رواية ما بين الالف وكوز الذرة كاملة بقلم رحمة نبيل عبر مدونة دليل الروايات
رواية ما بين الالف وكوز الذرة الفصل الثاني والثلاثون 32
تحرك صوب بهو المنزل يحمل بين ذراعيه الصغير بحنان مشفقًا أن تحمله ميمو في حالتها تلك، وضعه ارضًا وجمع بعض الالعاب الخاصة به يضعها حوله، ثم تحرك صوب الغرفة الخاصة به يخلع سترته وقميصه ويرتدي ثياب منزلية ..
خرج من الغرفة يتحرك صوب البهو مجددًا يطمئن على صغيره، ثم ابتسم غامزًا لميمو متحركًا صوب المطبخ يرتدي الثوب المخصص له :
” ها تحبي تاكلي إيه انهاردة ؟؟”
ابتسمت ميمو تقترب منه تحاول نزع ثوب المطبخ عنه، قائلة بلطف شديد :
” لا معلش استريح أنت وأنا انهاردة اللي هطبخ، هعملك مكرونة بشاميل زي ما بتحبها مني ”
ابتسم صلاح ولم يتحدث بكلمة، بل جذبها يجلسها على أحد المقاعد، يتحرك ليجهز الأدوات اللازمة للطبخ :
” اليوم يا مقدس هانم اعتبري نفسك ملكة، أصل مش كل يوم هيكون ذكرى جوازنا، فاعتبري ده بداية اليوم لينا سوا، لغاية بليل عشان محضرلك مفاجأة ”
ابتسمت ميمو بسمة واسعة تتنفس بصوت مرتفع، تجذب مقعدها بعيدًا عن الطاولة المستقرة في أحد أركان المطبخ، تتحرك به صوب صلاح تضعه جواره وجلست عليه تراقبه بحب شديد :
” عشان عيد جوازي ولا عشان تداري على اللي اتنشر انهاردة الصبح يا صلاح ؟!”
توقفت يد صلاح عما كان يفعل وترك السكين بقوة حتى كاد يكسر أحد الاكواب أمامه، وقد اشتعلت عيونه بالنيران، حاول التنفس ليهدأ، ثم قال بصوت خافت دون حتى أن يستدير لها :
” وهو من امتى الكلام وقف يا مقدس ؟؟ من سنة وفيه كل يوم مقال جديد بقصة جديدة، كل ما المبيعات تقف عندهم أو اخبط أنا فيهم يفتكروا اني اتجوزت ميمو مرات جاد الاشموني اللي كان جوزها فاسد، واكيد طبعا عملت كده عشان ليا مصلحة معاها هي وسعيد الاشموني ”
استدار ينظر لها دون اهتمام لكل ذلك :
” يا ترى شايفة ده شيء يستحق اوقف حياته عشانه ؟؟ يستحق أخرب يومي واعكر مزاجي عشانه ؟؟”
صمتت ميمو ولم تجب وصلاح جفف يده يقول بجدية كبيرة :
” ببساطة يا مقدس خليهم يتكلموا براحتهم ويخبطوا فيا براحتهم، كلامهم مش مضايقني ولا هامنني ولا مأثر عليا بذرة واحدة ”
” بس مضايقني أنا، وهامنني أنا يا صلاح ”
نظر لها صلاح بحاجب مرفوع لتنهض هي متجهة له تحاول أن تتحدث بكلمات توصل بها ما يدور في خلدها ويؤرق مضجعها :
” أنس بيكبر ويوعى على الدنيا، مش عايزة يجي الوقت اللي يبدأ يلاحظ اللي بيحصل ويكرهنا، مش عايزة ابني يعيش صراعات هو في غنى عنها يا صلاح، انا تعبت من كل ده والله، أنا… أنا كنت معاك في الاول إن منتكلمش ونسيبهم لما يسكتوا، بس حصل ايه ؟؟”
نظرت حولها بغضب وحقد شديد :
” بيسكتوا ويرجعوا يتكلموا في كل مناسبة تظهر أنت فيها، أول ما تعمل إنجاز بيفكروك أنك اتجوزت واحدة أرملة لشخص فاسد حقير، ومش بعيد تكون مراته زيه و…”
قاطعها صلاح قبل أن تكمل كلماتها، لا يود سماع المزيد، هو بالفعل بدأ يستاء الأمر، في البداية لم يكن يعطيهم أي اهتمام لأنه كصحفي يدرك ما يدور وراء كل ذلك الحديث، يريدون استفزاز بحاره الهادئة ليهيج عليهم، ويعطيهم ما يريدون ويزيد من الجدل القائم حول عائلته، صمت وهو يدرك أنه إن تحدث سيزيد من الطين بلة، فإن كان هناك ١٠ أشخاص يقرأون تلك الأخبار، بعد حديثه سيصبحون الآلاف الأشخاص.
الأمر بدأ من الأساس بمولد أنس وظهور ميمو بعد اختفاء للعلن كزوجته في بعض المناسبات ليبدأ متابعي صلاح في التكشير عن أنيابهم ..
تنهد يجذب ميمو له بحنان شديد يربت أعلى ظهرها بحب شديد :
” أنتِ تؤمري يا ميمو، اللي عايزاه هيحصل ياقلبي، من بكرة مش هتسمعي ليهم صوت ”
نظرت له ميمو بترقب :
” هتعمل ايه ؟؟”
أجاب باقتضاب شديد ومازال عقله يعمل على إيجاد حل غير أن يلجأ للحديث هو بنفسه، حل في صمت دون إثارة بلبلة أكثر:
” هتصرف واقولك يا قلبي، ودلوقتي تحبي مكرونة بشاميل ولا ايه ؟!”
نظرت له ميمو ثواني بشك تفهم جيدًا أنه لم يصل بعد لحل يرضيه ويرضي الدبلوماسي داخله، لكنها رغم ذلك ابتسمت وقالت :
” أحب أي حاجة هتعملها يا صلاح ”
قبلها صلاح بحب شديد، ثم تحرك صوب المطبخ يعد الطعام، ينشغل فيما يفعل وهو يتحدث بجدية :
” صحيح سعيد خلاص هيخرج صح ؟!”
جلست ميمو بتعب شديد على المقعد :
” أيوة باذن الله بكرة، بفكر اصحى بدري واروح أنا استقبله مع نيرمينا ونادر ”
” تمام هاجي معاكِ”
” لا متتعبش نفسك أنا..”
قاطعها صلاح بجدية :
” مين قال إن فيه تعب ؟؟ أنا حابب اجي معاكِ، خاصة إن سعيد وحشني من آخر زيارة ”
صمت ثم أضاف ممازحًا :
” عايز اشوف البركة بتاعنا ”
أطلقت ميمو ضحكات عالية تتحرك صوب الثلاجة الخاصة بها تبحث عما تتناولة وقد كاد الجوع يأكل معدتها رغم أنها من ساعات قليلة فقط تناولت الطعام مع نيرمينا :
” تخيل سعيد المعفن بقى بركة، والله الدنيا دي دوارة يا جدع ”
استدار لها صلاح يجذبها خارج الثلاجة ليبحث عن بعض الاشياء، ثم أخرج الأطعمة وأحضر الخبز يصنع لها بعض الشطائر بحب شديد :
” يا ستي ربنا يهديه، أنا مش مصدق أن ربنا كرمه كده، صحيح يهدي من يشاء، المهم ربنا يثبته ويثبتنا جميعا يارب ”
توقف عن الحديث يضع الشطائر أمامها لتتناولها ميمو وهي شاردة بشكل أثار انتباه صلاح الذي اقترب يجلس على ركبتيه أمامها هامسًا :
” مالك يا مقدس ؟؟”
” صلاح هو …هو أنا..”
صمتت وكأنها تعطي لعقلها مهلة كي يفكر فيما تود قوله، وصلاح شاركها ذلك القرار وترك لها ما تريد من الوقت، حتى قالت هي :
” هو أنا هكون أم كويسة ؟! اقصد لو …هو أنس لو كبر وعرف اللي حصلي ممكن في يوم يتكسف مني و…”
قاطعها صلاح بلهفة يمنعها من إكمال تلك الترهات التي تتفوه بها، رافضًا رفض تام أن تتطرأ لتلك النقطة من حياتهما :
” مقدس، أنس لو حصل وعرف اللي مريتي بيه، هيعرف قد ايه ربنا بيحبه عشان رزقه بأم قوية وشجاعة زيك، زي ما أنا بالضبط بفتخر بيكِ، ومحظوظ إني ليا شريكة فهماني اكتر من نفسي، وصائبة في كل قرارتها زيك يا ميمو ”
ابتسمت له ميمو بتردد ليمسك هو كفها هامسًا بحنان :
” تعرفي ايه اللي بيميز قصتك عن أغلبية البنات يا ميمو ؟! ”
نظرت له بفضول ليردد هو بحب :
” أنك في قصتك كنتِ الفارس والأميرة، الأميرة الرقيقة والجميلة اللي اتظلمت، والفارس اللي جاب حقها، مستنتيش اللي يجي ويجبلك حقك، موطتيش راسك وسكتي، لا اخدتي حقك وبدون ما تستني الفارس بتاعك”
” بس أنا كنت مستنياك يا صلاح ”
قبّل صلاح يدها قائلًا :
” وأنا آسف إني خليتك تستني ده كله يا مقدس”
ابتسمت ميمو له بحب لينهض هو يضم رأسها لصدره بحنان شديد :
” محدش ممكن يسمع اللي حصلك يا ميمو، إلا ويحس بالفخر أنه يعرفك، يعرف واحدة زيك قدرت تصنع قصتها بنفسها بدون ما تضعف وتنكسر ، بكرة أنس يكبر والتاني يشرف، ويمشوا مرفوعين الراس أنك امهم ”
_________________
” أنا… أنا مش …”
صمتت تحاول إيجاد كلمات مناسبة تصف حالتها التي تعيشها في تلك اللحظة، لحظات رعب عاشتها في تلك الثواني التي شعرت بيديه يلامسان خصرها بكل وقاحة .
ابتلعت ريقها ويدها المرتجفة تحاول إبعاد ذراعيه عنها، لكن فشلت في ذلك، وشعرت بالهلع يملئ قلبها.
” داغر، داغر أبعد شوية معلش ”
لكن المدعو داغر لم يكن من ذلك النوع المتفاهم، إذ أنه عاند وشدد من عناقه لخصرها، وهي فقط تتنفس بصوت مرتفع، لا تريد أن تهلع أو تتوتر أو تتصرف بشكل مريب قد يؤدي لنتائج غير مرغوبة فيها .
