رواية ما بين الالف وكوز الذرة كاملة بقلم رحمة نبيل عبر مدونة دليل الروايات
رواية ما بين الالف وكوز الذرة الفصل السابع عشر 17
تردد صدى صرخات نيرمينا في الأجواء بشكل جعل الجميع ينتفض من خيامهم برعب واولهم مختار الذي كان ينام نصف نومة بتحفز شديد وكأن حواسه تخبره أن الليلة لن تمر مرور الكرام …
بينما في الخارج ..
سقطت نيرمينا بوجهها أعلى صخرة مدببة لتعلو صرخات متألمة وتأوهات قوية وشهقات باكية، جعلت الجميع يلتفون حولها بالكشافات، يحاولون معرفة ما حدث ومنهم رامي :
” فيه ايه يا نيرمينا ؟! حصل ايه ؟؟ مالك ؟؟”
لكن كل ما تلقاه من نيرمينا هي صرخات بكاء تحاول النهوض بعدما تلقت ضربة قوية على جبهتها.
فجأة انطلقت قذيفة بين الجمع يدفعهم بشراسة مخيفة جانبًا حتى كاد يتسبب بالعديد والعديد من الحوادث، ومن ثم انحنى سريعًا على ركبتيه، يجذب كتف نيرمينا لأعلى يحاول رؤية ما حدث وهي فقط تستمر في البكاء بقوة والصراخ بوجع ..
رفع مختار رأسها بحسم دون أن يأبه بأي اعتراض لها، اتسعت عيونه بصدمة من تلك الدماء التي ملئت وجهها بسبب إصابتها بجرح عميق في جبهتها وهي تبكي بقوة :
” كانوا ….كانوا بيجروا ورايا، سمعت صوت ورايا وحد زقني جامد ”
استدارت رأس مختار بسرعة كبيرة صوب الجميع ليراهم يحدقون بما حدث في فضول، يحاول البحث بينهم عمن يمكن أن يكون تسبب فيما حدث لها .
لكن في تلك اللحظة لم يهتم سوى لنيرمينا التي رفع جسدها ببطء وحنان، ومن ثم مال بجسده ينفض ثيابها، ثم جذبها بعيدًا عنهم ورامي يتبعهم بعدما أعطى للجميع أوامره :
” كل واحد يرجع لخيمته واللي حصل ده انا هعرف السبب فيه ومش هيعدي على خير ”
أنهى حديثه يركض خلف مختار يتعجب أين ذهب بها في ذلك المكان المقفر وماذا سيفعل مع جرحها، لكن فجأة توقفت أقدامه حينما وجد نيرمينا تجلس على شاطئ البحيرة والشاب معها يميل بجسده ويحضر مياه ليغسل وجهها بلطف .
اقترب منهما ببطء ليرى أن مختار كان يخرج محرمة قطنية من جيب بنطاله يجفف بها الدماء ويضغط على الجرح، ليتنحنح جاذبًا انتباه الاثنين قبل أن يتحدث بجدية :
” اعتقد الجرح بتاعها محتاج خياطة لأنه مفتوح ”
استدار له مختار يرمقه بتحفز وشر، لكن رامي لم يأبه وهو يقول بجدية :
” هروح اقول لسواق الاتوبيس يجهزه عشان ياخدنا لأقرب مستشفى هنا ”
وبتلك الكلمات غادر رامي تاركًا مختار ما يزال يمسك رأس نيرمينا بيد وباليد الأخرى يضغط على الجرح ونيرمينا قد هدأ بكاؤها قليلًا ولم يتبقى منه سوى شهقات صغيرة تخرج بين الحين والآخر .
قالت بصوت منخفض وهي تصف له مقدار الزعر الذي عاشته :
” كنت نايمة وسمعت صوت قدام الخيمة عندي بينادي، فكرت حاجة حصلت واول ما خرجت سمعت صوت خطوات ورايا ولما اتحركت عشان اناديك، حسيت الصوت بيزيد ورايا وبعدين مرة واحدة لقيت حد بيزقني جامد ووقعت على الطوبة ”
وبمجرد انتهاء قصتها انفجرت في البكاء بصوت مرتفع، وكأن الحديث عما حدث لها أعاد نفس الشعور :
” وجعتني اوي، ولسه بتوجعني، أنا مش عايزة افضل في المكان ده، أنا خايفة، كلهم بيفضلوا يضايقوني ”
كانت تتحدث من بين بكائها وكأنها لا تصدق أن هناك من يستمع لها، وهذا الشخص ليس سوى مختار الذي كان لا ينتظر أن تفتح فمها ليختفي من أمامها في ثواني معدودة .
