رواية ما بين الالف وكوز الذرة كاملة بقلم رحمة نبيل عبر مدونة دليل الروايات
رواية ما بين الالف وكوز الذرة الفصل الحادي والثلاثون 31
هدوء وسكينة وراحة كبيرة هي كل ما يمكن لك أن تستشعرهم بمجرد أن تخطو لذلك المكان المظلم، وعلى عكس المعتاد، لم يكن الظلام يمثل له حزنًا أو خوفًا، بل فقط راحة نفسية ومعزل له عن جميع البشر .
ابتسم يرتكن لأحد الجدران بعدما فرغ من صلاته، يُسبّح على أصابعه كما تعلم من شيخه ومعلمه في المكان، وبعدما انتهى، تنفس بصوت مرتفع ينظر لنافذة صغير تطل على حرية مقيدة، هي فقط تطل على ساحة السجن، لكنها تشعره أنه حر كلما نظر للسماء .
استند سعيد برأسه على الجدار خلفه يغمض عيونه وقد بدأ قلبه ينبض بقوة… ست أعوام مروا عليه، جحيم عاشه، للحظات كثيرة كان يصرخ ويوبخ نفسه على أنه لم يهرب، ليته هرب، ليته لم يفعل بنفسه كل ذلك، لكن بقايا ضميره وروحه المعذبة تخبره أنه استحق كل ذلك، وأن ست سنوات هي أقل ما يجب أن يمر به .
ابتسم بسمة جانبية يتذكر يوم محاكمته، اليوم الذي فكر فيه بالهرب مئات المرات كلما استشعر ملمس القضبان المعدني أسفل أنامله، لكن كالعادة كانت ميمو له بالمرصاد ….
” محكمــــــة …”
انتفض الجميع داخل قاعة المحكمة، ميمو تنظر صوب قفص سعيد تحاول أن تطمئنه، وجوارها صلاح يضغط على كفها بمؤازرة .
وخلفهم كانت تجلس زهرة التي لم تستطع أن تتجاهل الأمر، حضرت جميع جلسات الحكم، وشهدت بكل شيء تعلمه دون مواراة أو كذب، أخبرتهم ما تعلم عن حالة سعيد، حاولت تخفيف الحكم عنه تحت بند أن أغلب ما قام به لم يكن بوعيه، بل كان الأمر كما لو أن هناك من يتحكم به داخل عقله .
وآخر الحاضرين كان نيرمينا التي لم تنبث بكلمة لسعيد ولم تنظر له أبدًا، حاولوا أن يخفوا عنها، لكنها في النهاية سمعت حديث ميمو وصلاح وعلمت كل شيء، شقيقها ومصدر الأمان لها، كان مجرد مجرم استحل لنفسه كل المحارم، كان صورة اسوء من الشخص الذي تمقته، أصبح كوالدها.
سقطت دموعها بقوة تشعر أنها تكاد تنهار وهي تستمع لكلام بعض المحاميين الذين وكلتهم ميمو لأجل شقيقها، ونادر جوارها ينظر لها بعجز على مواستها بكلمة تخفف عنها، فقط يمسك يدها ويحرك أصابعه كما أعتاد .
وها هو بعد كل ما فعل في حياته يقف في قفص الاتهام، هل هذه هي نهاية كل فاسد يا ترى ؟؟ إذن من هؤلاء الوحوش في الخارج إن كان الجميع نهايته مثله ؟! أم أن حتى الصالحين فاسدين بطريقتهم؟؟
الآن يجاور من يشبهونه، المجرمين والقتلة والفاسدين، هذا هو مكانك سعيد، هيا اعترف أنك تستحق أكثر من ذلك .
لا لا، أنا لا استحق كل ذلك، كان من المفترض أن أكون الآن حرًا، أعيش حياتي سعيدًا، ألم أُعاقب بالفعل، عوقبت بما حدث لشقيقتي وكرهها لي، وفقداني للفتاة الوحيدة التي أحببت، أليس ذلك كافيًا ؟؟
والإجابة كانت واضحة على ملامحه، انكمشت ملامحه وازدادت قبضته على القضبان أمامه يستمع لصوت القاضي وهو يتلو على مسامع الجميع قراره الذي أعتمد على العديد من الأوراق وبعض التلاعبات :
” بعد الاستماع للشهود ومراجعة الاوراق والنظر في حالته، قررت المحكمة بسجن المتهم سعيد جاد محمد، الشهير بسعيد الاشموني، ست سنوات مع الشغل والنفاذ، رُفعت الجلسة ”
انتهى من كلمته معلنًا بذلك نهاية تلك القضية لتنتفض ميمو بقوة تقول بعدم فهم :
” ده ظلم …ده ظلم يا سيادة القاضي، ست سنين ايه ؟؟ ست سنين ازاي مش فاهمة؟؟ ”
حدقت بسعيد الذي نسي ما سمع بالنظر لملامحها المصدومة تقترب منه مشيرة إليه :
” يا سيادة القاضي ست سنين ازاي، ده …ده بتاع مخدرات وأعضاء، ده ناقصله قتل ويعمل هاتريك ”
أطلق سعيد ضحكات عالية وهو لا يدري أيحزن أم يضحك على ملامحها؟! ست سنوات محذوفين من سجل حياته، ست سنوات لا يدري أسيصلحون ما بداخله أم يفسدوا ما تبقى من روحه؟؟
اقترب ميمو والتي كانت تحاول تهوين الأمر عليه من خلال بعض الكلمات المستفزة المعتادة منها، إذ التصقت بالقضبان تقول :
” أنت بتضحك على ايه يا مسجون ؟! حصل ايه ؟! المحامي عمل كده ازاي ؟؟”
ازدادت ضحكات سعيد، ثم قال غامزًا بمزاح أسود لا يليق البتة مع ملامحه السوداء وعيونه الذابلة :
” ميمو حبيبتي فوقي، هنا القاتل بياخد عشر سنين وبيخرج بعفو، طالما القاتل نفوذ وسلطة والمقتول فقير، ثم أنا كنت شاهد ملك واتخفف ليا حكم عشان حالتي، والمحامي اللي أنتِ جبتيه شكله شاطر، أصل لو كل شيء مشي بالعدل يا ميمو مكناش وصلنا لهنا”
ضيقت ميمو عيونها وأشارت له :
” المحامي ده غلطة ومش هتتكرر، بس معلش ست سنين ست سنين المهم تتربى جوا يا سعيد ”
نفخ سعيد بعدم اهتمام، لكن فجأة اختض جسده بقوة يراقب نيرمينا التي تحركت صوبه بخطوات مترددة وأعين ذابلة لكثرة البكاء، توقفت أمام القضبان لتسمع همس سعيد الخافت لها :
” نيمو ..”
أجابه صوتها الحزين الضعيف :
” مكنتش متخيلة أنك في يوم ممكن تبقى زيه يا سعيد، ليه ؟! أنت أكتر واحد عارف أنا بكرهه قد ايه، أنا مليش غيرك ليه تعمل كده فيا وفي نفسك ؟؟ ”
اتسعت عيون سعيد يمسك يدها بقوة يضمها له برعب وقد بدأ جسده يرتجف من تلك النظرة في عيونها، نظرة قتلته أكثر من كلمات القاضي :
” لا لا يا نيمو أنا … أنا والله مكنتش، لا بصيلي يا نيرمينا، بصيلي ارجوكِ ”
بكت نيرمينا أكثر ليقترب منهم نادر يضمها، وهي تزداد في البكاء ليشعر سعيد برغبة عارمة في تحطيم القضبان وضمها لصدره، لكنه حينما رأى ارتجاف جسدها قال بصوت خافت يكبت غصة بكائه :
” خدها بعيد يا نادر لو سمحت، طلعها من هنا وخلي بالك منها ”
وافقه نادر وتحرك للخارج مع نيرمينا التي كانت شبه منهارة، ابتلع سعيد ريقه ونظر لميمو التي كانت تشعر بالحزن لما يحدث وهمس ببسمة تخللتها دموعه :
” ميمو ”
” نعم ؟؟”
صمت وقال بعد تفكير :
” تعرفي أنك الشخص الوحيد غير نيرمينا اللي كنت على استعداد أضحي بحياتي عشانه ؟؟”
رفع صلاح حاجبه بحنق شديد، لكنه صمت وترك له حرية الحديث لا يريد أن يصبح وقحًا أو يتدخل في أمور زوجته وهو يعلم ما تكنه لسعيد، بينما نيرمينا
وسعيد أكمل ولاول مرة بكلمات هادئة، ربنا حنونة بعض الشيء لميمو :
” الوحيدة اللي عمري ما كنت بفكر أاذيها، بغض النظر يعني عن المرة اللي ضربتك فيها عشان عصبتيني ”
ضحكت ميمو بخوت، لكنه ابتسم وأكمل بنبرة مختنقة :
” لأني عارف أن لو فيه انسان في الدنيا دي ممكن ياخد باله من نيرمينا غيري فهو أنتِ، ولو فيه حد له اليد أنها تطلع كويسة بدون مشاكل بعد ربنا، فهي أنتِ، أنتِ الشخص الوحيد في الدنيا دي يا ميمو اللي حطيتك بمرتبة امي واختي وكنت شايل همك معاهم وخايف عليكِ من جاد بنفس المقدار حتى لو مبينتش، خلي بالك من نفسك ومنها يا ميمو ”
ابتسمت ميمو تربت على كفه القابض على القضبان، وقد سقطت دموعها قهرًا على ما فعل بنفسه، لكن انتهت مرحلة العتاب، شعرت بصلاح يضمها بحنان من الخلف مربتًا عليها، فابتسمت له بحب شديد، ثم ودعت سعيد ورحلت..
واخيرًا اقتربت منه، روحه التائهة وقلبه الثائر، زهرته الندية وحبيبته الغالية، توقفت زهرة أمام القضبان واحتارت بما يجب قوله، لا تدري أتواسيه أم تصمت ؟!
