رواية ما بين الالف وكوز الذرة كاملة بقلم رحمة نبيل عبر مدونة دليل الروايات
رواية ما بين الالف وكوز الذرة الفصل الثامن عشر 18
صرير السيارة المرتفع بشكلٍ مزعجٍ هو ما يمكن سماعه في تلك المنطقة الراقية في أحد أحياء القاهرة، يقود سيارته بجنون وضربات قلبه تكاد تتسبب في تفجير صدره .
فعلتها وتركته لنيرانه، كان يقود دون أن يهتم لمن حوله، كل ما يراه هو صورتها تُزف لآخر وما يسمعه هو صوتها تتلو على مسامع آخر كلمات عاش حياته كله يتمنى أن يسمعها منها .
ابتلع ريقه وهو يوقف السيارة أمام العنوان الذي أعطاه له رجاله، ثم أشار للرجل الذي ركض له مقاطعًا أي حديث قد يقوله :
” خليك جنب العربية عشان نيرمينا فيها ”
ختم جملته يصعد درجات المبنى وقلبه يرتجف بضعف.
تستغله وتقتله دون أن تشعر حتى، تستغل حاجته لها لتصيبه بالوجع .
توقف أمام المكتب الذي أخبره عنه رجاله، يحاول التنفس وتجاهل ذلك الوجع الذي ينغز قلبه، وقبل أن يخطو داخله سمع صوتها وضحكاتها تعلو مترافقة مع ضحكات رجوالية عميقة، لتنخر بقلبه وتخفر لنفسها وجعًا آخر يُضاف لقائمة اوجاعه .
ثواني حتى طلت زهرة من المكتب :
” ياعم هو فيه حد يكتب الكتاب في وقت زي ده ؟؟ ده المأذون قالنا كنتم استنوا نصلي الفجر وبعدين نكتبه، جبتلنا الكلام يا …”
وقاطع جملتها لكمة عنيفة سقطت اعلى وجه من تتحدث معه، وقبل أن تستوعب ما حدث وجدت سعيد يهجم عليه وهو يصرخ بجنون وحالة هيسترية جعلت زهرة تطلق صرخات عالية وهي تنحني محاولى دفعه عن الشاب :
” ابعد عنه …ابعد عنه هتموته، ابعد عنه يا سعيد، أنت جنيت؟؟ ”
لكن سعيد في تلك الحالة لم يكن يرى سوى أحلامه التي تحطمت أسفل اقدام واقع فر منه لسنوات طويلة، حلم حصوله على زهرة الذي كان يعلم جيدًا استحالته، لكنه كان يخبر نفسه أنه يومًا ما سيحقق ذلك المستحيل، لكن حتى حلمه الوحيد سُلب منه، سُلب منه منتزعًا منه آخر ذرات مشاعره، تاركًا إياه صخرًا لا يشعر .
كان يصرخ بجنون وهو يضرب الشاب بشكل هيستيري، والاخير يحاول صده دون استطاعه، وصوت صرخات زهرة يعلو في المكان منافسًا قوة صرخاته، وبكاؤها يعلو بجنون :
” حرام عليك هتموته، ابعد عنه، سعيد سيبه حرام عليك ”
كان سعيد قد غرق في حالته وما من طريقة لإخراجه، ولم يستطع أحد أبعاده، حتى زهرة التي كانت تبكي وتصرخ وهي ترى دماء الشاب تسيل …
دقيقة وأخرى مروا حتى شعر سعيد فجأة بالحياة تُسحب منه بقوة حينما استفاق من تلك الحالة على صرخة صاخبة من فم زهرة باسمه .
فتح عيونه بصدمة وهو يتراجع للخلف بعدم فهم، لكن زهرة لم تنتظر أن يتحدث وهي تميل بسرعة تمسك رأس الشاب باكية :
” حد يتصل بالاسعاف، حد يلحقه ”
كانت تبكي وهي تضمه بعنف ورعب، وسعيد يراقبها بصدمة لا يعلم ما يحدث، وما هي سوى ثواني حتى أبصر الشاب يتحدث بصوت خافت لزهرة وزهرة تقبل رأسه وهي تتكلم له :
” حبيبي اهدى الإسعاف جاية، أهدى متتحركش ”
رفع الشاب رأسه بصعوبة وهو يحاول أن يتحكم في تأوهاته بسبب ضربه على حين غرة بواسطة شخص مجنون، نظر لسعيد الذي تحولت نظراته من مصدومة لغاضبة وهو يرى تصرفات زهرة معه .
كان جنون سعيد يعميه لدرجة أنه لم يُبصر تلك الفتاة التي ترتدي فستان ابيض رقيق تبكي وتنوح منذ هجم على زوجها كالثور الهائج .
كانت تميل على زوجها تتحسس وجهه بحب وخوف، ومن ثم رفعت رأسها لسعيد تصرخ فيه بجنون :
” يا زبالة يا حيوان، والله لاوديك في داهية، هو عملك ايه عشان تضربه بالشكل ده!!”
امسك الشاب يدها ليجعلها تصمت، ثم نظر لزهرة نظرة صغيرة وهو يحاول أن ينهض وقد فهمت زهرة نظراته، ساعدته لينهض، تسنده لخارج المكان تحت نظرات سعيد الذي لحق بهم بسرعة كبيرة ليراه يصعد لسيارة جوار تلك الفتاة صاحبة الفستان الابيض والتي نظرت له بشر وهي تصرخ :
” والله لاندمك على اللي عملته في جوزي، مش هسكت غير لما اسجنك ”
ولم يفقه سعيد من كلماتها سوى ( زوجي) التي أطلقتها على الرجل الذي كاد يقتله منذ ثواني، ظنًا منه أنه سرق منه حلمه، ولم يدرك أنه هو من ألقى بحلمه في أعماق بئر مظلم بسبب تصرفه .
راقب سعيد السيارة تتحرك بسرعة كبيرة تاركة زهرة التي كانت تراقبها بنظرات غامضة، اقترب منها بخطوات مترددة، لأول مرة يقف أمام زهرة بعجز، وشعور بالاختناق يكاد يقتله ..
تحدث بصوت خافت ومبررات سخيفة لا تنفي أنه كاد يقتل شخصًا بين يديه في غمرة جنون .
” زهرة أنا …أنا مكنتش اعرف، فكرتك …”
وقبل أن تكتمل جملته كانت صفعة زهرة تهبط فوق وجنته محدثة صدى صوت عنيف في المكان بأكملة متسببة في استدارة وجه سعيد بقوة وصوتها خرج حادًا :
” إياك المحك قدامي مرة تانية ”
ولم تستطع أن تزيد كلمة واحدة على تلك الجملة وسارعت صوب سيارتها المصفوفة وهي تحاول أن تهدأ من ارتعاشة جسدها، يا الله كادت تشهد مقتل ابن خالتها وشقيقها للتو وعلى يد من لقبته يومًا حبيبًا، سعيد استطاع بفعلته تلك انتزاع أي ذرة مشاعر له داخلها .
كانت تبكي وهي تسير صوب السيارة وصدرها يعلو ويهبط بقوة وجسدها ما يزال يرتعش، وقبل أن تلمس مقبض السيارة شعرت بيد تمسك يدها وصوت سعيد يخرج متوسلًا :
” لا لا، زهرة أنا والله ما قصدي، أنا فكرته …فكرتك هتتجوزي غيري، والله ما حسيت بنفسي وانا شايفك بتضحكي ليه وخارجة معاه من المكتب بتاع الماذون، أنا آسف أنا ممكن اروح اعتذر ليه والله واعوضه، زهـ….”
جذبت زهرة يده بقوة وهي تنظر له بهدوء مخيف :
” اعمل اللي تعمله يا سعيد، الموضوع مبقاش يخصني، وايًا كان اللي هتعمله، صدقني مش هيزود من مكانتك عندي سنتي واحد، لأن ببساطة مبقاش ليك مكانة عندي”
جذبت يدها تتركه متوقفًا في منتصف الطريق يراها ترحل كما تفعل كل مرة، لكن تلك المرة كان صدى رحيلها مدويًا …
تحركت سيارة زهرة مخلفة ذرات من الغبار اخفت الرؤية عن سعيد وكأنها تحرمه النظر لها ولو لمرة أخيرة .
وسعيد نظر حوله لا يعلم ماذا يفعل، أو بما يشعر، فقط خواء ووجع كبير، بيده انتزع بتلات زهرته ودمرها، احرق كل بذور أمل كانت تنبت لهما معًا .
سقطت منه دمعة وهو ينظر حوله بتيه ولا يدرك ما يفعل، أيركض خلفها ويترجاها، أم يعود منزله ويلعق جراحه ليداويها ومن ثم يعود لها متوسلًا الغفران ؟!
لا يعلم شيئًا، هو فقط يعلم أن زهرة هي الضوء الوحيد الذي يجعله يصبر على ظلام نفق حياته، يكمل حياته لمعرفته أنه سيجدها في النهاية .
__________________
استدارت ميمو ونظرت للزجاج أمامها لتجد سيارة تقف في منتصف الطريق بشكل مثير للريبة…
نظرت لصلاح الذي كان يحدق في السيارة بشك خوفًا أن يكون فخًا قد نصبه أحد الرجال الذي يذكر اسماءهم طوال الوقت في مقالاته ..
” خليكِ هناك لغاية ما اشوف في ايه !!”
وقبل أن يتحرك من مقعده جذبت ميمو طرف ثيابه محذرة إياه من خطورة ما يفعل :
” استنى متنزلش ممكن يكون فخ ”
ابتسم صلاح ولا يدري كيف يخبرها أنه هبط خصيصًا لمعرفته يقينًا أن هذا فخ، فمن هذا الاحمق الذي يترك سيارة ماركة ( مرسيدس ) حديثة في منتصف الطريق، إلا بعض الحثالة الذين يبحثون عن خلاصه ؟؟ أو ربما بعض الأشخاص الذين ضلوا طريقهم أو حدث لهم شيئًا خطيرًا .
” عارف أنه فخ، بس لو شايفة فالعربية واقفة بالعرض يعني مش هنعرف تتحرك ومفيش طريق تاني نروح منه غير ده، وعشان أنا عارف الاشكال دي كويس هنزل اتكلم معاهم وراجع تاني ”
أنهى حديثه يدرك جيدًا أن ما يفعله لن يعود عليه بالنفع ابدًا، لكنه رغم ذلك لا يستطيع المخاطرة بها، ففكرة العودة قد تحمل خطورة أكثر من الحديث معهم .