” هما على طول بيحبوا يضايقوني وبيقولوا أنهم بيهزروا، بس ..بس انا بخاف منهم اوي يا مختار، بخاف وهما بيهزروا معايا، بخاف يعملوا فيا مقلب ويأذوني”
صمتت تنظر لملامح مختار الجامدة ظاهريًا، المشتعلة باطنيًا، والذي يستمع لما تعانيه بذهول، هي لم تكن تمزح حينما كانت تخبره أنها لا تمتلك اصدقاء، حينما كانت تطارده لأجل أن يصبح رفيق لها، كانت تعاني في صمت في محاولة لتحظى بشخصٍ يحبها ويهتم بها .
شعر مختار بقلبه يرتجف وجعًا يلعن عجزه عن البوح بكلمة تؤازرها، ابتلع ريقه، يمنحها بسمة صغيرة جاهد لتخرج منه دون أي ملامح للغضب، ثم رفع يده يشير عليها ومن ثم أشار لنفسه في إشارة منه أخيرًا أنه قبل دعوتها ليصبح رفيقًا لها …
لكن نيرمينا كانت تنظر لاصبعه الذي يتحرك بينهما بجهل :
” انا وانت ؟؟”
اومأ لها مختار ببسمة يعيد ويكرر نفس الحركة ليوصل لها مقصده، قبل أن يمد خنصر يده اليمنى ويصافح به خنصر اليد اليسرى له في إشارة لقبوله صداقتها لكن نيرمينا فتحت فمها شاهقة بصدمة من بين دموعها :
” أنت عايز تخطبني ؟! ”
وكان الرد من مختار ضربة قوية أعلى جبهتها يعيد لها رشدها، ثم أخرج هاتفه وكتب في مدونة الهاتف كلمات مقتضبة، فركت نيرمينا جبهتها بوجع تقرأ كلماته :
” موافق نكون اصدقاء ”
رفعت نظرها له ببلاهة تكرر الكلمات مجددًا :
” موافق نكون اصدقاء ؟؟ ”
واخيرًا استوعبت الجملة لتصرخ بعدم تصديق وسعادة وقد تناست لثواني وجعها :
” موافق نكون اصدقاء ؟؟ أنا وأنت هنبقى صحاب؟!”
ابتسم لها مختار يهز رأسه لتتسع أعين نيرمينا وتلتمع بسعادة طاغية وكأنه للتو أعلن لها عن جائزة لطالما سعيت لها بكل كيانها، ولم يدرك مختار أن ما قاله بالفعل هو أكبر جائزة نالتها نيرمينا التي صرخت بسعادة :
” شكرا، بجد شكرا أنا…أنا مش مصدقة اخيرًا، بعد خمس سنين وافقت، بس مش مشكلة المهم أنك وافقت ”
ابتسم لها مختار في الوقت الذي عاد به رامي وهو يقول بهدوء :
” يلا السواق جهز العربية ”
نهض مختار يساعدها، وهي تسير جواره بسعادة يكاد ينبت لها أجنحة لتحلق بها، واخيرًا حظيت بصديق تعلم تمام العلم أنه لن يكون كالجميع، إصرارها على أن يصبح محتار بالتحديد صديقًا لها، هو أنها تعرف كيف يكون مختار حينما يخلص لأحد .
ابتسمت وهي تصعد السيارة وخلفها مختار الذي اختفت بسمته وعلىٰ الجمود وجهه، وألقى نظرة سوداء أخيرة صوب الجميع الذين كانوا يراقبون ما يحدث بفضول …
__________________________
توقف أمام المخبز بالسيارة بعدما اوصل والده للمنزل وتناول معه الطعام، ثم انصرف الاخير لينهي عمله داخل المعمل الخاص به، وهو ولغياب صالح عنه وعدم القدرة على مرافقته بسبب ذلك العشاء الكارثي، قرر أن يفعل شيء مفيد اكثر من مرافقة صالح إلى حتفه …يذهب ليقر عينه برؤية بسكوتته الهشة الناعمة .
فتح محمود الباب الذي أطلق اجراس تشابه اجراس الانذار التي انطلقت في قلبه حينما رفعت هاجر نظرها للباب تردد ببسمة لطيفة :
” بعتذر، قفلنا الـ ..”
