكتور سيفو اللي كان بيتكلم عنك من شوية! 

وما كاد باجابتها حتى أتاه صوت علي يجيب: 
_دكتور سيفو بيتصل بنفسه، ده أيه اليوم المميز ده أكيد البطل فكر في عرضي وقرر يبلغني موفقته صح؟ 

ضحك سيف وأجابه بمزحٍ: 
_حبببي يا دكتور أنا مستغناش عنك وإنت عارف بس مش أنا اللي كنت عايز أكلمك هي صدفة باحتة بس لذيذة. 

وقدم الهاتف لزينب التي تتابعه بعدم استيعاب، فقالت بخجل: 
_علي! 

صمت قليلًا وراح يتساءل بدهشة: 
_زينب!  إنتي اتعرفتي على سيف؟ 

ارتبكت قليلًا وهي لا تعلم أن كانت تخبره بما حدث لها بأول يوم دراسي أم لا، بينما يتابعها سيف بعقلٍ مشغول بالعلاقة التي تجمع علي بتلك الفتاة؟ 

استخرجت صوتها أخيرًا وأجابته: 
_أنا موبيلي فصل شحن وأنا بكلمك وخوفت تقلق فدكتور سيف عرض عليا يساعدني عشان أطمنك عليا، مكنتش أعرف انكم تعرفوا بعض. 

رد بضحكة قوية: 
_سيفو ده حبيبي وأخو حبيبي، حيث كده بقى أقدر أطمن عليكي أي حاجة تعوزيها سيف موجود، هتسد ولا مش قدها يا دكتور؟ 

ابتسم الاخير وأجابه بمجاملة: 
_في الخدمة وتحت الأمر يا علي.. وإنت عارف. 

تبادلا المزح فيما بينهما وحديث قصير انتهى باغلاق المكالمة ومازال سيف لا يفهم العلاقة التي تجمعه بها، فسألها باستغراب: 
_هو دكتور علي يقربلك؟ 

نهضت عن الدرج تنفض ثيابها وهي تجيبه: 
_يبقى جوز أختي. 

أسبل عينيه في دهشة وإن كانت لطيفة، وهمس بصوتٍ منخفض: 
_كده يوسف هيكلبشنا في بعض من بكره، والمرادي مش هعترض! 

_بتقول حاجة؟ 

افاق على صوتها المتساءل، فقال مشيرًا لها: 
_لأ أبدًا.. كنت بقولك اطلعي لمحاضرتك ومتقلقيش أنا هطلع معاكي وهوصي البروفيسور عليكي  .. أنا أعرف كل الدكاترة هنا.. 

ابتهجت معالمها ولحقت به للأعلى، فما أن ولجوا معًا حتى هم إليه البروفيسور ورحب به بمحبة غريبة عادت لمستواه الممتاز وترتيبه المذكور بجدارة، فامتنت للحظ الذي أسقطها بطريق هذا الشاب المكتظم بداخله رجلًا يحمل كل معاني الشهامة والرجولة، فاتجهت لمقعدها وتابعت رحيله بابتسامة حالمة، تبددت فجأة حينما تذكرت قصة حبها السابقة وجريمة ما تلقته على يد شخصًا نجح بالحصول على اهتمامها وحبها وبالنهاية وجدته شيطانًا متنكرًا يقدم لها درسًا بعدم الوثوق بأحدٍ قط! 
                               ********
وضعت حزام الأمان من حولها، وتابعت انجراف السيارة عن طريق المطعم الخاص باستقبال طلبيات شركات "عمران الغرباوي"، فاستدارت إليه تتساءل بدهشةٍ: 
_إنت رايح فين ده مش طريق المطعم؟ 

لاح على وجهه بسمة مشاكسة، وصاح باستنكارٍ: 
_هو إنتِ فاكرة إني هفكر في غدا ومعايا طبق حلويات بالمكسرات!   طموحاتك ضايعة خالص يا مايا ولازم تفكيرك ينحرف عشان يتماشى مع تفكيري! 

رفرفت بأهدابها بعدم استيعاب لما قال: 
_إنت بتقول أيه؟  وواخدني على فين يا عمران؟ 

استدار برأسه إليها ويده تمسد على حجابها قائلًا بطريقة مضحكة وكأنه يجابه طفلته الصغيرة: 
_حبيب قلبه خايف من جوزه يا ناس!  متخافيش يا عسلية أنا مش بتحرش بالبيبهات الصغننة العسليات اللي زيك أنا عاقل! 

ارتابت مايسان لأمره ومع ذلك طريقته بدلالها جعلها تنخرط بموجة من الضحك وما زاد صدمتها حينما خطف يده يدغدغ بطنها قائلًا: 
_أيوه كده اضحك وفك يا عسلية. 

أبعدت يده وقد احمر وجهها من فرط الضحك، وجسدها يتلوى بالمقعد، فحاولت بصعوبة التماس الجدية والحزم: 
_عمران كفايا، هنزل من العربية بطريقتك المريبة دي صدقني أنا بحاول أفهمك بس كل يوم بكتشف فيك حاجات جديدة. 

ضحك حتى ظهرت غمازاته، وصاح بفتورٍ مضحك: 
_الله بجددلك معايا عشان ميحصلش ملل بينا يا بيبي، ده مزعل حبيب قلبه في أيه؟! 

وجدت نفسها خاسرة أمام لسانه المعتاد على هزيمة من أمامه فتحلت بالصمت وعبثت بهاتفها لتشتت فكرها عنه، فأبعد يده عن الفرام وبحركة خاطفة سحب الهاتف من يدها محذرًا إياها: 
_موبيل وأنا معاكي ممنوع يا بيبي. 

حاولت سحب الهاتف منه وهي تصيح بانفعال: 
_عمران بطل استفزاز اديني الموبيل فاطيما باعتالي وإنكل أحمد كمان باعتلي رسايل. 

هز رأسه نافيًا، واستدار لها بهذا القرب يخبرها بخبث: 
_ممكن اسمحلك بعشر دقايق لو طاوعتيني. 

تجعد جبينها بعدم فهم: 
_أطاوعك في أيه أكتر من نزولي معاك في وقت الشغل،  لسه في كارثة تانية؟! 

اقترب بوجهه منها وقدم خده إليها، فعلمت مقصده، تراجعت للمقعد وربعت يديها أمام صدرها بغيظٍ جعله يقهقه ضاحكًا، فلزمت الصمت وأحجمت غيظها بصعوبة، لتجده يسحب كف يدها وإبهامه يرق بلمساته فوق جلدها الناعم، وقربها إليه يطبع قبلة صغيرة وهو يهمس بصوتٍ هامسٍ: 
_أنا عارف إني بنرفزك من الصبح حقك عليا يا روحي.
وقدم لها الهاتف قائلًا: 
_كلمي اللي تحبيه.. وياريت تكلمي فريدة هانم أنا نزلت وسبتها نايمة عايز أطمن عليها. 

ابتسمت بفرحة وهي تستعيد هاتفها، ففتحت الرسائل وكان أول من أجابته أحمد، فاستدارت لعمران تخبره: 
_أنكل أحمد باعتلي صور لبيت كبير وبيقول أقول رأيي أنا وانت لانه هيشتري البيت ده وهننقل فيه كلنا. 

زوى حاجبيه باستغراب، وردد: 
_معقول ماما تكون هي اللي طلبت كده، مستحيل يأخد قرار زي ده لوحده أكيد هي اللي طلبت بكده.. ازاي والبيت ده كل حياتها! 

ومرر يده بخصلاته المتمردة وهو يتابع بصوت منخفض لم تتمكن من سماعه: 
_للدرجادي الموضوع فارقالها وعايزة تنساه!  

انتبهت لهمساته الخافتة فسألته بشكٍ استنادًا عما حدث سابقًا: 
_عمران انت مخبي عني حاجة؟ 

انتبه لها فصف سيارته فور وصوله لوجهته، واستدار إليها يضم وجنتها بين دفء يده الخشنة، ليجيبها بحبٍ: 
_حبيبتي انتي مش غريبة عشان أخبي عنك حاجة، إنتِ من العيلة وقريبة من ماما يمكن أكتر مني أنا شخصيًا، وعد هحكيلك كل حاجة بس أنا دلوقتي محتاج أفصل من كل حاجة فجبتك معايا هنا... مكاني الخاص! 