فتح الباب وخرج وهو يقترب من السيارة وتبعته ميمو التي قررت ألا تبقى مكتوفة اليدين طالما تستطيع المساعدة، كانت تمسك بمسدسها وتسير خلفه والصمت يعم المكان بأكمله ..
نظر لها صلاح بتعجب :
” أنتِ بتعملي ايه ؟؟ اطلعي العربية تاني ”
رفعت ميمو حاجبها معترضة على تلك الأوامر وهي تلوح بسلاحها في الهواء :
” والله انا اللي معايا سلاح هنا، يعني لو حد مش متأمن هنا فهو أنت”
ولم يناقشها صلاح لمعرفته أنها محقه، بل فقط قال ببساطة :
” تمام، فكريني اطلع سلاح مترخص ”
سار صلاح صوب السيارة التي كانت تقف في منتصف الطريق يرى زجاجها المغلق لا يعكس ما بداخلها خاصة في ذلك الليل المظلم .
مد كفه ليطرق النافذة واضعًا احتمالية وجود من يحتاج مساعدة بالداخل ..
لكن فجأة صدرت شهقات مرتفعة من ميمو وهي تتراجع للخلف حينما باغت صلاح رجل قفز من الأشجار المرصوصة على جانبي الطريق، وكأنه رجل ادغال، يضع سكين أعلى رقبته يقول :
” من غير شوشرة وكلام كتير طلع كل اللي معاك أنت والسنيورة بتاعتك ”
في تلك اللحظة لم يكن صلاح خائفًا أو هلعًا، بقدر ما كان متفاجئًا فآخر ما توقعه أن يكون ذلك فخًا لقطاع طرق .
نظر حوله ليجد ثلاث رجال آخرين يحيطون بهم من جميع الجهات، ليرفع حاجبه وهو يشير نحو السيارة وقد قتله فضوله لمعرفة ما يحدث :
” أنتم اللي حاطين العربية دي في الطريق ؟!”
نظر الأربعة صوب السيارة ليجيب أحدهم ببسمة خبيثة :
” أيوة دي عشان نوقف بيها العربيات ونعرف نقلب الاغبيا اللي فيها زيكم ”
أجابتهم ميمو بسخرية لاذعة وهي ما تزال ترفع سلاحها بتهديد :
” هما برضو اللي اغبية ؟! بتستخدموا عربية مرسيدس عشان تقلبوا ناس في ١٠٠ أو ٢٠٠ جنيه ؟؟ ده أنتم المخ عندكم قد حبة العنبة والله ”
حدق فيها الأربعة بجهل، ليدرك صلاح أمام أي نوع من الأشخاص يقف، لذلك ابعد السكين عن رقبته ببطء وهناك بسمة واسعة ترتسم على فمه :
” متأخذوهاش، بس اصلها دقة قديمة وآخر حاجة فاكراها في قطاع الطرق أنهم كانوا بيحطوا فرع شجرة أو طوبة في الطريق متعرفش أننا في عصر التقدم والتكنولوجيا، أحييكم على اختيار العربية ”
ضحكت ميمو بصوت مرتفع وهي تضع سلاحها في جيب بنطالها، تراقب ما يحدث باستمتاع وصلاح يرى نظرات الجميع صوبه لذلك قال ببسمة :
” انا عارف أنتم بتتعبوا ازاي وبتشقوا عشان اكل عيشكم، وعشان كده انا عندي استعداد اديكم كل اللي معايا واللي مع السنيورة بتاعتي، وتدوني العربية دي لو مش لزماكم، ولو يعني مزنوقين في حاجة تقطعوا بيها الطريق ممكن اسبلكم عربيتي ”
وضحكات ميمو المتعالية جعلت الأربعة يشعرون أنه يسخر منهم ليصرخ في وجهه أحد الشباب صخام الجسد :
” أنت بتقول ايه أنت ؟؟ هتهزر معانا، خرج اللي معاك يا روح امك وغور من هنا بدل ما نقطعك ونرميك في أي خرابة هنا ”
مسح صلاح وجهه، ثم نظر لهم بحنق :
” يعني هي الساعة والألف جنيه اللي معايا هما اللي هيغنوكم ؟؟ بالنسبة للمرسيدس دي ايه ؟؟”
نظر الأربعة صوب السيارة ليجيب أصغرهم ببسمة فخورة بلهاء، يستعرض أمام صلاح انجازات جماعته الغبية :
” دي عربية سرقناها من قدام مطعم، بس ايه فخمة اوي من جوا ”
همس صلاح بشفقة شديدة :
” يا زين ما اخترتم والله، فعلا العربيات المرسيدس احسن اختيار لاستعمالها كفرع شجرة لقطع الطريق، هو أنتم في الشغلانة دي من امتى ؟؟”
ومجددًا أجاب أصغرهم بسعادة وفخر كبير :
” من انهاردة الصبح، احنا اساسا كنا شغالين عمال بُنا وزهقنا من التعب والفرهدة.”
ابتسم يشير لأحدهم وهو من كان يمسك صلاح في البداية :
” فسمير قالنا نعمل كده فسرقنا اي عربية عشان نوقفها في الطريق ده ”
قال صلاح باستنكار :
” اي عربية ؟!”
” أيوة أي حاجة نوقف بيها العربيات ”
هز صلاح رأسه مقتنعًا بجملته حول وصفه المرسيدس بـ ” أي حاجة” :
” على رأيك أي حاجة بتقول بيب بيب ”
نظر لهما المدعو سمير بشر وهو يصرخ في وجه الصبي :
” أنت يا متخلف بتقول اسمي ؟؟ بعدين ما تحكيلهم قصة حياتنا بالمرة ”
اجاب الصغير بحنق شديد :
” يا عم هو مفيش سمير غيرك في البلد ”
قاطعهم صلاح وقد شعر أنه يضيع وقته مع هؤلاء الشباب، يعمل جيدًا أنهم مجرد حفنة من الاغبياء أرادوا غنى سريع دون إرهاق، و لأنهم كما يظهر عليهم ما يزالون في بداية الشباب فقد ارشدهم عقهلم الصغير إلى اتخاذ ذلك الطريق ظنًا أنه طريقهم للراحة والرغد، ومن يلومهم فهم يعيشون في بيئة كل ثري هو في الأساس لص، لذلك سلكوا ذلك الطريق، لكن حتى ذلك فشلوا فيه .
” تمام، اسمع يا حبيبي، اللي بتعملوه ده مش هو طريقكم للنعيم، ده طريقكم للهلاك خاصة بدماغكم دي، يعني حد غيركم لو قدر يسرق مرسيدس ومتمسكش بيها كان باعها لأي واحد معندوش ضمير، أو قطعها وباعها خردة، لكن مستوى الذكاء اللي عندكم ده مينفعش في الشغلانة دي ”
نظر الأربعة لبعضهم البعض بتفكير، بينما ميمو تراقب ما يحدث بفضول شديد، ترى صلاح يعطي دروسًا لللصوص حول كيفية التصرف في مسروقاتهم .
وفجأة أطلقت ضحكة مرتفعة جذبت الجميع لها حينما سمعت صلاح يخبرهم أنهم يحتاجون لتنمية مهاراتهم في ذلك العمل، فقط ينظرون حولهم ويتعلمون من كبار اللصوص في الدولة …
نظر لها الجميع ليقول سمير بغيظ شديد وغضب :
” مالها الست دي بتضحك كده ليه!!”
رفعت ميمو حاجبها لا تعجبها نبرته تلك :
” لا ليه كده ؟! ايه ست دي ؟؟ قولي يا ميمو”
وفي ثواني كان مدية سمير تُفتح أمام وجه ميمو التي ضمت يديها لصدرها وهي، تنظر للمدية ببرود :
” نزل اللعبة اللي في ايدك يا عسل”
لكن سمير كان قد وصل لذروة غضبه مما يحدث، فشل في كل شي حتى في عمله كقاطع طريق وجاءت الآن تلك المرأة مثيرة به كل الغضب :
” اتعدلي في وقفتك واتكلمي كويس بدل والله هـ ”
وقبل أن يكمل جملته كان مسدس ميمو يستقر أمام رأسه وقد اسودت ملامحها :
” بقولك ايه يا سمير أنا اساسا مش طايقة نفسي على المسى فبلاش تكون أنت الشخص اللي هخرج فيه كل عصبيتي”
تدخل صلاح، يحذرها أن تضع السلاح جانبًا :
” خلاص يا ميمو نزلي السلاح وأنت يا سمير نزل سلاحك وركز معايا ”
نظر الجميع لصلاح منهم الحانق ومنهم المعترض، ليقول صلاح بهدوء شديد :
” انا ممكن اجبلكم شغل بعيدًا عن الحوارات دي كلها ومش متعب زي البنا ومرتبه حلو، بس بشرط … ”
تجاهلت ميمو كل ذلك وهي تتحرك بعيدًا عنهم صوب السيارة تاركة صلاح يكمل حديثه معهم حول امرٍ لا تفهمه ولا تهتم أن تفعل، دقائق حتى عاد صلاح للسيارة وحرّك سمير السيارة جانبًا ليدعه يمر بعدما تعهد لهم صلاح بالمساعدة .
وميمو فقط تنظر له دون كلمة ليقول :
” ايه بتبصي كده ليه ؟!”