توقفت عن الحديث بتوتر وهي تبصر محمود يخطو المكان ينظر حوله قليلًا يخلع سترته التي أُجبر على ارتدائها لأجل اجتماع العائلة يلقي بها أعلى مقعد إحدى الطاولات، ثم رفع أكمام قميصه يقول بمزاح :
” معلش اتأخرت على الشغل انهاردة، بس كان عندي ظروف ”
جارتهُ هاجر دون أن تستطيع كبت بسمتها :
” خلاص هعديها ليك عشان بس أنت موظف مجتهد ”
اقترب محمود يجذب منها قطعة القماش القطنية التي كانت تنظف بها يستلم العمل منها :
” انا هكمل باقي الترابيزات، وأنتِ اقعدي قصادي على الكرسي ده عشان تشوفي شغلي حلو ولا لا ”
ضحكت هاجر بصوت خافت، تجمع اطباق الحلوى عن الطاولة، ثم تحركت داخل المطبخ تضعهم وتأخرت دقائق قليلة، قبل أن تخرج له وتعطيه طبق ملئ بحلوى :
” عرفت أنك بتحب الكيك ده، صح ؟؟”
نظر محمود للطبق بفم مفتوح واعين ملتمعة بكل المشاعر التي يكنها لتلك الفتاة، هل قدمت له للتو شيئًا يحبه ؟؟
” ده ليا ؟؟”
” أيوة كنت حاسة أنك جاي انهاردة، فخبيت ليك كيك ”
ابتسم محمود بسمة واسعة وتناسى ما كان يفعل، تاركًا قطعة القماش وهو يجلس على المقعد يجذب الطبق له ينقض عليه بسعادة، ليس لأنه يحب ذلك النوع تحديدًا، بل لأنه يعتبر أول شيء تقدمه له .
جلست أمامه هاجر تردد بفضول :
” هو انت كنت في مناسبة ولا ايه ؟؟”
رفع محمود وجهه لها يحاول أن يبتلع ما بفمه :
” أيوة، كنت في عشاء عائلي ”
ابتسمت هاجر بدفء لتلك الفكرة :
” جميل اوي انك تتجمع مع عيلتك كل فترة ”
ضحك محمود بصوت مرتفع، يضع يده أمام فمه يحاول أن يبتلع الطعام، ثم ارتشف بعض المياه :
” امال، اجمل حاجة في الدنيا دي هي العيلة ”
” ده بجد فعلا، حلو اوي أنك يكون عندك علاقات مترابطة اوي كده مع عيلتك وكل فترة تقعدوا سوا تتكلموا وتشاركوا بعض اللي وصلتوا ليه ”
صمت محمود ثواني وتوقف عن الطعام، ثم رفع عينه لها يقول بجدية وبسمة موجوعة :
” دي حقيقة أنا مؤمن بيها جدا، بس للاسف مش دي عيلتي، أنا عيلتي مش كده خالص ”
لم تفهم هاجر مقصده لكنها فقط قالت بهدوء :
” ايه باباك مش بيعاملك كويس ؟؟ أنا لما شوفته كان باين عليه هادي ”
وفجأة ارتسمت بسمة حب وامتنان كبيرة على فم محمود الذي ارتاح بظهره للخلف يقول بعد تنهيدة عالية :
” بابا ؟؟ هو فيه انسان في الدنيا دي كلها زي بابا ؟؟ هاجر أنا في حياتي كلها عمري ما شوفت راجل عظيم زي ماجد، من طفولتي وهو صاحبي وابويا واخويا وكل ما ليا، وبعد وفاة امي كان كل عيلتي وبعدين جه صالح وبقت عيلتي عبارة عن هو وبابا بس، أنا بتكلم عن عيلة بابا، عيلة فلطح باشا”
كانت كلماته الأخيرة الساخرة نابعة من مقته الشديد تجاه تقاليد تلك العائلة _ العريقة _ التي ما تزال تعيش على امجاد وهمية لا مكان لها سوى في عقولهم، بدأ يعود لتناول الكعك .