وكان فقط ما استطاعت نطقه هو كلمات صغيرة تحمل مؤازرة مبطنة، وصوت قلبها يعلو فوق صوتها هي، لكنها اخمدته بصعوبة :
” خد بالك من نفسك يا سعيد، خلي الست سنين دي هدنة لقلبك من السواد، وراحة لعقلك من التعب اللي عشته، بلاش تخليها فترة اعتراض أو سخط، عشان نفسك، عشان نفسك مش عشاني ولا عشان نيمو ولا عشان حد، عشان سعيد يا سعيد .”
ابتسم سعيد بتعب، وهو يستمع لصوت فتح باب زنزانته، ثم لصوت اعتاده منذ سنوات يتحدث باحترام شديد :
” مساء الخير يا شيخ سعيد، فيه زيارة ليك ”
نظر له سعيد ثواني قبل أن ينفجر ضاحكًا خارجًا من زنزانته يتحدث بهدوء للرجل خلفه :
” أنا يا عماد لو حد كان جالي قبل كام سنة، وقالي يا سعيد هيجي اليوم والناس تناديك شيخ، كنت وقعت في الأرض من الضحك ”
ابتسم عماد يسير خلفه باحترام لذلك الرجل، والذي عاش أول عام له بين الجدران صارخًا ساخطًا وكارهًا للجميع، يتعامل معهم كما العبيد، يكرر أنه ليس له مكان بين مجموعة من القذرين أمثالهم، حتى التقى بمن استطاع اختراق قبته وتحطيمها :
” ازاي بقى ده أنت الخير والبركة في السجن هنا بعد الشيخ شاهين ”
ابتسم سعيد بهدوء ولم يتحدث، فالجميع هنا يدري كيف مرت عليه الست سنوات كما لو كانت عمرًا بأكمله، أيام لن ينساها لو عاش اعمارًا على عمره، تحرك يخرج معه صوب مكتب المأمور يلاقي زائره الوحيد ومن غيره الذي يتذكره في سجنه، ميمو العزيزة والتي لم تنقطع يومًا عن زيارتها منذ وطأ للمكان، لا يدري حتى كيف تحصل على إذن بالزيارة، لكنها لا تتوقف عن ذلك .
فتح عماد الباب وهو يدعوه للدخول، فدخل مبتسمًا ممازحًا :
” لحقت وحشتك من كام يوم و….”
توقف فجأة عن الحديث مصدومًا مما يرى ليهمس بلوعة ولهفة شديدة :
” نـ..نيرمينا ؟؟؟”
_____________
” يعني أنت عايز تفهمني أنك صحيت الصبح لقيتها مش طيقاك من غير أي حاجة ؟!”
هز صالح كتفيه لأعلى وأسفل بجهل شديد لما يحدث في حياته، يصف لصديقه سبب تعكر مزاجه منذ الصباح :
” مش فاهم مالها، زعلانة وأنا مش فاهم زعلانة ليه، ومش حابب أنها تفضل زعلانة كده عشان بحس يومي اتعكر ”
ترك محمود مشرطه على الطاولة يخلع قفازاته، ثم استند جوار الجسد الذي انتهوا للتو من تشريحه بالكامل واستخراج عينات لفحصها :
” طب ما تقلب في دفاترك كده وافتكر عملت إيه آخر حاجة معاها ؟؟”
هز صالح رأسه يحاول أن يتذكر آخر ما حدث معهم، يتحرك حول الطاولة حتى توقف جوار محمود يستند معه على الطاولة ملوحًا بيده الملوثة :
” مش عارف أنا امبارح نمت واحنا زي الفل، فتحت عيوني الصبح، لسه بقول صباح الخير، لقيت بسمتها اختفت وقالت من غير نفس صباح النور، وبعدين خرجت من الاوضة ”
نظر لوجه محمود يتساءل بجدية :
” تفتكر زعلت عشان قولت صباح الخير من غير حبيبتي ولا حاجة ؟؟ ”
نظر له محمود بشك شديد :
” هو ممكن، بس معتقدش إن رانيا يعني متوقعة منك تقولها صباح الخير يا حبيبتي، هي يعني مش هتتوه عنك يا صالح ”
اعتدل صالح في وقفته يزفر بضيق، ثم خلع قفازه وتحرك خارج المكان يلحق به محمود بعدما أشار لأحد الممرضين أن يتولى تنظيف الغرفة، يسير في الممرات، يتجاهل تلك الفتاة التي تنتظر أمام الباب الذي يفصل ممر المشرحة عن باقي المشفى.
كانت هناك فتاة تقف بلهفة شديدة مبتسمة ببلاهة أمام الباب تنتظر مروره وبمجرد أن أصبح صالح جوارها قالت بسرعة :
” دكتور صالح أ….”
وقبل أن تكمل كلمتها كان صالح يضرب الباب بقوة شديد لدرجة أنها انتفضت بفزع للخلف، وهو يكمل حديثه حانقًا وكأنه لم يبصرها، وقد كان كذلك بالفعل:
” يعني أعمل ايه عشان اعرف هي زعلانة ليه ؟! ما تفكر معايا ”
نظر محمود خلفه للفتاة التي ما تزال في صدمتها الكبرى مما حدث، وكأنها يومًا لم تتعرض للتجاهل الغير مقصود من صالح منذ اسبوع تقريبًا :
” ما تقولها أنك متجوز يا بني وريحها ”
نظر له صالح بأعين مفكرة وتوقف فجأة :
” تفتكر ؟؟ اقولها إني متجوز عليها عشان تغير عليا ونحرك المياه الراكدة ”
” مياه راكدة مين ؟؟ أنا بتكلم على ميرا، قول للبنت اللي كل يوم تقف تستناك دي أنك متجوز ومخلف ”
كان يتحدث مشيرًا صوب الفتاة التي تقف عند الباب ترتشف صدمتها بحسرة شديدة، وصالح استدار لينظر لها متعجبًا تلك الفتاة التي يشعر أنه يراها للمرة الأولى في حياته :
” هي مين دي اساسا ؟؟”
ضرب محمود كف بالآخر يتحرك صوب مكتبهم :
” لا ده أنت رانيا لحست ليك مخك على الآخر”
زفر صالح من سخريته :
” شوف الواد التقيل، ده على اساس أنك مبقتش دكتور صباحا، خباز مساءً ”
ابتسم محمود يرتاح على مقعده :
” على قلبي زي العسل ”
” طب يا عسل فكك مني دلوقتي ”
استقام محمود يحاول أن يخرج صالح من حالته تلك :
” طب هو قبل كده الايام اللي فاتت حصل حاجة يعني، اصل ممكن تكون حصل حاجة، وافتكرتها دلوقتي وزعلت عادي كدا، بتحصل مع هاجر ”
هو صالح رأسه نافيًا يحاول تذكر الأيام السابقة لهما :
” مكانش فيه حاجة غريبة أو …مكانش فيه غير ذكرى وفاة امي، ده الحدث الوحيد اللي حصل غير كده كل شيء كان طبيعي ”
صمت صالح يتذكر ذلك اليوم من كل عام، اليوم الذي تلتصق به رانيا كالعلقة، منذ علمت ما حدث معه وهي تسير بحذر كلما خطت لتلك المنطقة الشائكة لديه، وهي من اقنعته للذهاب إلى الطبيب ..
استند برأسه على مكتبه يراقب محمود الذي انشغل في الحديث مع هاجر على الهاتف مبتسمًا ..
وهو شرد في ذلك اليوم، يوم أفضى ما في نفسه لرانيا، يوم عقد قرآنه، أسعد أيام حياته والذي قرر بكل غباء أن يصبح هو يوم اعترافه بما حدث لوالدته…..
جميلة مبهرة، كالملاك…
حينما أختار لها ذلك الثوب خصيصًا لليوم، لم يعتقد أنها ستكون بمثل هذا البهاء، تنفس بصوت مرتفع يستمع لصوت صلاح جواره وهو يهمس له :
” زي ما اتفقنا يا صالح، هنتصرف بعقل ونتقي شر اخواتها، اليوم يومك فحاول تخليه يمشي على احسن وجه، افرح وعيش كل لحظة ”
نظر له صالح بحب، ثم عاد بنظره لرانيا التي استقبلها رؤوف أسفل الدرج يضمها بحب، آخذًا إياها صوب اشقائها، يتبادلون المباركة والعناقات فيما بينهما، وقد كانت تلك اللحظة تمثل لهم عالمًا بأسره، شقيقتهم الحبيبة على وشك عقد قرانها .
على بُعد صغير منهم، كان صالح يراقبهم هامسًا لصلاح :
” صلاح قولهم عايزين نكتب الكتاب، كفاية احضان هي مش هتطير من بينهم، أحسن أنا لو روحت قولتلهم كده هيعاندوا اكتر ”
ضحك عليه صلاح، ثم تحرك صوب رؤوف وابنائه يتحدث معهم بهدوء واحترام شديد، وما هي إلا دقائق قليلة استغرقها، ثم عاد لصالح يغمز له جاذبًا إياه صوب طاولة عقد القرآن..
جلس الجميع وأمسك صالح يد رؤوف يردد خلف المأذون كلماته بقلب يرتجف سعادة، لا يصدق أنها أضحت له واخيرًا بعد نضال وحروب ومعارك انتصر بالبعض وانسحب من البعض الآخر فقط ليلتقط أنفاسه .
وبمجرد أن أعلنهم المأذون زوجًا وزوجة حتى انتفض جسد صالح بقوة يتحرك بأقدام متلهفة صوب رانيا، لكن توقف في وجهه صلاح الذي جذبه لاحضانه مبتسمًا، لكنه همس له بصوت منخفض :
” أعقل بلاش غباء قدام اخواتها لاحسن يغيروا رأيهم في ثواني ”
نظر له صالح باستنكار شديد، هل فعل كل ذلك وعجّل زواجه منها ليتريث ؟؟
وقرأ صلاح استنكاره واضعًا ليربت على كتفه مبتسمًا :
” اصبر وأنا هخليك تاخدها وتبعد عن الدوشة دي كلها ”
صمت صالح وهدأ جسده قليلًا ينظر لصلاح منتظرًا ما سيفعل، وهو تحرك كـ ولي أمر لصالح صوب رؤوف يتحدث معه بعيدًا عن الاربعة فرسان الذين أحاطوا بالاميرة، خوفًا من الوحش .