ابتسمت ميمو وهي تقول :
” مكنتش اعرف أنك شاطر في حوار السرقة، ماشاء الله عليك واقف تدي الحرامية دروس مجانية ”
أجابها صلاح بسخرية لاذعة :
” اصل التعامل مع الحرامية يا ميمو بيعلمك شغلتهم، عامة هما اساسا مش حرامية دول عبط، بزمتك لو كانوا حرامية بجد كانوا وقفوا يتكلموا معانا ولا كأنهم من باقي عيلتنا ؟! دول لو حد تاني كانوا خلصوا علينا واخدوا كل اللي معانا وهربوا”
هزت ميمو رأسها دون أن تعقب، وعم صمت طويل في السيارة قبل أن تتحدث بجدية :
” في صفقة سعيد هيعملها قريب”
نظر لها صلاح بترقب لتقول :
” اعضاء…هي نفسها الصفقة اللي كان محتاج اخوك عشانها، واللي اعرفه أنه هيكلم عمر قريب اوي، سمعته بيقول كده انهاردة ”
صمت ثم راقب ملامحها المتغضنة وقال :
” نبلغ البوليس ؟؟”
نظرت له ميمو بشرود وقالت :
” مش دلوقتي يا صلاح، اصبر شوية ووقت ما اقولك ناخد خطوة في الموضوع …”
___________________
في الصباح التالي كان يسير في طرقات المشفى يحمل بين يديه طلب الإجازة الذي قرر اخذها لأجل زفافه، وبمجرد اقترابه من مكتب مدير المشفى طرق الباب ودخل حينما أذن له، ابتسم صالح وهو يخطو للمكتب يردد بسعادة .
” صباح الخير يا دكتور، اتمنى يكون يومك سعيد يارب ”
ابتسم له المدير بهدوء :
” صباح النور يا دكتور صالح، ايه المزاج الرايق على الصبح ده ”
وضع صالح الورقة أمام المدير يقول ببسمة واسعة :
” الحقيقة يا فندم أنا كنت جاي اقدم على إجازة عشان يعني عقبال اولادك رايح اتقدم لبنت ومحتاج يوم إجازة عشان هسافر ”
ابتسم المدير بفرحة شديد وهو ينظر لصالح وما كاد ينطق المباركة حتى وجد ورقة أخرى توضع جوار ورقة صالح وصوت يقول :
” وانا كمان عايز إجازة زيه يا فندم ”
نظر الاثنان صوب محمود الذي كان يبتسم باتساع يراقب المدير في انتظار الموافقة على إجازته، لكن كل ما سمعه هو اعتراض صغير من المدير :
” إجازة ايه يا دكتور؟ طب هو هيتقدم لبنت أنت عايز إجازة ايه ؟!”
أشار محمود صوب صالح :
” ما أنا هتقدم معاه برضو ”
تشنج وجه صالح وهو يضربه في كتفه :
” ما تتعدل يا زفت ”
” مش قصدي، قصدي يعني اني هروح معاه وهو بيتقدم للعروسة ”
نظر له صالح بحنق لا يفهم سبب التصاقه به، لكن محمود والذي كان يصر على مرافقته إلى تلك المقابلة، لا يريد أن يفوت تلك الفرصة كي يرى رفيقه عريس قال :
” وافق يا فندم ارجوك، أنت متعرفش وجودي مهم قد ايه لصالح، صدقني أنا الوحيد اللي هقدر اخفف توتره”
رفع صالح حاجبه، ومن ثم رفع طرف شفتيه في تزامن ساخر يستمع لمحمود الذي شرع يصف للمدير أهمية وجوده في تلك الجلسة .
ومدير المشفى والذي يدرك جيدًا علاقة الصداقة التي تجمع الاثنين، علم صدق حديث محمود، لذلك وافق مرغمًا على طلب الإجازة خاصة أن رصيد الاثنين من الإجازات لم يُمس …
خرج محمود من المكتب سعيدًا يمني نفسه بترك انطباع جيد لدى أهل رانيا والذين هم نفسهم عائلة هاجر، وكونه الصديق المقرب لزوج ابنتهم المستقبلية قد يزيد من رصيد محمود لديهم ويحفز ثقتهم به ليسلمونه هاجر مطمئنين..
فجأة شعر محمود بمن يمسك ثيابه من الخلف وصوت صالح خرج حانقًا :
” هو ايه ياض اللي وجودك مهم ؟! هو انت أم العروسة ؟؟”
ابعد محمود يد صالح عنه يردد ببسمة متسعة وتمني :
” جوز خالتها باذن الله ”
قلب صالح كفيه باستهجان وهو يتحرك صوب مكتبه :
” يارب صبرني ناقص أنا بلاوي في اليوم ده ”
ركض محمود كي يسبقه صوب المكتب ومن ثم قاطع طريقه بأن وقف أمام بابه وهو يردد بعتاب :
” كده يا صالح ؟! انا بلوة ؟؟ ده الحق عليا اني عايز اشاركك فرحتك، مش يمكن اسيب انطباع كويس عند أهل رانيا عشان يساعدني في جوازتي من هاجر ؟! ولا انت مش عايزني اتجوز هاجر ؟؟”
ربت صالح على كتفه يحاول أن يوصل له الصورة كاملة خاصة أن لا أحد علم ما حدث معه في منزل رانيا عدا صلاح :
” ما هو عشان أنا يا حبيبي عايزك تتجوز هاجر فمينفعش تيجي معايا ولا يعرفوا أنك من طرفي اساسا عشان هيحطوك black list، أنت لما تروح تتقدم اهاجر أنكر أي معرفة ليك بيا، واياك حد يعرف انك تبعي لغاية ما تجيب اول عيل ”
لم يفهم محمود مقصده :
” ليه كل ده ؟! أنت عملت ليهم ايه ؟؟”
أصدر صالح صوتًا ساخرًا من حنجرته وهو يسأل نفسه السؤال ذاته، ماذا فعل لهؤلاء الثيران الأربعة حتى يحاولون جهدهم لاقتلاع أي فرصة له مع شقيقته :
” عايز اتجوز اختهم ”
دخل الاثنان المكتب ومحمود ما تزال الصورة غير مكتملة في رأسه، لكنه ورغم ذلك قال بجدية :
” مش مشكلة يا صالح، أنا كده كده عايز اجي معاك، عايز افرح معاك يا صالح ”
استدار له صالح بعدما خلع السترة الخاصة به يربت على كتف محمود بحب :
” انا مقدر المشاعر النبيلة دي يا محمود، بس اللي هيحصل مش هيفرحك معايا، ده ممكن يفرحك فيا ”
” برضو جاي معاك ”
ضحك صالح بقوة وهو يضرب كتف محمود الذي كان يربت عليه منذ ثواني :
” طيب براحتك، تعالي معايا يا محمود اهو نلاقي واحد يحوش مع صلاح ”
ابتسم محمود بسعادة كبيرة قبل أن يقطع حديثهم طرق على الباب، منح صالح الاذن للطارق بالدخول لتطل عليهم سجدة حاملة معها علبة حلوى كعادتها حينما يحدث لها أي شيء جيد في حياتها، فهي إن نمى شعرها سنتيمترًا تسارع لإحضار علبة شوكولاتة وتوزعها على زملائها وخاصة صالح علها ترى منه نظرة ندم على اضاعتها .
” صباح الخير يا دكتور صالح ”
أجابها صالح وهو يجلس أعلى مقعد مكتبه بهدوء :
” صباح النور، خير المرة دي عشان ايه ؟؟ ”
وضعت سجدة علبة الشوكلاتة أعلى المكتب ليسارع محمود ويلتقط منها خمس قطع يضعها في جيب بنطاله يسمعها تردد :
” اصل عقبال عندك فرحي كمان اسبوع ”
فتح صالح عينه يدعي الصدمة وهو يلتقط قطعة حلوى يلوكها باستمتاع :
” يااه ايه الصدف الحلوة دي، أنا كمان خطوبتي كمان اسبوع وكنت هاجي اقولك توزعي شوكولاتة بالمناسبة دي بما أنك يعني بتحبي توزعي شوكولاتة اوي كده ”
صُدمت سجدة من حديثه، لا تستوعب أن هناك من قبلت بصالح زوجًا، أين وجد حمقاء غيرها تقبل به :
” هتخطب ؟؟ ”
” أيوة باذن الله ابقي نورينا بقى ”
هزت سجدة رأسها بهدوء :
” اها معلش مش هكون فاضية بسبب تحضيرات فرحي ”
أنهت جملتها تنتزع العلبة من أمام محمود وخرجت سريعًا من المكتب وصالح يراقبها بهدوء ومحمود أخرج ما خزنه أي جيب بنطاله يتناوله بتلذذ يستمع لصوت صالح الذي استند بظهره على المقعد يردد وهناك بسمة صغيرة ترتسم أعلى فمه بتكبر :
” شايف يا صاحبي البنت بتتلوى ندمًا عشان سيبتها وشوفت واحدة غيرها ”
ابتلع محمود الحلوى وهو يقول بسخرية :
” لا وأنت الصادق، دي تلاقيها بتتلوى ندمًا عشان كل الشوكولاتة اللي جابتها دي لأجل تفرسك وأنت واحد مش بتحس ”
فجأة انتفض صالح على صوت رنين هاتفه، أخرجه سريعًا وبلهفة شديد يستقبل اتصال حماه المستقبلي بعدما تحدث له صبيحة اليوم لأخذ معاد الزيارة القادمة .
و جاءه الرد الذي جعل قلبه يتراقص :
” شوف يابني والدك وتنورونا بكرة بعد صلاة العشاء باذن الله ”
______________________
فرغت من صلاة الضحى وهي ترفع كفيها تدعو ربها أن يرحم والديها وشقيقها ويغفر لهم جميعًا، ومن ثم نأت لركنٍ من الغرفة وحملت مصحفها وبدأت تتلو على نفسها بعض الآيات استكمالًا لوردها مع والدها، هبطت دمعة ساخنة أعلى صفحات المصحف لتمسحها بهدوء وتكمل وهي تتذكر صوت والدها الخاشع حينما كان يتلو عليها الآيات يوميًا .
ابتسمت، تشعر براحة كبيرة تغمر قلبها حينما تذكرت كلماته التي كان يطرب بها مسامعها ..
” يا تسبيح يابنتي بلاش طول الوقت تفضلي كابتة نفسك كده ومستحرمة الفرحة على قلبك، وطول الوقت بتجري في الحياة تسابقيها، مش هيحصل حاجة لو في يوم هي سبقتك، طالما أنتِ مرتاحة فمتشغليش دماغك بأمور الدنيا، اعقليها وتوكلي ”
ابتسمت تسبيح وهي تردد كلماته :
” اعقلها وتوكل ”
فجأة انتفضت من جلستها على صوت رنين الجرس، تحركت صوب الباب بسرعة لكن فجأة شهقت حينما استشعرت برودة أعلى وجهها لتستوعب أنها لا تغطي وجهها، لذلك عادت ادراجها تضع النقاب أعلى وجهها ومن ثم تحركت للباب تفتحه لتستقبلها بسمة مشرقة من رائد وهو يرفع حقائب عدة أمام وجهها :
” شوية طعمية سخنة انما ايه حوار تاني ”
التقطت منه تسبيح الحقيبة دون مجادلة كعادتها، فهي تدري أن نهاية كل جدال سيكون اخدها للحقيبة.