وهاجر لم تفهم مقصده وهي تتساءل :
” فلطح ؟؟ أنت عيلتك اسمها فلطح؟؟ ”
غص محمود أثناء ابتلاعه لقضمة الكعك، يضع يده أمام فمه بقوة وهو يحاول كتم ضحكاته على نظرات البلاهة التي تعلو وجهها :
” فلطح ايه بس ؟؟ لا مش من عيلة فلطح، ده لقب أنا مطلعه عليهم أنا وماجد، خليه في سرك بقى ”
هزت هاجر رأسها بسرعة وهي تقول :
” متقلقش محدش هيعرف ”
ضحك محمود أكثر على برائتها، يتنفس بصوت مرتفع، ثم نظر لها ثواني قبل أن يقول :
” هاجر هو أنتِ مش كان عندك أخ ؟؟”
هزت هاجر رأسها بايجاب :
” ياسين ”
” أيوة هو، فين ياسين دلوقتي ؟؟ لو عايز اوصل ليه اعمل ايه ؟؟”
رمشت هاجر دون فهم :
” هو مسافر وقرب يرجع، بس ليه ؟؟ محتاج محامي ؟؟”
عض محمود شفتيه يمنع بسمة :
” لا محتاج مأذون الحقيقة، أنا في أمس الحاجة لمأذون دلوقتي ”
هزت رأسها بتفهم شديد وهي تخرج هاتفها من جيب بنطالها :
” اوك أنا معرفش رقم مأذون، بس لو حابب هو ياسين ممكن يوثق عقود الجواز عادي في المحكمة، بص هديك رقمه وأنت كلمه وهو باذن الله يساعدك، هو عامة قرب يرجع لو حابب اديك عنوان مكتبه ”
كان محمود يحدق فيها بأعين متسعة من الصدمة، هي لم تستوعب تلميحاته، لم تنتبه حتى أنه يلمح لزواجه منها، تلك الفتاة هل هي بريئة لهذه الدرجة أم بلهاء ؟؟
مدت هاجر بالهاتف في وجهه تقول ببسمة لطيفة :
” ده رقم ياسين ”
ومحمود قرر أن يسايرها وهو يحفظ الرقم لديه، من يدري ربما يحتاجه قريبًا لكن ليس ليوثق زواجه، بل ليصبح وكيلًا للعروس .
أنتهى من تدوين الرقم، ثم منح هاجر بسمة وهو يقول :
” شاطرة يا هاجر، بعد كده لو حد طلب منك رقم اخوكِ متديهوش الرقم ماشي ”
هزت هاجر رأسها تشعر أنها فعلت شيئًا خاطئًا، وقبل أن تدركه سمعت صوت رنين هاتفها وشعرت به يهتز بين يديها لتتحدث بتعجب شديد وهي ترى الاسم المدون على الشاشة :
” ده محمد …”
___________________________
كانت تسبيح تحدق في ذلك الرجل الذي صعد حتى وصل لهم ينظر بشر لرائد الذي علم أن ليلته لن تنتهي بمصيبة واحدة، فلا حظه يقبل بذلك، ولا هو يكفيه أن تفسد ليلته لأجل كارثة واحدة فقط …
لم تفهم تسبيح ما يحدث، لكنها خمنت أن ذلك الذي يقف الآن هو نفسه والد رائد، حيث سارع رائد يمسك يده مقبلًا إياها، ثم مال يقبل وجنته :
” نورت المكان كله يا حاج، ايه النور ده، والله وحشتني ”
أبعده سليمان عنه بحنق شديد، ومن ثم نظر لتسبيح بأعين ضيقة يشعر بوجود شيء بينها وبين ولده :
” هي دي شاهدة ؟؟”
نظرت تسبيح بتعجب صوب رائد الذي ابتلع ريقه يقول بتصحيح :
” تسبيح يا حاج، هي اسمها تسبيح ”
ضرب سليمان بعكازه في الأرض حانقًا :
” وانا مالي هو أنا هخرج ليها بطاقة ؟!”
خجلت تسبيح وهي تحاول الانسحاب دون أن يشعر بها أحد وقد أدرك ذلك صلاح الذي تدخل سريعًا يحاول الحفاظ على ما تبقى لها من ماء وجه وايضًا لأنه يدرك كيف يكون سليمان حين غضبه ….
تحرك يمسك يد سليمان يجذب صوب الشقة ببسمة هادئة :
” اتفضل يا عمي ادخل استريح أنت جاي من طريق طويل”
ولم يكد يجذبه خطوة واحدة اضافية حتى جذب سليمان يده، دافعًا صلاح بقوة على رائد الذي تلقفه بين أحضانه وسقطا الاثنان ارضًا بقوة ..
رفع صلاح رأسه يهمس لرائد الذي كان يتسطح أسفله :
” الحاج شكله مضايق شوية يا رائد، عملت ايه يا عاق ؟؟ ”
تحدث رائد يبعد صلاح عنه :
” أنت لو مبعدتش عني هكون معاق، قوم يا اخي أنا ناقص؟! ”
نهض وصلاح يحاول أن يلملم بقايا كبريائه :
” تسلم ايدك يا عمي أنا بس كنت عايز اساعدك، لكن واضح أنك لسه ماشاء الله بصحة، تسلم ايد مرات عمي مهتمية بتغذيتك ”
رمقه سليمان بطرف عيونه بشر ليصمت صلاح وهو ينسحب من المكان وقد يأس أن يحل الأمور بينهما، لكن رائد تعلق في يده وهو يقول خوفًا من نظرات والده له ولتسبيح :
” أنت رايح فين وسايبني؟!”