لكن المساعد الأول للوحش، استطاع أن يسلبهم الأمير بالحديث المعسول والكلمات الراقية التي أقنعت محمد ..قليلًا فقط .
تحركت رانيا بخجل صوب صالح الذي كان ينتظرها بلهفة، وبمجرد أن أصبحت أمامه، امسك يدها يجذبها بعيدًا عن الجميع متحركًا صوب غرفة الضيوف واغلق الباب خلفه، ورانيا لم تستوعب بعد ما حدث .
وبمجرد أن استدار لها صالح حتى تراجعت للخلف، نظرت له بريبة تحاول أن تبتسم بسمة عادية إلا أن الريبة غطت ملامحها :
” ايه فيه ايه ؟! بقولك أنا محمد قالي اساسا متـ ”
قتل صالح باقي حروفها في عناق كبير انساها ما كانت تريد قوله أو تنطق به حتى، لتتسع عيون رانيا، تشعر به يزيد من ضمها وهي ما تزال تحاول أن تستوعب ما يحدث حولها .
ابتسم صالح يهمس لها بصوت خافت :
” أنا انهاردة اسعد يوم في حياتي كلها ”
وبهذه الكلمات استطاع بكل سهولة أن يمحي أي تعجب أو صدمة اعتلت ملامح رانيا، لتذوب بين ذراعيه مبتسمة، تبادله العناق على استحياء، مبادلة جعلت قلب صالح يرفرف .
” بحبك ”
هذه المرة الثانية التي ينطقها، لكن كأنها المرة الأولى، نفس ضربات القلب المتسارعة، والانفاس التي اختنقت فجأة داخل صدرها، والنظرات الزائغة .
” رانيا ”
أجابت رانيا تحاول أن تتفاعل معه بأي ردة فعل عدا الصدمة والبلاهة :
” نعم ؟؟”
” أنا بحبك ”
تأوهت رانيا بقوة تدفن رأسها داخل كتفه تجيب بأحرف مرتجفة :
” وأنا.. وأنا يا صالح ”
ابتسم صالح يستمتع بتلك اللحظة معاهدًا نفسه أن يجعلها تكررها مئات المرات على مسامعه حتى يمل، ولن يفعل .
ابتعد صالح ثواني، ثم تحدث بحماس ولهفة كبيرة :
” ها الفرح امتى بقى ؟!”
اتسعت أعين رانيا بصدمة من حديثه ذلك، هذا الرجل لا يكاد يلتقط أنفاسه بين كل خطوة والأخرى، تنفست بصوت مرتفع تجيبه ساخرة :
” الاسبوع الجاي ايه رأيك ”
ابتسم لها صالح وقد أخذ حديثها بجدية :
” تمام اتفقنا أنا هكلم عمي و اشوف فاضيين يوم ايه الاسبوع الجاي ونحدد الميعاد”
كان يتحدث وهو يخرج هاتفه ليبحث عن يومٍ مناسب ليتمم زفافه من رانيا، كي يستعد من الآن للحرب التي سيخوضها في سبيل تحديد ذلك اليوم
وفجأة توقف عن الحديث وتصنمت أعينه على الهاتف، لتتعجب رانيا انقلاب ملامحه بهذا الشكل الغريب :
” ايه مالك يا صالح ؟؟”
ابتلع صالح ريقه يدس هاتفه داخل جيب بنطاله يقول بصوت حاول جعله طبيعيًا يبتسم بسمة صغيرة هادئة :
” مفيش بس أنا الاسبوع الجاي مش هعرف ..مش هقدر اعمل حاجة عشان هكون مشغول شوية، اول ما اخلص اللي ورايا هكلم عمي ونحدد ميعاد ”
تعجبت رانيا حديثه ولولا ملامحه المقتضبة تلك لكانت سخرت منه أنها فقط تمزح ولا تقصد الأمر جديًا، وأن تلك الأمور يتحدث بها مع والدها، لكن اسوداد ملامح صالح وجحوظ عيونه أوقفوا مزاحها، تتحرك لتقف أمامه متسائلة :
” مالك يا صالح ؟؟ وشك اتغير فجأة كده ليه ؟؟فيه مشكلة ؟!
نظر لها صالح يحاول أن ينهي تلك الحالة التي دخل بها، ليس اليوم على الأقل، لكن إصرار رانيا جعله يتحدث بصوت مختنق خرج منافيًا تمامًا لبسمته الصغيرة :
” الاسبوع الجاي سنوية والدتي، وأنا الفترة دي مش بقدر اعمل حاجة بكون مشغول شوية ”
اشفقت رانيا عليه خاصة من ملامحه المعذبة تلك، لا تفهم سر عذابه كلما ذُكرت والدته في حديث، نعم له الحق بالحزن عليها، هي تحزن كلما ذُكرت والدتها أو افتقدتها، لكن الأمر مع صالح مختلف عن شاب يفتقد وجود والدته في حياته، فهذه ليست ملامح فقدان أو حزن، بل عذاب …
اقتربت منه ببطء تقول مبتسمة تحاول أبعاده عن تلك النقطة :
” هو أنا ممكن ازورها عادي ؟!”
نظر لها صالح مبتسمًا وهمس بخفوت :
” أكيد هبقى ..هبقى افوت عليكِ لو تحبي ”
بادلته البسمة بأخرى أكثر اتساعًا، تمد يدها بتردد تضم وجهه بين كفيها وقد شعرت بمدى جرئتها لتلك الحركة، لكنها تخطت الأمر تقول :
” أكيد هحب اوي، عايزة اتعرف عليها ”
هز صالح رأسه مبتسمًا، لكن غصة اختناق قد استحكمت حلقه، أسبوع عذاب آخر يمر عليه، اسبوع لا يخرج منه بسهولة، كل يوم يصادف ذكرى وفاة والدته، أو الأحرى ذكرى قتلها، يشعر أن المشهد يتجدد أمامه.
شعرت رانيا بحيرة وحزن صالح، لتميل عليه تجذبه لاحضانها تقول :
” تعيش وتفتكر يا صالح، هي دلوقتي عند ربنا ”
نظر لها صالح ثواني يقول بأعين ملتمعة بالدموع وقهر خلل نبرته، رغم بسمته :
” مش عايز افتكر اليوم ده يا رانيا، ده اليوم الوحيد اللي بتمنى امسحه من راسي، مش عايز افتكر”
أنهى حديثه يحاول كتم دموعه وهي ضمته اقوى، ليقول صالح بوجع وقهر، ودون أن يشعر :
” عايز انسى، وعايز …عايزها ترجع ليا تاني يا رانيا”
صمت ثم قال بصوت موجوع لا يشعر بنفسه وبما يتحدث :
“اندبحت قدام عيوني، كنت واقف مش قادر أعمل حاجة ولا اتحرك، جه دبحها قدامي ”
اتسعت أعين رانيا بقوة شديد، وقد كتمت بصعوبة شهقة مرعوبة اوشكت تفلت منها، تشعر بارتجاف اصابها، لا تدري منها أم من صالح الذي كان يحاول أن يتمالك نفسه، لكنه ضعف وخسر أمام ذكرياته، وبكى، لأول مرة خارج أحضان صلاح، يبكي في أحضان رانيا التي لم تدري أي تفاصيل غير أن والدته ذُبحت أمام عيونه، وذلك اليوم قضى صالح نصفه بين أحضان رانيا باكيًا والنصف الآخر مبتسمًا لأجل عقد قرآنه عليها، محاولًا تمرير ما حدث .
حتى ذكرياته لم تدع له فرصة التنفس بسعادة، ليته لم يمسك هاتفه أو يتذكر الأمر حتى في تلك اللحظة، لكن رانيا كانت من الذكاء الذي جعلها تخرجه من تلك الحالة بمشاكستها ومزاحها ليعود لها صالح بالتدريج…
خرج صالح من شروده على صوت محمود الذي ضرب مكتبه بخفة :
” ها يا بني مش هتتغدى معايا ؟؟”
” قرص زي كل يوم ؟؟”
” إن كان عجبك ”
ابتسم صالح ينهض آخذًا أمتعته متحركًا مع محمود صوب مخبز هاجر المعتاد لجلساتهم :
” لا عاجبني يا بتاع البسكوت والفراولة”
ابتسم محمود يسير معه بين الطرقات مبتسمًا يخرج من شارع لآخر حتى وصل لمخبز زوجته الحبيبة، وحلم العمر :
” وهو فيه اطعم ولا احلى من الفراولة والبسكوت بزمتك ؟!”
أنهى حديثه يدفع باب المخبز يقول بصوت مرتفع نسبيًا وهو يجلس على ركبتيه مبتسمًا يفتح ذراعيه كعادته :
” فراولة بابا ”
في تلك اللحظة كانت تقف الصغيرة في منتصف المخبز تحمل صينية صغيرة احضرتها لها هاجر خصيصًا، ترتدي قبعة الطباخين وزيّ الطباخين مقلدة والدتها، تنظر للجميع وهي تتحدث بكلمات مبعثرة تتناسب مع عمر فتاة في الرابعة من عمرها، وبمجرد أن استمعت لصوت والدها، حتى تركت الصينية ارضًا بقوة تركض صوب محمود تصيح بسعادة، ليتلقفها محمود مقبلًا إياها بحب، يتلاعب بوجنتيها المحمرتين وقد أخذت الصغيرة ملامحه كلها، ولم تأخذ من هاجر سوى لطفها وشعرها فقط :
” إيه القمر ده ؟؟ كده تاخدي الوظيفة من بابا ؟! ألاقي مخبز فين دلوقتي اشتغل فيه ؟؟”
أطلقت الصغيرة ضحكات عالية خرجت على أثرها هاجر التي ابتسمت مرحبة بهما :
” يا صباح الخير، كويس أنكم جيتوا عشان تساعدوني اختار تصميم لكيكة رانيا، لأني محتارة من الصبح ”
نظر لها صالح بعدم فهم و ريبة شديدة يتحرك صوبها متسائلًا
” كيكة رانيا ؟؟ هو أنتم عندكم مناسبة انهاردة ولا ايه ؟! ”
نظرت له هاجر بعدم فهم تمسح يدها في منشفة صغيرة :
” ذكرى زواجكم انهاردة يا صالح…..”