” يا ختي ايه الشطارة دي ؟؟”
ضحكت تسبيح بخفوت..
ابتسم لها رائد ولم يطل الحديث معها، فبمجرد أن التقطت منه الحقيبة منحها بسمة رقيقة، ثم قال :
” بالهنا والشفا يا تسبيح، هعدي عليكِ اجبلك الغدا بعد شوية واي حاجة نقصاكِ اكتبيها في ورقة وانا عيوني ليكِ ”
صمت يستشعر أنه تجاوز بكلماته وهو يرى اتساع عينيها :
” قصدي يعني، تحت امرك ”
أنهى حديثه مستأذنًا منها وهو يتحرك صوب منزله، وهناك شعور رائع يصيبه كلما اختبر تلك المواقف، أن يعتني بأحدهم، ويرى خجلها منه، أن يعيش تلك اللحظات لهو امرٌ رائع .
دخل المنزل بعدما سمع صوت اغلاق تسبيح للباب، وضع الحقائب أعلى طاولة الطعام ولم يكد يفرغها حتى سمع صوت رنين هاتفه، أبصر اسم اللواء يزين شاشته ليعلم أنهم استلموا معلومات القضية التي تركها لأجلهم .
اجاب بهدوء :
” أيوة يا فندم ”
لكن كل ما وصله هو صراخ مرتفع باسمه :
” خلال ساعة تكون قدام مكتبي يا رائد سامع ”
هذا ما قاله رأفت قبل أن يغلق المكالمة، لكن رائد ترك الهاتف بكل هدوء وهو يفرغ الحقائب يستمع لصوت مرتضى الذي كان يوقظ صلاح على عكس المعتاد، فصلاح دائمًا ما كان أول المستيقظين، لكنه عاد البارحة متأخرًا لذلك لم يستيقظ حتى الآن.
لم يهتم رائد بالأمر كثيرًا وهو يجهز الطاولة للافطار، لكن فجأة توقفت أنامله عن العبث بالحقائب حينما سمع صوت مرتضى يصرخ برعب رجّ جدران المنزل :
” فيه جثة على سرير صالح جواا”
فتح رائد عيونه بريبة وتيبست أصابعه وهو يردد بتعب :
” صباح مشرق فعلا ”
___________________
كان يتسطح على فراشه البالي وعيونه مثبته في السقف امامه، لا يدري فيما يشرد، دموعه تهبط دون توقف، وكلمات ابنة أخيه تجلده بسياط الندم، بعد كل تلك الأعوام ماذا جنى ؟؟ بضعة أموال زائلة وصحة متردية وعمل سيثقل من ميزان سيئاته .
ابتلع معتز ريقه يشعر بجفاف في حلقه، وجسده يرتجف بقوة وكأنه ينازع الموت، وكأن روحه تستعد لمغادرة جسده، وشريط حياته يمر أمام عيونه .
وسوسته لأخيه بأن يوافق على زواج ميمو من جاد الذي اغراه بالاموال، لكن شقيقه في تلك اللحظة كان ما يزال يحتفظ بآخر ذرات تعقله ورفض رفضًا تمامًا بحجة أنها ما تزال صغيرة وحتى إن وافق هو فزوجته مستعدة أن تُقطّع حية ولا تترك ابنتها يحدث بها ما حدث لها سابقًا .
وحينما أخبر جاد برفض شقيقه، جاءه الحل الذي اقترحه عليه جاد كشيطان خبيث :
” خلاص يبقى ننفذ اللي قولتلك عليه ”
” أيوة ياباشا بس ….بس ده اخويا وانا مقدرش اعمل معاه كده، بعدين الموضوع ده اساسا ممكن يوديني في داهية ”
أخرج جاد سيجار غالي الثمن يضعه بين شفتيه وهو يقول ببسمة واسعة :
” وهو يعني هيحصله ايه ؟! دول كام حقنة على كام برشامة واول ما رجله تدب للطريق ده ويغرز فيه نساومه على مزاجه، الموضوع ده معروف يا معتز لو حابب تجبر حد على حاجة امسكه من دراعه اللي بيوجعه ”
ابتلع معتز ريقه يحاول أن يتمسك بآخر ذرات إنسانيته التي تحذره من الانقياد لذلك الخبيث :
” بس….بس هو يعني ممكن يتأذي و..”
” يتأذى يحصله ايه ؟؟ احنا بس هنخليه مش قادر يسند طوله من غير البرشام، ومن بعدها نقطع عنه الكيف بتاعه لغاية ما ينفذ اللي احنا عايزينه، صدقني الإنسان في الوقت ده مش بس بيكون عنده استعداد يبيع بنته، لا ده بيكون مستعد يبيع نفسه وعيلته كلها مقابل شمة بس”
وقد صدق جاد فشقيقه والذي ارهقته الحياة، واثقلته الهموم بعد تسريحه من العمل وبأمر من جاد، ضاقت به السبل ولم يجد له مهربًا إلا في تلك المواد السامة، وكان معتز هو الوسيلة للحصول عليها، حتى أصبح يدمنها وتحققت رغبة جاد بأن تحكم في عقل أخيه، ومنذ تلك اللحظة بدأ معتز يوسوس له بما سيناله إن زوّج ابنته لجاد، وبأنه قد يعطيه ما يشاء ويرغب من تلك المواد دون حدود، بالإضافة لاموال طائلة .
ومن هنا بدأت عائلة شقيقه تسير لحتفها، فكل يوم ينشأ شجار بين شقيقه وزوجته حول زواج ميمو، هو يصر على تزويجها لجاد والحصول على ما يريد وهي تقسم أنها لن تترك ابنتها لذلك العجوز يعبث بها كما يشاء .
انتفض جسد معتز وهو يحاول التنفس بصوت مرتفع، حتى أنفاسه كرهت دخول ذلك الجسد الذي تعفن من الذنوب، جاهد لالتقاط أنفاسه ودموعه تهبط بقوة، جسده يرتجف وشعوره بروحه تخرج جعله يزيد من بكائه، يجاهد لنطق الشهادة يود مغفرة، يطمع بتوبة متأخرة، لكن تأخر معتز وفاته قطر التوبة وخرجت روحه وصعدت لمن يمهل ولا يهمل….
خرجت روحه ظالمًا وليس مظلومًا، غادر الحياة متجبرًا قاسيًا، فأين ما باع لأجله نفسه الان ؟؟
في تلك اللحظة دخلت وفاء المنزل بعدما عادت من السوق، تجفف العرق الذي نبض أعلى جبينها وهي تتنفس بصعوبة :
” انا رجعت يا معتز، اخدت دواك ؟؟”
لكن لم يصل لها رد من معتز، ارتشفت بعض المياه الباردة، ثم ملئت الكوب لتعطه علاجه الذي يتجاهله طوال الوقت :
” اكيد طبعًا ما اخدتهوش و…”
فجأة تيبس جسد وفاء بقوة وهي ترى جسد زوجها متخشبًا كالعصا، واعينه جاحظة بشكل مرعب وهو يحدق في السقف دون رد أو حركة واحدة، ليصدح صوت صرخاتها في المنزل بأكمله :
” معــــــتــــــز …”
_________________
اعينهما تدور على تلك اللافتة التي تحمل اسم هاجر واسم المخبز الخاص بها، ابتسم صالح، يضع كفه في جيب بنطاله وجواره محمود الذي كان ناقمًا حانقًا، فها هو صالح يتفنن في إفساد الفترة التي يتحمل اليوم لاجلها، يفسد الجزء الذي ينتظره كل يوم …ألا وهو لحظاته مع هاجر .
انكمشت ملامح وجهه بحنق أكثر وهو يستمتع لصوت صالح المستفز الذي وضع ما سيحدث شرطًا ليوافق على حضور محمود معهم :
” عرفت هتعمل ايه يا حودة؟!”
ابعد محمود يد صالح عن كتفه بغيظ شديد وهو يبدي اعتراضًا واضحًا لا يلقي له صالح بالًا :
” عرفت يا عم، خلاص بقى ”
صمت، يضع يده أعلى خصره، ثم استدار لصالح محذرًا :
” بس والله يا صالح بعد ما اعملك اللي عايزة لو قربت من الترابيزة بتاعتي أنا وهاجر هعلقك سامع ؟؟ تاخد التليفون تكلم رانيا وملمحش وشك في المكان غير بعد ما اخلص ”
ابتسم له صالح بوداعة محركًا رأسه لأعلى وأسفل ببراءة شديدة يشير صوب فمه في علامة القفل :
” مش هتمسع صوتي لغاية ما نروح بس جيبلي تليفون هاجر اتصل برانيا ”
هز محمود رأسه موافقًا علّه يتخلص منه، ثم تقدم الاثنان صوب المخبز، وبمجرد أن خطوا له وجدوا المكان بأكمله على قدم وساق وكأن هناك اسدًا طليقًا في المخبز ..
وقبل أن يفتح محمود فمه للاستفسار سمع صرخة هاجر التي كانت تجلس أعلى منطقة استقبال الطلبات وهي تلوح بيديها في الهواء لينتبهوا لها :
” أجروا بسرعة استخبوا في أي حتة بسرعة، بسرعة اطلعوا على أي كرسي ”
نظر الاثنان صوب الزبائن والجميع في المحل بتعجب شديد ودون فهم لما يحدث وصالح يلوي شفتيه بحنق :
” هو فيه اسد هربان ولا ايه ؟؟”
نفت هاجر استفساره وهي تقول :
” لا ده رعد هرب ومش لاقيينه وهو لسه واخد تطعيم ومتعصب وماشي يعض في الكل فاستخبوا بسرعة قبل ما يلمحكم”
نظر محمود لصالح هامسًا :
” اروح اطلع على الترابيزة هيكون شكلي وحش قدامها اني بخاف من الكلاب ولا اعمل ايه ؟!”