جذب صلاح يده بصعوبة من بين أنامل رائد :
” حبيبي دي مشاكل عائلية وابوك شكله جاي ومتوعد ليك، وانا الحقيقة مش ناقص قلة قيمة تاني قدام الآنسة تسبيح، ده اخدني على خوانة وزقني كان هيكسرني ”
نظر له رائد بغيظ شديد :
” يعني أنت اتكسرت ؟! ما أنا اللي وقعت على ضهري اتكسرت ”
” يا بني تتكسر ولا تتجبس ده ابوك أنا مالي ؟”
وقبل أن يصل له تعليق من رائد، سمع الاثنان صوت ضربة من عصا سليمان الذي سأم كل تلك الحوارات الجانبية يقول بصوت صارم جاد مخيف :
” احنا هنقضيها وشوشة أنتم الاتنين ؟؟ أنا سألت سؤال الاستاذ مرجعش البلد ليه عشان يتجوز بنت عمك مسعد ؟!”
قال رائد وهو يحاول أن يبعد والده عن تسبيح التي كانت ترمق الجميع بنظرات غير مفهومة تشعر كما لو أنها دخيلة بينهما :
” طب يا حاج معلش ممكن ندخل جوا ونتكلم وانا هفهمك كل حاجة ”
نظر لهم سليمان ثواني قبل أن يتحرك صوب المنزل يقول بصوت نزق :
” ماشي، ورايا، وهاتوا معاكم شاهدة لاني حابب افهم كل اللي بيحصل هنا ”
وتسبيح التي لم تفهم شيئًا منهم، انسحبت لمنزلها بوجه شاحب وقد شعرت فجأة أنها تسرعب برغبتها في الموافقة على زواج سيُقام على أنقاض زواج اخر لم يبدأ حتى .
وقبل أن تطأ منزلها سمعت صوت رائد يناديها :
” شاهـ.. تسبيح، تعالي ”
استدارت له تسبيح بتعجب ليمنحها بسمة مطمئنة وهو يشير لها لتقترب :
” متقلقيش الحاج سليمان طيب اوي ومش بيحب يزعل حد ”
وفجأة ارتفع صوت والده من الداخل وهو يصرخ بغضب :
” ما تخلص منك ليه هفضل مستني طول الليل عشان تدخلوا ؟؟”
ابتسم رائد مشيرًا للمنزل :
” شوفتي ؟؟ قلبه ابيض ”
أشار لها صلاح أن تقترب بهدوء :
” رائد عنده حق يا آنسة تسبيح، عمي سليمان طيب اوي”
اقتربت تسبيح تتبعهم للداخل بقلب وجل وكأنها على وشك خوض الاختبار النهائي للقبول في إحدى الجامعات، وبمجرد أن وطأت المنزل أشار لها سليمان بالجلوس لتبدأ جلسة المحكمة .
ضرب سليمان بعكازه الأرض ونظر للجميع بأعين فاحصة، ومن ثم نطق بصوت صارم جاد كما لو أنه في إحدى الجلسات التي يحكم بها في القرية الخاصة به باعتباره عمدة عليها .
” ودلوقتي حابب افهم يا استاذ رائد سبب رفضك للجواز وايه علاقة رفضك بالاستاذة شاهدة؟؟ ”
_________________________
” وسيم مش ناقصة غباء على المسا، قولتلك شوف واخد غير الزفت اللي اتفقنا عليه، خلاص الدكتور ده شيله من دماغك لأن مبقاش يلزمني في الشغلانة وله حوار تاني معايا”
كانت تلك الجملة خارجة من فم سعيد الذي انتظر ردًا من وسيم والذي يعلم أنه سيصيبه في مقتل، زفر بصوت مرتفع يرى بطرف عيونه ميمو التي دخلت المنزل بوجه مقتضب غاضب، ليتحسن مزاجه تلقائيًا :
” لا أنا هكلم عمر اشوف وصل لايه، ركز أنت في اللي قولتك عليه دلوقتي ”
أنهى حديثه يغلق الهاتف وهو ينظر لميمو التي حاولت تجاهله حتى لا تنتهي ليلتها مع ذلك الاحمق بكارثة، لكن هيهات، فسعيد لا يجد سلوانًا له سوى في شجاره مع ميمو .
” مرات ابويا الصايعة اللي عمالة تلف البلد مع الصحفي، البيت نور بيكِ يا غالية ”
توقفت ميمو عن سيرها وهي تستدير له نصف استدارة، ثم ابتسمت بسمة مستفزة :
” عارفة، امال يعني هينور بيك أنت، بس ايه المزاج الحلو ده ؟!”