التفتت للنافذة المجاورة لها تتفحص مقصده، فانفتر فاهها وهي تراقب ذاك الكوخ الخشبي القابع بجنة من حدائق الزهور وبركات المياه التي تحيطة من ثلاث جهات، وبالرغم من ضخامة المساحة المقام عليها الكوخ الا أنه كان مثيرًا يخطف الأنفاس. 

هبطت مايسان لتنضم بوقفتها لعمران الذي يقدم يده لها، فضمت يدها يده واتبعته وهي تتساءل بانبهارٍ: 
_ده أيه يا عمران؟ 

أزاح نظارته الشمسية السوداء عن عينيه وتأمل ما تتأمله عينيها، مجيبا: 
_كان مخطط يكون مشروع من مشاريع الشركة، بس بعد ما اشتريته اتعلقت بيه ووقفت تنفيذ مشروع الأوتيل اللي كنت هنفذه، خليته ملكية خاصة بيا بس... كل ما بحس بنفسي مخنوق ومفيش مكان حابب أروحه بعيد عن يوسف وجمال باجي هنا.

رددت ومازالت عينيها تراقب كل أنشن صنع ليبرع جمال طلته: 
_المكان يهبل بجد. 

منحها ابتسامة جذابة وسحبها للدرج الخشبي: 
_ولسه من جوه.. تعالي. 

اتبعته للداخل فحرر مفتاحه الباب الخشبي، ودفعه بقدمه فاتبعته للداخل، فوقفت تتأمل التنسيق الخرافي من داخله، كل شيء يحوم بلمسة الخشب الأحمر الرائع، المدفئة، الفراش الحوائط، الأثاث بأكمله، كل شيءٍ وضع بلمسة عتيقة وكأنه يعود لقرون مضت ورفض الانصياع لأي تجديد يقام هنا. 

تسللت عينيها لذاك المقعد المألوف فأسرعت إليه وهي تشير لعمران الذي تابعها باهتمام ليعلم إن كانت ستكتشف الأمر أم لا، وقد أتته تؤكد ظنونه حينما قالت: 
_عمران الكرسي! 

هز رأسه بإيماءة خفيفة لها، وراقبها وهي تركض لتجلس عليه وتتحرك به بفرحةٍ اتبعت حديثها العفوي: 
_كنت بتقعد عليه كل ما بتكلمني فيديو، ولما سافرت لندن كان نفسي أدخل أوضتك عشان أجرب الكرسي ده، ولما أخيرًا نجحت ودخلتها ملقتهوش حتى في الجناح الخاص بينا مكنش فيه، إزاي مجربتش أسالك عنه قبل كده! 

دنى منها ثم قرب الطاولة ليعتليها قبالة وجهها: 
_لإني كنت بحب أكلمك من المكان ده، عشان تعرفي إني من صغري وأنا رومانسي وعاطفي. 

اعتلى الحزن معالمها، فتوقفت عن هز المقعد الهزاز وانحنت بجلستها لتكون قبالته نفس الشيء: 
_وده اللي خلاني أحبك وأتوقع إنك تطلبني للجواز بأقرب وقت يا عمران، معرفش ليه فجأة هدمت كل اللي بينا وبقى في واحدة تانية في حياتك، أربع سنين بعدت فيهم عني وأنا معرفش عملت أيه خلاك تبطل تكلمني أو حتى ترد على مكالماتي! 

خيم الحزن على رماديته، فنزع عنه جاكيته وانحنى قبالتها ليكون على نفس مستواها، حرر حجابها بلمسة خاطفة وضم وجهها بيديه وكعادته يترك إبهاميه يزيحان دمعاتها، وباقي أصابعه تسند رأسها لتبقى منصوب قبالته: 
_حبيبتي كل ده فترة وعدت، أنا قولتلك إني كنت مخدوع ورا شيطاني ونزواتي الحقيرة، بس والله العظيم كل ده اتدفن والميت مستحيل هيرجع أبدًا... مايا أنا بحبك وعايز أكمل حياتي معاكي... عايز يكونلي أولاد منك! 

خفق قلبها بشراسةٍ وعينيها لا تفارق خاصته، وجدها تبعد المقعد للخلف وتنحني قبالته، تختبئ داخل أحضانه خجلًا من نظراته وكلماته، فابتسم وهو يضمها إليه بصدرٍ يرحب بفرارها من مواجهته، وانحنى إليها يقبل خصلاتها بحبٍ وهمس أذابها بين ذراعيه: 
_أنا عنيا وقلبي مبقاش فيهم غيرك يا مايا.. بحبك ونفسي ترضي عني بس! 

وتابع وهو ينحني برأسه لأذنيها: 
_مشاعرك وحبك ليا أنا قادر ألمسهم، مش فاضل غير إنك ترمي أوجاعك كلها وتسلميلي! 

ابتسمت بين ذراعيه ورفعت عينيها إليه تطالبه بأغرب شيء توقعه بتلك اللحظة العاطفية: 
_غنيلي يا عمران. 

تلاقى مقدمة حاجبيه بسخطٍ: 
_ده وقته بذمتك!   ده أنا خطفك من الشركة كام دقيقة يا حبيبتي!

تحرك كتفها بدلال: 
_مزاجي كده. 

منحها ابتسامة خبيثة، ولف ذراعه أسفل ساقيها، لينهض بها بنظراتٍ كانت خطيرة مفهومة وخاصة حينما قال: 
_تعالي أقولك مزاجي أنا بقى جايبني لأيه يا بيبي! 
                               *******
_خبيتي عني كل ده يا شمس؟  ليه هو أنا عايشة في دولة تانية مش معاكي في نفس البيت؟ 

كلمات مستنكرة نطقت بها فريدة وهي تحاول استيعاب ما تخبرها به ابنتها، مرورًا بمحاولة اختطافها نهاية برفع راكان السلاح عليها وتخليص آدهم لها في كل المواقف التي ذكرتها. 

تعالت شهقات بكائها وهي عاجزة عن اجابة والدتها، فتخلت فريدة عن حدتها وفرقت ذراعيها قائلة بصوت حنون: 
_تعالي. 

ابتسمت وهي تركض لأحضان والدتها، ضمتها بقوة وهي تربت على ظهرها، انتابها خوفًا قاتل لمجرد تخيل أن السوء قد يمس ابنتها الوحيدة، وامتنت بالشكر لذاك الآدهم المجهول عنها، فأبعدتها عنها ورمقتها بنظرة مطولة من زرقة عينيها، قبل أن تسدد سؤالها الصريح: 
_بتحبيه يا شمس؟ 

امتقع وجهها بحمرةٍ قاتمة، كيف ستخبر والدتها بهذا الأمر، فرغمًا عنها أومأت برأسها وهي تحاول سرقة نظرة عابرة لوجه والدتها فوجدتها تبتسم وهي تضمها إليها هامسة : 
_مش بقولك فايتني كتير. 

وتابعت بمكر وهي تربت على ظهرها: 
_بكره هنروح أنا وأنكل أحمد بنفسنا نزوره ونشكره بنفسنا على اللي عمله معاكي مينفعش يكون اتصاب ومنعملش معاه الواجب. 

رفعت عينيها الشغوفة إليها وتساءلت: 
_بجد يا مامي هنروح نشوفه؟ 

ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهها، وقالت بخبث: 
_انا وإنكل أحمد انتِ مينفعش تروحي يا قلب مامي علشان الدكتور علي والبشمهندس عمران هينقلبوا ضدك لو جيتي. 

تجهمت معالمها وبات الحزن والخذلان يقمعان عليها، فضحكت فريدة وهي تراقب ما يحدث لها وقالت مستنكرة: 
_شكل الموضوع أكبر من إعجاب بينك وبينه يا شمس... أنا موافقة أخدك معانا بس أوعي علي ولا عمران يعرفوا بده.. عارفة إني غلط بس هعمل أيه سبق ووقعت في الحب قبل كده وحاسة بيكي! 

برقت بدهشة وعدم استيعاب لما قالته، فلفت ذراعيها حول رقبتها وهمست بفرحة: 
_أنا بحبك أوي يا مامي.. بجد بحبك. 

ابتسمت وهي تمسد على ظهرها بحنان، وابعدتها وهي تنهض قائلة: 
_يلا قومي غيري هدومك وأنا هخليهم يحضرولنا الغدا  على الpool تحت. 