اجابه صالح ببساطة :
” هاتلي منها التليفون بتاعها وبعدين حلوا مشاكلكم مع رعد براحتكم، عايز اعرف البنت عايشة ولا خلصوا عليها ”
زفر محمود وهو يتحرك في المخبز صوب هاجر التي كانت تشير له بتحذير أن يختفي، لكنه فقط سار صوبها يتحدث بجدية :
” معلش يا هاجر محتاج بس تليفونك عشان …”
وقبل أن يكمل كلمته سمع صرخة أحد الزبائن بصوت مرتفع وهو يشير صوب الباب المؤدي للمطبخ الخاص بالمخبز محذرًا :
” اهو رعد هناك اهو ”
وفي اقل من ثانية كان جسد محمود يسابق الريح وهو يقفز أعلى المكان الذي تقف عليه هاجر يصرخ برعب، وصوت هاجر تشير لأحد الرجال الذي يحمل قفصًا لامساك رعد :
” بسرعة يا استاذ سالم، امسكه بسرعة .”
تحركت عين الجميع صوب سالم الذي سار الهوينة وبخطوات مدرسة وكأنه يستعد للانقضاض على فهدٍ داخل إحدى الغابات الاستوائية.
لكن يبدو أن رعد شعر بخطرٍ وشيك فاختفى من مكانه وركض بسرعة صوب صالح الذي كان ما يزال يقف أمام باب المحل من الداخل يراقب الكل باستهجان، يبحث بعينيه عن ذلك الكلب الذي أشاع الفوضى في المكان حتى شعر فجأة بشيء يصطدم في قدمه وصوت مواء يعلو، هبط بعينيه مائلًا برأسه ليرى قط صغير رمادي اللون يحاول أن يحتوي قدم صالح بين أسنانه الصغيرة ..
مال صالح وأمسك القط من قدمه كما لو كان يحمل ارنبًا مشيرًا له وهو يؤرجحه في الهواء بكل تجبر :
” متقولوش أن ده رعد ؟؟”
وفورًا انطلق الرجل صاحب القفص ينتشل منه السيد رعد واضعًا إياه بحرص، ثم تنهد براحة يقول :
” خلاص يا جماعة الخطر انزاح ”
حرّك صالح عيونه في المكان ليجد الجميع يهبطون عن المقاعد بهدوء وهم يتنفسون الصعداء وهاجر تبتسم للجميع، وهو يقف كالاحمق لا يفهم ما الذي فعله السيد رعد ليبث ذلك الرعب في القلوب هنا ؟!
” والله أنتم اللي عقولكم في خطر ”
لم يهتم صالح للامر وهو يتحرك صوب هاجر التي كانت في طريقها للهبوط، يمد يده لها :
” ممكن تليفونك ؟!”
ودون أن تفهم هاجر شيء أخرجت هاتفها سريعًا ووضعته في يده ليبتسم لها صالح متحركًا صوب أحد المقاعد تاركًا إياها ترمقه بعدم فهم تسمع صوت محمود يعلو في الخلف متذمرًا :
” ما كنتم قولتلوا أنها قطة يا جماعة بدل قلة القيمة دي، بعدين أنا مش فاهم دي رعد ازاي؟! دي مش محصلة شرارة حتى، أنتم مسميينه الاسم ده بتذلوه يعني ولا ايه ؟؟”
نظرت له هاجر تقول بعدم فهم مشيرة صوب صالح :
” هو صاحبك عايز تليفوني ليه ؟؟”
رفع محمود حاجبه مستهجنًا :
” وأنتِ جاية تسأليني أنا السؤال ده ؟! وبعد ما عطتيه التليفون ؟! ما كنتِ سألتيه هو، أي حد يقولك عايز التليفون تديه ليه كده ؟!”
قالت هاجر بعدم فهم وتردد :
” انا معرفش أنا يادوبك نزلت لقيته واقف قدامي وبيقولي هاتي التليفون ومستوعبتش اللي حصل ”
ابتسم لها محمود بصدمة، ثم أطرق يفكر في الأمر :
” هاجر أنتِ بتشربي صنف معين ؟! ”
هزت هاجر كتفها وهي تتحرك صوب منطقة اعداد الكعك، تعد له ما تحب شربه في الأوقات العادية :
” يعني لو مشروبات باردة فبحب البطيخ والموز والفراولة، ولو سخن مش بشرب غير لاتيه أو موكا ”
ضحك محمود وهو يقترب منها يساعدها دون حتى أن تعرض الأمر أو تتحدث بكلمة له :
” لا اصل انا كان فيه صاحبي ايام الجامعة نفس الدماغ بس هو كان بيضرب برشام، كان مش واعي بالدنيا حواليه، تقوليله هات يا حازم التليفون يديه ليكِ، هات يا حازم ١٠٠ جنيه يطلعلك الفيزا، فأنا شكيت تكوني بتتعاملي مع نفس الديلر ”
اتسعت عين هاجر تترك السكين من يدها وقد صدمها تشبيه محمود لها بشخص مدمن، هل تصرفاتها أشبه بتصرفات هؤلاء الفئة من الأشخاص، هي فقط لا تستوعب الأمور سريعًا ولا تستطيع رفض طلب لأحد .
” يعني أنا زي المدمنين يا محمود ؟؟”
نظر لها محمود ولم يكد يتحدث حتى قالت هاجر بصراحة ونبرة جادة رافضة رفض تام ذلك التشبيه :
” محمود انا اكتر فئة بكرهها هو الشخص اللي بيختار يدمر نفسه بأيده، ويدمن مخدرات، ده شخص غبي ”
توقف محمود عما يفعل وقد زاغت نظراته في كل مكان، يبعد ثيابه عن رقبته في حركة تدل على التوتر، يحاول التنفس بشكل لا يؤثر على نبرته التي خرجت مختنقة :
” بتكرهي الناس دول ؟؟ طب ولو مدمنين نباتات ؟؟”
” يعني ايه مش فاهمة ؟! ما هي المخدرات نباتات اساسا”
ابتلع ريقه يبتسم لها بسمة غبية متوترة :
” لا مش مخدرات، هي نباتات زي الملوخية، نباتات وكده يعني، حاجات مش معترف بيها دوليا أنها مخدرات ”
لوحت هاجر بالسكين في الهواء ليتراجع محمود سريعًا يرفع يديه في وضعية دفاع، وهي فقط ترمقه بعدم فهم :
” انا مش فاهمة قصدك ايه يا محمود، لكن عامة الحلال بيّن والحرام بيّن، والغلط معروف والصح معروف، فحوار النباتات دي طالما تُغيب العقل يبقى حرام برضو، فاهمني ؟؟ ”
هز محمود رأسه في شرود كبير وكأنه سافر لنقطة بعيدًا عن هاجر التي أخذت تتحدث في أمور كثيرة، وهو فقط يفكر في كلماتها، ليس وكأنه يسمعه للمرة الاولى، لكن أن يسمعه من هاجر الفتاة التي يحب أكثر من كل شيء آلمه وبشدة، وجعله بعيد ترتيب حساباته.
استفاق محمود على صوت هاجر التي قالت ببسمة لطيفة :
” بتفكر في ايه ؟؟ ”
” لا معاكِ”
هزت هاجر رأسها تكمل تقطيع الكعك بمهارة شديدة، تستمتع كثيرًا بفعل شيء تحبه، هذا المخبز هو حياتها، هنا بين روائح المخبوزات تجد هاجر نفسها، ومن هذا المنطلق قالت بمشاكسة :
” ليه الإنسان يدمن حاجة تضره لما ممكن يدمن مخبوزات وكيك ؟”
أنهت جملتها تدفع بطبق به قطعة كعك أمام محمود تغمز له ببسمة، ثم تحركت خارج المكان لتوصل الطعام للزبائن، ومحمود تابعها ببسمة قبل أن يحدق في الطبق أمامه :
” أو بسكوت نواعم ”
_____________________
محظوظ هو فبعد أن نسي أمر كلمة المرور الخاصة بهاتف هاجر، وجد أنها اساسًا لا تضع كلمة مرور فقط لتسهل على أي لص مهمة التصرف في هاتفها كما تشاء، تلك الفتاة طيبة القلب حقًا .
وضع الهاتف أعلى أذنه ينتظر الرد بفارغ الصبر، يهز قدمه في حركات سريعة يتشوق لسماع صوتها، وها هو ينال مراده حينما وصلته نبرة رانيا التي تحدثت بسعادة كبيرة غافلة عن أن هاتف هاجر أصبح في الآونة الأخيرة أصبح ملكية مشتركة مع صالح :
” هاجر أنا مش مصدقة، بابا دلوقتي دخل قالي أنه كلم صالح وحددوا ميعاد بكرة ”
ابتسم صالح بسمة متسعة ولم يتحدث بكلمة حتى لا يفسد تلك اللحظة الجميلة التي يستمتع فيها بلهفة رانيا لما يفعل، هل تبادله ذلك الشعور الغريب الذي يشعر به نحوها .
ورانيا من شدة حماسها لم تنتظر ردًا من صالح الذي تظنه هاجر، لتكمل بكامل لهفتها وشوقها :
” انا …أنا مش عارفة البس ايه؟! ولا عارفة اعمل ايه ؟! تفتكري المفروض أتقل ومردش عليه على طول؟؟ يعني أخد اسبوع او اتنين كده وبعدين ارد ايه رأيك ؟؟ أنا اساسا مش عارفة المفروض اعمل بس أنا فرحانة ”
وجاءها الرد قاتلًا بصوت رجولي اعتادت سماعه عبر الأسلاك الناقلة لمكالماتها مع هاجر، ولا تدري سبب أنها أغفلت تلك المعلومة .
وضعت رانيا يدها أعلى فمها بصدمة تمنع شهقة عالية كادت تصل لاذن صالح وهو يردد على مسامعها بتهكم شديد :
” اسبوع ايه !؟ أنا جايب اهلي على اساس انك وافقتي اساسا وجايين نتفق على الفرش”
صمت يضيف بصوت أجش خافت :
” رانيا انا جاي ومش خارج غير بموافقتك”
وقبل أن يضاعف جملته بأخرى وصل له صوت صفارة تعلن انتهاء المكالمة من طرف رانيا التي ألقت الهاتف على الفراش وكأنها كانت تحمل جمرة مشتعلة ..