تحركت يدها صوب حقيبتها الخاصة، تحاول التملص منه وهو فقط يقترب من أذنها هامسًا بصوت منخفض وحنان يقطر من بين حروفه :
” مقدرش أبعد عنك يا زهرة، أنا خلاص تعبت من كل البعاد ده، اعمل ايه اكتر من اللي عملته عشان تحسي بيا؟! اتقدمت ليكِ أكتر من مرة وبرضو رفضتي، أعمل ايه تاني قوليلي ؟!”
أمسكت زهرة بالصاعق الكهربائي الذي ابتاعته خصيصًا لأجله، ولأجل أمثاله ممن يعكرون صفو حياتها الفوضوية من الأصل .
وبمجرد أن شعرت به يقترب مجددًا من أذنها للتحدث حتى رفعت يدها لتصعقه :
” هتفضلي طول عمرك كده ؟؟ فوقي يا زهرة أنتِ عديتي الـ ٣٠ سنة بكتير، هتفضلي مستنية لغاية امتى و…”
فجأة انتفض للخلف صارخًا بوجع شديد وقد شعر بجسده بالكامل ينتشر به لسعات كهرباء عنيفة، اسقطته ارضًا، وقبل أن يستوعب ما يحدث شعر بضربة في معدته وصوت زهرة خرج منها حاقدًا كارهًا :
” ولو وصلت لـ ١٠٠ سنة، مش هبص ليك ولا لغيرك، خلاص قفلنا ”
ختمت حديثها تصعد سيارتها بسرعة كبيرة قبل أن يستعيد وعيه ويؤذيها، تحركت باسرع ما يمكن أن تفعل سيارتها، تتنفس بصوت مرتفع تحاول أن تتماسك وصورة سعيد تُعرض أمامها..
نبض قلبها بقوة وشعرت بارتجاف جسدها يهدأ، لكن عيونها ما هدأت يومًا، ولا ألمها خفت وجعه منذ اختفى سعيد، ولم يكتفي بذلك بل رفض أن يلقاها حتى ..
تجلس داخل مكان الزيارات حولها العديد من العائلات الذين جاءوا خصيصًا ليقروا أعينهم بأقاربهم، وهي لم تكن أقل منهم، فهي ما جاءت إلا لتراه، بعد أشهر من المكابرة والدوران حول مركزه دون أن تجرأ على الاقتراب منه .
زفرت تحاول أن تصمت دقات قلبها العالية، في الوقت الذي شعرت به بأقدام تقترب منها، رفعت رأسها تنظر صوب القادم لتتفاجئ بسعيد آخر، هزيل رث الشكل ذابل الوجه، ذو عيون مشتعلة غريبة .
وبمجرد أن ابصرها سعيد تراجع فورًا وقد ظن أن من جاءت هي ميمو فقط، لو كان يعلم أن زهرة هي من أتت ما كان خرج ورآها، ليس الآن وليس هكذا ..
تعجبت زهرة تراجع سعيد ونهضت لترحب :
” سعيد عـ ”
” بتعملي ايه هنا ؟؟ ”
فتحت زهرة عيونها بعدم فهم تنظر حوله في المكان، ثم ابتلعت ريقها تقول بهدوء :
” أنا جيت عشان ا…”
ومجددًا قاطعها بحدة كبيرة والكره يلتمع بعيونه :
” عشان تشوفي إني حققت اللي أنتِ عايزاه صح ؟؟ اطمني يا دكتورة المريض بتاعك خلاص رمى نفسه في النار عشانك وعشان انانيتك ”
اتسعت أعين زهرة بقوة لا تعلم ما يقول أو سببه، لكن بالنظر بأعين سعيد المشتعلة والزائغة وحركات يده الغريبة علمت أن المتحدث الآن لم يكن سوى ذلك المقيت الذي تحكم به سابقًا، هزت رأسها تقول بهدوء :
” اهدى يا سعيد، أنا بس جاية عشان اطمن عليك ”
” واطمنتي ؟؟ شوفتي اللي حصل فيا بسببك ؟! خلاص امشي، امشي ومش عايز اشوف وشك تاني هنا يا زهرة، كل ما بشوفك بفتكر غبائي اللي خلاني اتخلى عن حريتي وحياتي وجيت حبست نفسي في المكان المقرف ده، بسببك أنتِ أنا بتعذب ”
شعرت زهرة بقلبها يختض في موضعه، وجسدها يأبى أن يتحرك خطوة من أمامه، فقط تنظر له نظرات غير مفهومة، قبل أن تقول بصوت خافت :
” سعيد فوق بالله عليك، بلاش تخلي غضبك يعميك عن كل اللي حواليك و…”
” ايه اللي حواليا ؟؟”
صمت يقترب منها بشكل مخيف يهمس من بين أسنانه بغضب جحيمي :
” ايه اللي حواليا يا زهرة؟! ايه اللي حواليا غير أسوار مانعة عني حريتي والنفس اللي بتنفسه ؟؟”
لم يكن سعيد من يتحدث، بل كان الجزء الاسود داخله، بينما سعيد خلصتها يستغيث أن تساعده وتنقذه، حاولت أن تتماسك تقول بهدوء :
” حواليك فرصة أنك تصلح من نفسك يا سعيد ”
ضحك سعيد بسخرية لاذعة يحرك عيونه على الجميع حوله ليبصر عائلات كثيرة أتوا لرؤية ذويهم، وهو؟؟ حتى شقيقته فقدها، كرهته، كان من الممكن أن يكون الآن حرًا معه نيرمينا دون أن تنبذه، لكنه رفض كل ذلك لأجل ماذا ؟! لأجلها هي ؟؟
ازداد الكره في عيونه لتشعر زهرة بالرعب من نظراته له، وفجأة اقترب أكثر منها هامسًا :
” أنا خسرت الكل يا زهرة، ومجاتش عليكِ ”
شعرت زهرة بجسدها بأكمله يهتز من صدمة ما سمعت، في طريقها لإعادة سعيد، خسرته وخسرت نفسها، سقطت دموعها تقول بهدوء يخفي خلفه عواصفها :
” يعني ايه ؟؟”
بصق سعيد الكلمات في وجهها بكره شديد :
” يعني مش عايز اشوفك هنا تاني، ولا عايز ألمحك ابدا يا زهرة خلاص، مش عايز اشوفك، إياكِ تيجي تزوريني ”
أنهى حديثه يرحل بسرعة كبيرة رافضًا أن يكمل الزيارة، وزهرة نظرت حولها لا تعي ما حدث، تشعر أن العالم أصبح فجأة صامتًا والحياة أضحت باهتة، مسحت وجهها بقوة تشير لأحد العساكر وهي تقول بصوت خافت موجوع تمد يدها بالطعام الذي أعدته خصيصًا لأجله، أعدته منذ الصباح الباكر بعدما زف لها أخوها خبر الموافقة على الزيارة والذي توسط هو لها به باستخدام معارفه في إدارة السجون …
” لو سمحت اديه الأكل ده، قوله …قوله …متقولش حاجة خلاص ”
هبطت دمعة منها تحمل حقيبتها راكضة للخارج تبحث عن مكان تنأى بنفسها وبجراحها، كي تلعقها وتضمدها وحدها..
فاقت زهرة على صوت زمور سيارة عالي جعلها تفتح عيونها بقوة تنظر حولها تعي أين هي وماذا تفعل، مسحت دموعها بقوة تكمل قيادة السيارة وهي تحاول الابتعاد عن تلك النقطة في حياتها..
هيا زهرة ألا شيء في حياتك تفكرين به سوى سعيد ؟؟ نعم الهر الجديد الذي احضرته عليها إحضار طعام له، نعم يبدو هذا موضوع شيق رائع تخفي خلفه أفكارها المتلاطمة حول سعيد ….
____________________
تجلس في منتصف المنزل ترتب طفلها استعدادًا لتجمع العائلة اليوم احتفالًا بذكرى زواج التوأم الاكثر جنونًا في المحروسة …
يوم سيُخلد في أذهان الجميع لشدة الجنون الذي حدث به ..
يوم زفاف صالح وصلاح ..
خرج الشقيقان من غرف التجهيز وتعالت ضحكات صلاح يرى هيئة صالح التي تشبهه وكأنه ينظر لنفسه في المرآة، حتى أنهما ارتديا نفس البدلة، فكان الاثنان نسخة طبق الأصل من بعضهما البعض .
وصل محمود للممر يتحدث وهو يرتب أكمام بدلته الزرقاء :
” يلا يا صالح هاجر كلمتني أن رانيا خلصت وكمان مرات اخوك و…”
توقف عن الحديث يحدق بالاثنان، فرك عيونه، ثم نظر لهما مجددًا ولم يتغير شيء :
” ما هو يا اما أنا عندي اعراض انسحاب وبقيت اشوف حاجات غريبة، أو إنكم فعلا اتنين بنفس الهيئة”
تعالت ضحكات صالح وهو يقترب من محمود يضمه بسعادة كبيرة، وضربات قلبه قد بدأت تقرع بالتزامن مع قرع الطبول في الاسفل، بادل محمود صالح الاحضان لا يدري هل يعانق صالح أم صلاح :
” مبارك يا صالح أو صلاح ”
ابتسم صلاح في الخلف بسمته الساخرة ليدرك محمود أنه يعانق رفيقه، ابتعد عنه، ثم تحرك صوب صلاح يعانقه هو الآخر مباركًا له الزفاف، ولأول مرة يتقبل صلاح عناق من أحد غير ميمو وصالح، يبادل محمود ببسمة :
” الله يبارك فيك، عقبالك يا محمود أنت كمان ”
ابتعد محمود عن صلاح بتعجب وقد عادت حيرته تلتمع في عيونه :
” ايه الحيرة دي بقى ؟؟ مين فيكم صالح ؟! ”
وصل مرتضى مبتسمًا بسعادة كبيرة يبارك لأبنائه :
” يلا يا ولاد عشان البنات جاهزين و…”
توقف فجأة ينظر لهما بحيرة وهو يقف جوار محمود الذي كان هو الآخر يحاول استخراج صديقه من بينهما، فمنذ ثواني ظن أنه علم الفرق بينهما لرؤيته نظرات السخرية في أعين صلاح، لكن حديث صلاح معه بلهجة عادية دون سخرية أو حدة جعلته يعود لنفس الحيرة .
أخرجهم مرتضى من كل ذلك يلوح بيديه في الهواء :
” مش مهم أي واحد منكم يروح يشوف مراته أو مرات اخوه محتاجة ايه ؟!”