وقبل أن تتجه للخروج استدارت تخبرها بارتباك: 
_هاتي فاطمة وإنتي نازلة تتغدى معانا.. وأنا هشوف مايا. 

وأغلقت الباب تاركة شمس في حالة من الصدمة مما يحدث مع والدتها اليوم بداية من تقبلها قصة حبها بآدهم ونهاية برغبتها في وجود فاطمة لجوارها! 
                                    ******

وضع الخط بهاتفه بعد أشهر اتخذها بالاحتراس لاداء مهمته، فكان يحترس بالاتصال التابع لمصر إلى ممرضة أبيه ليطمئن على صحته من وقتٍ لأخر وكان يتحاشى الاتصال به شخصيًا لأنه يعلم بما سيفعله ككل مرةٍ يذهب بها لاحد المهمات، ولكن تلك المرة كان الأمر يتعلق بوالدته. 

واليوم قرر الاتصال بأبيه ليطمئن على صحته فأتاه صوته متلهفًا حزينًا يعاتبه: 
_أخيرًا افتكرت إن ليك أب يا عمر! 

سحب عمر نفسًا ثقيلًا وقال: 
_حقك عليا يا بابا، أنا عارف اني مقصر معاك بس غصب عني صدقني. 

_انت يا ابني مش شايف حاجة في حياتك غير الانتقام لموت أمك ونسيت ان أبوك راجل مريض على وش موت ولا أنا ماليش حق عليك زيها يا عمر!  ناوي تتكرم وتحن على أبوك أمته لما يفارقك هو كمان! 

انتفض ألمًا لسماعه تلك الكلمات القاتلة بالصميم وقال: 
_ألف بعد الشر عليك يا حبيبي متقولش كده، أنا ليا مين غيرك استند عليه! 

اتاه صوت أبيه الباكي، ولأول مرة يستمع إلى بكائه لدرجة زادت من جرح اصابته في مقتل: 
_8شهور يا ابني لا بتسأل عليا ولا بسمع صوتك ولا عارف انت حي ولا ميت، من بعد وفاة امك وأنا خسرتك معاها يا عمر، كنت فاكرك هتعوضني عن فراقها طلعت انت مفارقني معاها، ليه يا ابني أنا مبقاش في عمري الكتير عشان استحمل غيابك وشغلك اللي مبينتهيش.. 

وتنهد وهو يخرج تأويهات مؤلمة: 
_أنا كبرت ومحتاجك جنبي، محتاج أحرر العبئ اللي شلته على قلبي من سنين... عمر أنا علشانك ضحيت بحتة مني يا عمر... وخايف يا ابني أقابل ربنا وأنا شايل ذنبي على كتافي.. عايزك تشيله عني عشان أرتاح. 

ضيق عينيه بعدم فهم، وسأله: 
_أنا مش عارف أيه اللي وصل حضرتك للحالة الغريبة دي من فضلك اهدى وفهمني مالك؟  ذنب أيه اللي تقصده؟ 

زفر بقهرٍ وهو يخبره برجاء: 
_ارجع مصر أنا محتاجك... ووقتها هصارحك بشيء خبيته عن أمك وعنك طول السنين دي كلها، أنا عارف إنك ممكن تنكسر بعد اللي هتعرفه بس واثق انك هتساعد أبوك ومش هتتخلى عنه يا عمر. 

فرك جبينه بارهاق وعقله لا يتوقف عن فهم مضمون حديث أبيه، فقال: 
_حاضر يا بابا.. أوعدك اني هرجعلك بأقرب وقت بس اديني على الاقل كام يوم أرتب نفسي بس. 

_ولا يوم يا عمر.. أنا معتش عندي صبر لفراقك سامعني! 

صارحه بحقيقة الأمر وإن لم يكن بحبذ ذلك: 
_بابا أنا انتقمت من اللي كان السبب في موت أمي، وخلاص مهتمي انتهت بس محتاج الوقت ده لإني آآ... لاني مصاب بس متقلقش أنا كويس والله والجرح سطحي، يومين تلاته بس أقدر أقف على رجليا وهرجعلك يا حبيبي.. هرجع تحت رجليك أطلب عفوك عني أنا غصب عني فارقتك مكنتش هتحمل أعيش وأنا عارف إن أمي اتخدت غدر بسبب ولاد ال** اللي دخلولها الموت بالدوا أنا دلوقتي مرتاح.. 

استمع لصوت بكائه من جديد، فتوسل له: 
_عشان خاطري دموعك بتزيد وجعي، أنا راجع والله وهسمعك ومهما كان اللي مخبيه صعب أنا جاهز أتقبله.. انت مش كان نفسك اني أتجوز وأملى البيت ليك أحفاد.. ابسط يا عم لقيت بنت الحلال اللي دخلت قلبي ومزاجي. 

توقف عن البكاء وسأله بلهفة: 
_بجد يا عمر... مين؟ 

أجابه بابتسامة رسمت على وجهه: 
_مش هتعرفها يا حبيبي لانها من هنا بس متقلقش مش خواجية.. أهلها ناس محترمين ومقمين هنا من سنين... إنت يعني تايه عن نقاوة سيادة الرائد ولا أيه؟ 

ضحك الاخير وأخبره: 
_متنزلش غير لما تشبكها. 

شاركه الضحك وقال بمشاكسة: 
_هكتب عليها قبل ما أرجعلك.. انا معنديش خلق للخطوبة والكلام الأهبل ده وبصراحة أخاف تضيع مني لإنها يتطمع فيها بصراحة. 

قهقه ضاحكًا وأزاح دموع عينيه قائلًا: 
_وهي هتلاقي فين أحسن من عمر الرشيدي، يالا ده أنت طول بعرض بهيبة بجمال، طالع لابوك طول عمرك تقتل قلب النسوان بطرف عينك بس.

انفرط عمر بنوبة من الضحك ومازحه: 
_عشان كده وفاء اتكلت بدرى  وسابتك يا حاج. 

رد عليه بعاطفة: 
_وحشتني أوي.. البيت من غيرها قبر يا عمر. 

تألم قلبه وأدمعت عينيه، فأزاح دمعته وصاح بصرامة: 
_بقولك أيه يا توفيق يا رشيدي فكك من جو الصعبنيات ده وقولي اللي عايز تقولهولي.. شكلك كده عايز تلعب بديلك وتتجوز بعد وفاء صح؟  

ردد ساخرًا:
_هو أنا فيا حيل أصلب طولي يا عبيط، أنا لولا الممرضات اللي معايا هنا في البيت كان زماني اتكلت من زمان. 

_بعد الشر عليك يا حبيبي متقولش كده تاني، أنا محتاجك جنبي.. عايزك جنب أولادي في وقت ممكن أكون فيه مش جنبهم وفي شغلي. 

صمت قليلًا ثم قال: 
_لو ربنا مد في عمري لحد اللحظة دي هيكون فضله كبير عليا أوي يا ابني، لكن أنا كل اللي بتمناه تحققلي طلبي الأخير قبل ما أموت. 

_طلب أيه؟ 

_قولتلك ده سر هقولهولك لما ترجع وهتحتاج تكون فيه الرائد عمر الرشيدي مش ابني اللي ربيته، وظيفتك هتساعدك توصل للي أنا بدور عليه لحد النهاردة ومش قادر أوصله... أنت تقدر يا عمر تجمعني بيه. 

_بمين؟  أنا ليه حاسس انك مخبي حاجة كبيرة؟ 

_هي كبيرة فعلًا يا ابني... ارجع أرجوك. 

_حاضر يا حبيبي، يومين تلاته وهرجع بإذن الله.. خد بالك انت بس من صحتك وأنا أوعدك مش هتأخر عليك.... في رعاية الله. 

أغلق عمر الهاتف ووضعه جانبًا ومازال حديث أبيه المبهم يجتاز عقله، ترى ما الشيء الهام الذي يخفيه عنه وفجأة قرر البوح عنه؟ 

انقطع تفكيره فور سماع دقات باب غرفته، فنهض يتكأ على كتفه وفتح الباب ليتفاجئ بشابٍ من أمامه يبتسم له ويتساءل: 
_أخبارك أيه النهاردة يا رب تكون بقيت أفضل؟ 

ضيق عينيه بتعجبٍ وراح يخمن: 
_إنت جمال؟ 

هز رأسه بالنفي وقال وهو يقدم يده ليصافحه: 
_أيوب صاحب سيف.. 