نظرت للهاتف بصدمة وضربات قلبها تتسارع وبقوة، يا الله ما الذي فعلته للتو، هل صرحت على مسامع صالح أنها سعيدة بمبادرته للزواج منها، ما الذي فعلته؟؟
شعرت رانيا في تلك اللحظة بخجل يكتنفها من أطراف أصابعها وحتى منابت شعرها، نظرت حولها وكأنها تبحث عمن شهد فعلتها الحمقاء، لكن فجأة انتفضت على صوت رنين في الهاتف؛ ولأنها تعلم المتصل أمسكت الوسادة ورمتها أعلى الهاتف كأنها تخنق صوته، ترفض رفض تام أن تتحدث معه بعد ما قالته .
لكن صالح لم يتوقف عن الاصرار بالاتصال، يتصل مرات ومرات حتى سمعت هي صوت وصول رسالة، أمسكت الهاتف لتجد رسالة من هاتف هاجر محتواها ( أنا قدام باب البيت عندك )
اتسعت أعين رانيا بقوة وهي تركض صوب النافذة تنظر منها باحثة عن ذلك المجنون، لكن لم تجد أحد، وبمجرد ارتفاع رنين الهاتف مجددًا حتى أجابت عليه بفزع
” أنت قدام البيت بجد ؟! جيت تاني ؟!”
” قدام بيت مين يا هبلة انتِ، ليه بتكلمي ساحر هختفي وأظهر عندك في ثانية ؟؟”
وهل كانت تنتظر ردًا آخر كـ ( لأجلك سأقطع بحار واسافر بلدان) أو أنها ترقبت إجابة كـ ( وكيف لي بتركك ؟؟)
افيقي رانيا أنتِ لا تحدثين كاظم الساهر الذي يتغنى بالعشق ليلًا نهارًا، بل هذا صالح السقاري الذي يلقي من فمه قمامة على هيئة كلمات .
انتبهت على صوت صالح الذي قال معلقًا على جملتها الأخيرة قبل أن تغلق الهاتف في وجهه :
” بعدين يا رانيا متقلقيش نفسك بموضوع اللبس ”
ابتسمت رانيا بخجل وقد سمعت في أذنها جملة تتمناها بكل سذاجة وهي أنها جميلة في أي شيء، لكن صالح حطم آمالها ومن ثم دهسها أسفل أقدامه بقوة :
” انا كده كده مش هعرف اشوفك لأني هكون مشغولة مع اخواتك اللي لو بعدت عيني عنهم ممكن الاقي سهم رشق في صدري ”
أطلقت رانيا ضحكة خافتة اخترقت أذن صالح ليبتسم تلقائيًا عليها، وهي تردد من بين تلك القهقهات :
” والله أنت ظالمهم، دول طيبين اوي وكويسيين، هما بس بيغيروا وبيخافوا عليا شوية ”
” انا ظالمهم ؟! وهما اللي عندك دول بيتظلموا ولا حد بيعرف يجي عليهم؟! يا شيخة ده انا حسيت نفسي وقعت وسط عصابة، الواحد لو كان قصير شوية كان غرق بينهم ومقبش تاني ”
تعالت ضحكات رانيا مجددًا، لكنها توقفت فجأة تسمع صوت صالح يهتف بهدوء شديد :
” حد قالك حاجة أو زعلك ؟!”
هل تستطيع الاعتراف في تلك اللحظة أنها احبت ذلك الصالح المراعي والرقيق !!
” لا متقلقش، اخواتي عمرهم ما يأذوني ابدا مهما حصل، بعدين أنا عندي خطط انسحاب كتير اوي ”
ابتسم صالح يقول وهو ينظر حوله يرى محمود يحمل بعض اطباق الكيك وهو يضعها للجميع أعلى الطاولات وهاجر تسير خلفه معترضة على ما يفعل مرددة أنه طبيب ولا يجوز أن يعمل بين الجميع هكذا، ماذا إن رآه أحد المرضى ..
ومحمود يجيبها بسخرية لاذعة :
” مرضى مين بس يا هاجر؟؟ أنا كل المرضى بتوعي بيتحاسبوا دلوقتي ”
انتبه صالح للمكالمة الخاصة به مع رانيا وهو يقول :
” انا جاي بكرة مع عيلتي”
” عارفة بابا قالي ”
صمت قبل أن يقول بهدوء شديد وصوت خافت :
” البسي اللي ترتاحي فيه يا رانيا بلاش توتري نفسك وتقلقي نفسك ”
ابتسمت رانيا بسمة واسعة وقلبها قد وصلت عدد دقاته لمستوى مخيف.
اكمل صالح حديثه بعدما شعر بسخافة ما قال :
” كده كده شوفتك في اسوء حالاتك معتقدش فيه اسوء من اللي شوفتك بيه ”
وكان الرد من رانيا بعض السبات والدعوات التي امطرته بها، وكلمات حانقة متذمرة منه، قبل أن تنهي كل ذلك بأنها ستكون حمقاء إن قبلت به …
لكن جاءها من صالح آخر رد توقعت سماعه وهو يردد بخفوت ونبرة خبيثة :
” والله انا اللي هكون اهبل لو سبتك ترفضي ”
ومجددًا لم تجد رانيا ردًا سوى أنها أغلقت المكالمة بسرعة كبيرة تتنفس بصوت مسموع
وعلى الطرف الآخر، غرق صالح في موجة ضحك وهو يضع الهاتف أمامه يحدق به، ومن ثم توقف يلتقط أنفاسه ببسمة واسعة…
_______________________
كان ما يزال غارقًا في ميتته الصغرى، يرتشف من الاحلام ما يروي ظمأ الواقع، يغرق بين تفاصيلها داخل أحلامه ليعوض عزوف عينيه عن النظر لها مخافة أن تفضحه تلك النظرات ..
أبتسم يتقلب في الفراش وهو يتذكر آخر حديث له حينما اوصلها للمنزل، يراها تترجل من سيارته تميل بجسدها قليلًا حتى تصل لمستوى النافذة :
” مش عارفة اشكرك ازاي يا صلاح، لكن أنت فعلا انقذتني، واستمتعت بالرحلة معاك ”
هز صلاح رأسه بهدوء وهناك بسمة ساحرة ارتسمت أعلى شفتيه يراقب ملامحها أسفل تلك الاضواء القادمة من القصر خلفها :
” انا في الخدمة طول الوقت يا مودمزيل، ٢٤ ساعة لو تحبي ”
ونال صلاح مكافئته على تلك الكلمات الراقية، إذ ابتسمت له ميمو واحدة من تلك البسمات التي تساهم في زيادة معدل ضربات خافقه :
” وانا واثقة في كده يا لذوذ، اتمنى لك عودة سالمة ”
وقبل أن تتحرك أوقفها صلاح مناديًا إياها :
” ميمو ”
توقفت تستدير له نصف استدارة وهي تطالعه بفضول ليقول صلاح بنظرات غامضة وبسمة غريبة ارتسمت أعلى وجهه :
” هو لو طلبت منك متناديش حد بالكلمة دي غيري هتفهميني غلط ؟!”
انكمشت ملامح ميمو بعدم فهم، ليوضح لها مقصده :
” لذوذ، مش بتقولي أن الكلمة دي حصري بس ليا ؟؟ أنا ورغم نفوري منها في البداية وتعجبي، إلا اني دلوقتي بطالب بحقي الحصري ليها وأنها تكون احتكار ليا، مش لحد غيري حتى لو كان الحد ده صالح ”
صمت ثم أضاف :
” حتى لو صالح شبهي، بس أنتِ الوحيدة اللي مش حاببها تقول كده، الوحيدة اللي مهتم تشوفني صلاح بدون نسخ شبيهه ليا ”
كانت ميمو تحدق فيه بأعين متوترة من كلماته، لكنها رغم ذلك ابتسمت تحاول هدم تلك الحالة التي بناها صلاح بمجرد كلمات قليلة :
” ده كله ومش بتحب الكلمة، امال لو حبيتها هتمضيني عقد احتكار!!”
ابتسم صلاح يجهز السيارة للتحرك وهو يهز رأسه موافقًا ما تقوله :
” يمكن مكونش بحبها، بس هي الكلمة الوحيدة اللي بتخصيني بيها دونًا عن غيري، عشان كده هتقبلها راضيًا سعيدًا ومنتشيًا كمان، فارجو تحفظي حقوق الملكية الخاصة بيا، وإلا هضطر اطالبك بحقوق اكتر والقاب مستواها أعلى من لذوذ وحبوب ”
ضمت ميمو ذراعيها لصدرها ترفع له حاجبها بترقب :
” زي ؟؟”
تحرك صلاح بالسيارة بعدما نطق غامزًا :
” خليها لوقتها، لما اديكِ اللقب اللي في دماغي ”
وبتلك الكلمات أعلن صلاح انتهاء اللقاء وهو يتحرك بالسيارة تاركًا ميمو تحدق في أثره بأعين متسعة وبسمة غير مستوعبة لما حدث .
أنتفض صلاح من فراشه على صوت صرخات عالية في المنزل وكلمات متراشقة من والده وسليمان .
نهض سريعًا لا يفهم ما يحدث، لكنه ركض بين ممرات المنزل بشعر هائج وجذع عاري وهو يبحث عن مصدر الصوت الذي كان غرفة صالح .
تباطئت اقدام صلاح عن السير حينما علم ما يحدث داخل الغرفة وما هو سبب صرخات والده وسليمان، ابتلع ريقه وهو يدخل ليجد رائد يحاول أن يُهدأ الاثنين .