نظر له الاثنان بعدم فهم ليتحدث صلاح مستفسرًا عن مقصد والده :
” مين فيهم ؟؟”
” ميمو، كانت بتقول عايزة صلاح و…”
وقبل أن يكمل كلماته وجد صلاح يندفع كالقذيفة من بينهم لتتعالى ضحكات مرتضى يقول بغمز لمحمود :
” عيب عليكم محدش بيلعب على بابا يا حبيبي ”
توقفت اقدام صلاح الذي لم يكن قد عبر الممر، ونظر للخلف حيث والده يقول بعدم فهم :
” أنت بتهزر يا حاج ؟؟ هي ميمو مش عايزاني ؟؟”
” لا يا حبيبي بس دي طريقة حلوة اكتشفتها من ثواني غير الحسنة بتاعة اخوك، خوفا اقلعكم عشان البدل متتكرمش ”
أنهى مرتضى حديثها وتحرك من أمام الجميع يشير لهما أن يتبعونه، ومحمود التصق بصالح كي لا يتوه منه مرة اخرى، والشقيقان سارا خلف والديهما بحنق شديد، في الأساس هذه فكرة صالح يود فقط أن يعلم إن كانت رانيا ستميزه كما فعلت ميمو يومًا ؟!
هبط الاثنان الدرج وتوقفا في الأسفل في انتظار أن تطل كل فتاة مع ولي امرها، ولم تمر دقيقة حتى طلت رانيا التي كانت محاطة بوالدها وجميع اشقائها، ومن ثم ميمو التي كانت تتأبط ذراع نادر بسعادة كبيرة وعيونها مثبتة على أسفل الدرج .
وحينما وصلت الفتاتين توقف الجميع بعدم فهم لما يرون، لا أحد يعلم من منهم زوج شقيقته ؟! وقد بدا ذلك العرض ممتعًا للضيوف الذين تعالت ضحكاتهم وهم يرون الحيرة تعلو وجوه الفتيات وذويهم .
تحركت عين رانيا بين صالح وصلاح تبحث بينهم عن العشوائي الخاص بها، تحاول أن تجده، تبحث عن أي لفتة قد تظهر عشوائية، وجوارها ميمو كانت تشاركها البحث قبل أن ترتسم بسمة خبيثة متحركة صوب صلاح في الوقت ذاته ابتسمت رانيا وقد علمت من منهم صالح في لحظة واحدة وقبل حتى أن ترى تحرك ميمو ..
توقفت ميمو أمام صلاح تعدل من وضعية رابطة العنق الخاصة به تقول بصوت خافت :
” المرة الجاية ابقى ألبس نضارة يا لذوذ عشان نظراتك واضحة اوي ومكشوفة ”
ارتفعت ضحكات صلاح بقوة، يمسك يدها بحنان مقبلًا إياها، ثم انحنى نصف انحناءة يقول بحب :
” نظراتي قدامك ملهاش حاكم غير قلبي، و قلبي ملوش حاكم غيرك يا مقدس ”
التمعت أعين مقدس بقوة من كلمات ولمسات صلاح الحنونة، ونظرت لنادر الذي كان يبتسم بسعادة يضم له نيرمينا محاولًا ألا يدعها لأفكارها …
ضم صلاح كف ميمو وسار بها صوب مقعدهما تحت تصفيق الجميع ونظراتهما ..
بينما صالح كان يراقب رانيا التي تألقت في الفستان الذي شاركها في اختياره بكل سعادة يقول بغمزة :
” والله طلعتي شاطرة يا رانيا، عرفتيني ازاي ؟؟”
ابتسمت رانيا تقول بصوت هامس وصل له واضحًا رغم الصخب حولهما :
” نظراتك يا صالح كانت عليا، اكيد يعني صلاح مش هيبصلي بالنظرات دي، وكمان من الشراب بتاعك ”
نظر صالح بسرعة صوب الجوارب الخاصة به والتي كان يظهر طرفها من الحذاء الأسود الأنيق الذي ابتاعه لزفافه خصيصًا ..
سمع ضحكات رانيا التي قالت :
” أكيد يعني صلاح مش هيلبس شراب عليه بطيخة ”
ابتسم صالح لها يضم كتفها له كما يضم محمود في العادة، يتحرك بها وهو يردد من بين ضحكاته :
” لا طبعا صلاح ذوقه مش حلو للدرجة دي ”
أطلقت رانيا ضحكات عالية تسير خلف صالح الذي امسك يدها يتحرك بها للمقعد الخاص بهم، لكن فجأة اشتعلت بعض الأغاني والموسيقى في القاعة ليبدأ محمود بالرقص في حماس شديد وصالح ترك رانيا على مقعدهما وتحرك لمنتصف القاعة يغني ويرقص بسعادة كبيرة ليخبر الجميع ممن لا يعلمون هوية زوجة كلٍ منهما، من بالتحديد صالح ومن صلاح .
لكن صلاح أفسد كل ذلك وهو ينهض من جوار ميمو بسبب جذب صالح له ليشاركه الرقص بسعادة يحرك يديه وكتفيه بسعادة كبيرة وشاركهما مرتضى الذي بدأ يتراقص بينهما ومعه سليمان ورائد الذي ترك تسبيح واندفع لهم يرقص بحماس شديد …
اشتعلت القاعة وصالح وصلاح يمسكان بعضها البعض من اكتفاهما ويتراقصان بسعادة كبيرة، وقد انضم لهما محمود ورائد …
رانيا تراقب ما يحدث مبتسمة، وجوارها هاجر التي كانت تجلس مكان صالح تراقب محمود بأعين عاشقة، وقد منحته موافقتها قبل الزفاف بدقائق معدودة..
نظرت ميمو صوب نادر الذي كان يجلس بهدوء بعيدًا عن الجميع، لتشير باصابعها صوب صلاح أن يشركه، وكذلك فعل صلاح الذي تحرك ليجذب له نادر يجبره على مشاركتهما الاحتفال ودون أن يشعر نادر بدأ يندمج بينهما مبتسمًا، فما على قلبه أسعد من هكذا مناسبة، يعيش مع شقيقته الفرحة ويعوض عليهما مر تجربة سابقة..
وميمو تعيش التجربة كما لو كانت الأولى، وقد كانت كذلك بالفعل، لا تصدق أن الله منحها فرصة أن تعيش تلك اللحظات كما جميع الفتيات، تشعر بقلبها يرتجف سعادة .
التقت عيون نادر بعيون نيرمينا التي كانت تراقبه ببسمة حنونة رغم كل ما تحمل داخل قلبها من حزن، فمنذ شهور فقط سُجن سعيد، وميمو رفضت إقامة الزواج قبل أن تطمئن عليه داخل سجنه، بل وذهبت له تمازحه وتستفزه كعادتها مخبرة إياه..
” الزيارة الجاية هجيلك بشريط الفرح تتفرج ”
أقترب نادر من نيرمينا يمسك كفيها بحنان يضمها لصدره وبدأ يتحرك حركات بطيئة لا تناسب إيقاع ال الموسيقى السريع، فقط يتحرك بها كما لو كان يهدهدها بلطف وهي ابتسمت له تشير بإصابعها متجنبة الحديث بسبب الموسيقى الصاخبة، وايضًا لتطبيق كل ما تعلمته الشهور السابقة :
” أنا بخير يا نادر، افرح مع ميمو ”
ونادر أجابها بأصابعه وبسمة حنونة :
” وأنا بفرح مع ميمو و نيمو كمان، فرحتي مش هتكمل من غيرك يا نيرمينا ”
ابتسمت له نيرمينا بحب شديد تستكين على صدره بسعادة لا ينغصها سوى ما حدث لشقيقها، تراقب سعادة ميمو التي انضم لها صلاح أعلى المسرح الخاص بهما يجذب يدها له ويحركهما في الهواء مبتسمًا بسعادة وهي تشاركه السعادة بسعادة أكبر..
وكذلك فعل صالح الذي صعد اعلى المقعد الخاص به يرقص ويحرك كتفه في حركات مستفزة لمحمد والثلاثة الآخرين، ومن ثم جذب رانيا له من كتفها أمام أعينهم، ليزفر الجميع بغيظ وحنق شديد ..
قال جبريل بغيظ :
” اللهي تقع تنكسر رقبتك ”
ابتسم عبدالله يراقب الجميع بسعادة وعبدالجواد ما يزال يراقب مروة فقط مبتسمًا بسعادتها وقد حصل لها قبل شهور قليلة على مقابلة أخرى مع صلاح راضاها خلالها …
صعد صالح للمسرح وأمسك مكبر الصوت وبدأ يغني مع الموسيقى بصوت لا بأس به، جعل البعض يضحك والآخر يصفق له، وكان أكبر معجبي صالح هو صلاح الذي أخذ يصفر له ويصفق حتى أنه صعد للمسرح جواره يشاركه الغناء والضحكات تحت أنظار الجميع السعيدة ….
استيقظت ميمو من تلك الذكريات على صوت صلاح الذي سحب الصغير منها حاملًا بين يديه مشطًا يقول بحنان مقبلًا وجنتها :
” روحي اجهزي أنتِ، أنا هسرح لانس”
ابتسمت له ميمو تتحرك صوب غرفتهما تقول بصوت خافت :
” أنا بتعبك معايا يا لذوذ والله ”
أطلق صلاح ضحكات عالية يلملم خصلات طفله الناعمة والتي ورثها من خاله مازن كما تقول ميمو :
“أنا أعمل أي حاجة عشان الكلمة دي يا قلبي ”
ابتسمت له ميمو تخطو لغرفتها التي شهدت سعادة وحزن، ضحكات وبكاء، تنهدت تجذب ثيابها من الخزانة وهي تتذكر أول يوم لها مع صلاح بتلك الغرفة، يوم بكت خائفة ولم تنطق سوى بكلمات مبعثرة أكثرها وضوحًا كان :
” أنا خايفة افتكر يا صلاح ”
بكت مرتعبة أن تعيد لها لمسات صلاح ذكرى امتهانها على يد جاد يوم زفافها، يوم أن فرت منه وكأن شياطين الأرض تلحقها، تبكي وتصرخ مرتعبة، تبحث لها عن منقذ .
وما كان رد صلاح سوى ضمة حنونة، وقبلة رقيقة أعلى جبهتها وكلمات صغيرة رددها على مسامعها ما تزال لليوم تحفظها له :
” ولو افتكرتي يا مقدس، أنا جنبك هشاركك كل ذكرياتك الوحش منها قبل الحلو، نامي وأنا جنبك …”
شعرت ميمو بيد تضمها من الخلف وصوت صلاح يهمس لها بحب :
” مالك يا ميمو، سرحانة في ايه ؟؟”
نظرت له ميمو مبتسمة بحب وأجابت مباشرة :
” فيك ”
اتسعت بسمة صلاح يداعب وجنتها بإصبعه بحب :
” ما أسعد قلبي بكلماتك مقدسي الحبيب ”
استدارت ميمو تضمه لها بحب شديد، وهي تهمس له بكل كلمات العشق التي تملكها له.