تذكر أمره المتناقش بالافطار فضحك وهو يصافحه قائلًا: 
_أيوه إنت صديق دكتور سيف اللي عامل عليك كماشة. 

ضحك بصوته الرجولي مؤكدًا له: 
_بالظبط كده.. أنا لسه مخلص شغل واستلمت مكالمة من دكتور يوسف بيأكد عليا أعملك الغدا وأكلك بنفسي  وطبعًا طلباته أوامر.. عشان كده جهزتلك شوربة خضار وفراخ.. مردتش أزعجك من وقت ما رجعت لتكون نايم بس سمعت صوتك من شوي. فعرفت انك صاحي.. تسمح بقى تخرج تتغدى. 

تابع حديثه الطويل بتمعنٍ، وقال بابتسامة جذابة: 
_مالوش داعي والله التعب ده كله، كفايا تعب يوسف وعمران وعلي معايا. 

اسنده أيوب وخرج به للردهة قائلًا: 
_تعب أيه بس... يلا بس عشان معاد الدوا لو يوسف رجع من العيادة ملقاش الدوا اتخد هينفخني. 

شاركه الضحك حتى وصل به للأريكة فعاونه أيوب على الجلوس ومن ثم وضع الصينيه المستديرة أمامه، فحاول عمر رفع يده ليتناول الملعقة ولكن ألمه كتفه كثيرًا فاستسلم للخضوع جواره. 

تفحصه أيوب بنظرة شاملة وهو يسكب كوب المياه ويضعه من أمامه، فجذب الطبق والملعقة وقربها إليه قائلًا بمرح: 
_يا رب بس أكلي يعجبك أنت عارف طبيخ رجالة الغربة أشبه بطبيخ زنزانة السجن كده. 

وتابع باستفهام: 
_صحيح إنت ظابط ممكن تكون جربت أكل السجون قبل كده يعني سهل تتقبل أكلنا! 

انفجر آدهم ضاحكًا وتابعه أيوب بقوةٍ، فهمس له بصعوبة بالحديث: 
_متقلقش أنا كظابط متعود التأقلم على أي شيء.. ناولني المعلقة وأنا على يقين انها هتكون أطعم من السم اللي بنضطر نشربه بالتدربيات. 

ضحك وهو يقدمه إليه فأوقفه آدهم قائلًا: 
_استنى... شيل البسلة من الشوربة مش بحبها. 

ابتسم أيوب وأزاحها بالملعقة وهو يخبره: 
_وأنا كده مع إنها أساس شوربة الخضار بس بكرهها. 

ابتلع آدهم الملعقة من يد أيوب وحينما ابتلعها تحركت يده تلقائيًا لكوب المياه في نفس لحظة نطق أيوب: 
_ولما بتجبر أشربها بشرب بوق مية بعد كل معلقة! 

أخفض آدهم الكوب عن فمه بعدما ارتشف رشفة واحدة منها ليقابله بنظرة مندهشة والمياه داخل فمه بينما الاخير يبتسم مرددًا بعفوية: 
_شكلنا منسجمين في كره البسلة وشرب المية! 

ابتلع وهو يبتسم له بمحبة كبيرة لا يعرف سببها، وراح يسأله: 
_إنت بتشتغل هنا ولا بتدرس ولا حكايتك أيه؟ 

أفشى حبات البسلة عن الملعقة وناولها لآدهم وهو يجيبه: 
_حكايتي بقت أشهر من فيلم سينما لسه امبارح حكيها لعمران والنهاردة هحكيها ليك.. بس تمام هقولك نفس الكلمات المختصرة ابن الابن الوحيد للشيخ مهران بعد عشرين سنة حرمان من الخلفة وجيت هنا ادرس رغمًا عن أنفه لانك عارف بقى فراق الولد الوحيد والقصة اللي يمكن تكون غريب. عليك. 

قاطعه بنزق: 
_لا مش غريبة عليا لاني وحيد أبويا وأمي بردو. 

ضحك وهو يشاكسه: 
_إنت شبهي حتى في الوحدة أيه ده اوعى تكون كمان زميلي! 

تعالت ضحكاته وهو ينفي ذلك قائلًا: 
_أنا أكبر منك بسبع سنين يا بشمهندس. 

ابتسم وابتسامته لا تفارقه أمام هذا الرجل الغريب الذي احبه أكثر من باقي الشباب وارتاح لمجلسه، فتابع الاحاديث فيما بينهما حتى نهض ليحضر له الادوية، فجلس جوار آدهم وأفرغ محتويات الحقيبة، تفحصها وهو يردد: 
_أمممم... أربع حبوب دلوقتي وتلاتة بعد العشا.. خلينا في دلوقتي. 

وانحنى يسكب كوب من المياه ثم أفرغ بيد آدهم أول حبة، فهز رأسه نافيًا وقال: 
_حط الأربعة. 

تابع أيوب وضع باقي الحبوب بابتسامة مندهشة وتابعه بترقب لما سيفعل، لينصدم بشدة حينما ابتلع آدهم المياه بجوفه وفجأة ألقى بعدها الحبوب ليبتلعهما معًا وحينما استقام بجلسته نظر له باستغراب لطريقة تطلعه إليه وقال بشك: 
_مالك؟  

أجابه أيوب بدهشة:
_كنت فاكر إني الوحيد اللي بأخد الدوا بالطريقة الغريبة دي!!  

وتابع بنفس النبرة وعينيه تحوم بالفراغ: 
_انت حكايتك أيه بالظبط يا حضرة الظابط، نفس التقزز من البسلة وشرب المية ودلوقتي نفس طريقة شرب الدوا إنت عايز تصاحبني عن قناعة إننا شبه بعض ولا أيه؟؟ 

تمردت ضحكاته الرجولية الصاخبة وردد بمشاغبة: 
_ليه أنا مش واطي لدرجة إني أعمل مشاكل بينك وبين دكتور سيف في أول لقاء بينا، اضحك وهزر معايا براحتك وأول ما يرجع معرفكش. 

وجده يحاول التمدد على الأريكة فأسرع إليه يعاونه، ووضع خلف ظهره وسادة صغيرة، فشكره آدهم وردد بارهاق: 
_تسلم ايدك يا بشمهندس.. أنا بأخد الدوا ده ومعرفش أيه بيحصلي بروح في دنيا تانية. 

منحه أيوب ابتسامة هادئة وقال: 
_أنا هدخل أذاكر جوه لو احتجت أي حاجة ناديني. 

هز رأسه إليه قبل أن ينساق لنومٍ ثقيل جعل الأخير يتسلل بحرصٍ حتى لا يوقظه، ومازالت الابتسامة والمحبة تحيطه تجاه هذا الرجل الذي أسعد كثيرًا بالتعرف عليه. 
                               *******
وصل علي بسيارته للمنزل فهبطت زينب ولحق بها، كانوا بطريقهما للداخل حينما استوقفهما نداء شمس من حديقة المنزل، فأشار لها بأن تتبعه وإتجه لطاولة الطعام الضخمة القريبة من المسبح، فأشارت شمس لزينب بالجلوس لجوارها بينما ظل علي محله لدقيقة لا يصدق ما يراه، والدته تجلس جوار فاطمة وكلتاهما تتبادلان الحديث بهمس منخفض وكأن بينهما العديد من الأسرار، تنحنح بخشونة حينما نادته فريدة بدهشة: 
_واقف عندك كده ليه يا علي؟   

حرر زر جاكيته وجلس بالمقعد المقابل لفاطمة التي منحته ابتسامة أهلكت جوارحه، فتعلقت عينيه بها لا سواها. 

قربت فريدة طبق الدجاج المتبل من زينب وسألتها بابتسامة بشوشة: 
_طمنيني يا زينب يومك الأول بالجامعة كان لطيف؟ 

ارتبكت للغاية فور تذكرها ما حدث ومع ذلك تلاشت أي ذكرى قد تدفع أحدًا لسؤالها عما أصابها، وقالت: 
_الحمدلله يا فريدة هانم... أول ما خلصت محاضراتي رجعت على طول. 

هزت رأسها ببسمة هادئة ثم استدارت جوارها تتساءل بدهشة: 
_مش بتأكلي ليه يا فاطيما الأكل مش عجبك ولا أيه؟ 

ارتبكت من اهتمامها الغريب منذ الصباح، وتناولت شوكتها تدفعها بقطع الدجاج: 
_لا بالعكس الأكل جميل جدًا.