__________________
تحرك بخطوات بطيئة صوب طاولة الطعام، يتسحب وكأنه يسير على قشور البيض، وبمجرد أن أصبح على مقربة منها ومن الطاولة، حتى انقض يضم خصرها له مقبلًا خصلات شعرها بحب شديد :
“صباح الخير يا توتا ”
ابتسمت تسبيح وعلى عكس المتوقع لم تنتفض أو تتراجع أو تهلع، فـ ست سنوات من العيش مع رائد كانت أكثر من كافية لتعلم كل شيء عنه، حركاته همساته، وتقلباته، وحتى عدد أنفاسه كل ثانية .
أمسكت تسبيح كفه واستدارت تقبل وجنته بهدوء شديد :
” صباح الفل يا سيادة الرائد، عامل ايه انهاردة ”
ابتسم لها رائد يهز رأسه لها وهو ما يزال يضمها ويأسرها بين ذراعيه، يميل عليها بعض الشيء هامسًا بمزاح :
” حاسس إن الموضوع بدأ يقلب بتريقة وذل، من يوم الترقية وأنتِ مش بتقولي غير سيادة الرائد ”
أطلقت تسبيح ضحكات عالية، تتذكر ذلك اليوم بعدما نجح رائد في المساعدة للقبض على بعضٍ من أخطر مجرمي البلاد، ليعلو اسمه في القسم الخاص به ويتلقى ترقيته المنشودة، لا تنسى تلك اللحظة أبدًا ..
كان يتناول طعامه وهو يتحدث بنبرة هادئة :
” لا هو عامة الدنيا هتبقى زي الفل، بس ده دروب كده بنمر بيه كلنا في فترة من الفترات ”
وضعت أمامه بعض الطعام بعدما انتهت من تجهيز طعام آخر لصالح وصلاح :
” أنت بس خليك جنبهم الفترة دي يا رائد ”
ابتسم لها يردد بهدوء شديد :
” أكيد يا توتا، أنا عمري ما اسيبهم ”
وضعت له حقائب الطعام، ثم جلست جواره وبدأت تضع أمامه العديد من الطعام، وهو ينظر لها بتعجب :
” ايه يا توتا، ما تاكلي أنتِ، أنا باكل اهو عادي ”
نظرت له بتعجب كأنه يتحدث بكلمات أعجمية عليها، لتدفع المزيد من الطعام وكأنه لم يقل شيئًا، ورائد يراقبها بعدم فهم، وهي تستمر بوضع الطعام، ليدرك رائد أن بها خطبًا ما :
” فيه ايه يا تسبيح ؟؟ عملتي ايه ؟؟”
نظرت له تسبيح بتوتر وتعجبت أن كشفها، ليس وكأن كل ما تحاول إخفاءه ظاهرًا للعيان :
” أنا معملتش حاجة يا رائد، بس …بس ”
صمتت والخجل أضحى يزين ملامحها وقالت :
” رائد هو أنا…يعني كنت بسأل يعني لو ينفع ”
صمتت مجددًا بشكل جعله يرتاب أكثر ليميل عليها متسائلًا :
” تسبيح أنتِ عملتي مصيبة صح ؟؟”
سارعت بلهفة لتقول:
” لا والله مش مصيبة بس ..بس كنت عايزة اروح تجمع بتاع بنات عند هاجر في المخبز هي عزمتني وأنا يعني كنت ….”
رفع رائد حاجبه باستنكار شديد مما يحدث، كل ذلك التوتر والشرود والملامح الصامتة الخجلة، لأجل أن تستأذنه للخروج ؟!
” تسبيح أنتِ عبيطة ؟؟”
ها هو يعود مجددًا لذلك الرائد الذي لا يستطيع التحكم بكلماته المنسابة من بين شفتيه، لكنه حقًا شعر بحنق كبير من كلماتها تلك .
” تسبيح حبيبتي هو أنا واخدك رهينة ؟؟ بتقضي فترة سجنك في الشقة هنا طيب ؟؟”
نفت تسبيح برأسها ليقول ببسمة غير مصدقة لتصرفاتها :
” امال ليه حسستيني فجأة كده كأنك بتطالبيني بكِلية أو عايزة فص من كبدي ؟؟ اخرجي يا تسبيح اخرجي يا حبيبتي، عايزة اوصلك ؟؟ عايزة فلوس طيب ؟!”
أومأت تسبيح في إيجاب والخجل يملئ قسمات وجهها، ليقول هو :
” اه ايه ؟؟ اوصلك ولا فلوس ؟!”
نظرت له بتردد ليبتسم قائلًا قاطعًا عليها طريق أي حديث :
” خلاص هعملك الاتنين ”
اتسعت بسمة تسبيح بامتنان له وما كادت تشكره، إذ قاطعهم صوت رنين هاتف رائد، نفض رائد كفيه يسحب الهاتف من جيب بنطاله مشيرًا لها :
” كلي يا تسبيح، كلي يا حبيبتي ”
أجاب الهاتف على نفس الشرطي الذي كان معه أثناء الهجوم :
” مساء الخير يا فندم…على ايه يا ده واجبي والله ”
صمت دقيقة تقريبًا يستمع لكلمات كثيرة اصطدمت بإذنه من الطرف الآخر، يتلقاها بملامح عادية مبتسمة، قبل أن تتلاشى فجأة بسمته وتتسع عيونه بقوة ينظر صوب تسبيح التي كانت تتناول طعامها كما طلب منها، لكن بالنظر لملامحه توقفت مرتابة :
” خير يا رائد حصل حاجة ؟؟”
نظر لها رائد يحاول أن يتحدث بكلمة، لكن عجزت كلماته عن عبور حدود شفتيه، وانتهت المكالمة بكلمات مقتضبة من جهته، ثم اغلق الهاتف ونظر لتسبيح بلا ردة فعل، فقط ملامح شاخصة جعلتها تمسك مرفقه متحدثة بخوف :
” رائد مالك ؟! دي مكالمة من الشغل ؟؟”
هز رائد رأسه بنعم، فارتابت أكثر وشعرت بالرعب خاصة أن رائد كان قد أفضى لها بتحذير قائده إن كان يفعل أمورًا من وراء ظهره قد يخسر وظيفته ومنصبه .
” رائد حصل حاجة ؟؟ ”
ومجددًا أومأ بإيجاب، لتقول بمواساة :
” بالله عليك ما تزعل والله هما اللي خسرانين يا رائد، أنت احسن ظابط في الدنيا دي كلها ”
” أنا هترقى .”
” معلش والله بكرة ربنا يعوضك و….”
فجأة توقفت عن الحديث حينما بلغ الوعي عقلها، نظرت له بعدم تصديق، وهو المسكين الذي عافر طيلة حياته ليصل إلى ترقية مستحقة له، تعب وناضل وفعل كل ما بوسعه، لم يعتمد على منصب غيره أو يستند على اسم آخر، والآن يرى أمامه ثمار تعبه وقد نضجت وحان وقت قطفها .
شعر رائد بسعادة كبيرة، أن تنال حلمك بعد سنوات انتظار وكفاح لهو أمرٌ في غاية اللذة …
اقتربت منه تسبيح تردد بصدمة وأعين دامعة :
” هتترقى ؟؟”
هز رائد رأسه بقوة وهو يكرر كلماته :
” هترقى يا تسبيح، أنا…أنا هترقى ”
ودون كلمة ألقت تسبيح نفسها بين أحضانه، ليطلق رائد صرخة سعيدة، يدور بها في قوة كبيرة سعيدًا، وهي تحمد الله وتبارك له، ورائد ينقصه فقط أن ينتب له جناحين ويحلق بهما في الإرجاء سعيدًا، لحظة لن ينساها مدى حياته، قد يظهر الأمر للبعض هينًا أو سخيفًا، لكن لرائد الذي عاش عمره بأكمله يسعى لذلك كان يعني له الكثير والكثير .
كان يشعر برغبة عارمة في الصراخ، يفكر في ردة فعل والده حينما يعلم، أنه أصبح اسمًا على مسمى، وأنه خطى واخيرًا أولى خطواته في طريقٍ حلم به طوال طفولته وشبابه ..
لحظة من أسعد لحظات حياة رائد القديم، لكن بالنسبة لرائد _ الذي أعاد ترتيب أولوياته منذ اقتحمتها تسبيح واضعًا إياها على رأس القائمة_كانت لحظة زفاف تسبيح عليه هي أهم لحظة عاشها …
ابتسمت تسبيح وهس تنظر لوجه رائد الذي نضج خلال الست سنوات، وبدأت ملامحه تزداد وسامة على وسامته، جذبته للطاولة الخاصة بهما تقول ببسمة واسعة :
” ببساطة هفضل اقولك كده لغاية ما تترقى الترقية الجاية”
ابتسم لها رائد بسمة واسعة وهو يجذبها لتجاوره الطاولة، ممسكًا كفها بحب :
” أنا أخدت ترقيتي الكبرى يا توتا، يوم ما بقيتي ليا ”
وعجزت تسبيح كالعادة على رد كلماته بأخرى تنافسها جمالًا، واستغلت حالة الهدوء في المنزل، إذ أن جميع الأطفال قد غادروا للقرية، حيث والديّ رائد قد اخذوهم لتقضية عطلة الأسبوع كما جرت العادة، وهم يلحقون بهم بعد انتهاء عمل رائد .
دفعت تسبيح الاطباق صوب رائد تقول بحب شديد :
” بالهنا والشفا على قلبك يا رائد، اتمنى يكون يومك انهاردة سعيد ”
_____________________
تجمد جسده لا يصدق ما يراه أمامه، نيرمينا الصغيرة تقف بهيئة اخرى، ناضجة بعض الشيء وبريئة كما عهدها، نظراتها الحبيبة التي افتقدها في آخر لقاء لهما يوم إصدار الحكم، ومنذ أعلن رفضه التام لمقابلة أحد أو رؤيته لأحد، ورفض رفضًا قاطعًا أن تبصره نيرمينا أو حتى زهرة في وضعه ذلك، رفض كبرياؤه أن يسمح لأحد برؤيته.