صلاح كان اسمًا على مسمى، صلاح لها، ولكل ما فسد في حياتها، كان يُؤثر على نفسه الحزن أثناء حزنها، يرفض الانهيار كي لا يغفل عن دمعاتها.
حتى يوم أن قص عليها ما حدث مع والدته، لم يبكي ولم يحزن، فقط ضم نفسه لها وصمت، صمت صمتًا طويلًا حتى ظنته نائمًا ..
كادت تتحرك لتشعر به يقول بصوت خافت :
” خليكِ شوية كمان يا مقدس، عايز ارتاح ”
تأوهت ميمو تحاول أن تتمالك نفسها، تربت أعلى خصلات شعره بحنان شديد :
” صلاح أنت أكثر شخص قوي في الدنيا، قدرت ترجع حق والدتك، ومضعفتش لحظة ”
دفن صلاح رأسه في معدتها يردد بصوت خافت :
” أنا بس … أنا بس كان نفسي اضمها مرة اخيرة، ملحقتش اشوفها، ملحقتش احضنها واقولها إني بحبها ”
أنهى جملته ينفجر في بكاء قوي جعل ميمو تبكي هي الأخرى تزيد من ضمه، وصلاح يصف لها وجع كتمه سنوات داخل قلبه ولم يفرغه يومًا سوى في أحضان صالح، والآن بين ذراعيها ..
” كنت عاوز اضمها بس محدش رضي يخليني اضمها قبل ما تندفن، نزلت دفنتها بنفسي، لوحدي، فضلت واقف في العزا أسلم على الكل وأنا من جوايا عايز اصرخ واقولهم مش حابب اشوف حد، كل لحظة كان صالح بينهار فيها أنا كنت بموت مليون مرة، كنت …كنت …”
صمت ثم قال من بين شهقاته بوجع :
” كنت بستنى صالح ينام عشان اعرف اعيط، كنت ببعد عنه واحبس نفسي في ركن عشان اقدر أخرج كل اللي جوايا، كنت بخاف انهار قدامه فأزيد من وجعه أكتر، صالح استحمل وشاف اللي لو أنا شوفته مكنتش عمري هقف على رجلي تاني ”
كانت ميمو تستمتع فقط كاتمة شهقاتها عن مسامعه، تربت على ظهره بحنان شديد تعطيه كامل الفرصة للانهيار بين احضانها بالامس كانت هي من تبكي له ظلم الحياة، واليوم هو من يفعل.
لم تترك الحياة منهم نفرًا إلا وأشبعته وجعًا، لكنها في المقابل منحت لهم من يشاركهم ذلك الوجع ويربت عليهم، كانت من الكرم الذي جعلها تضع ميمو في وجه صلاح، وتقاطع طرقات صلاح مع ميمو …
أفاقت على صلاح يمسح دموعها التي هبطت، يدرك جيدًا أنها ربما تذكرت شيئًا ما جعلها تبكي دون شعور، بالإضافة لحملها الذي يجعلها في غاية الهشاشة تبكي على أي شيء تراه، ما يزال يتذكر يوم رأت قطة جالسة أمام بنايتهم لتبكي وتخبره أنها وحيدة في هذا البرد، وتلك القطة المسكينة التي كانت تسترخي دون اهتمام بأحد هربت من صوت بكاء ميمو ..
ضحك صلاح وهو يرى ملامح ميمو تنكمش بحنق، ثم أخرجت ثيابها تقول :
” أنت بتضحك عليا؟؟”
” لا يا قلبي أنا بضحك ليكِ ”
نظرت له ميمو بشك ثم قالت :
” سرّحت لأنس ؟!”
هز رأسه بإيجاب في الوقت الذي سمع به ضحكات أنس تتعالى ليقول :
” صالح وصل من شوية مع رانيا ”
ابتسمت تقول :
” طب رحب بيهم لغاية ما اجهز وبعدين تعالى عشان تلف ليا الطرحة ونخرج سوا، تمام ؟؟”
” حاضر ”
____________________
خرج صلاح من الغرفة يغلقها خلفه، حتى وصل للبهو الذي كان صالح يجلس به حاملًا أنس يقذفه في الهواء بقوة وهو يصدر اصواتًا تسببت في تصاعد ضحكات الصغير .
واخيرًا استقر أنس بين أحضان عمه الذي قال بحنق يبعثر خصلات الصغير بعض الشيء :
” ايه القرف ده ؟؟ رايح تقدم في الخارجية يابني؟؟ مش فاهم ليه طفل يبقى شعره مترتب كده ؟!”
أنتزع صلاح صغيره من بيد اكفاف صالح بحنق شديد وغضب محاولًا تدارك ما فعله بخصلات أنس:
” عشوائتك دي تمارسها على ابنك، مش ابني، بعدين مسمي شعره قرف ؟؟ امال شعرك أنت ايه ؟!”
نظر صالح ليده التي كانت تحمل منذ ثواني أنس وقال بحنق :
” يا بني أرحم الولد هتجبله عقد، بعدين ماله شعري وشعر ابني؟؟ ده إحنا في قمة الروشنة ولا ايه يا بلال ؟؟”
لكن الصغير كان لا يستمع لما يقول والده بل فقط مندمجًا في تناول حلواه المفضلة بشكل جعل رانيا تكاد تسقط ارضًا وهي تبصر تعب ساعات في تحضيره يذهب هباءً .
أشار صالح لولده صاحب العامين فخورًا :
” شايف حبيب بابا مستمتع وبينشأ نشأة سليمة خالية من العقد والكلاكيع ازاي ؟؟”
تشنجت ملامح صلاح يردد :
” واضح النشأة السليمة، هو فعلا العقد والكلاكيع مش في عيالك يا صالح، دي هتيجي لمراتك يا حبيبي ”
نظر صالح صوب رانيا التي كانت تحاول إصلاح ما أفسد الصغير بمساعدة ابنتها صاحبة الأربعة اعواء تقريبًا:
” مين رانيا ؟؟ يا عم دي في قمة سعادتها وهي بتقضي أوقاتها في التربية الإيجابية، هات بقى أنس خليني أعلمه بعض أساليب التربية الحديثة ”
رفض صلاح جاذبًا الصغير لاحضانه، لكن صالح ارتدى نظارة صلاح الموضوعة على الطاولة يصفق بكفيه لانس :
” تعالى يا قلبي لبابا ”
ابتسم أنس بسمة واسعة يفتح ذراعيه لصالح ظنًا أنه صلاح :
” بابا ”
التقطه صالح يبتسم له بحب، وصلاح يراقبه بصدمة منتزعًا منه نظراته ليرتديها، ثم أشار للصغير :
” أنا بابا يا أنس تعالى يا قلبي ”
نظر أنس لصلاح ومن ثم لصالح، ثم تحرك بجسده صوب صلاح لتتعالى ضحكات صالح، فمنذ ولادة الاطفال وهو يستغل الشبه بينهما اسوء استغلال ..
في تلك اللحظة تعالت أصوات ميمو باسم صلاح، ليتحرك الاخير صوب الغرفة آخذًا معه صغيره تاركًا صالح يذهب ليجلس ارضًا مع الصغير بلال يساعده على تنظيف نفسه ورانيا تعدل ثيابه وهي تبتسم على صالح الذي كان يتحدث له بجدية كما لو كان يفهمه :
” إحنا اتفقنا على ايه ؟؟ أي حركات مش تمام قدام عمو صلاح تثبت صحة كلامه في إني أب غير مسئول، فيها حرمان من السيرلاك على طول وبدون تفاهم واضح ؟؟”
تناول بلال حلواه وهو يحدق في صالح بأعين واسعة جميلة جعلت الاخير يقبل وجنته بحب :
” متبصليش بعيون خالك دي، هتخليني أحب محمد وأنا مش عايز ”
ضربته رانيا في كتفه ليضحك بصوت عالي يخبرها أنه يمزح، وقد علت ضحكات الصغير وكأن ضرب صالح أعجبه ليعلو صوت الاخير:
” اهو شوفتي، بقى عامل زي اخوكِ والله ”
ضحكت رانيا عليه تضم الصغير لها تمسح وجهه وهي تقبله وتلاعبه، بينما أميرة والتي كانت اسمًا على مسمى، مدللة صالح، ذهبت لتجلس بين أحضان والدها براحة شديدة، والاخير فقط ضمها لصدره بحب شديد يداعب خصلاتها يتنعم بوجودها جوار قلبه …
______________________
يدفع عربة الشراء داخل أحد مجمعات التسوق العالمية داخل البلاد، وداخل تلك العربة تقبع الصغيره التي تتلاعب بعروس وردية ذات شعر اصفر وأعين ملونة، تمامًا مثلها، فتلك الصغيرة ورثت ملامح جدتها ووالدتها كذلك لتكون نسخة مصغرة من نيرمينا، ولم تأخذ من نادر سوى لون بشرته فقط…
تنهد نادر بلا صوت وهو ما يزال يسير خلف نيرمينا لساعات طويلة وكل ذلك فقط لشراء ما سيحتاجه سعيد عند خروجه من السجن .
فجأة توقفت نيرمينا بشكل غير متوقع، وتوقف نادر بسرعة كبيرة قبل أن يصطدم بالعربة فيها، وقد كانت عيونه متسعة برعب ..
لكن نيرمينا كانت تحمل علبة حليب تستدير صوب نادر تتساءل بحيرة :
” تفتكر اعمله رز بلبن ؟؟؟”
تشنجت ملامح نادر بحنق لتبتسم هي تقول :
” ولا بلاش هو مش بيحب اللبن اساسا غير على العصاير، أنا ممكن اعمله كريم كراميل ايه رأيك ؟!”
لم يجيب نادر بحركة واحدة من أصابعه وهي ما تزال تتابع عيونه منتظرة إجابة منه، وهو فقط دفع العربة تاركًا إياها دون أي بادرة منه لمشاركتها ذلك الهراء ورحل مع طفلته يحرك شفتيه في تمتمة صامتة حانقة ..
تركت نيرمينا ما بيدها وركضت خلفه تتحدث ببسمة غبية :
” عندك حق أنا اشتري حلويات من برة عشان معطلش نفسي وانا بجهز حلويات، أنا هعمل الاكل الأساسي ”
توقف نادر بالعربية، ثم استدار لها يحرك أصابعه في الهواء بكلمات ساخرة :
” نيرمينا أنتِ لا بتعرفي تعملي حلويات ولا بتعرفي تعملي أكل اساسا، اعملي مكرونة بس والباقي نجيبه من بره ”
اتعست عيون نيرمينا بصدمة من كلماته الجارحة، تقترب منه تهمس بحنق شديد :
” نادر متقولش كده قدام البنت، أنت كده بتصغرني قدامها ”
نظر نادر لزينب التي كانت تلاعب عروستها الوردية دون أن تهتم، وحتى لو اهتمت فهي لم تكن لتفهم حركات أصابع نادر والتي قضت نيرمينا ثلاث سنوات كاملة حتى تتقنها بعد العديد والعديد من التراخي والكسل ..