اتجهت أعين علي لشمس يشير لها بصدمة، فغمزت له بضحكة مشاكسة تؤكد له صفاء الاجواء بين والدته وزوجته منذ فترة لا بأس بها.. 

_أيه ده بتتغدوا من غيري!! 

نطقها من يقترب ليحتل مقعده جوار فريدة منحني على رأسها مقبلًا إياها بهمس وصل للجميع رغم انخفاضه: 
_أيه الجمال ده كله. 

اختلجت معالمها وهمست على استحياءٍ: 
_الاولاد قاعدين يا أحمد عيب! 

منحها ابتسامة غير عابئة، واقتبس نظرة لعلي قائلًا: 
_دكتور علي فينك يا راجل؟ 

ابتسم باستمتاعٍ وهو يتابع انجذاب والدته به  وقال بمشاكسة: 
_أنا اللي فيني يا عمي، ولا أنت اللي من ساعة ما اتجوزت فيري واختفيت من الوسط كله ونسيت أصحابك الأوفياء! 

انطلقت ضحكاته بصوتٍ جعلها تبتسم وهي تراقبه بعشقٍ، وقال: 
_هدي اللعب يا صحابي يا وفي، أنا لسه مبقاليش كام ساعة متجوز لحقت تدخل في اسطوانات هتطول معانا الفترة الجاية. 

وتابع وهو يدفع هاتفه إليه: 
_بص على البيت ده كده وقولي رأيك، أنا خلاص خلصت فيه وبكره  هأخد فريدة ونكتب العقد.

حمل علي هاتف أحمد وتساءل بحيرة: 
_بيت لمين؟ 

أجابه أحمد وهو يلتقط الطبق الذي أعدته فريدة له: 
_لينا يا علي.. هنسيب البيت ده وهننتقل للبيت الجديد لو عجب فريدة ومعندهاش أي اعتراض. 

وزع نظراته بينه وبين والدته بدهشة، ولم يرضخ فضوله لما يحدث خاصة بعلمه بمكانة المنزل لوالدته فقال: 
_ده قرار حضرتك ولا قرار مين؟ 

أجابته فريدة بعصبية بالغة أوشكت أعراضها لنوبة يعلمها علي جيدًا: 
_قراري أنا يا علي.. أنا اللي طلبت من أحمد يشوفلنا بيت تاني نعيش فيه لاني مش قادرة أعيش هنا بعد اللي اكتشفته عن الحقير اللي كنت متجوازه... هتعارض قراري وتفضل هنا ولا هتيجي معايا؟ 

توسعت أعين شمس من سماع حديث والدتها، وهتفت بتعجب: 
_ليه بتتكلمي على بابي بالطريقة دي! 

تدخل أحمد بالحديث بضيق من طريقة حديثها وقال: 
_مفيش حاجة يا شمس، مامي بس متنرفزة شوية ومش عارفة هي بتقول أيه..

نهضت عن مقعدها بغضب: 
_قصدك أيه يا أحمد قصدك اني مجنونة!! 

نهض قبالتها يحاول تهدئتها بنظراته المحذرة لها: 
_مقصدتش يا حبيبتي، أنا بس بحاول ألفت نظرك ان أعصابك مشدودة في وجود شمس والبنات. 

وبإشارته لاسم ابنتها بالأخص جعلها تبدأ بالاسترخاء قليلًا، فاستدارت تجاههم وقالت ببعض التوتر: 
_أنا مرهقة شوية ومحتاجة استريح... عن اذنكم. 

وتركتهم ورحلت ومن خلفها أحمد الذي ترك طعامه ولحق بها للاعلى. 

ما أن تأكدت شمس من ابتعاد والدتها حتى تساءلت بحيرة: 
_مالها مامي يا علي وليه قالت الكلام ده على بابا! 

رفع ذقنه المستند على ذراعه وقال بهدوء:
مفيش يا شمس زي ما أنكل أحمد قال كده فريدة هانم مرتبكة شوية يمكن لإنها لسه في بداية علاقة جديدة بعد ما رفضت الارتباط سنين طويلة. 

واستكمل وهو ينهض عن الطاولة: 
_كملي أكلك يا شمس وشوفي زينب مأكلتش حاجة من ساعة ما قعدت شكلها لسه مكسوفة. 

هزت رأسها تنفي اتهامه: 
_بأكل والله حتى شوف. 

منحها ابتسامة صغيرة، بينما يدنو من فاطمة فانحنى إليها يخبرها بابتسامة صافية: 
_خلصي أكلك وأنا مستنيكِ فوق عشان نبدأ جلستنا النهاردة.

أومأت برأسها بخفة، فتعمق بنظراته تجاهها وكأنه يضمها ضمة جعلتها تشعر بطيف يحيط بها، فتابعت عمق رماديته بتوترٍ، وعادت أنفاسها لطبيعتها فور استقامته واتجاهه للأعلى، فوزعت نظراتها بين شمس وزينب وهي تحمد الله بأن كلتاهما تتشاركان الحديث ولم تلاحظ أحداهن اقترابه منها لهذا الحد. 
                                  *****
انتهت من ارتداء حجابها واستعدت للمغادرة، فوجدته يقف بالأسفل فاستقبلها بفتح باب السيارة قائلًا بغمزة:
_سمو الملكة.. 

ابتسمت وهي تفرد التنورة وتنحني قائلة بدلال: 
_مولاي الملك. 

انطلقت ضحكاته فأمسك معصمها قبل أن تدخل مقعدها وقربها إليه يهمس بخبث: 
_مولاكِ الملك راضي عنكِ كل الرضا يا فتاة.. استغنى بكِ عن كل الجواري. 

ضحكت بصوتها كله وقالت: 
_عليك بالاستغناء عنهم والا استغنيت عن روحك مولاي. 

اتفلتت سيل ضحك من عمران ولم يستطيع التوقف حتى بعد صعوده للسيارة، فتحرك بها على الفور. 

راقبته مايسان ببسمة حالمة، وحاولت جاهدة أن تجلي صوتها قائلة: 
_عمران. 

أجابها ومازالت عينيه على الطريق: 
_حبيب قلبه! 

كبتت ضحكاتها وهي تفجر قنبلتها: 
_في خبر مش لطيف عايزة أقولهولك بس مش عارفة ازاي. 

حانت منه نظرة مهتمة لها: 
_اتكلمي يا مايا.. في أيه؟ 

قوست شفتيها بنفورٍ: 
_نعمان جاي لندن. 

أوقف سيارته بسرعة جعلتها تحتك بالرصيف مصدرة صوتًا مزعجًا، واتجه بوجهه لها: 
_مين؟!!    لأ متقوليش.. متتكلميش...ياااااه على الرزالة والخبر الملزق اللي يصد النفس بعد المتعة ده.. 

ضحكت على ما يحدث معه، فقد كان حالها يشبهها منذ أن علمت بالخبر المجيد وقالت: 
_مش عارفة الاسبوعين اللي هيقعدهم هنستحمله ازاي، بصراحة خالك ده أرزل خلق الله ومعرفش خالتو بترحب بيه ليه في بيتها. 

رفع احد حاجبيه باستنكارٍ: 
_هو خالي لوحدي!   مهو خالك إنتي كمان. 

أخفضت رأسها بتهكمٍ صريح: 
_مش بحبه ولا عمري حبيته، ده بيعشق الأذى للخلق.. فاكر يا عمران كان بيضربنا ازاي واحنا صغيرين وفريدة هانم مكنتش بتصدقنا وبتصدقه هو! 

تلون وجهه بغضبٍ قاتل، وعاد يقود سيارته متأججًا بعصبية قوله: 
_كان زمان الكلام ده، أنا بقيت أطول منه الوقتي.. أقسم بالله لو مقعدش باحترامه المرادي لاشخلعه ولا هيهمني مخلوق. 

كبتت ضحكاتها وقالت تزيد من غضبه الصاعد: 
_أنا مش متخيلة هيعمل أيه لما يعرف إن خالتو كتبت ورثها في أسهم الشركة ليك إنت وعلي وشمس، انت مش عارف هو كان مقهور ازاي لما مامي الله يرحمها كتبتلي ال25في المية باسمي ورفضت تبيعله نصيبها ودلوقتي ال25 التانين بقوا ملك ليك ولاخواتك.. صدقني هيموت لانه كان حاطط أمل إن فريدة هانم تبيعله وبكده عدد أسهمه هيعلى وشركة العيلة هيكون هو المساهم الأكبر فيها. 