لكن تبًا لكبريائه أمام ميمو، التي رفضت كل ذلك ساخرة منه، وأصبحت تقفز له في كل مرة حسب مزاجها وكأنها تفعل ذلك فقط لتعاند قراره.
إن كانت سعيدة أتت لتشاركه سعادتها وتثير حنقه، وإن كانت حزينة أتت تلقي باحزانها في وجهه لتزيد من حزنه هو .
أقترب سعيد من نيرمينا بتردد شديد، ثم نظر لميمو التي كانت تنظر له بشر أن يتقدم منها، وسعيد يشعر بالغربة والوحشة داخل قلبه، هل إن قال أنه أضحى يراها بعيدة سيتهمه البعض بالجنون ؟؟
توقف يخشى الاقتراب، يراها أمامه ولا يقوى على احتضانها كما يحب ويرغب، ابتلع ريقه ينظر حوله بتردد :
” نيرمينا…..ليه جيتي دلوقتي و…”
ولم يكد يكمل كلماته حتى وجد نيرمينا تركض صوبه تلقي نفسها بين أحضانه باكية بقوة، انهارت بقدر الست سنوات التي قضتها باكية عليه حزينة، تحاول التغلب على خوفها منه، دون إرادتها كانت تخشاه تخافه، حاولته رؤيته مرات وهو رفض رفض تام ..
والآن حينما غافلته وأتت مع ميمو يرفض الاقتراب منها ؟! بكت نيرمينا وهي تلقي نفسها بين ذراعيه قائلة بحزن شديد :
” أنت مبقتش تحبني يا سعيد ؟؟ أنت مبقتش عايز تشوفني ؟؟ والله العظيم أنا ما كان قصدي ازعلك مني ولا اقولك حاجة تزعلك ”
هبطت دموع سعيد ولا يدري كيف يخبرها أنه لم يرغب يومًا في رؤيتها، خجلًا من النظر لها ورؤية عيونها التي ترمقه بلوم وكره ؟!
شعر بارتجاف جسدها بين أحضانه اقوى وهي تردد :
” والله انا بحبك وكنت دايما بسأل ميمو عليك، وعايزة اجيلك وأنت مش بترضى ”
كانت تتجدث وتعاتب من بين شهقاتها، لتزداد دموع سعيد يقبل رأسها بحب شديد محاولًا أن يهدأها:
” بتقولي ايه يا نيمو؟؟ أنا عندي اغلى منك في حياتي ؟؟ أنا مليش غيرك يا قلبي ”
بكت نيرمينا أكثر وسعيد يزيد من ضمها، لا يصدق أنها واخيرًا بين ذراعيه، بعدما سهر أيام وليالٍ طويلة يناجيها ويبكي غيابها، يقتل نفسه ويجلدها بسياط الذنب، أن جعلها تواجه نسخة أخرى من جاد داخله، عرضها لما عاش سنوات يبعدها عنه، ست سنوات كانت فترة أكثر من كافية ليذيق نفسه عذاب البعد عمن يحب عقابًا لها كي تتأدب، ويجلدها بالحرمان كي يقومها..
لا ينسى تلك الأيام التي خرج بها سعيد المتجبر وأخذ يصرخ بالجميع أنه ليس بمذنب وأنهم جميعًا اسوء منه، وهو لا يجب أن يكون هنا، ليالٍ قضاها متدحرجًا بين ذنبٍ وتوبة، يبحث عن حافة ثابتة توقف تدحرجه، حتى اصطدم بشيخه الفاضل الذي عكف سنوات على تقويمه وإصلاحه…
قبّل سعيد رأس نيرمينا بحب شديد هامسًا :
” وحشتيني يا ميمو، وحشتيني اوي اوي ”
ازداد بكاء نيرمينا :
” وأنت يا سعيد بجد وحشتني اوي، أنا مش مصدقة أنك قدرت تبعد عني ست سنين يا سعيد ”
كانت تتحدث منهارة في بكاء عنيف، ثم قالت تلومه على بعد لم يكن بيده :
” أنت حتى مشوفتش بنتي ”
ابتعد عنها سعيد مصدومًا، ينظر لها وكأنه تذكر للتو أن صغيرته نضجت وأصبحت امًا، كيف نسي وقد أخبرته ميمو سابقًا بالأمر، نظر حولها بلهفة يهمس :
” زينب؟؟ هي معاكِ ؟!”
نفت نيرمينا برأسها وقالت :
” هي مع نادر في الشركة، خفت اجيبها ومقدرش ادخل أو اتبهدل بيها ”
ابتسم سعيد يقول بحنين وشوق اضناه :
” شبهك ؟!”
سقطت دموع نيرمينا وهمست بصوت مختنق بالدموع :
” شبه ماما ”
تأوه سعيد وقد زاد شوقه لرؤية من تشارك والدته اسمها وملامحها، سعيدًا مبتسم الثغر متشوقًا لحملها، ابتسمت له نيرمينا تقول :
” هي عايزة تشوفك اوي والمرة الجاية لما نيجي نخرجك هجبيها ليك معايا، على فكرة بتحبك اوي يا سعيد ”
قال سعيد بشفاه مرتجفة :
” هي …هي تعرفني ؟؟”
” أكيد يا سعيد، يعني مش هتعرف خالها؟؟ ده البيت مليان صورك، وعارفاك وعارفة كل حاجة عنك، ومستنية تشوفك عشان تجبلها الحلويات اللي مش بنرضى أنا ونادر نجيبها ليها ”
صمتت ثم قالت بعد ضحكة قصيرة :
” أصل هي فاكرة أنك هتيجي تاخدها مننا وتجيب ليها اللي تحبه، بتعاملك معاملة بابا نويل ”
سقطت دموع سعيد بقوة يشعر بالقهرة والحسرة، بالله ما الذي جنته يداه ؟؟ ماذا نال غير وجع الماضي وتعب في الحاضر، ودمار مستقبله؟! أين ما عاند ضميره وخالف فطرته وعصى ربه لأجله ؟!
أين كل ذلك ؟!
عند تلك النقطة أنهار سعيد باكيًا بين أحضان نيرمينا ليزداد بكاء الاخيرة تباعًا له، وتعلو صرخات الصغير أعلى أكتاف ميمو على أثر أصواتهم لتردد هي حانقة :
” هو أنت يا بني ابنه وأنا معرفش ؟! يضحك تضحك يعيط تعيط ؟!”
رفع سعيد عيونه لها وقد كانت الدموع تملئها، ولأول مرة منذ دخوله يبصر رفيقه المقرب والحبيب الذي جاء بعد سنوات تعب وبكاء .
ابتسم يمد ذراعيه للصغير صاحب العام وبضعة أشهر، يلتقطه من بين أحضان ميمو مقبلًا إياه بحب شديد، يهمس له بكلمات صغيرة وهو يهدهده ويقبل وجنته بحب، ليهدأ الصغير شيئًا فشيء وتشعر ميمو أنها خسرت طفلها لصالح سعيد .
جلست على المقعد ترتاح بسبب حملها الثاني زافرة بضيق شديد :
” والله الولد ده مدسوس في عيلتي ”
ضحك سعيد ماسحًا دموعه، يقبل الصغير الحبيب ورفيقه منذ بدأت ميمو تحضره معها أثناء الزيارات :
” ده قلب سعيد، مش كده يا أنس ؟!”
ابتسم له الصغير رغم عدم فهمه لما يتحدث به سعيد لتتسع بسمة نيرمينا بسعادة كبيرة على شقيقها، تقول متسائلة :
” الظاهر أنك ضربت صحوبية مع أنس”
رفع رأسه لها يردد بهدوء أثناء جلوسه يحرك الصغير بحب :
” ممكن تقدري تقولي إني لما بقف قدام أنس بحس إني قدام معجزة كبيرة، اتنين زي ميمو وصلاح يجيبوا كائن ملائكي زي القمر ده ؟؟ سبحان الله ”
أطلقت نيرمينا ضحكات صاخبة وهي تراه، قد توقف عن العديد من الأمور، عدا استفزازه لميمو .
زفرت ميمو بحنق شديد تتحس معدتها بتعب :
” لا هي المعجزة الوحيدة أنه مطلعش شبهك الحمدلله، اصل سمعت إن في الحمل الأم لما تتغاظ من حد الطفل بيطلع شبهه، الحمدلله عدت على خير، ربنا يسترها في اللي جاي ”
ارتفع حاجب سعيد باستنكار شديد :
” وأنتِ تطولي ابنك ولا بنتك يطلعوا شبهي ؟؟ مش احسن ما يبقوا شبهك أنتِ أو التاني اللي متجوزاه ؟؟”
تشنجت ملامح ميمو تجيبه ببرود شديد :
” هو شبه أي حد هيكون احسن منك يا سعيد والله ”
تجاهلها سعيد مستمرًا في ملاعبة الصغير :
” حياتي أنا، بكرة أخرج من هنا وانقذك من جحر الأفاعي اللي عايش فيه يا حبيبي ”
ضحكت ميمو ساخرة :
” لص يتحدث عن الأمانة ”
” والله لولا أنك الوحيدة اللي بتجيبي ليا أكل أنا كنت رديت عليكِ رد مش هيعجبك ”
رمقته ميمو بتشفي وبسمتها تتسع أكثر :
” يااه على الدنيا والذل، كل ده عشان لقمة العيش ”
اقتربت نيرمينا تضم سعيد بحب شديد مقبلة أعلى رأسه، والاخير ينظر لها بحب شديد يسمعها تقول :
” ده انا اعمله كل اللي يحبه على عيوني ”
قبل سعيد يدها :
” تسلم ايدك ياقلبي، أنا بخير متتعبيش نفسك أنتِ، ميمو تتعب نفسها عادي، مش كده يا ميمو ؟؟ ”
سحبت منه ميمو الصغير تردد بحنق وتهكم :
” امال يا قلب ميمو مش المرمطون بتاعك ؟؟”
“اعيش وامرمطك يا ميمو ”
حركت ميمو الصغير بين ذراعيها تهمس له ببضع كلمات، ثم ابتسمت وقالت :
” معلش بكرة تطلع واطلعهم عليك يا سعيد، يلا بقى يا نيمو عشان ألحق صلاح قبل ما يخلص حفلة التوقيع بتاعته ”
ابتسم سعيد يقبل الصغير، ثم رآها تضع له حقيبة طعام وبعض الكتب التي طلبها منها، وودعته نيرمينا متحركة للخارج مع ميمو، وقبل أن تخرج ميمو من الغرفة سمعت صوت سعيد يوقفها :
” صحيح يا ميمو ”
توقفت متعجبة تنظر له بترقب ليبتسم قائلًا بحنان واستحسان لما تفعل في حياتها :
” هو متأخر كام شهر عشان اقول كده، بس مبارك الحجاب…….”