ضرب نادر رأسها بخفة يشير صوب فمه ساخرًا :
” اقول ايه ؟؟ أنا بشاور ”
” برضو متشاورش افرض شافتك دلوقتي ؟؟”
أشار لها بكل بساطة :
” مش هتفهم ”
أنهى حديثه يتحرك بالعربة صوب ممر آخر خاص بالأطعمة المعلبة يحضر ما يهدأ جوعه وجوع طفلته في ليالي الشتاء الطويلة ..
ونيرمينا تسير خلفه تضم ذراعيها لصدرها بحنق شديد لا تفهم ما مشكلة ذلك الرجل معها، تقسم أنه يحاول أن يفرض رجولته عليها، لكنه يحلم فهي لن تدعه يستغل ضخامته وطوله فقط ليصمتها .
فتحت فمها في نية واضحة للصراخ به ألا يتعامل معاها كما لو كانت فتاة صغيرة و ..
توقفت لرؤيتها سيدة تدفع عربة بها طفل وتقترب من حدود نادر الذي لم يكن يعطيها أي اهتمام منشغلًا بالنظر لمحتويات أحد الأطعمة في هوس معروف ..
لكن تلك السيدة لم تعطي لكل ذلك اهمية مقتحمة مساحته الشخصية وهي تقول ببسمة صغيرة :
” معلش ممكن تناولي علبة كورن فليكس اللي بالفواكه فوق دي عشان مش طايلة”
رفع نادر عيونه عن العلبة يحدق في السيدة بعدم فهم، إذ لم يكن منتبهًا أثناء حديثها معه، أشار لها برأسه إن كانت تنتظر منه شيئًا أو تحتاج لشيء، وما كادت السيدة تعيد عليه حديثها حتى وجدت فتاة شابة تقتحم المسافة الضيقة بينهما وهي تقول :
” نعم، محتاجة مساعدة!”
نظرت لها السيدة بعدم فهم لتدخلها، لكنها فقط ابتسمت وقالت باحترام شديد :
” أيوة من فضلك لو ممكن تتحركي من قدام الاستاذ عشان كنت عايزة منه يساعدني في حاجة ”
نظرت نيرمينا خلفها لنادر الذي كان يراقب ما يحدث بعدم اهتمام بعض الشيء، لكنها فقط ابتسمت وقالت :
” أيوة محتاجة ايه وأنا اساعدك، أنا بفهم في تغذية الطفل اكتر منه ”
شعرت السيدة بحنق كبير يملئها من تلك الفتاة التي لا تعلم لِمَ تتدخل ؟؟ لذلك حاولت دفعها جانبًا مشيرة لأحد المعلبات الغذائية التي تقبع أعلى رفوف المكان :
” أيوة لو سمحتي كنت عايزاه يجبلي الكورن فليكس اللي بالفواكه فوق دي ممكن توعي شوية ؟؟”
نظرت لها نيرمينا ثواني ولم يخرج منها سوى إشارة على بعض المعلبات جوارهم في الاسفل :
” ليه ما اللي بالشوكولاتة حلو ”
نظر لها نادر من الاعلى متشنجًا والسيدة رمقتها بعدم فهم، وهي شعرت بالخجل يكتنفها تعود للخلف تدفن ذاتها وغباءها بين جنبات صدر نادر الذي ضحك بلا صوت والسيدة ترمقهما بعدم فهم .
رفع نادر ذراعه وأحضر لها ما تريد باحترام شديد، لتمسك من المعلبات مبتسمة :
” شكرا اوي يا …”
صمتت تقول بهدوء :
” أنت اسمك ايه ؟؟”
لم يجيبها نادر بشيء وفقط نظر صوب نيرمينا التي جذبت العربة تقول بهدوء شديد :
” يلا خلينا نخلص باقي الطلبات عشان نلحق الكل ”
ابتسم نادر يتحرك خلفها بلا كلمة مما جعل السيدة تتطلع لاثرهما بملامح مفكرة تقول بتلقائية تعليقًا ليس مقصودًا البتة :
” أخرس ده ولا ايه ؟!”
فجأة توقفت اقدام نادر عن التحرك وكذلك نيرمينا التي نظرت له لترى اقتضاب خفيف على ملامحه قبل أن يكمل الطريق بكل هدوء وهي فقط نظرت للسيدة بلوم وكره شديد جعل الأخيرة تتعجبهما …
أكملت نيرمينا كل شيء، ثم توقفت ليدفع نادر ثمن مستلزمات المنزل، وهي تراقبه ببسمة أثناء مداعبة صغيرتها .
مجددًا سمعت صوت السيدة تقف خلفهما في الصف متحدثة بتسائل :
” هو حضرتك مردتش عليا لما كنا هناك، أنا آسفة لو ازعجتك مش قصدي والله، أنا بس …”
صمتت حينما وجدت نادر يخرج بطاقته البنكية يدفع بها، ثم اخذها بهدوء وحمل حقائب الطعام بيد وباليد الأخرى حمل صغيرته وأشار لنيرمينا أن تتحرك أمامه، وكذلك فعلت لتستاء السيدة أكثر وهي تردد بغيظ شديد :
” على فكرة دي وقاحة وقلة أدب، أنا كل ما اكلمك تسيبني وتمشي بدون حتى ما تستأذن أو تعتذر أنك مش عايز تتكلم ”
تحدثت فتاة الحسابات التي كانت على معرفة مسبقة بنادر ونيرمينا، فهما كانا من الزبائن الدائمين في المكان، فقالت بصوت خافت هامس لكنه وصل واضحًا لنيرمينا ونادر :
” هو مش بيتكلم يا مدام، أخرس يا عيني ”
شهقت السيدة تنظر لأثر نادر الذي أكمل طريقه دون اهتمام وقد كان يقبل وجنة صغيرته بحب، وآخر ما وصل لمسامعه صوت السيدة المشفقة عليه :
” أنا مكنتش اعرف، فكرته متكبر والله، والله ما قصدي ابقى قليلة الادب كده، بس حرام والله شاب زيه كده يبقى ….”
وكلمات أخرى تجاهلها نادر أثناء توجهه صوب سيارتهما، وضع الحقائب في الصندوق الخلفي، ثم زينب في المقعد الخلفي يضع لها حزام الامان مع عروسها المفضلة، ومن ثم فتح الباب لنيرمينا مبتسمًا، والأخيرة تراقبه تحاول البحث عن أي ملامح حزن أعلى وجهه، لكنه فقط قابلها ببسمة لتتحرك صوب السيارة وتصعد، وهو جاورها وبعدها تحرك بالسيارة صوب منزل ميمو حيث يتجمع الجميع للاحتفال بذكرى زواجها .
يقود السيارة بهدوء شديد في انتظار لانفجار نيرمينا، وما هي إلا ثواني حتى انفجرت الأخيرة في بكاء مرير وهي تهتف بكلمات غير مفهومة، أخرج نادر بعض المناديل يعطيها لها وهي تأخذها منه تقول ببكاء :
” دي ست مش كويسة، هي ليه تقول عليك كده وتقولك يا حرام، ايه شيفاك ماشي بتلت رجول؟! دي واحد مش محترمة اساسا، بعدين دي كانت بتبص عليك وبتعاكسك قدامي يا نادر ”
ابتسم نادر يربت أعلى رأسها مهدئًا إياها، وكأن السيدة اعابت بها هي وليس هو، فهكذا هي نيرمينا كلما تعرض هو لشيء سييء بكت بالنيابة عنهما، بل ويضطر هو لمواستها بسبب ما تعرض له..
ابتسم يحرك يده أعلى رأسها وهو يداعب وجنتها بأصابعه حتى هدئت عن البكاء واستكانت لكتفه أخيرًا تقول ببسمة صغيرة :
” أنت جميل اوي يا نادر على فكرة ”
ابتسم نادر يحرك أصابعه في الهواء لها :
” وأنتِ الجمال كله يا نيرمينا ”
اتسعت بسمتها بحب لذلك الرجل الذي أُعجبت حينما كان يودع مراهقته، وعشقته حينما استقبل شبابه، وهامت به حينما غاص في النضج، نادر كان لها عائلة حين غابت عائلتها، وعالمًا حينما نبذها عالمها، وحياة حينما بصقتها حياتها، باختصار مثّل لها نادر كل شيء وأي شيء في هذه الحياة .
لا تنسى أنه كان الوحيد الذي جاورها بعد سجن سعيد بالإضافة لميمو بالطبع، لكن مساندة نادر اختلفت عن الجميع، وافق أن يؤجل زفافهما حتى تنتهي من الجامعة بالكامل، من ثم أقام زفاف صغير لم يحضره سوى عائلتهما فقط، قضته باكية لعدم وجود سعيد لولا وعد من ميمو أن تريه الزفاف قسرًا .
وبعد الزواج عكف على تعليمها لغته وحياته وطريقة تعبيره عن حبه لها، ورغم انشغاله بالشركات الخاصة بميمو وعمله معها في العديد من الأمور، لم يهملها يومًا أو يتركها وحيدة أبدًا وحينما علمت بحملها للطفلة كانت سعادة نادر قد بلغت عنان السماء لدرجة أنه بكى بسعادة بين أحضانها…
ابتسمت نيرمينا وهي تنظر لنادر الذي لم تتوقف يده عن التربيت على رأسها تفكر، ترى إن لم يكن نادر في حياتها، ماذا كان سيحدث لها بعد رحيل سعيد؟؟ أي حياة بائسة كانت ستعيش ؟! وحيدة مشردة، ولربما يسحبها بعض اصدقاء السوء كما سبق وفعلوا معها، وينتهي بها الأمر مدمنة أو مجرمة، أو حتى فاسقة دون أن يهتم بها أحد..
لكن وكأن نادر كان بطلها الخارق الذي انتشلها من مصير بائس، هبطت دموعها تشعر بحبه يتضخم داخل قلبها مرددة بصوت هادئ :
” نادر أنا بحبك اوي ”
ابتسم نادر بسمة واسعة زادته وسامة على وسامته، وقد نضجت وسامته مع ملامحه، فهو الآن لم يعد ذلك الشاب ذو الثالثة والعشرين عامًا، بل هو الآن رجلٌ في التاسعة والعشرين …
مال نادر يمنح خدها قبلة حنونة ثم حرك شفتيه على خدها بكلمة لا ينفك يرددها حتى وإن لم يستطع نطقها :
” بحبك …”
_______________________
” رائد يلا عشان منتأخرش و…”
توقفت تسبيح عن الحديث بصدمة حينما أبصرت جسد رائد الممد أعلى الفراش واضعًا قدمه أمامه والتي كان الدماء يسيل منها بشكل جعل أعينها تتسع مشيرة لها محاولة البحث عن كلمات توفي فزعها حقه .