” اهدوا بس وانا هفهمكم، الموضوع مش زي ما انتم فاهمين ”
صاح مرتضى مشيرًا للفراش بحنق :
” هو ايه اللي مش زي ما احنا فاهمين ؟؟ الراجل وراك دايس عليه قطر وبينازع في أنفاسه الأخيرة وتقولي مش زي ما أنا فاهم ؟؟ مين ده وبيعمل ايه هنا ؟؟”
انتبه رائد لوقوف صلاح خلف الاثنين ليشير له بعينه أن يتدخل وينقذه، وقد كان، حيث هب صلاح يقول بجدية وهو يشير لجسد عمر :
” ده يابابا واحد مسكين صاحب …صاحب رائد، ظابط معاه وانصاب في مهم بطلق ناري يا عيني وهو اكمنه عازب زي حالتنا وعايش لوحده اقترح رائد نجيبه هنا عشان ناخد بالنا منه، مش كده يا رائد؟”
مال عليه رائد بعدما اقترب منه يردد من بين أسنانه :
” متحشرش اسم رائد في بلاويكم، أنا من غير حاجة وهتكدر، فمتلبسنيش تهمة ”
نظر له صلاح بتحذير :
” أنت لو مأكدتش على كلامي هنا هقول لابوك أنك أنت اللي ضربته بمسدسك سامع ”
رمقه رائد بشر قبل أن ينظر لوالده ومرتضى قائلًا بحنق وغيظ :
” أيوة فعلًا أنا اللي ضربـ…قصدي أنا اللي طلبت منه يجي عندنا عشان ناخد بالنا منه ”
اقترب منه رائد يربت أعلى رأس عمر الذي كان ما بين اليقظة والنوم يحاول استيعاب ما يحدث معه وأين هو ومن هؤلاء الذين يتحدثون فوق رأسه، ورائد يربت بقوة مغتاظًا :
” ده عمر ده حبيبي وشقيقي، اول ما عرفت اللي عمله فيه شوية الحيوانات والبلطجية قولت لازم اجيبه هنا اشيله في عيوني ”
قلب مرتضى كفيه متحسرًا على ما حدث لذلك الرجل المسكين :
” منهم لله اللي عملوا فيه كده، اللهي لا يكسبوا ولا يربحوا يابني، العيب على اهاليهم يسيبوا ولادهم لاذية الناس كده”
سعل صلاح بقوة وهو يهتف من بين سعاله :
” متتكاش على الدعاوي اوي يا حاج، قول ربنا يسامحهم وسيبهم منهم لربنا ”
” ربنا يسامحهم يابني ”
ابتسم له صلاح وهو ينظر لرائد حتى يصرف الجميع معه وكذلك فعل رائد الذي نهض يشير لوالده ومرتضى بالخروج :
” طب يلا عشان نفطر، أنا جبت طعمية سخنة انما ايه زي العسل والله ”
نظر له سليمان باعتراض وهو يتحدث :
” طب يا بني مش تصحي صاحبك يفطر معانا و…اهو صحي شوف والله ابن حلال، قومه وساعده يخرج يقعد ياكل لقمة معانا برة ”
استدار صلاح ورائد بقوة صوب عمر الذي كان ينظر حوله دون فهم لما يحدث وهناك العديد من الخراطيم الخاصة بالمحاليل التي تغذيه متصلة بيده، لكن وبسبب إرهاق جسده تسطح على الفراش مجددًا .
قال صلاح وهو يجذب والده :
” متقلقش يا حاج أنا هجيبله الفطار بنفسي وهعمله كوباية شاي، أنتم بس اطلعوا استريحوا برة وانا شوية وهحصلكم ”
أنهى حديثه يدفع الأجساد خارجًا، ثم نظر لرائظ يتنهد بصوت مرتفع :
” الراجل ده مش لازم يفضل هنا كتير، لازم نتصرف فيه ”
” هنعمل ايه يعني ؟!”
صمت صلاح وهو يفكر بجدية في حل لأمر عمر ثم قال بهدوء :
” هقولك نعمل ايه، بس بعد ما نخلص من موضوع صالح جوازه …”
____________________________
تجلس في مكتبها تحاول إنهاء العمل سريعًا قبل نهاية مواعيد عمل المهندسين في الموقع المجاور لمكتبها، وكل ذلك كي تتجنب رؤيته هو تحديدًا، بالله أما كانت قادرة على الوقوف في وجه محمد والقول أنها لا تريد الانتقال هنا ؟؟
لكن من يقف في وجه محمد ويعارضه على شيء ؟؟ خاصة أن ذلك القرار كان من المفترض أنه صادر منها، لكن الحقيقة أنه صادر من عبدالجواد الذي اعتبر موافقتها تحصيل حاصل فقط ..
فُتح الباب فجأة لتنتفض مروة في مكانها وهي تتمسك بالمكتب بعنف وكأنها ستطير من الغرفة، وعبدالجواد يرمقها بعدم فهم لحركتها تلك، لكنها ابتسمت بسمة غبية وهي تُعدل من وضعية الاوراق أمامها :
” الورق كان هيطير بس ”
ابتسم لها عبدالجواد وهو يتحرك صوبها يحمل حقيبة بلاستيكية سوداء صغيرة واضعًا إياها أعلى مكتبها :
” دي شنطة الحلويات بتاعتك، عشان شوفتك داخلة انهاردة من غير شنطة حلويات تسليكِ ”
خجلت منه مروة، هل كانت بلهاء لتلك الدرجة أن تصطحب كل يوم حقيبة حلوى كالصغير حين ذهابه لرحلة ؟!
ابتسم عبدالجواد على ملامحه يحاول تخفيف بعضًا من خجلها :
” كمان عشان الجو هنا حر شوية والمشروبات الباردة مهمة اوي ”
هزت رأسها تتقبل الحقيبة بخجل شديد وهي تتذكر عادة عبدالجواد القديمة حينما كان يمطرها هي ورانيا بالعديد والعديد من الحلوى بمناسبة وبدون .
ابتسمت بحنين قبل أن تتساءل :
” صحيح عملتوا ايه في حوار عريس رانيا ؟؟”
وفجأة اختفت بسمة عبدالجواد واختفى المرح ليظهر ذلك الحانق :
” والدي عطاه ميعاد بكرة يجي مع اهله، مش فاهم هو بيعاند نفسه ولا بيعاندنا ؟؟”
” وانتم ليه مش موافقين يا عبدالجواد ؟!”
نظر لها عبدالجواد قليلًا يرفض أن يصرح لها بعدم رغبته في ابتعاد أخته في ذلك الوقت أبدًا، لكنه فقط قال :
” العريس مش مناسب بعدين رانيا لسه صغيرة ”
” مش مبرر على فكرة، أنتم مقعدتوش مع العريس عشان تعرفوا مناسب أو لا وكمان رانيا مش صغيرة، رانيا ٢٢ سنة، طب ما أنا جالي عريس واهلي عادي يعني معندهمش الأفكار دي ”
هز عبدالجواد رأسه في تفهم لكل ما تقوله وهو يتحجج :
” أيوة بس مش ….”
صمت فجأة يرفع رأسه لها بشكل مباغت جعلها تتراجع للخلف وهو يتحدث بصوت مصدوم :
” جالك عريس ؟؟ امتى ده ؟!”
اجابته مروة بريبة وخوف :
” من تلات ايام، بس انا رفضت والله ”
ولم تلن ملامح عبدالجواد الذي شعر أن تلك اللعبة بينهما قد طالت، مروة سيخسرها لأنه يصعد الدرج ببطء، حسنًا هو ملّ ذلك وسيستقل المصعد ويتجاهل كل التأني وما شابه لذلك باغتها بجدية كبيرة :
” تمام، اول ما اخلص من موضوع رانيا، هاجي أنا أطلب ايدك موافقة ؟!”
” نعم ؟؟”
هز رأسه بعدم اهتمام وهو يخرج من المكتب :
” تمام كده ناقص موافقة ابوكِ، انا هكلمه واشوف الحوار ده ”
انتفض جسد مروة على صوت غلق الباب العنيف لتتسع عيونها بتفكير :
” ماله ده ؟؟”
_________________________
صباح اليوم التالي، ومنذ الباكر مع صوت صياح الديك، دخل صالح المنزل بعدما كان يبيت ليلته في منزل محمود كالعادة، وخلفه محمود ما يزال يسير كالاموات، وبمجرد أن أبصر الأريكة أمامه ألقى نفسه عليها .
بينما صالح كان يحدث ضوضاء في كامل أرجاء المنزل منبهًا الجميع للوقت، كي يلحقوا السفر ..
اقتحم غرفة صلاح يدفع الباب بقدمه وهو يلقي بجسده فوق صلاح بقوة جعلت الاخير يطلق صرخة مرتفعة، وصالح يضمه بقوة :
” يلا يا صلاح اصحى، يلا رايحين نطلب ايد رانيا ”
ابعده صلاح عن ظهره بقوة وهو يصيح بوجع شديد :
” وأنت عشان تطلب ايدها، تكسر ضهري؟؟”
قبل صالح وجنة أخيه وهو ينهض من الفراش صوب خزانة صلاح يقول بجدية وبسمة :
” بحبك والله يا صلاح، بص أنا اللي هختارلك بدلي على ذوقي ماشي ؟!”
اعتدل صلاح في جلسته وهو يحاول فتح عينه ليرى ما يحدث، وصالح يخرج ثيابه ويلقيها في الغرفة بشكل جعل أعين صلاح تكاد تحرك من محاجرها، في الوقت الذي دخل به محمود وألقى نفسه على الفراش جوار صلاح .
بينما الاخير انتفض عن فراشه بقوة ينقض أعلى صالح صارخًا وهو ينتزع ثيابه من بين يديه :
” أنت يا كائن يا عشوائي، ايه البهدلة دي ؟! مفكرها الزريبة اللي بتنام فيها ؟!”
أنهى حديثه يدفعه جانبًا بغيظ شديد :
” أوعى كده من وشي كرمشت الهدوم ”
لكن صالح لم يهتم بكل ذلك وهو يلتقط بذلة سوداء بقميص اسود أنيق يقول بسعادة كبيرة :
” حلوة دي، ألبسها ”
انتزعها منه صلاح بملامح غاضبة محذرة :
” هاتها، أخرج برة وخد البلوة صاحبك من على سريري مش ناقص قرف على الصبح، بعدين هو مش المقابلة دي اساسا بعد العشاء ؟؟ ايه اللي جابك من الصبح كده ؟!”
ابتسم صالح وهو يتحرك صوب الباب :
” يا دوبك نلحق نجهز ولغاية ما ابوك يجهز ويوقفنا ١٠٠ مرة في الطريق عشان يشتري حاجات تكون العشاء أذنت وخلصت ودخلنا على الفجر، بعدين عايز اصحي عمك سليمان ورائد عشان يسافروا البلد ”
طرده صلاح وهو يدفعه للخارج بقوة، ثم اغلق الباب في وجهه :
” طب روح صحيهم أو اعمل أي حاجة مفيدة ”
وبمجرد أن أغلق الباب تنفس بصوت مرتفع، يجمع ثيابه من الأرض والفراش والاريكة وهو يتمتم حانقًا على ما يحدث، تحرك صوب الفراش يجمع ما عليه، لكن فجأة انتفض للخلف حينما أبصر محمود ينام بعمق أعلى فراشه .