” عشان شوفتك بس يا ميمو ”
ابتسمت ميمو تتحرك صوبه، ثم ألقت الحقيبة الخاصة بها على الطاولة ومن بعدها ألقت بنفسها على الأريكة جواره، تتكأ بظهرها في راحة شديدة :
” تعرف يا سعيد ايه هي مشكلتك الأزلية؟! ”
استند سعيد بمرفقه أعلى الأريكة وهو ينظر لها باهتمام شديد، يضع ذقنه أعلى قبضته في بادرة تشير لاهتمامه بما تقول :
” ايه يا حياتي ؟؟”
” أنك واحد ثقيل ورخم ”
فتح سعيد عينه باتساع يدّعي ذهولًا :
” سبحان الله تعرفي أنك تاني شخص يقول انهاردة اني ثقيل ؟؟”
” تقريبا الكيل طفح عند الكل منك، وقرروا يصارحوك بالحقيقة المرة ”
ابتسم لها سعيد يميل بنصفه العلوي يلتقط كأس الشراب الخاص به، ثم أعطاه لميمو ببسمة واسعة :
” والله يا مرات ابويا أنا مش بهتم بالكل ولا برأيهم فيا، إلا أنتِ دايما بحب اعرف رأيك عشان اعمل عكسه ”
منحته ميمو بسمة ساخرة :
” تربية جاد بصحيح ”
غمز لها وهو يعتدل في جلسته يتحدث بشرود، يرتشف من الكأس الذي جذبه من يدها دون أن تشرب منه :
” مش انا بس اللي تربية جاد يا ميمو، أنتِ شربتي من جاد في خمس سنين اكتر ما أنا شربت منه في ٢٥ سنة كاملين”
اقتربت منه ميمو قليلًا تهمس بصوت بدى كفحيح :
” بس انا كنت دايما بتقيأ أي حاجة بشربها منه، الدور والباقي على اللي كان بيشربه ويقول الله، ويستنى الجرعة التانية ”
نظر لها سعيد بطرف عيونه، يبتسم لها بسمة جانبية:
” اصل مرار جاد كان له طعم مميز، طعم كل ما تشربيه تعرفي إن فيه حاجة اسوء من الموت”
هزت ميمو رأسها موافقة إياه، لتسمع صوته يتحدث بعدما ارتشف من عصيره دون شهية حقيقية وكأن المرارة التي يتحدث عنها انتقلت فجأة لكأسه :
” صحيح مش هنفرح بيكِ بقى ولا ايه ؟! عايز اجيب بدلة وأحضر فرحك على الصحفي اللي ماشية معاه ”
استدارت له ميمو تمنحه بسمة ماكرة :
” والله يا سعودي أنا قبلك عايزة افرح واجيبك تفرح معايا، بس أنت يعني عارف اللي فيها، وإن أنا يعني اممم مش بطيقك ولا بطيق سيرتك أنت وابوك ”
نظر لها سعيد بلوم :
” اخص عليكِ يا ميمو، دي عشرة سنين، كده يهون عليكِ سعودك؟! امال مين اللي هيمسكلك الشمعة وانتِ بتتزفي، ويمشي وراكِ ويشيل ديل الفستان، بعدين بالغلط الشمعة تقع على ديل الفستان اللي ماسكه وتولعي؟؟”
ابتسمت ميمو وهي بتقول باستفزاز :
” احلامك مضحكة اوي يا سعيد، أنت افضل أحلم كده لكن مش هتوصل لحاجة ”
اعتدل سعيد في جلسته يتجاهلها وهو يحمل جهاز التحكم في التلفاز يقلب بين المحطات ليجد فجأة قناة تعرض مقابلة قديمة لصلاح، تلك المقابلة التي كان يحاول قلب الطاولة عليه ومن معه ليبتسم وهو ينظر لميمو :
” تصدقي لايقين على بعض ”
رمشت ميمو وهي تنهض بسرعة تقف جوار التلفاز الذي كان يعرض وجه صلاح بشكل كبير :
” مش كده ؟؟ أنا قولت والله اول ما شوفته، قولت مفيش حد يستحق يشاركني في تربيتك غير صلاح ”
رفع سعيد حاجبه بسخرية شديدة :
” لما تتربوا أنتم الاتنين و…”
توقف عن الحديث حينما صدح في المكان صوت رنين هاتفه، امسكه ينظر له بهدوء قبل أن يجيب دون ملامح واضحه حول هوية من يتحدث معه، لتدرك أنه ربما اتصال خاص بالعمل، لذلك حملت حقيبتها وقد ملت تلك الالعاب مع سعيد وتحركت صوب الاعلى، لكن فجأة توقفت وهي تستمع لنبرة سعيدة الفزعة والتي كانت لتسعدها في أي وقت من الأوقات، حينما يكون الأمر بعيدًا عن نيرمينا .