ورائد رفع عيونه بهلع يحاول الحديث :
” اصبري هوضحلك، ده …ده صلصة وقعت عليا مش دم، اصبري بس …”
لكن تسبيح كانت قد انقضت عليه تتحدث برعب كبيرة وهي تمسك قدمه تضعها أعلى فخذها :
” منين ؟! مين اللي عمل فيك كده، وازاي …ازاي يا رائد تسيبها كده من غير ما تشوف دكتور ؟؟”
نظر لها رائد يربت أعلى كفها الذي يمسك قدمه، محاولًا أن يفسر لها ما حدث، لكن تسبيح لم تمنحه الفرصة وهي تنزل النقاب أعلى وجهها تسحب يده واضعة إياها أعلى كتفها تسنده ليسير :
” قوم هنروح نخيطها دلوقتي، بسرعة قبل ما الجرح يبرد”
تطلع فيها رائد مستنكرًا :
” اخيط ايه؟؟ يا تسبيح عادي ده جرح حصل بالغلط وانا في …”
نظرت له تسبيح بتحذير :
” متتناقش معايا يا رائد، امشي بهدوء عشان نشوف الجرح ده، بعدين محتاج تكون مسؤول شوية، أول ما تتعور تجري على المستشفى تشوف أي دكتور يعالج ”
” اتعور ؟؟”
” أنت شخص مهمل يا رائد، مهمل وغير مؤهل أنك تشيل مسؤولية حد فما بالك بنفسك، المدير بتاعك ده غلط لما حملك مسؤولية لقب زي الرائد ده”
” كل ده عشان جرح في رجلي هيخلص بحتة شاش وقطن ؟؟”
نظرت له وقد زاد حنقها من تصغير الأمور، ورائد الذي كان يستند عليها لا يفهم حقًا ما يحدث هنا، لكنه فجأة توقف وأشار لتسبيح أن تتوقف هي الاخرى، وابعد النقاب عن وجهها كي يرى ملامحها أثناء الحديث :
” بصيلي كده كويس …شايفة أي حاجة فيا ؟؟ يا تسبيح الجرح عادي والله، هو لو كان خطير كان زماني واقف بكلمك دلوقتي ؟؟”
نظرت له بشك ليقترب منها مبتسمًا :
” الموضوع كله يتلم بقطنة وشاش ياقلبي والله أنا بخير ”
اطالت تسبيح النظر بوجهه، ثم قالت متسائلة :
” يعني مش هتيجي معايا المستشفى ؟؟”
” لا مستشفى ليه ؟؟ ده جرح بسيط والله، ادخلي بس هاتي حاجة اعالج بيها رجلي ”
انكمشت ملامح تسبيح بحنق وغيظ وغضب، ثم سارت صوب الداخل تتحدث كعجوز نقمة متهكمة :
” أنت طول عمرك كده واجع قلبي معاك ومش بتحب تريحني، والله لاتصل بماما واقولها عليك ”
حدق رائد باثرها متعجبًا، ثم تحرك ببطء صوب الأريكة يلقي بجسده عليها، ليجدها تخرج من الغرفة تحمل هاتفها وهي تحدث أحدهم :
” لا مش راضي يروح المستشفى، أنا هعالجه واديله العلاج وانيمه ”
تحدث رائد مشيرًا لها بإصبعه:
” قوليلهم أنك هتديني الرضعة كمان لأحسن يقلقوا اني أنام جعان ولا حاجة، افضحيني كمان وكمان ”
نظر له ثم أكملت حديثها :
” هي عايزة خياطة اه، معلش بقى يا ميمو كنت عايزة اجي بس ….”
قاطعها رائد الذي سحب منها الهاتف يقول بصدمة :
” ايه ايه ياما ميمو ايه ؟؟ أنتِ فضحتيني عندهم، وانا مفكرك بتكلمي أمي وقولت معلش مننا وعلينا وعارفة كل بلاوينا؟؟ بتقولي لميمو هديله العلاج وانيمه ؟؟ ايه ابنك بيسنن وبتشتكي منه للناس ؟؟”
نظرت له تسبيح بعدم فهم، ليتحدث هو في الهاتف مع ميمو بصوت هادئ وكلمات مقتضبة أنهى بها المكالمة :
” لا أنا بخير متقلقوش ده جرح صغير خالص، هضمده ونيجي، لا إحنا جايين، مع السلامة ”
اغلق الهاتف ونظر لتسبيح التي قالت باعتراض :
” هتروح فين ؟؟ أنت مش هتتحرك من هنا غير لما الجرح يلم ”
رفع رائد الهاتف وهو يتظاهر برغبته في إلقائه عليها :
” ده انا اللي هلمك يا تسبيح لو ما اتعدلتي، قولتلك أنا كويس وده جرح بسيط، ايه فيه ايه مالك كده ؟؟”
نظرت له تسبيح بخوف تقول بصوت خافت :
” أنا بس .. أنا بس خايفة يكون بيوجعك، والله مش قصدي اعصبك ”
تعجب رائد لملامحها التي انقلبت فجأة واقترب منها يقول بحنان :
” ايه يا توتا مالك ؟؟ أنتِ كويسة ؟؟”
نظرت له تسبيح تقول بحزن شديد :
” أنا بس بخاف عليك يا رائد، أنا بترعب كل يوم لغاية ما ترجع البيت، مليش غيرك أنت والاولاد في الدنيا دي، ولو حصلك حاجة أنا ممكن أروح فيها والله، المرة دي بموتي يا رائد مش هلاقي اللي يقويني”
تأوه رائد بحزن عليها وهو يجذبها بين أحضانه جالسًا على الأريكة، يقول بحنان شديد :
” ليه يا توتا حابسة نفسك في الخوف ده ياقلبي، كلها اقدار والاقدار بيد الله يا حبيبتي، عشان كده سيبيها على الله وتوكلي عليه، ويا ستي أنا معاكِ أهو وكلنا بخير، ليه الزعل والنكد ده ؟؟”
مسحت تسبيح دمعة يتيمة كادت تعبر حدود اجافنها، ثم ابتسم تقول بصوت هادي :
” أنا بس بعزك زيادة يا رائد، عشان كده مش بحب يحصل حاجة ليك ”
” بتعزيني ؟؟ مش شايفة إن ده وصف امهاتي شوية، يعني ده تقوليه لعيالك لما حد يسألك بتحبي مين اكتر، لكن مش كلمة تتقال لجوزك يا توتا ”
نظرت له تسبيح بعدم فهم ليبتسم هو مربتًا أعلى رأسها يجيب جملتها :
” متاخديش في بالك يا تسبيح، الله يعزك يا رب ويسعدك ويخليلك عيالك يا حبيبتي ”
أطلقت تسبيح ضحكات عالية جعلت رائد يزيد من ضمها له وهو يداعب رأسها حتى أفسد خمارها بالكامل، وهي فقط مستمرة في الضحك ليبدأ رائد في إفساد هيئتها بيديه ممازحًا ..
” مش كنا عدينا مرحلة الأمهات دي من زمان ؟؟ بترجعينا ليها ليه ؟؟ أنا ما صدقت بقيت اكلمك من غير أدعية الله يرضى عليكِ خرجينا من منطقة المامي دي”
لم تتوقف تسبيح عن الضحك وهو يزيد من زغزغة معدتها، ثم مال يقبل وجنتها بحب شديد :
” ضحكتك دي ترياق يا توتا”
نظرت له مبتسمة ليضيف :
” مش مصدقة ؟؟ بصي على رجلي هتلاقيها بقت زي الفل”
وكأن تسبيح قد صدقت الأمر، إذ مالت بنصف جسدها لتنظر على قدمه، لتجد أن الدماء ازداد سيلانها أكثر من ذي قبل، رفعت عيونها لرائد الذي قال بلهفة :
” ده كان تعبير مجازي، عالجي رجلي بسرعة قبل ما دمي يتصفى …”
______________________
” جبت الهدية يا محمود ؟؟”
اغلق محمود الباب الخلفي لسيارته، ثم تحرك وجلس جوار هاجر يضع بينهما علبة هدايا متوسطة الحجم مبتسمًا :
” أيوة جبت دي بتاعة صالح وبتاعة صلاح ورا ”
ختم حديثه يتحرك بالسيارة وهو يسمع اصوات صغيرته التي تتلاعب بهاتف هاجر في الخلف، لعبة صنع المخبوزات، وكأن الحياة الواقعية ويومها الطويل الذي تقضيه داخل مخبز والدتها ليس كافيًا ..
ابتسم محمود يضم كف هاجر لتنظر له ببسمة تقول بسعادة :
” هو كده انكل ماجد هو اللي هياخد باله من جهاد ؟؟”
” أيوة كلمته وهو رحب بالموضوع، وكمان فرغ نفسه من أي مؤتمرات أو شغل الفترة الجاية عشانها، أنتِ عارفاه معندوش اغلى منها في الدنيا، ممكن يرميني في الشارع ويقلبلها اوضتي مخبز ”
ابتسمت هاجر بحب شديد، فهي لا تصدق أنها حظت بتلك العائلة السعيدة الهادئة، كان قرارها الذي اتخذته منذ سنوات أن تمنح محمود فرصة، هو أكثر قرار صائب في حياتها ..
” مقولتيش تحبي تروحي فين ؟؟ ”
” أنت حابب نروح فين ؟؟”
نظر لها يقول ببساطة شديدة :
” أنا ميفرقش معايا، غير أنك معايا يا نواعم”
وبتلك الكلمات استطاع محمود تفجير قنبلة من الزهور الوردية والقلوب الحمراء والبالونات البيضاء داخل عقل هاجر التي اتسعت بسماها، وعلت السعادة وجهها تقول :
” ايه رأيك نسافر اسكندرية نقضي هناك يومين سوا، نزور اماكن كتير ونلف في الشوارع سوا ؟؟”
نظر لها بتعجب كبير إذ توقع أن تتطالبه بجولة حول العالم، ورحلات تكلفه كلية وعين وجزء من كبده، لكن هاجر تظل هاجر، نفس الفتاة الشاعرية التي ترى الجزء الرومانسي من كل شيء، ابتسم لها يشدد الضغط على يدها بحب :
” لو أنتِ حابة ده انا عيوني ليكِ يا جوجو ”
ابتسمت هاجر باتساع تشعر يتوقف السيارة أمام البناية التي يسكن بها كلٌ من صالح وصلاح والتي تقع على بعد شارعين من منزل رائد ..