سحب نفسًا صاخبًا، وصاح بتريثٍ: 
_قبل ما يوصل لازم أروح شركة الغرباوي بكره أرتب شوية حاجات، علشان أكون جاهز للقائه اللي يصد النفس ده... مالقاش غير الوقتي ويجي بروح أمه! 

كبتت ضحكاتها بصعوبة، ورددت ببراءة مصطنعة: 
_عمران ما تكسب فيا جميل وتشتري أسهمي أنا مش عايزة أي شيء يجمعني بنعمان الغرباوي.. أقفله إنت زي ما أنت متعود بقى. 

خطف نظرة مندهشة لها، وصاح ساخرًا: 
_حبيب قلب جوزه الجبان بيخلع وعايز يدبسه مع نعمان يا ناس.

تعالت ضحكاتها وأقرت له: 
_جبان جبان يا عمهم مش أحسن ما أقف قدامه ويضربني زي ما بيعمل كل مرة، ده أيده طويلة ولسانه سليط. 

اقمع وجهه بغدافية مخيفة، فمنحها نظرة صارمة وصاح بعنفوان: 
_ده أنا كنت كسرتله ايده بروح أم اللي جابوه.. أقسم بالله العلي العظيم لو عادها تاني ورفع ايده عليكي لاقطعاله.. خلاص العيل الصغير اللي كان بيضحك عليه بالcandy كبر وبقى راجل وقد كلمته. 

عصبيته جعلتها تتراجع عن حوارها المرح، فقربت يدها من يده المتحكمة بالفرام وقالت ببسمة هادئة: 
_ده اللي أنا واثقة منه، علشان كده مش خايفة من لقائه المرادي طول ما أنت موجود جنبي أنا مطمنة يا عمران. 

انزاح غضبه وتبدد كمن لم يحضر له، وتمسك بالمقود بيد واليد الاخرى يقربها لصدره هامسًا بعشق: 
_حبيب قلبه إنتي يا مايا... يا روحي أنا أفديكِ بعمري وبكل ما أملك.

أغلقت عينيها بقوةٍ وانسجام، فتابع القيادة بتركيزٍ حتى انجرف لطريق المنزل، اعتدلت بجلستها وتساءلت باستغراب: 
_احنا رايحين تاني فين يا عمران... مش قولت وراك شغل كتير وآ.. 

قاطعها حينما أجابها بغمزة جريئة: 
_هوصلك البيت ترتاحي شوية كفايا الارهاق اللي بذلناه بعد المجهود ده. 

لكزته بقوةٍ وهي تصيح بغيظ: 
_إنت وقح! 

ادعى برائته وهو يشير لها: 
_أنا غلطان اني خايف عليكي من ضغط الشغل اللي انتي فيه من الصبح. 

زمت شفتيها بسخط: 
_هو أنا لحقت اشتغل!! 

هز رأسه بموافقة لما قالت وهمس لها: 
_اعتبربه أخر يوم ليكي في شركاتي ده لو انتي خايفة على مركزي وشغلي، لكن شركة الوراثة مقدرش أمنعك منها ولا من لقاء الخال نعمان الملزق! 

انتابها النفور من ذكر اسمه وقالت بسخرية: 
_دي أول شركة هتنازل عنها.. أنا مش عارفة هقول لانكل أحمد الخبر ده ازاي، شوف هو ابن عمه وعلى الرغم من كده مش بيطيقه. 

قال بنزق: 
_بلاش تقوليله الراجل عريس جديد ومحتاج أعصابه سبيه يتأخد الصدمة بكره خبط لزق. 

هزت رأسها بتأكيد وحملت حقيبتها ثم فتحت الباب لتغادر قائلة بابتسامة رقيقة: 
_هتتأخر؟ 

حك ذقنه النابتة بحرجٍ: 
_بصراحه هتأخر لاني بعد الشغل هعدي على سيف أطمن على آدهم.. أنا عارف إني المفروض أقضي معاكي وقت أطول من كده بس غصب عني الظروف كلها جايه مع بعضها. 

ارتسمت الحزن على معالمها وقالت بعتاب: 
_أيه اللي بتقوله ده يا عمران.. من غير اصابة آدهم أنا عارفة إنك بتحب تقضي وقت مع يوسف وجمال زي ما أنت متعود فأنا مستحيل الحاجة اللي تفرحك تزعلني بالعكس بكون سعيدة لما بشوفك فرحان. 

واستطردت بابتسامة أبهجته: 
_وعلى فكرة إنت مش مقصر معايا علشان تقول الكلام ده.

منحها بسمة جذابة، ثم قال: 
_ابقي طمنيني على فريدة هانم ومتنسيش تدي السلسلة اللي ادتهالك لشمس. 

هزت رأسها بخفوت وأغلقت الباب من خلفها ثم ولجت للمنزل بينما غادر هو للشركة مرة أخرى. 
                                ******
استمع دقات خافتة على باب الغرفة، فابتسم لعلمه بمن الطارق، انطلق صوته الخافت يردد: 
_تعالي يا فطيمة. 

ولجت للداخل بخطوات مترددة، حتى باتت قبالته فنهض عن مقعد مكتبه الصغير واتجه ليقف قبالتها مشيرًا للمقعد المقابل إليه مشيرًا: 
_اتفضلي. 

جلست قبالته وترقبت ما سيقول، فجذب علي قهوته الساخنة يرتشف منها على مهلٍ، ثم قال: 
_النهاردة يومنا هيكون مختلف.. عايزك تكلميني عن نفسك يا فطيمة.. وعن اخواتك.. زينب قالتلي إن عندكم أخين ومع ذلك لما كنتي بتتكلمي شوقك وحنينك مكنش غير لزينب ليه؟ 

امتعضت معالمها فور تذكرها لاشقائها، فاخفضت عينيها اللامعة بالدمع أرضًا وصوت اضطراب أنفاسها تحذره مما سيخوضه معها، فأسرع بالحديث: 
_تحبي نأجل كلام في الموضوع ده؟ 

هزت رأسها بالنفي وقالت دون أن تقابل عينيه: 
_أنا وزينب ملقناش حنان في حياتنا غير من والدي ووالدتي يا علي، اخواتنا الاتنين زي عدمهم مفيش واحد فيهم يعنيه أمرنا، أنا طول الايام اللي فاتت كان شاغلني زينب عايشة معاهم ازاي وهما ميعتمدش عليهم، كأننا مش اخواتهم، أنا أخويا الصغير كان عايز يعيش دور الرجولة علينا فكان كل حاجة يتحجج ويضربنا وراضي نفسه كده إنه راجل. 

اهتز جسده بعنف لتخيله ما عانته طوال حياتها، الا يكفيها الاعتداء الذي تعرضت له، شعر بتثاقل صدرها من فرط احتباس دموعها فجذب يدها لتنهض إليه تستكين باحضانه، يده تربت على خصرها وهو يهدهدها كطفلته الصغيرة. 

اتخذت ثواني معدودة حتى رفعت يديها معًا تحيط عنقه ومسكن أوجاعها ومهدأها الوحيد هو ضمته القوية ورائحته التي تهييء عقلها للابتعاد عما سيزورها الآن. 

استكانت لدرجة جعلته يسترخي بجلسته هو الأخر، ففرده وجهها على كتفه وقالت بصوت رقيق: 
_أنت الراجل الوحيد اللي قابلته وحسسني آني بني آدمة.. إنت الوحيد اللي رجعني للحياة بعد ما ضاع طريقها عني.. أنا بحبك أوي يا علي.. بالله عليك متبعد عني في يوم من الأيام. 

أبعدها عنه ليتمعن بعينيها بدهشة، وردد بعتاب مؤلم: 
_ده شكل واحد ممكن يبعد أو يتخلى عن روحه يا فطيمة... أنا متمنتش في حياتي حد غيرك.. أنا كنت فاكر إن الحياة العملية بين اتنين متفهمين هو الحب لحد ما قابلتك إنتِ، خلتيني أحس إني انسان تافه ومعدوم الخبرة، ميعرفش يعني أيه انسان قلبه دق واتعلق.. أقصى سعادتي إني أشوف ابتسامتك أو أشوفك سعيدة.. أنا مبقدرش أنام غير وأنا مطمن إنك عديتي من النوبة والكوابيس اللي بتجيلك كل يوم.. أنا كلمة بحبك دي بتظلمني أنا يا فطيمة لإن كلمة الحب ولا العشق هتقدر توصلك اللي في قلبي ليكي! 