__________________________
يجلس على طاولة تتوسط الجميع، يبتسم كعادته ويتحدث بكل هدوء ورقي يمتلكه، يجيب على اسئلة البعض ويمازح البعض الآخر بشأن كتاباته الأخيرة .
هز رأسه يستمع لسؤال أحد معجبيه الذي نهض يطرحه بفضول شديد :
” استاذ صلاح هو صحيح أن الكتاب الاخير مستوحى من قصة حياتك ؟!”
ضم صلاح حاجبيه بتعجب لتلك الفكرة التي يعتقدها الجميع، فكتابه الأخير لا يمت بصلة لحياته هو، مجرد كتاب أنتجه خياله الخصب، لكن ربما لأن الجميع يبحث بين سطور الخيال عن واقع اعتقدوا ذلك به .
ابتسم لهم يجيب بهدوء شديد بعد صمت قصير :
” لا الكتاب الاخير غير مستوحى من حياتي، ربما يكون واقعي بنكهة خيالية، وربما يكون واقع بعض الأشخاص بالفعل لكنه مش واقعي أنا، أنا واقعي افضل بكثير الحمدلله ”
صمت يبصر واقعه الجميل يسير بين الجميع حاملًا بين يديه مستقبله الحبيب، ويبتسم له، ليبادلها صلاح البسمة دون وعي :
” قصتي أكبر من أن مجرد صفحات تضمها، اعتقد لو قررت في يوم اكتب قصتي هحتاج مجلدات من مليون صفحة أو أكثر، صفحة اوصف فيها معاناتي، و ٩٩٩,٩٩٩ صفحة اوصف فيهم كرم ربنا عليا وعوضه الجميل ليا”
أنهى حديثه بغمز صغيرة التقطتها ميمو لتتسع بسمتها بقوة تبادلها الحب بعشق مقابل، ذلك الرجل الذي عانى معها سنوات وسنوات، ولم تتوقف معاناته عند زواجهم، بل بدئا الإثنان رحلة لا تنتهي من المعاناة لأجل إحضار صغيرهما الأول، وبعد سنوات من المحاولة، كان يستمر صلاح في ضمها وتقبيل رأسها كلما يأست، رزقهما الله بأنس ليؤنس حياتهما، وهي لم تتبع تعليمات الطبيب بالتريث لحمل الطفل الثاني، بل أرادت أن تعوض صلاح عن انتظاره سنوات وتمنحه نطفتهما الثانية والتي تقبع داخل رحمها بكل راحة منذ شهور قليلة …
سمع صلاح شخص يتسائل بفضول :
” معنى كده أن حضرتك مش ممكن في يوم تعمل مثلا سيرة ذاتية أو حتى قصة عن حياتك، يعني حضرتك ما شاء الله صحفي ناجح ومقالاتك قوية اوي، اكيد ورا كل مقال قصة اقوى تستحق أنها تتحكي ”
صمت صلاح ثواني يفكر في كلماته ثم قال بهدوء :
” أنا بالفعل كتبت قصتي في كتاب، قصة بدأتها وأنا ١٨ سنة تقريبًا، ولسه منتهتش، كل يوم بتنضاف ليها فصول جديدة واحداث جديدة ”
” وحضرتك مقرر تنشره امتى ؟؟”
أطلق صلاح ضحكات خافتة يهز كتفيه بجهل شديد :
” معرفش امتى ممكن احط كلمة الخاتمة في قصتي، بعدين هي القصة دي مش قصتي مع الصحافة ولا كل ده، دي قصة تانية بعيدة كل البعد عن حياتي الظاهرة، ومعتقدش إني ممكن في يوم هحب أظهر الجزء الخفي في حياتي للعلن ”
أنهى حديثه بهدوء شديد رافضًا أي مناقشة فيه، ليتحدث مدير دار النشر متدخلًا في الأمر مبتسمًا، وقد أخذ يتناقش معهم حول الاصدار الجديد لكتاب صلاح في المعرض القادم وغيرها من الأمور التي لم تهم صلاح بقدر اهتمامه بميمو التي كانت تراقبه بفخر شديد، كل يوم تزداد حبًا له….
استغل صلاح انشغال البعض بالحديث مع كاتب آخر من دار النشر يشترك معه في حفلة التوقيع، واستأذن بخفوت منهم متحركًا لخلف الصفوف صوب ميمو تحت أعين البعض الفضولي.
وصل لها يأخذ منها صغيره الحبيب، ضمه لصدره يقبل وجنته وخده بحب شديد، ومن ثم اقترب من ميمو يهمس لها بصوت منخفض :
” روحتي لسعيد ؟! ”
هزت رأسها بإيجاب مبتسمة :
” أيوة وكمان نيرمينا جات معايا”
” وهو عامل ايه ؟! ”
ربتت على خصلات الصغير بحنان شديد :
” كويس الحمدلله، وكل مرة بيتحسن عن اللي قبلها، وكمان بعد ما نيرمينا جات اعتقد بقى كويس، بس قبل ما امشي أكد عليا إني اخلص اللي طلبه ”
صمتت وقالت بتردد شديد :
” أنا تقريبًا خلصت كل حاجة بس ناقص شوية اوراق كده محتاجين يـ ”
قاطعها صلاح يفهم ترددها ورغبتها، ابتسم يعدل من وضعية الحجاب الخاص بها، يدفع ببعض الخصلات لداخل الحجاب وهي نظرت له تدفع هي الأخرى، وصلاح يربت على وجنتها بحنان بعدما انعزل بها عن الأعين الفضولية :
” أنا كلمت محامي بالفعل يا مقدس، متقلقيش ياقلبي كل شيء هينتهي وبدون أي مشاكل ”
ابتسمت له ميمو بحب شديد شاكرة إياه فهي لم تتوقف عن عادتها باقحامه في أمورها وأمور سعيد، وصلاح لم يتوقف عن تقبل ذلك الاقحام بصدر رحب وبسمة، بل إنه هو من يطالبها بعض المرات باقحام نفسه، وحينما سمع صلاح رنين هاتفه علم أنه يجب عليه العودة لمقعده، وقبل أن يعطيها أنس للرحيل، منعته ميمو ببسمة خبيثة :
” لا معلش هو أنس قالي أنه عاوز يقعد معاك هناك على الكرسي ده، مش كده يا أنس ؟!”
كان أنس مشغولًا في اللعب بقلم والده الذي سحبه من جيب سترته السوداء، وصلاح يرمق ميمو باستنكار شديد، ومن ثم نظر لولده يقول :
” أنس هو اللي قالك عايز يقعد هناك معايا ؟! ”
” أيوة، حتى اسأل أنس، أنا يعني هكدب عليك ؟!”
ضحك صلاح يفهم جيدًا ما تفكر به، يشير ببنصره صوب خاتم الزواج الخاص به :
” ميمو يا حبيبتي، الكل عارف إني متجوز والله، متقلقيش”
ربتت على ظهر أنس وهو يعلو كتفه قائلة ببسمة أوسع:
” معلش زيادة تأكيد، خده قعده معاك شوية، أصل أنا حسيت فجأة كده بتعب واني مش قادرة اشيله”
سخر منها صلاح يتحرك صوب الطاولة التي تجمعه مع باقي أفراد دار النشر، يقبل صغيره ويهمس له بحنق :
” تعالى يا حبيبي لأحسن ماما شوية وهتربطني فيك ”
ضحكت ميمو بخفوت تتأكد أن حجابها بخير ولم يحدث له ضرر، ثم جلست بهدوء على المقعد تتابع حوار صلاح، الذي كان يتحدث بهدوء ورقي يتنافى تمامًا عن هيئته بسبب حركات أنس ولعبه في خصلات شعره مبعثرًا إياها، في حركة اعتاد عليها مع صالح، همس له صلاح :
” بس يا حبيبي انا بابا مش عمو صالح، أبقى روح ألعب في شعره هو، بس ده شعر بابا سيبه زي ما هو ”
نظر له أنس مبتسمًا وقال :
” بابا ”
ضحك صلاح بخفوت وهمس :
” أيوة والله، بابا بس مرهق شوية، ممكن أظهر ليك دلوقتي صالح بس أنا والله صلاح، تشوف البطاقة؟! ”
ضحك أنس وهو لم يفقه نص الحديث، بل فقط يظنه أنه يلاعبه ليس إلا، وصلاح اندمج معه في الحوار تارة، وفي المناقشة تارة أخرى، حتى انتهى الأمر ونهض صلاح يتحرك به صوب ميمو لولا أن أوقفته فتاة لتأخذ منه بعض الصور …
توقف صلاح يحمل بين ذراعيه أنس الذي بدأ يجذب خصلات شعر الفتاة بوقاحة، جعلت صلاح يبعده للجانب الآخر معتذرًا والتقط صورة سريعة معها، ثم تحرك صوب ميمو التي كانت تضحك بصوت عالي عليهم، وبمجرد أن وصل لها أخذت منه الصغير تقول بمزاح :
” تمت المهمة بنجاح يا أنس، فكرني اديك مكافأة لما نرجع”
سخر صلاح يتحرك معها للخارج وهو يحاول تصفيف شعره :
” مجندة ابني ضدي ؟؟ ”
” واجند جيش كامل يا صلاح، المهم نحمي حدودك بعيد عن أي دخيلة، ولا ايه يا أنس؟! ”
هز أنس رأسه لتبتسم ميمو وتتحرك صوب سيارة صلاح الذي قال بمزاح :
” الواحد هيبدأ يستعد من دلوقتي عشان يجند الفرد الجديد لطرفه …”
________________________
دخل المنزل ينظر حوله يحاول أن يتبين وجود أيًا من الشياطين الذين أنجبهم، لكن لا شيء الهدوء يعم المنزل، مما يعني أن لا أحد هنا عدا زوجته الحبيبة .