هبط محمود يسير صوب المقعد الخاص بطفلته يحملها على ذراعه يساعدها الهبوط، ثم أمسك بيدها وحمل الهدايا يشير لهاجر أن تسبقه، لكن وقبل أن تتحرك هاجر خطوة واحدة سمعت صوتًا انثويًا ينطق باسم زوجها مستوقفًا إياهم .
استدارت ببطء تراقب سيدة تضع زينة مبالغ بها بعض الشيء، تقترب من محمود مبتسمة متحدثة بود وكأنها تعرفه منذ سنوات ..
وقد كانت كذلك بالفعل إذ قالت بعدم تصديق :
” محمود عاش من شافك”
طالعها محمود بتفكير وكأنه يحاول تذكر أين رآها ليقول فجأة وقد تذكر، مورطًا نفسه في شجار غير محسوب مع هاجر :
” سجدة فانيليا ؟؟ أنتِ بتعملي ايه هنا؟؟ مش كنتِ اتجوزتي العريس اللي هو من قطر ده ؟؟”
” الامارات ”
” مش هتفرق راجل كان معاه فلوس كتير، مش سافرتي معاه من سنين؟ ”
لوت سجدة فمها تقول حانقة من ذلك الحديث :
” اتطلقت من سنتين، أنت ايه الاخبار وصالح برضو و…”
وقبل أن تكمل كلماتها سمعت صوتًا جوارهما يقول متدخلًا :
” لو مش بقاطع الحديث اللطيف ده، ممكن الهدايا يا محمود وأنت أبقى حصلني ”
نظر لها محمود يقول بهدوء شديد :
” لا استني يا هاجر أنا طالع معاكِ، حمدلله على سلامتك يا سجدة نورتي مصر”
هزت سجدة رأسها وهي تنظر لهاجر نظرات غير مهتمة البتة :
” هشوفك بعدين أصل أنا رجعت لشغلي في المستشفى، هشوفك وهشوف صالح ”
لوح لها محمود مودعًا يتحرك خلف هاجر التي جذبت منه جهاد بغضب شديد وقد بدت في تلك اللحظة شخصًا آخر غير زوجته الهادئة المسالمة، ليلعن محمود في تلك اللحظة سجدة وصالح ومعرفتهما التي لن يجني من خلفها سوى وجع الرأس ..
” هاجر دي سجدة كانت زميلتي أنا وصالح في الشغل من …”
وقبل أن يكمل جملته تقدمت هاجر من المصعد، وهو دخل خلفها لا يفهم تلك الملامح المخيفة التي علت وجهها والتي يبصرها لأول مرة، صمت وقد قرر أن يتحدث لها عند عودتهم .
” راجعة مخصوص من الخليج يا سجدة عشان تعكنني عليا عيشتي، بس لما اشوفك والله لاطفحك الشوكولاتة اللي بتلفي بيها على المكاتب …”
__________________
” ودي ايه اللي رجعها دي ؟! ”
ارتشف محمود بعض المشروبات يراقب النساء يتضاحكون جانبًا ويمرحون عدا هاجر التي كانت ترمقه بنظرات غريبة جعلته يفرد كفيه في الهواء ولسان حاله يقول ( ماذا فعلت ؟!)
زفر يشعر بضربة صالح أعلى كتفه :
” بقولك هي رجعت ليه ؟؟”
رمقه محمود بحنق وغضب مبعدًا كفه عن كتفه :
” عشان أتطلقت يا حبيبي، وشكلها كده راجعة وعيونها عليك وحابة ترجع الود بتاع زمان، فحرّس كده عشان متلقيش كمان يومين اخوات رانيا جايين يعلقوك وهما على تكة اساسا ”
مسح صالح وجهه يحاول أن يتجاهل كل ما قيل، فما شأنه وتلك سجدة ؟! هي كانت نخطوبته وخطأ ارتكبه قديمًا وانتهى الأمر، لِمَ عليه الخوف الآن من عودتها ؟؟
” سيبك منها دي عيلة على الله ”
أطلق محمود صوتًا ساخرًا يراقب اقتراب رانيا منهم بخطوات مبتسمة تحمل بين يديها علية صغيرة ليتركهما محمود بعدما همس في أذن صالح :
” تمام بس خد بالك، عشان سجدة اللي رجعت غير اللي كانت بتوزع شوكولاتة كل ما ضفر جديد يطلعلها ”
أنهى حديثه يتحرك صوب هاجر يلتصق بها والأخيرة تساعد صغيرتها في تناول الحلوى التي تعدها بفواكهة طبيعية لأجل الصغار .
اقترب منها محمود يقول بصوت خافت :
” مالك يا جوجو ؟؟ والله العظيم سجدة دي كانت زميلتنا من سنين طويلة وبعدين اتجوزت وسافرت ولسه راجعة ”
نظرت له تشعر بالغيرة تملء قلبها حتى كاد يفيض بها، ومحمود ابتسم على تلك النظرات، فأمسك قطعة من الحلوى يتناولها بنهم شديد، ليس لأنها لذيذة، بل لأنها من صنع يد بسكوتته الحبيبة .
حمل عنها جهاد واضعًا إياها ارضًا ومن ثم وضع أمامها طبق الحلوى يقول مقبلًا خدها :
” خدي يا قلبي لغوصي فيها لغاية ما نرجع ”
ثم سحب هاجر خلفه يتحرك بها صوب الشرفة التي كانت مفتوحة على مصرعيها، يتحدث بصوت حنون :
” جوجو تفتكري احتمالية إني ابص لبنت تانية غيرك قد ايه ؟؟”
نظرت له ولم تحسن اختيار إجابة فابتسم هو وقال بتخمين :
” يعني لو راجل عيوني بصباصة فاحتمالية إني اعمل كده هي ٣٠٪، نحط بقى بند إني متجوز هتقل لـ ٢٠٪، وبحب مراتي ومقدرش اعيش ثانية من غيرها يبقى ١٠٪، وطلع عين اللي خلفوني عشان اوصل ليها ومش مستعد اضيعها يبقى ٥٪، واخيرًا سجدة كانت خطيبة صالح القديمة اساسا، ومفيش بيني وبينها عمار غير الشكولاتة اللي كانت بتوزعها على روح صالح يبقى ٠٪”
كانت هاجر تستمع لحديثه بملامح مقتضبة سرعان ما بدأت تنفرج شيئًا فشيء، لتملء البسمة وجهها، بهذه السهولة ودون تعب حتى، هاجر من ذلك النوع البسيط الذي يمكنك اسعاده بكلمة، ومراضاته بنظرة …
” خلاص كده روقتي ؟!”
ابتسمت له هاجر تهز رأسها بلطف شديد، ليقترب منها محمود قائلًا بحنان وحب :
” أنا عشان طيبتك ورقتك دي يا هاجر بخاف اخدشك ولو خدش واحد بالغلط، صدقيني والله طول ما أنا عايش عمري ما هزعلك أو اخذلك يا جوجو، فاهماني ؟؟”
هزت هاجر رأسها بهدوء، هي تثق بمحمود فست سنوات ليست مدة صغيرة لتجهل مع أي الأشخاص تعيش، هي تعلم محمود وتعلم مقدار الصفاء داخله، وطيبة قلبه، فإن كان يعتقد محمود أنها بسكوتة هشة، فهو قطعة حلوى خطمية في غاية اللطف واللذة …
________________
” دي ليا ؟؟”
ابتسم صالح يرى اشتعال عيونها بالحماس تمسك علبته التي أحضرها لها، إذ انعزل بها بعيدًا عن الأعين يمنح لها علبة صغيرة بها الهدية التي عمل لأجلها أيام طويلة ..
” أيوة، افتحيها يلا ”
وبسرعة كبيرة بدأت رانيا تفتح العلبة أمامها ببسمة واسعة، وقد كانت أناملها ترتجف لهفة لترى ما يختبئ لهم في تلك العلبة الصغيرة و…
توقفت فجأة عن التفكير حينما وجدت العلبة فارغة، رفعت عيونها لصالح الذي كان يتابع الأمر ببسمة غريبة .
” ايه دي ؟؟”
” الهدية ”
” هي فين الهدية ؟؟ أنت بتهزر معايا يا صالح صح ؟؟”
نظر لها صالح بعدم فهم مشيرًا صوب العلبة يقول بجدية :
” والله ابدًا مش بهزر دي العلبة بتاعة الهدية و…”
توقف عن الحديث حينما اكتشف ان العلبة فارغة تمامًا، نظر لرانيا بعدم فهم وهي كانت تراقب ما يفعل تترقب أن يمارس فقرة السحر ويخرج لها هديتها من العدم ..
لكن كل ما خرج هو صوت صالح المبهوت :
” هي فين الهدية ؟؟”
رمقته بعدم فهم :
” هي ايه اللي فين ؟؟ أنت اللي جايبها ليا، أنت اللي عارف هي فين ؟؟”
نظر للعلبة مرة أخرى يحركها في الهواء بقوة وكأنه يجبرها على إخراج هديته التي ابتلعتها، ثم نهض من مكانه يتحرك يفتش ثيابه، وقد بدأت رانيا تبحث عن هدية مجهولة الهوية معه، وصالح يردد :
” كانت هنا والله أنا… أنا بقالي اسبوعين برتب فيها، هي راحت فين يا….”
توقف عن الحديث فجأة بعدما استشعر ملمس الهدية أسفل أنامله داخل جيب بنطاله لتتسع بسمته فجأة بشكل جعل رانيا تقول بلهفة :
” ايه لقيتها ؟!”
هز صالح رأسه بلهفة شديدة لتقترب منه رانيا بلهفة تضاهي لهفته، تتمسك بمرفقه كطفلة تنتظر عيدية العيد، وصالح ابتسم على نظراتها، يخرج من جيبة ظرف يحتوي بعض الأوراق ورانيا تتابعه بأعين شغوفة…
حتى وجدت ورقتين تلوحان أمام عيونها وصوت صالح يردد بحب :
” فاكرة لما كنتِ بتقولي أنك نفسك تسافري سنغافورة ؟!”
هزت رأسها بهدوء ليبتسم صالح مربتًا أعلى رأسها بحب، لتلتمع أعين رانيا لا تستطيع التحدث بكلمة واحدة من شدة المشاعر التي ازدحمت داخل صدرها، قالت بصوت منخفض :
” صالح …صالح أنت..”