رفع صلاح يده يدفع محمود بغيظ :
” أنت يا زفت أنت كمان هي ناقصة، ما تقوم أخرج ”
لكن محمود كان كمن التصق في الفراش وأبى التزحزح سنتيمترًا واحدًا .
ليزفر صلاح بحنق وينظف غرفته سريعًا، ثم خرج صوب المرحاض حاملًا ثيابه في الوقت الذي أبصر به رائد يخرج من غرفته وهو يسير بأعين مغلقة وجذع عاري لا يفهم ما يحدث أو من ايقظه، بل فقط ركض للمرحاض يسبق صلاح الذي تنفس بصوت مرتفع كي يهدأ .
ومن ثم تحدث لصالح الذي كان يرتب ثياب أحضرها مع محمود لاجله :
” كلمت صاحبك اللي هيجي ياخد البلوة اللي جوا ؟!”
قال صالح بهدوء :
” أيوة، قبل ما نمشي هيبعت عربية إسعاف تشيله للمستشفى عنده، ومتقلقش أنا بلغته بنفس القصة بتاعتك أنت ورائد وأنه انصاب في هجوم لكن أصر يخرج من المستشفى وبعدين حالته تعبت اكتر فقررنا نرجعه مستشفى تاني ”
خرج رائد في تلك اللحظة وهو يجفف وجهه وشعره يلقي المنشفة اعلى وجه صالح :
_ افضلوا أنتم احشروا رائد في أي مصيبة، مش كفاية امبارح كنت هتحول تحقيق ؟!”
نظر له صلاح بفضول وقد نسي كليًا أن يسأله عما حدث :
” صحيح عملت ايه في حوارك ؟!”
ابتسم رائد بسخرية وهو يُخرج عبوة حليب من الثلاجة :
” يعني هكون عملت ايه ؟؟ قولتله أن أنا معرفش غير المعلومات دي يا فندم ”
” وسكت ؟؟”
” هيقول ايه يعني ؟؟ اللي عمله اساسا إكرام منه لابن اخوه، هو اساسا راجل مش مظبوط فمش هيدخل نفسه في حوارات كتير خاصة إن المعلومات اللي انا وصلتلها كانت لسه متمش اثباتها رسمي”
ارتفع صوت محمود الناعس وهو يتحرك صوب رائد يجذب منه عبوة الحليب قبل أن تمس فمه يرتشف منها بنهم شديد :
” هو مين ده اللي راجل مش مظبوط ؟!”
قال رائد بسخرية وهو ينتزع منه العبوة بغيظ :
” عمك”
هز محمود رأسه مقتنعًا :
” عندك حق ”
خرج سليمان في ذلك الوقت من غرفته وهو يردد بنشاط كبير اعتاده خلال سنوات حياته :
” صباح الخير يا شباب، ها جبتم الفطار ؟! ”
نظر الجميع صوب سليمان ليتحرك صوبه رائد يعطيه عبوة الحليب يقول ببسمة :
” باقي بوقين حلال عليك ”
نظر سليمان ليد ابنه باستنكار، أبعدما كان يتناول الفطير والعسل والجبن والقشطة والالبان الدسمة والسمن صباحًا، ينتهي به الحال لرشفة حليب صناعية ؟؟
حمل صالح الثياب التي أحضرها له محمود سابقًا يقول ببسمة واسعة :
” هروح اجهز نفسي وانتم خلصوا بسرعة عشان منتأخرش”
نظر له رائد ببلاهة ثم حدق بساعة الحائط :
” متتأخروش ايه ؟؟ أنتم كنتم واعدين الناس على الفطار ولا ايه ؟!”
نفخ صلاح بحنق وهو يدخل المرحاض :
” لا بس صالح حابب يلحق الطريق من الصبح قبل ما الشيفت بتاعه يخلص ويلموه ”
ابتسم محمود بسعادة يمني نفسه بيوم مثمر له ولعلاقته مع هاجر ..
وبعد مرور ساعات …
تم نقل عمر لسيارة الإسعاف التي حملته صوب مشفى أحد أصدقاء صالح ومحمود المقربين، ومن ثم خرج رائد ووالده ومعهم تسبيح التي كانت ترتجف من المجهول، لكن نظرات رائد طمئنتها وهو يقول ببسمة وحنان شديد :
” متخافيش يا تسبيح، أنا معاكِ ”
صعد الثلاثة لسيارة رائد وتحركوا في طريقهم صوب قرية رائد لينتهوا من الأمور المعلقة وتتم خطبته واخيرًا على تسبيح .
وفي الاعلى خرج صالح من الغرفة وهو يبتسم يعدل من وضعية البدلة التي يرتديها والتي كانت سوداء بالكامل عدا القميص كان باللون الابيض .
اتسعت عين صلاح بصدمة من مظهر صالح الذي تغير حتى أصبح …هو .
” ايه ده ؟؟ ”
غمز له صالح وهو يقول بمشاكسة :
” ايه رأيك فيا ؟!”
” شكلك …أنا ”
ضحك صالح وهو يهز رأسه موافقًا ليشعر صلاح بالبلاهة وكأنه يحدق في مرآة، حتى أنه أخرج بطاقته سريعًا يتأكد أنه هو صلاح، ومن ثم قال :
” ايه اللي أنت عامله ده ؟ أنا حاسس اني بيبص في المرايا”
قال صالح يضع يده في جيب بنطاله :
” ده مقصود عشان لما التيران اللي هناك يتعصبوا ميعرفوش يضربوا مين فينا، هنزاولهم”
رفع صلاح حاجبه بحنق ثم همس :
” أنت ياض زبالة والله ”
في تلك اللحظة خرج محمود من الغرفة بعدما تجهز ببدلة كحلية اللون وقميص أبيض، فقد كانت الثياب تتلائهم مع بشرته وعينيه، اتجه صوب صلاح يفتح له ذراعيه بحب شديد، ثم قبله بحب :
” مبارك يا صاحبي عقبال يارب الليلة الكبيرة ”
أبعده صلاح عنه بحنق وغيظ :
” أنا صلاح يا زفت، صالح وراك ”
استدار محمود بتعجب خلفه ليرى صالح يرمقه بحاجب مرفوع وتذمر، ليضمه بحب مرددًا وهو يقبله :
” مبارك يا صاحبي عقبال الليلة الكبيرة يارب ”
بادله صالح العناق بحب :
” وعقبالك أنت كمان يا حودة يارب ”
واخيرًا تجهز مرتضى الذي خرج يطل عليهم بجلباب اسود فخم وثياب منمقة يردد :
” يلا يا ولاد أنا جهزت خلينا نلحق الناس ”
نظر صوب صلاح يقول ببسمة :
” امال فين صالح يا صلاح ؟!”
أشار صلاح خلفه صوب صالح الذي كان غير ظاهرًا بسبب جزء بارز في الجدار، استدار له مرتضى يحدق فيه قليلًا قبل أن يقول :
” امال فين صالح يا صلاح ؟!”
اجابه صالح بتعجب :
” انا صالح يا حاج ”
نظر مرتضى خلفه لصلاح الذي كان يضم يديه لصدره بترقب لما يحدث، ومرتضى لا يفهم شيئًا :
” هو فيه اتنين من صلاح ؟؟ مش كان فيه واحد فيكم اسمه صالح برضو ؟!”
” يا حاج ما أنا قدامك اهو ”
نظر مرتضى مجددًا صوب صالح ثم قال بتفكير :
” الصوت صوت صالح، لكن الشكل شكل صلاح ”
قال صلاح بسخرية لاذعة :
” لا ما هو الأستاذ صالح فكر يلبس زيي عشان لما يجي ينضرب ميعرفوش مين فينا صالح ”
نظر له مرتضى بعدم فهم وقد شعر أن هناك شيء خاطئ يحدث لذلك قال :
” طب اعمل ايه عشان افرقكم هناك واعرف العريس فيكم ؟ ”
فجأة ابتسم وهو يقول بتذكر :
” أيوة صح صالح كان عنده حسنة في ضهره”
اعترض صالح بغيظ على تلك الأساليب التي كان يستخدمها والده في طفولته للتفرقة بينهما، ليقوم بإفساد ترتيب شعره ومن ثم خلل أصابعه به يثبته على الهيئة المعروف بها فأعطى شكلًا يتناقض مع الثياب الرسمية، ولكن هيئته كانت خاطفة …
” اهو يا حاج تمام كده ؟؟”
ابتسم مرتضى برضى ثم قال :
” أيوة كده تمام، يلا بسرعة ”
تحرك مرتضى أمامهم تاركًا محمود يقول بتعجب :
” ليه بوظت شعرك كده ؟؟ كنت حلو”
ابتسم صلاح بسمة جانبية على مدح محمود لهيئته التي كان يتخذها صالح من قليل :
” شكرًا يا محمود أنت كمان ساعات بتكون ماشي حالك ”
انهى حديثه يتحرك خلف والده، وصالح سار خلفها يردد بحنق :
” يا عم ابويا وانا عارفة مش بعيد يقلعني القميص قدام الناس هناك عشان يشوف الحسنة ويعرف أنا صالح ولا صلاح، خلي ربنا يستر على الجوازة ”
ضمه محمود بحب :
” سيبك أنت زي الفل يا صاحبي في أي حاجة، افرح كده الليلة ليلتك يا عريس ”
اغلق صالح الباب خلفه وهو يطلق ضحكات عالية :
” والله يا محمود اكتر واحد رافع معنوياتي ”
وهكذا انطلق الجميع في رحلته صوب منزل رانيا وقد كان الوقت قد شارف على صلاة المغرب لتتوقف السيارة على الطريق ويؤدي الأربعة رجال صلاتهم، ثم يستكملون الطريق، حتى دخلت سيارة صلاح لمنزل كبير وفخم ووتوقفت أمام الباب وهو يقول بتساؤل وحاجب مرفوع :
” هو ده بيت رانيا ؟؟”
اجابه صالح والذي كان يجلس خلفه بصوت ملئ بالحماس :
” لا يا صلاح، دي ساحة المعركة ………”
_____________________
يتبع…
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية ما بين الالف وكوز الذرة ) اسم الرواية