على ذكرها سمع صالح صوت دندنات يأتي من جهة مطبخهم، رفع حاجبه يتحرك صوب المطبخ بخطوات بطيئة يرهف السمع ليصل له صوت رانيا مغنيًا بألحان لطيفة هادئة، توقف على باب المطبخ يراقبها مبتسمًا، وهي تغني وترقص ….
ارتفع حاجبه يقترب منها أكثر، من توقف خلفها يميل ببطء نحو كتفها هامسًا بلطف كلمات لا تمت للـ لطف بصلة :
” عاملة إيه على الغدا ؟؟ ”
انتفض جسد رانيا بقوة واختض من الصدمة، قبل أن تتماسك فجأة، وتنكمش ملامحها تدعي غضبًا ليس بها في الحقيقة فهي لن تتعرف على صالح بالأمس..
” مالك قلبتي كده، ما من شوية كنتِ بتغني وبترقصي ”
تجاهلته رانيا وهي تكمل عملها، لكن صالح لم يسمح لها بذلك يجذبها بعيدًا عن طاولة الطعام، يسحب من يدها السكين ببطء شديد تحسبًا لأي شيء، ثم ابتسم يقول بهدوء ونبرة متحمسة :
” نسيت اقولك، ذكرى زواج سعيد يا رانيا، ويارب العمر كله سوا ”
نظرت له رانيا بريبة وقالت :
” مين قالك ؟؟”
” محدش طبعا، انا افتكرت لوحدي ”
رفعت حاجبها باستنكار تكذبه، لكنه لم يهتم وهو يقول بجدية كبيرة :
” ولعلمك بقى أنا اساسا فاكر من اسبوعين تقريبًا، لا أنا اساسا منستش عشان افتكر، وكنت مش راضي اقولك الصبح باعتبار إني هعملك مفاجأة انهاردة، لكن حسيت كده الصبح أنك زعلانة مني، فقولت اقولك اني فاكر وابوظ المفاجأة وخلاص ”
ختم حديثه حانقًا وقد بدأ يقتنع هو الأخر بكذبته لدرجة اصابه الغضب لأنها أفسدت مفاجئته التي لم يفكر بها حتى .
ورانيا اقتربت منه بريبة وشك، لا تصدق ما يقول، لكن رغم ذلك ابتسمت وقالت :
” بجد يا صالح ؟!”
زفر صالح يمسح وجهه :
” طبعًا يا رانيا، أنا كنت بجهز الهدية عشانك، بس أنتِ بوظتي الدنيا، يلا مش مشكلة تتعوض الذكرى الجاية، أنا هخرج اغير وجايلك اساعدك ”
” طب استنى احطلك حاجة تاكلها لغاية ما الأكل يجهز”
” لا اكلت مع محمود عند هاجر و…”
فجأة توقف عن الحديث حينما شعر أنه ارتكب خطأه الذي سيحيل يومه والأيام القادمة لجحيم، دعى وابتهل في أعماق قلبه ألا تنتبه رانيا لذلته تلك وتمررها، اكمل طريقه بخطى عادية، لكن رانيا ليست تلك الحمقاء التي يفوتها كل ذلك …
” كنت عند هاجر ؟؟ ”
ابتلع ريقه وقال بنبرة حاول جعلها عادية :
” أيوة فطرت عندها كالعادة يعني ما أنتِ عارفة محمود مبقاش ياكل غير هناك كل يوم ”
اقتربت منه رانيا خطوات وقالت بتسائل:
” وهي قالتلك حاجة ؟!”
استدار لها مبتسمًا :
” بتسلم عليكِ يا حبيبتي ”
” الله يسلمك يا صالح، مقالتش ليك حاجة غير أنها بتسلم عليا ؟؟ زي مثلا أنها انهاردة بتحضر حاجة عشان ذكرى جوازنا، أو فكرتك إن انهاردة ذكرى جوازنا ؟؟”
صمت صالح ثواني وهو يرى ملامح رانيا المتحفزة، قبل أن يمنحها بسمة واسعة، يقول بصراحة كبيرة ودون أن يحيد عن الطريق المستقيم :
” أيوة فعلا هي قالتلي إن انهاردة ذكرى جوازنا، بعد ما أنا كنت ناسي، بس صدقيني لو كنتِ سبتيني، كنت هفتكر لوحدي على العصر أو المغرب كده ”
أنهى حديثه مبتسمًا لتهز رانيا بيأس شديد عليه تتحرك خارج المطبخ :
” والله كنت عارفة يا صالح، أنت عمرك ما تتغير ”
خرج صالح خلفها معترضًا وبشدة على حديثها :
” لا يا رانيا، أنا اتغيرت وأنتِ اكتر واحدة عارفة إني اتغيرت، ولا الكلام الحلو اللي كل يوم بتنامي وتصحي عليه ده مبقاش ياكل معاكِ؟! مين اللي بيقولك يا حبيبتي ساعات ؟؟ مش أنا ؟؟ ومين اللي لما الاكل يبقى حلو بيقولك تسلم ايدك ؟؟”
نظرت له رانيا بتشنج تحاول أن تكتم داخلها صوتًا ساخرًا متهكمًا :
” صالح يا حبيبي، اللي بتقوله ده مش كلام حلو، ده اسمه ذوق وأخلاقيات عادي ”
” أيوة بس أنا معنديش ذوق، والكل عارف كده، فلما اقولك تسلم ايدك يا حبيبتي، يبقى بجاهد عشانك ولا لا ؟؟”
جاهدت رانيا لتكبت ضحكة صاخبة كادت تخرج من فمها، وهو أشار لها بتحذير ألا تضحك وتفسد جديته، لكنها لم تتحمل لتنفجر ضاحكة ويعلو الحنق وجه صالح الذي حاول الخروج من المكان غاضبًا، لكن رانيا أمسكت يده بسرعة تردد :
” استنى معلش خلاص والله، أنا مكانش قصدي اقلل من جهودك العظيمة، أنا بس … أنا بس والله مش قادرة بجد ملامحك بتضحكني ”
زفر صالح حانقًا ولم يكد يتحرك، حتى امسكته هي تضمه بحب شديد :
” حقك عليا والله أنت عسل يا صالح وأنا بحبك زي ما أنت كده، بقلة ذوقك وكل الأخلاقيات اللي مش فيك ”
ابتسم صالح بسمة واسعة وقال بحب شديد يتمتع بيدها التي تضم خصره :
” على فكرة والله أنا كنت هفتكر وهجبلك هدية، هو أنا عندي اسعد من اليوم اللي بقيتي فيه ليا يا رانيا ؟؟”
ابتسمت رانيا بحب له :
” أنا عارفة أنك مش هتفتكر يا صالح، ومش زعلانة على فكرة، أنا كده كده كنت هجهز الليلة مع ميمو عشان نحتفل سوا ”
ابتعدت عنه تنهي كلماتها مذكرة صالح بيوم زفافه الذي تشاركه مع صلاح، فقد أصر أن يتزوجوا في يوم واحد سويًا، وصلاح كان أكثر من مرحب .
ابتسم يلاحظ حركات رانيا ليتساءل بتعجب :
” طيب هو الاولاد فين ؟! ”
قالت تنتهي من الطعام أمامها :
” بعتهم عند تسبيح عشان اجهز الدنيا لغاية ما ميمو ترجع”
صمتت ثواني، ثم استدارت له وقالت بجدية :
” صالح هو أنا لو طلبت منك تلبس بدلة انهاردة ممكن تلبس ؟؟ عايزة نقضي يوم لطيف يفكرني بيوم الفرح ايه رأيك ؟؟”
صمت صالح ثواني لا يفهم سبب طلبها ذلك، لكنه لم يعترض، بل هز رأسه ببساطة شديدة مبتسمًا :
” حاضر هلبس بدلة، طلب تاني ؟! تحبي اسرح شعري زي صلاح ؟؟”
” لا أنا عايزاك صالح بس ”
ابتسم صالح يميل عليها ملتقطًا قبلة سريعة، ثم اعتدل يقول هامسًا بحب :
” وصالح هيكون ليكِ أي شيء تطلبيه يا رانيا ”
وعند تلك الجملة اقتربت منه رانيا مجددًا تضم وجهه بين يديها، ذلك الرجل أمامها تحول لاجلها، جاهد نفسه وجاهد طبيعته، وأظهر الطفل _الذي كان يلحق والدته_ داخله، أظهر صالح آخر غير ذلك الذي علمته في البداية، أو صالح الآخر الذي علمته بعد الخطبة .
صالح الزوج يختلف كليًا، حنون احيانًا، و ممازح أحيان أخرى، وحانق اوقات أكثر، ببساطة هي أحبته بكل صفاته وتعقيداته .
وبينما هي تضم نفسها له بحب شديد، قال صالح فجأة:
” رانيا هو ينفع تعملي ليا مكرونة عشان مكملتش أكل عند هاجر بعد ما سدوا نفسي باللي حصل ؟؟”
نظرت له بتعجب ليكمل :
” أصل ملحقتش أدخل، لقيتها في وشي وبتقولي أنها بتعمل كيكة عشان اليوم انهاردة، وأنا الحقيقة ميت من الجوع وعايز أكل مكرونة ”
صمتت رانيا ولم تتحدث وهو قال بتردد :
” أنا ممكن اساعدك على فكرة ”
ابتسمت له رانيا تربت على كتفه بحنان كبير :
” روح غير وانا هجهزها يا صالح ”
قبلها صالح سريعًا يركض صوب الخارج :
” هاجي اساعدك أنا بقطع الفراخ حلو على فكرة ”
ضحكت رانيا تتحرك لتجهز له ما يريد، وهو انطلق صوب غرفتهم يبدل ثيابه ممنيًا نفسه بجلسة لطيفة داخل مطبخهم الدافئ يشاركها صنع الطعام والحديث في مختلف الأمور، أوقات رائعة ينعزل بها صالح عن عالمه، رفقة عالمه ….