” نيرمينا اختي ؟؟ حصلها ايه ؟!”
ألقت ميمو الحقيبة بقوة وهي تركض صوب سعيد تجذبه برعب وهي تردد :
” نيرمينا ؟؟ مالها ؟؟”
______________________
كان النقاش ما يزال محتدمًا بين رائد وسليمان منذ ساعات، رائد يحاول أن يوضح الأمور لوالده، وسليمان يرفض أن يعارضه ولده .
وصلاح يحاول أن يهدأ بين الاثنين وهو يقف في المنتصف يبعد سليمان تارة، ويزيح رائد تارة أخرى .
وتسبيح تقف بعيدًا تفكر في الهرب من كل ذلك، ليس فقط من المنزل، بل من البناية كلها، كل ما يدور في عقلها الآن هو أن تختفي من حياة رائد، عسى كل تلك المشاكل تختفي .
ومن بين كل ذلك ارتفع صوت موسيقى شعبية مرتفعه تهز اركان المنزل، تحولت جميع الأعين صوب الباب ليجدوا أن صالح يقف على الباب وهو يحمل بين يديه سماعة صوت في حجم زجاجة المياه يتراقص بها ويغني معها …
نظر الجميع لبعضهم البعض بعدم فهم، وصالح ما يزال يدور في المنزل يرقص ويغني بصوت مرتفع، وفجأة أبصر وجود الجميع في البهو ليبتسم، يلقي بالسماعة أعلى الأريكة ويركض صوبهم يجذب صلاح من يديه يجبره على الرقص وهو يغني :
” رقصوني يابا …..فرحوني يابا ”
كان يغني وهو يجذب يد رائد الآخر باليد الآخرى، ومن ثم أخذ يتحرك به هو وصالح ويرقص معهم وبعدها تركهم متوجهًا صوب سليمان يجذب منه عصاه الابنوسية وأخذ يتراقص بها في سعادة كبيرة والجميع ينظر له بعدم فهم ..
وصالح لا يأبه بأنه للتو عطّل حربًا كادت تشتعل بين سليمان ورائد، وهو يتحرك صوب سليمان يضع يده على كتفه يجبره على الحراك معه :
” يلا يا عم سليمان افرح، ارقص يلا ”
حاول سليمان أخذ العصا منه بحنق، ليعطيها له صالح وهو يقول ببسمة :
” عايز العصايا ؟! ”
ومن ثم أعطاه العصا وركض احضر عصا المكنسة وعاد لسليمان يتبارز معه كما يفعل الرجال عادة في الافراح بما يسمى ( التحطيب )
وسليمان لا يفهم ما يحدث .
في تلك اللحظة وصل مرتضى الذي تحدث مع ابنه منذ ساعات ولم يستطع البقاء في المنزل، بل سارع بأخذ سيارة وجاء في الطريق سعيدًا بابنه ..
وبمجرد أن وطأ المنزل ابتسم وهو يرى صالح يتراقص بالعصا مع سليمان لينضم لهم وهو يرفع يديه في الهواء يصفق بصوت مرتفع، وحينما انضم لدائرة الرقص جذب صالح يقبله بحب وسعادة وصالح يستقبل كل ذلك بطيب نفس وحب .
وهكذا انضم مرتضى لساحة الرقص يجذب العصا من يد سليمان ليشارك ولده التحطيب وهو يغني ويرقص ويصدر اصوات عالية متحمسه من فمه .
وصلاح يضرب كف بكف لا يفهم ما يحدث :
” انا مش فاهم ايه ايه ؟؟ حد يتكلم !!”
تحرك سليمان بغيظ صوب مرتضى يجذب عصاه منه :
” جرا ايه يا مرتضى أنت جنيت أنت وابنك ولا ايه ؟؟ داخلين علينا بالاغاني والرقص ؟؟ ”
توقف مرتضى عن الرقص وهو ينظر للجميع بتعجب :
” ايه هو أنتم متعرفوش ولا ايه ؟!”