صمتت وقد هبطت دموعها بقوة ترفع عيونها له، وهو مسحها بحنان شديد يقبل عيونها بحب :
” اتأخرت ست سنين تقريبًا عشان اقدر اظبط الموضوع، لكن حبيت لما اعمله أكون مجهز كل حاجة، فاجهزي يا رينو عشان نسافر نقضي أي لحظات كنتِ نفسك تقضيها، بس المرة دي معايا، معلش استحمليني ”
ألقت رانيا نفسها بين أحضانه وهي تقول بغصة بكاء :
” يا صالح أنا… أنا حتى لو مروحتش فكفاية ليا أنك فكرت في الموضوع، ولسه فاكرة اساسا، ده أنا كنت نسيت ”
ختمت حديثها بضحكة قصيرة وصالح ضمها له بحب شديد :
” أي حاجة ليها علاقة ليكِ يا رانيا عمري ما انساها..”
نظرت له بحب وصمتت وقد كان صمتها فسحة صغيرة استطاعت عيونها أخذ لجام الحديث تخبر ذلك الرجل أمامها كم تهواه وتعشقه، فصالح الذي لم يكن يفقه في أمور النساء سوى القليل، أصبح خبيرًا لأجلها هي فقط …
انتفض الاثنان على صوت ميمو التي نادت الجميع للطعام، فتحركوا جميعهم صوب الطاولة الكبيرة التي تتوسط منزل صلاح، وقد جلس الاطفال جوار آبائهم، والجميع يتحدث في الوقت ذاته، وقد علت أصوات الضوضاء، لكنها كانت ضوضاء محببة للقلب ..
ابتسمت ميمو بسمة واسعة وهي تدفع بالطعام للجميع، ذلك الطعام الذي ساعدها صلاح في إعداد بعضه، واشتروا الجزء الآخر .
ابتسمت تقول بصوت حنون لنادر :
” عايز حاجة تاني يا نادر ؟!”
قبّل نادر يدها بحب شديد ثم هز رأسه نافيًا، يرى نيرمينا التي تولت بالفعل دفع كل طعام الطاولة لصحنه الخاص، نظر لطفلته التي تتوسط قدمه يناولها الطعام …
رفع عيونه يبصر تلك العائلة التي اكتسبها بعدما فقد اخرى، اهتز قلبه يحاول الابتسام مترحمًا في نفسه على جميع أفراد عائلته، ومن ثم نظر لميمو يرى نظرات صلاح لها، وبسماتها وعيونها التي تلتمع بالسعادة ليسعد هو الآخر تلقائيًا، وينظر لنيرمينا والتي كانت سعادتها واضحة، ولِمَ لا وغدًا تستقبل شقيقها حرًا .
______________________
صباح اليوم التالي …
توقفت سيارة صلاح، وكذلك سيارة نادر وهبط الجميع من السيارات يتحركون صوب بوابة السجن ليكونوا أول من وصل لاستقباله، لكن خاب أملهم ولم يكونوا أول الواصلين …
داخل السجن .
بدأ سعيد يودع الجميع، ثم تحرك صوب أغلى الأشخاص على قلبه في تلك الفترة، جلس جوار شيخه الجليل والذي تولى تعليمه كل شيء خلال الثلاث سنوات الأخيرة.
” مش هتودعني يا شيخ شاهين ؟؟”
ابتسم شاهين يحرك حبات السبحة بين أصابعه يردد بصوت هادئ ثم نظر له يقول :
” وليه الوداع يا سعيد، هو أنت خلاص مش هترجعلنا تاني؟! ايه اوام كده تنسانا ؟!”
” لا يا شيخ ليه بتقول كده، ده أنا عمري ما انساكم، وتحديدا أنت، أنا محدش ساعدني هنا قدك ”
صمت ثم قال بهدوء شديد :
” أنا أول ما أخرج هكلم المحامي عشان يعيدوا النظر في قضيتك، ومش هسكت غير لما تخرج وترجع بيتك لعيلتك يا دكتور ”
ابتسم شاهين حتى ملئت البسمة وجهه يقول بصوت راضي مستكين :
” تصدق قربت أنسى إني دكتور من كتر ما الكل بيقولي شيخ؟؟ ”
” هنا أي حد بيحفظ سورتين من القرآن بنسميه شيخ، فما بالك وأنت خاتم المصحف يا شيخنا ؟!”
ضحك شاهين بصوت مرتفع :
” بس أنت مش حافظ سورتين يا سعيد، أنت حافظ جزئين تبارك الله عليك ”
هز سعيد رأسه يقول بمزاح :
” هي ميمو اللي طلعت عليا شيخ دي من اول ما قولتلها إني ختمت جزء عامة، ومن وقتها بقى الكل يقولي يا شيخ، بيني وبينك أنا حاسس أساسا أنها تريقة، نفسي مش متقبلة اللقب، تقيل عليا وحاسس اني مش قادر اشيله اساسا ”
نظر له شاهين بهدوء شديد ثم هز رأسه وقال :
” يبقى قوي نفسك وتمسك بدينك أكثر يا سعيد وخليك قده وشيله ”
ابتسم مضيفًا :
” أنا كنت زيك، كنت بستاء لما حد يقولي شيخ وأنا يا دوبك بصلي وبصوم وبقرأ قرآن زيي زي أي مسلم ملتزم ومتبع لدينه، لكن مع الوقت لما انشغلت في تعليمي واتخرجت من صيدلة واهملت كل حاجة ولسه برضو الناس بتقولي شيخ، حسيت باحتقار لنفسي، وبدأت اتعلم وارجع احفظ، ودرست فقه وشريعة كمان عشان استحق اللقب ده، فأنت كمل يا سعيد واستحق اللقب ده ”
كان سعيد يستمع له مبتسمًا وقد أشفق أن يجلس شخص بمثل علمه وفقهه داخل تلك الجدران، خسر العالم عالِم جليل وشيخ فصيح كشاهين وكل ذلك لأنه رفض أن يكون يد معاونة لاذية الغير داخل شركة الأدوية التي كان يعمل مشرفًا بها ..
ربت سعيد على كتفه يقول بوعد :
” هيحصل يا شيخنا، لكن مش هيحصل غير على ايدك، أنا أول ما أخرج مش هرتاح غير لما اخرجك ”
” ربنا يسعدك يا سعيد وحياتك ترجع زي الاول وأحسن، أنا شايفك مبسوط من يوم ما اختك جات زارتك، هي بطلت تحرق دمك زي كل مرة ؟!”
أطلق سعيد ضحكات عالية يدرك أنه يقصد ميمو بكلماته، فكان طوال الوقت يعود من زيارتها بملامح مشتعلة مغتاظة، وأحيانًا مبتسمة ..
” لا ميمو مش بتبطل حرقة دم، أنا بس كنت سعيد لأن شوفت نيرمينا أختي الصغيرة اللي حكيتلك عنها ”
” ربنا يسعدك طول الوقت، أخرج يا سعيد وعوض اخواتك عن غيابك، وشيل شوية عن الكبيرة اللي كانت شيلاك هنا ورد جميلها، اللي يقف معاك في محنة زي دي تشيله في عينك ”
شرد سعيد في ميمو، وهو يعلم داخله أنه يدين لها بالكثير، هي الوحيدة التي لم تتركه يومًا حتى بعدما انفجر في وجهها صارخًا أنه يكرهها ولطالما فعل، ولا يطيق رؤية وجهها لأنها تذكره بأيامٍ يمقتها، وما كان رد ميمو عليه سوى أن أشارت لعلبة الطعام :
” أنا عملتلك مكرونة بدل الرز قولت أغير عشان متزهقش”
سمع صوت شاهين يخرجه من شروده :
” مالك مبتسم كده ؟!”
” مفيش بس افتكرت ميمو واللي بتعمله فيا”
” شكل اختك دي بتعزك يا سعيد ”
هز سعيد رأسه يتنهد بصوت مرتفع :
” بس ميمو مش اختي يا شيخ شاهين ”
تعجب شاهين من حديثه، فطوال تلك السنوات التي قضاها سعيد هنا وهو يعلم أن لا أحد يزوره سوى شقيقته :
” أمال مين ؟! زوجتك ؟؟ بس أنت المفروض مش متجوز حسب ما حكيتلي ”
ابتسم سعيد يستقيم في وقفته حينما سمع صوت الاقفال يتحرك وقال هو يخطو صوب الباب :
” ميمو تبقى أرملة ابويا يا شيخنا مش اختي ”
اتسعت أعين شاهين بصدمة كبيرة يراقب خروج سعيد بعدم فهم، كيف ؟؟ فعلت كل ما فعلت وهي أرملة والده فقط ؟! لهذه الدرجة العلاقة متينة بينهما ؟!
ابتسم ينهض من فراشه متحركًا صوب الباب يودع سعيد الذي عانقه، ثم قال له :
” متنساش تعدي على دكتور سمير عشان كان عايز يشوفك قبل ما تخرج ”
هز له سعيد رأسه وتحرك مع العسكري يودع شاهين على أمل لقاء قريب :
” أنا هرجع يا شيخ، بس المرة الجاية مش همشي غير وأنت معايا ”
رفع شاهين يده في الهواء مبتسمًا له :
” في أمان الله يا سعيد، خد نصيبك من اسمك يا صاحبي…”
تحرك سعيد بين الممرات يودعها، ولا يدري أيحزن أم يضحك، كيف يواجه عالمه وقد نبذه سابقًا، انتهى من توديع طبيبه ورفيق السجن الذي ساعده تلك الفترة، وتحرك مغادرًا وفجأة قفزت صورتها التي حرمها على نفسه منذ نفر وجودها ..
يندم ويشعر بالوجع، رغم ما فعل معها وطردها تلك المرة، إلا أنها طلبت زيارته مرات وهو رفض، لا يقوى على مواجهتها بعد ما فعل، ولا رؤيتها والذنب يكبله، رفض رؤية أحد عدا ميمو، فهي الوحيدة التي رأته في اسوء حالاته، فلن يهمها الآن أن تراه مسجونًا رثًا، بل على العكس كانت تجلس وتشاهده باستمتاع شديد كما لو جاءت لعرض حصري ..
ابتسم وهو يشعر بضربات قلبه تقرع بقوة، حينما وصل لمنطقة الامانات والتي منحته كل ما أُخذ منه سابقًا قبل سجنه، حمل أغراضه وتحرك مع بعض الرجال صوب الباب الذي يخفي خلفه حرية، حرية تسبب له انقباض صدره، حرية لن تكتمل دونها، خطى مرتجفًا ألا يراها خلف ذلك الباب، أن تخلف وعدًا قطعته عليه سابقًا، لكن هو لن يلومها إن فعلت .
يتبع…
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية ما بين الالف وكوز الذرة ) اسم الرواية