__________________
” أنا ممكن اساعد على فكرة ”
رفضت الصغيرة تدخل والدها فيما تفعل، ليتذمر محمود مبتعدًا عنها تاركًا إياها تعبث في العجين كما تشاء وتحب، فهاجر عادة ما تشتري لها عجين الوان مخصص للأطفال وتتركها لتلعب بها مقتنعة أنها تفعل كما تفعل هاجر ..
ابتسم محمود يراقب هاجر ولا يصدق أنها زوجته، لا يعلم كيف بدأ الأمر وكيف وصل لهذه اللحظة، آخر ما يتذكره من حياته القديمة هو زفافهما حينما أدلت بموافقتها عليه …
يقف متوترًا أسفل الدرج، صالح يجاوره محاولًا أن يجعله يتوقف عن الدوران في المكان :
” يابني ما تتنيل تهدى بقى، قولنا دقايق وخارجة ”
نظر له محمود بحنق شديد :
” صالح مش نقصاك الله يكرمك، أنا على أخري ادخل امسكها احطها في العربية وامشي على البيت اساسا ”
نظر له ماجد بشك :
” أنت دخلت المعمل بلبعت حاجة يا محمود ؟!”
نظر له محمود باستنكار شديد، لكن والده لم يتوقف عن النظر له يتفحصه، وفجأة سمع صوت الزغاريد بدأت تنطلق، وبسكوتته الهشة الجميلة تهل عليه في طلة ملائكية لطيفة ورقيقة، وفي تلك اللحظة نفذ محمود رغبته المجنونة وتحرك لها دون أن ينتظر شيئًا .
توقف ينظر لها بحب، ثم قال :
” هو أنا لو خطفتك من هنا هتزعلي مني ؟؟”
نظرت له بعدم فهم ولم تكد تستفسر عن مقصده، حتى وجدته يمسك يديها يسحبها صوب السيارة الخاصة به يساعدها على الصعود تحت أنظار الجميع، ثم صعد جوارها وتحرك بالسيارة في إتجاه اخر غير اتجاه قاعة الزفاف .
أقترب ياسين ومحمد من صالح، ليتساءل الاخير حانقًا :
” هو صاحبك أخد هاجر وراح بيها فين ؟؟”
ابتسم صالح بسمة سخيفة ولم يعلم ما يجب قوله سوى أن قال بهدوء :
” أصل … أصل محمود حابب يشرب عصير قصب فقال هيروح يشرب شوب ساقع ويحصلنا على القاعة ”
خرج محمود من أفكاره على صوت هاجر التي كانت تراقبه مبتسمة بتعجب :
” مالك يا محمود بناديك ومش بترك ”
أقترب محمود منها يقول بمشاكسة :
” فجأة كده افتكرت يوم جوازنا ”
نظرت له هاجر ثواني قبل أن تنفجر في موجة ضحك عنيفة تصيبها كلما تذكرت ذلك اليوم، تتذكر اللحظات التي أخذت تصرخ في السيارة بجنون تطالبه أن يعيدها وأنها تريد أن تصبح عروسة وتجلس في مقعدها كما الجميع ..
“متفكرنيش، أنا يومها كنت بجد مستعدة اخلص عليك وارجع بالعربية للفرح عشان اقعد على الكوشة زي كل العرايس ”
هقهقه محمود بصوت مرتفع يقترب منها يداعب وجنتيها بحنان :
” وهو لما تخلصي عليا هتكوني عروسة ازاي يعني من غير عريس ؟؟”
” ما أنا كنت لابسة الفستان وفيه قاعة وبوفيه ”
” والعريس كماليات؟؟”
هزت رأسها بهدوء منشغلة في الأنتهاء مما تحضر أمامها، وكل ثانية تنظر صوب ابنتها بخوف أن تعبث باشياء تؤذيها، انتبهت لصمت محمود فنظرت له، وجدته يحدق بها دون فهم، لكن محمود أطال تأملها لدقيقة تقريبًا، ثم قال :
” بعد السنين دي يا هاجر، ندمتي يوم أنك اتجوزتيني ؟؟ يعني أنا قصرت قبل كده معاكِ ؟؟”
تعجبت هاجر سؤاله الغريب، لكن رغم ذلك تركت كل ما بيدها وتحركت صوبه تتحدث بجدية وقلق:
” أبدًا يا محمود، ليه بتقول كده ؟! أنا عمري ما ندمت ثانية إني اخترتك، أنت أكتر اختيار صح أنا اخدته في حياتي يا محمود ”
ابتسم لها محمود بحنان شديد يداعب وجنتها بإصبعه هامسًا :
” طب والإختيار الصح ده ميستحقش إجازة صغيرة ليه وليكِ لوحدكم، ونسيب الفراولة عند رانيا أو ياسين ؟؟”
ارتفع حاجب هاجر بتعجب شديد تعود للخلف وقد اكتشفت لعبته التي يسعى لها منذ وطأ المكان :
” وأنت هتقدر تسافر من غير فراولة يا محمود ؟!”
” عادي يا هاجر هي هتحمض ؟! يا ستي هسيبها مع عيال صالح هما بيحبوا يلعبوا سوا، بس أنا عايز أسافر معاكِ إيه رأيك ؟؟”
نظرت له هاجر تفكر ثواني في اقتراحه، هي لا تعترض أبدًا على إجازة خاصة بها مع محمود، بل تتمناها فما أجمل من قضاء أيام بين أحضان حبيبها، لكن الصغيرة؟؟ هي فقط تخشى عليها أن تُخدش بالخطأ .
ابتسم محمود يعلم ما تفكر به :
” متقلقيش هي واخدة على رانيا وعيالها ومش هتزعل، بالعكس دي هتفرح عشان هتبات معاهم، وافقي أنتِ بس”
شردت هاجر ثواني قبل أن ترتسم بسمة معلنة بها موافقة مبدئية على ذلك الاقتراح، هزت رأسها تقول بموافقة :
” تمام معنديش مانع بس أهم حاجة كلم صالح وبلغه الأول واستأذنه ”
” يابنتي صالح مين ده اللي استأذنه، ده هيفرح ويـ ”
وقبل أن يكمل جملته سمع رنين هاتفه يصدح باسم صالح، ابتسم يردد بسعادة :
” أهو ابن حلال جه على السيرة ”
فتح محمود المكالمة يقول بسعادة كبيرة :
” صالح حبيب قلبي ”
وصله صوت صالح من الجانب الآخر يردد بلهفة :
” محمود صديق عمري ”
ابتسم محمود بريبة وقد بدأ يشعر أن هناك خطب من كلمات صالح تلك، وكذلك صالح الذي ضيق عيونه بشك، ونطق الإثنان في وقت واحد :
” كنت عايزك في خدمة …”
صمت الإثنان وقد زادت ريبتهما..
نظر محمود صوب هاجر التي كانت تتابعه باهتمام شديد تحاول معرفة ما يحدث، ليبتعد عنها مبتسمًا بسمة صغيرة، ولم يكد يتحدث بكلمة حتى سمع صوت صالح يقول بجدية :
” عايزك تاخد العيال عندك يومين كده عشان هسافر مع رانيا سنغافورة…”
____________________
جلس في أحد أركان السجن يناجي ربه ويناجي ذاته التائهة بين دروب العصيان لا تدري للتوبة من باب، كلما طرق أحد الأبواب وسوس له شيطانه أن هناك سواد يختبأ له خلفها، فيبتعد كارهًا خائفًا ..
تنفس سعيد بصوت مرتفع يمسك وجهه بكفيه، ثم قال بصوت خافت :
” يوم وأخرج، بس هعمل ايه ؟؟ هعيش ازاي برة ؟؟”
شعر في تلك اللحظة أنه يود قضاء باقي حياته هنا بين الجدران والسجون، على الأقل لن يكون مضطرًا لمواجهة الناس أو مواجهة أخطاء ارتكبها في لحظات حمق، ولن يكون مضطرًا لمواجهة روحه التي تركها قبل ست سنوات رافضًا مقابلتها مرة أخرى أو حتى مواجهتها، رافضًا التفكير بها أو فيما حدث لها .
أتركته ؟؟ ووجدت من يستحقها أكثر منه ؟؟ نبذت ذكراه ؟!
بالله عليك يا سعيد وهل تركت لها ذكرى واحدة حسنة لتتشبث بها، فعدا شطائر السجق خاصتك التي كنت تحضرها لك، لا شيء جيد فعلته لها .
آه يا زهرة لكم أتوق لرؤية محياكِ فقط حتى ولو على بعد أمتار طويلة ..
واقترب ذلك اليوم، فهل تحنثين الوعد وتخلفين الميعاد؟! أم سأجدك في الانتظار ؟؟
________________________
هبطت من عيادتها بعد يوم عمل شاق، تشعر أن ساقيها لم تعد تحملها، هل عليها أن تزيد من حدة تمارين ساقيها لتقويتها؟! أم أن الضعف نابع من داخلها وانعكس على جميع اجزاء جسدها .
تنفست بصوت مرتفع تخرج جهاز التحكم بالسيارة عن بعد، تجنز السيارة للتحرك وهي تردد بصوت خفيض :
” الواحد بعد كده يبات في العيادة أفضل له من البهدلة دي”
فتحت باب السيارة لتدخلها، وما كادت تفعل حتى شعرت بذراع تضمها من الخلف، وبشخصٍ يجذبها لاحضانه بحنان شديد، وصوت انفاس يعلو جوار أذنها، وحرارة تلك الأنفاس تصطدم برقبتها، وذلك الصوت الشجي خرج هامسًا :
” وحشتيني يا زهرة …وحشتيني اوي ”
تصنم جسد زهرة بقوة وشعرت بأطرافها ترتجف لتسقط حقيبتها ارضًا وهي تشعر بالمكان يدور حولها، ابتلعت ريقها تحاول الأستدارة ببطء وهي تهمس :
” ………”
____________________
وكل ذلك كان مجرد تمهيد وتعريف صغير عن المرحلة الجديدة التي خطونا لها …..
يتبع…
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية ما بين الالف وكوز الذرة ) اسم الرواية