اتسعت ابتسامتها فأنارت ظلمة قلبه، استند علي على جبينها وطالعها بصمت وسكون، فوجدها تستكين على جبينه مثلما يفعل. 

تردد قليلًا فيما سيفعله الآن ولكن عليه خوض مجازفة تحقق انتصارًا كاملًا لخطوات علاجه، فانحنى لها يختطف من رحيقها بتوازن وعقلانية جعلتها تتجمد بين ذراعيه فانصعق من فكرة انهدام كل ما فعله لعلاجها وكاد بالتراجع، ولكنه تصلب محله حينما وجد يدها تستند على كتفه وكأنها تصرح له تقبلها الأمر ومع ذلك هزم رغبته الطائشة وابتعد حتى لا تخشاه أبدًا فيدمر كل نقطة ايجابية حققها مع حالتها الشبه مستحيلة. 

راقبها علي بعد انفصاله عنها فوجدها تتجه بعينيها لأي مكان بالغرفة بعيدًا عن عينيه وجهها ملتهب كمن تعاني من حرارة قاتلة، ابتعدت فجأة وأسرعت لباب غرفتها، فلحق بها يناديها: 
_فطيمة... لسه الجلسة مخلصتش ارجعي للكرسي بتاعك. 

تشبثت بطرف فستانها الوردي وهي تلعن ذاتها داخلها بأنه نفسه طبيبها المتخصص، الا يكفيه ما فعله وجعلها تكاد لا تود أن تريه وجهها بحياته قط، عادت للمقعد وهي تتحاشى التطلع إليه فابتسم بمحبة لها، وحاول أن يبدو طبيعيًا حتى يعاونها لتكسر حالة خجلها المميتة، فازدرد ريقه ليخرج صوته ناعمًا عكس خشونته: 
_فطيمة.. بصيلي! 

هي الآن على وشك دفع المزهرية بوجهه حتمًا، ومع ذلك رفعت عينيها لرماديته فوجدته يسألها بجدية تامة: 
_في نقطة مش فاهمها وكنت حابب أسالك عنها من زمان. 

تنحنحت بخفوت وسألته: 
_نقطة أيه؟ 

قال وهو يدنو بجسده منها: 
_بالبداية لما استلمت ملفك وكلمت مراد عنك علشان أحاول أفهم اللي حصل معاكي بالتحديد قالي إنك كنتِ من البنات اللي تم ابتزازهم وتصويرهم في سكن الجامعات وده كان سبب دخولك للمكان ده، ولما انتي اتكلمتي وحكيتلي قولتلي انك اتخطفتي وانتي كنتي مع والدك في مشوار أعتقد، أنا مش فاهم ليه في مدخلين للقصة؟ 

لعقت شفتيها بارتباكٍ، وقالت: 
_لإن ده اللي مراد فهمه فعلًا ومجتليش فرصة أصححله فيها اللي حصل. 

_مش فاهم!! 

استفاضت بشرحها قائلة: 
_أنا لما مراد دخلي الاوضة دي وقالي إنه ظابط وجاي يساعدني خفت إنه يكون واحد منهم وبيعمل عليا حوار علشان يعرف إذا كان حد كشف اللي حصل وممكن يبلغ فمكنتش قادرة أثق فيه بالبداية فقولتله اللي سمعت أغلب البنات بيقوله لإني خوفت أعرفه إني كنت مع أبويا ليكون واحد منهم أكون بكده عرضت أبويا للخطر، كفايا اللي عشته جوه المكان ده.. لكن بعد كده محصلش مناسبة او موقف خلاني أصححله كدبتي.. والموضوع أساسًا مكنش له لزمة نهايته اني خرجت من المكان ده أنا وهو والبنات. 

منحها ابتسامة ثابتة وأغلق دفتره قائلًا بمزح: 
_الجلسة انتهت وأنا عارف إن الكلمة دي بتغسلك من جوه، عايزة تتخلصي مني بسرعة البرق كأني عملك الأسود وأنا دكتور.. 

ضحكت بصوتٍ أطربه، ورددت قائلة بسخرية: 
_والله بقى إنت أدرى بعملك إذا كان أسود ولا أبيض. 

أسبل باستنكار: 
_بقى كده ماشي يا فاطيما... أنا بقى بما إني دكتورك المعالج هكتبلك على حقنتين كده بديل المهدأ. 

انتفضت بجلستها بذعرٍ واستعدت لتمجد به: 
_إنت مفيش في طيبة ونقاء قلبك يا دكتور علي، إنت أجمل وأحسن دكتور في لندن والعالم كله، عمل مين اللي أسود ده أنت هتعدي الصراط على الجنة حدف. 

سقط ضاحكًا من فرط انطلاق ضحكاته، وردد بصعوبة: 
_أتمنى والله تكون من قلبك ربنا هيغفرلي سيئاتي علشان دعوات زوجة صالحة زيك بس أوعي تكون من ورا قلبك يا فطيمة هدخل السعير! 

تابعت وجهه الضاحك بابتسامة رقيقة جعلته يكف عن الضحك ويتمعن بعينيها الصافية، ابتلعت بارتباك ونهضت تخبره: 
_هروح أشوف زينب. 

أمسك معصمها يوقفها: 
_اقعدي معايا شوية. 

ابعدت كفه بخجل قائلة: 
_مش قولت إني هبات معاك النهاردة، يبقى سبني اطمن عليها لإني حاساها مرتبكة من ساعة ما رجعت من الجامعة. 

تهللت أساريره لتذكرها حديثه، فقال بلهفة: 
_هستناكي متتأخريش عليا، علشان هسهرك سهرة ملوكي حتة فيلم هيعجبك أوي. 

هزت رأسها وغادرت بابتسامتها الرقيقة، فتابعها حتى أغلقت الباب من خلفها، فعاد لمقعده يتابع حديثه مع يوسف لاختيار الاجهزة وغيرها من المكينات والتجديدات اللازمة للمركز. 

                     *******
بشقة أيوب. 

ما أن أعادت فتح جهازها حتى ورد لها رسائل عمها المتعددة لأربعون رسالة أخرهم 
«آديرا إن لم تقتلي هذا الارهابي سأقتلك بيدي هذة.» 
رسالة اخرى
«أيتها العاهرة كيف ظل على قيد الحياة، ستظلين ضعيفة هكذا حتى مماتك، أتتركين قاتل أخيكِ يحيى بسلامٍ!» 

أغلقت آديرا الهاتف وألقته بعيدًا عنها بغضب، ونهضت تبحث بمنزله عن أي مالًا أو أي شيء يمكن أن تبيعه ومن خلال ثمنه تستأجر من يقوم بما تفشل هي بفعلته، فوجدت باحد الادراج عدد من الصور تخص أيوب وأخيها، لاحظت فيها أخيها يبتسم من قلبه ويضم أيوب بمحبة جعلت عينيها تدمعان ورددت بخفوت: 
_ليتك لم تثق بذلك الإرهابي كل تلك الثقة، لقد خذلك وقتلك بدمًا باردًا ولكن لا تقلق يا أخي سأقتص لك أعدك بذلك! 
                                *****
الساعات مضت وأخيرًا انهى عمله الشاق وانطلق بسيارته منهكًا للغاية، وما أن اقترب من مبنى يوسف حتى انطلق الهاتف برنينه المزعج للمرة الخامسة فزم شفتيه وردد بهمس خافت: 
_الحقير المزعج. 

وحرر سماعة الهاتف الخارجية قائلًا دون رؤية اسم المتصل: 
_خير يا مزعج.. واخد النهاردة اجازة من الشغل علشان تقرف أمي!! 

تعجب جمال وسأله: 
_وعرفت منين اني مرحتش الشركة النهاردة. 

أجابه بفتور:
_روحتلك النهاردة والسكرتير بتاعك بلغني بخلعانك... كنت فين يا جيمس؟ 

_كنت مع والدتي بنعمل الفحوصات والدكتور حدد معاد الجراحة يوم الخميس. 

_بعد يومين؟! 

_أيوه.. أنا خايف ومرعوب يا عمران. 

_عيب يا جمال الكلام ده سبت أيه للحريم، انشف كده وإجمد... وأنا بكره هعدي عليك ببوكيه ورد نسخن بيه الحاجة على الحاج. 

اكتظم غيظه وانطلق يسبه: 
_ده وقته بذمتك إرحم أمي يا أخي بقى بوقاحتك... نستني أساسًا أنا طالبك ليه. 

_اشجيني ما أنا اتعودت على مصايبك! 

تمتم بغضب: 
_إنت فين بحاول أتصل بيوسف ومش عارف أوصله محتاجله ضروري. 

صف سيارته أسفل البناية وانطلق للمصعد: 
_أنا طالع الشقة أهو معرفش يوسف فوق ولا في شقته النهاردة.. خليك معايا هشوفه. 

انتظره جمال حتى ولج بمفتاحه الخاص، فبحث بعينيه بالردهة فلم يجد أحد، انطلق لغرفة آدهم فوجده يخلد للنوم، اتجه للغرفة الجانبية فوجد يوسف يغط بنومٍ عميقٍ، فقال لمن يترقب رده: 
_هنا اهو يا جمال... ثواني هصحيه. 

ووضع الهاتف على الكومود بعدما أبقى على السماعة الخارجية، ثم هز يوسف برفقٍ: 
_جو... يوسف. 

عبث بعينيه بارهاقٍ، وهمهم: 
_عمران أنا تعبان وعايز أريح ساعتين قبل ما أرجع العيادة عندي حالة ولادة 6الصبح.. من فضلك إلزم الصمت يا ترجع بيتكم. 
يتبع باقي الفصل بمنشور منفصل لان الفصل عشرة الاف كلمة
لكزه بقوةٍ تلك المرة وهو يكشف الغطاء عنه: 
_قوم شوف جمال قالب الدنيا عليك ليه. 

اعتدل بمنامته متسائلًا بقلق: 
_عنده قتيل هو كمان ما أنا قلبتها هنا مستشفى وسايب بيتي ومراتي وشغالكم تمرجي! 

اتاه صوت جمال المحتقن: 
_يوسف أرجوك فوق وخليك معايا أنا بقالي ساعتين بحاول أتصل بيك وموبيلك متزفت مقفول. 

انتبه لصوت الهاتف، فمال بجسده للكومود مستندًا على راسخه: 
_انجز سامعك وياريت تلخص. 

ضحك عمران وهو يتابعهما واستند على الحائط يتلصص لهما، فقال جمال: 
_صبا صحيت من شوية وبتشتكي من وجع في بطنها وضهرها، أجبهالك العيادة ولا أديها أيه؟ 

ضم مقدمة أنفه وعينيه باصابعه وسأله بنومٍ: 
_هي عملت مجهود النهاردة في البيت مثلًا؟ 

أجابه على الفور: 
_لا كانت معايا عند الدكتور بتاع ماما وبعدها لفينا بالعربية شوية، أحنا حتى أكلنا بره يعني مطبختش ولا وقفت خالص. 

جز بأسنانه على شفتيه وألقى جسده على الوسادة بعنف، فانتظر جمال سماع اقتراحاته ولكنه لم يستمع سوى لضحكات عمران المستمتع لما سيخوضه يوسف الآن من طيش جمال المعهود، فانطلق صوته كالانذار: 
_سكت ليه ما تنطق مالها؟  
متقلقنيش عليها يا يوسف رد!! 

همس بصوتٍ لم يكن مسموع الا لعمران: 
_أكمل معاه اسئلة ازاي وده طور هايج حسبي الله ونعم الوكيل في عقلي اللي خلاني أدخل القسم المنيل بنيلة ده. 

تمادى عمران بضحكاته بينما يصرخ جمال بانفعال: 
_بتضحك على أيه يا زفت.. ما تنجز يا يوسف انت التاني بقولك تعبانه وبتعيط من بطنها يا أخي!! 

أشار عمران ليوسف بأنه سيتولى الأمر، فنهض عن فراشه يراقب ما سيفعله هذا الوقح الذي مؤكدًا سينزع الأمر، فقال الاخير: 
_طيب يا عم جيمس استغليت انت بقى الخروجه والفسحة دي أسوء استغلال صح؟  

عبثت كلماته: 
_استغلال أيه مش فاهمك؟ 

وما اتخذ الا ثواني وراح يصيح باندفاع: 
_آه يا وقح يا زبالة.. وربي لأربيك يا عمران.. إقفل أنا جايلك. 

أوقفه يوسف قائلًا: 
_جمال خلاصة الرغي ده لو حصل شيء بينكم وبعده حصلها الوجع فده شيء طبيعي، هكتبلك دوا على الواتس انزل هاته واديها منه وياريت بعد كده تكون حريص... خلصنا سبني أنام بقى. 

وتطلع لعمران يخبره: 
_خد موبيلك والمزعج اللي معاك وطفي النور واطلع بره. 

وجذب الغطاء على جسده ليستكمل نومه، فرفع عمران الهاتف يردد بخبث: 
_سمعت الدكتور قالك أيه يا غشيم مع ان الموضوع مش محتاج استشارة بس هنقول أيه الحمار عمره ما يفرق بين الكزبرة والبرسيم. 

اشتد انفعاله فقال: 
_اقفل يا عمران أنا جايلك، وربي لاوريك أصبر عليا. 

أخبره ببسمة واسعة: 
_هات معاك سوداني ومكسرات يا جيمي، سهرتنا طويلة. 

وأغلق الهاتف بوجهه ثم توجه لغرفة أيوب، طرق عدة طرقات وحينما استمع إذن الدخول ولج مبتسمًا يردد: 
_مساء الخير يا بشمهندس، يا رب ما تكون نسيتني! 

نهض أيوب عن الأريكة تاركًا كتبه وقلمه، وبابتسامة واسعة قال: 
_حد ينسى عمران باشا الغرباوي، والله كنت مفتقدك بالرغم من إني مشفتكش غير مرة واحدة بس إنت من الوشوش والاشخاص اللي عمره ما تتنسى. 

وتابع بضحكة مرحة: 
_ده أنا حتى لسه سأل عنك دكتور سيفو النهاردة. 

برق برماديته وصاح مستندًا بجسده على الكومود قبالة أيوب: 
_عملتها ازاي دي؟! 

عدل من قميصه الأسود وهو يجيبه باستهزاء:
_مهو سبني ومشي بعدها. 

ضرب كلاهما كفًا بالاخر والضحك يعلو بينهما، فلمح عمران الكتب الموضوعة على الطاولة، وقال: 
_شكلك عندك مذاكرة كتيرة، تشرب معايا قهوة؟ 

أجابه بامتنان:
_يا ريت تبقى خدمتني. 

نزع عنه جاكيته وألقاه على الفراش مرددًا: 
_عنيا.. ومعاها كمان سندوتشات جبنه رومي سايحة وده للأسف أخري في المطبخ. 

ضحك أيوب وقال ساخرًا:
_الحمد لله إننا بنعرف نفتح النور واحنا داخلين أساسًا.. أنا بعرف أعمل أي حاجة بس بصراحة الطعم ميتبلعش معرفش ازاي حضرة الظابط شرب شوربة الخضار اللي عملتها أنا والله قلقان عليه من ساعتها وهو نايم تقولش شرب منوم! 

اتجه ليغادر وهو يصيح بمرح: 
_قلقتني على الراجل هروح أطمن عليه لو محتاج غسيل معدة.. ورايا. 

لحق به أيوب ضاحكًا، ففتح الضوء واتجه للفراش وما كاد عمران برفع الغطاء عن وجه آدهم حتى تفاجئ بسكينٍ حاد مسلط على عنقه بشكلٍ أفزع أيوب وجعله يندفع تجاه هذا الجسد القوي في محاولة لانقاذ عمران، بينما انطلق صراخ حاد من ذاك الذي يقتحم المنزل مرددًا بصراخ: 
_عمران اطلعلي يا وقح. 

اندفع جمال للغرف حتى ولج لغرفة آدهم فصعق مما رأه ومن خلفه يوسف يردد بانزعاج ونعاسه يغلبه: 
_في أيه؟! 
........ 
*****_____*******

  •تابع الفصل التالي "رواية صرخات انثى" اضغط على اسم الرواية 

google-playkhamsatmostaqltradent