نظر الجميع لبعضهم البعض بدهشة، وتحرك صلاح صوب السماعة يطفأها بحنق :
” لا منعرفش، احنا يادوبك كنا لسه بنقتل في بعض لقينا ابنك داخل يرقص ويغني ”
وضع صالح يده في جيب بنطاله :
” اصل عقبال عندكم خلاص خطبت ”
ومن فوره انكب مرتضى مجددًا يقبل ولده :
” والله يا بني ما توقعتها منك، عقبال اخوك يارب، أنتم الاتنين في يوم واحد ”
كان صلاح ينظر لصالح بأعين متسعة وصدمة كبيرة واضحة على وجهه :
” خطبت ؟؟ خطبت آمتى ؟؟ ومين اساسا ؟؟”
اجابه صالح ببسمة :
” هيكون مين يعني ؟؟ اكيد رانيا، قبل المغرب كده روحت طلبتها من أهلها ومبدئيًا كده فيه قبول من ناحيتهم، ناقص بس أخد الحاج ونطلبها رسمي ”
تحدث صلاح بتشنج :
” اصلًا ؟؟ يعني الفرح ده كله وانت حتى لسه متفقتش ؟؟ امال لما يوافقوا عليك هتعمل ايه ؟؟ هتعمل فراشة في الصالة ونحط دي جي على باسطة السلم ؟؟”
اجابه صالح ببسمة مستفزة :
” قولتلك الناس وافقوا عليا، والموضوع مضمون اللي باقي رسميات مش اكتر، هاخدك أنت والحاج وتيجوا معايا نتفق على السجاد والفرش ونخلص ”
ربت مرتضى أعلى كتفه بسعادة :
” حبيبي الف مبروك، ربنا يتمملك على خير يارب، وعقبالك كده يا صلاح يا حبيبي لما افرح بيك ”
نظر سليمان صوب رائد بغيظ شديد :
” شايف الناس اللي بتفرح، مش أنت بتنكد علينا عيشتنا عشان بس طلبت منك تتجوز ”
زفر رائد بحنق ليتدخل مرتضى بعدم فهم :
” هو فيه ايه يا سليمان ؟؟ وأنت جاي هنا ليه ؟؟”
أشار سليمان صوب رائد بغيظ شديد :
” الاستاذ عايز ينزل كلمتي قدام الكل ويسيب منال ”
نظر له مرتضى يتساءل :
” ليه كده يا رائد يا بني ؟!”
” يا عمي أنا قولت لابويا أن حتى منال جاتلي الشغل وقالتلي أنها بتحب واحد تاني ومش عايزة تتجوزني، وانا التاني خلاص لقيت بنت الحلال اللي عايز اتجوزها ”
كان يتحدث مشيرًا لتسبيح التي نأت بنفسها في أحد أركان المنزل تراقب ما يحدث بهدوء شديد وشعور بالذنب يملئها، رغم أنها منذ جاءت لم يأتي أحدهم على ذكرها وكل حديثهم يدور في نطاق اسباب رفض رائد .
نظر مرتضى صوب تسبيح ثم قال لسليمان :
” طب ما البنت زي الفل اهو يا سليمان وشكلها كويسة، فيه ايه بقى ؟؟”
قال سليمان بحنق شديد ينهر صديقه على طريقته البسيطة في الحياة :
” انا مش بتكلم عن البنت يا مرتضى، أنا بتكلم عن شكلي وسط الناس وكلمتي، والبنت اللي مستنية ابني يجي يتقدم ليها ”
هز مرتضى رأسه يتفهم ما يقصده :
” خلاص مش مشكلة، أنا هجوزها لصلاح هي طيبة وبنت حلال، هعمل فرحه مع صالح ”
انتفض صلاح وهو يصرخ :
” ايه يا حاج فيه ايه ؟؟ ماله صلاح دلوقتي بحواركم ”
تدخل رائد يقول بشر يحاول كبته وهو يذكر نفسه أنه أمام مرتضى الرجل الذي يعتبره والده :
” ايه يا عم مرتضى مش كده، بقولك دي البنت اللي عايز اتحوزها تقولي اخدها لصلاح ”
نظر له مرتضى بتعجب :
” وانا مالي بيها يا بني، أنا بتكلم عن منال، لو كده أطلبها أنا لصلاح، البنت محترمة وزي العسل ”
ومجددًا صاح صلاح وهو يضرب كف بالآخر :
” لا حول ولا قوه الا بالله، يا حاج وانا مزعلك في حاجة ؟ أنا تقيل عليك طيب ؟؟ قولي وانا والله ما هزعل، هو أي واحدة في وشك ترميها على صلاح ؟؟ ”
قاطع رائد كل ذلك وهو يقول منهيًا الحوار :
” من الاخر يا حاج عشان الموضوع يتقفل، أنا مش هتجوز غير تسبيح وبس، ومنال بنفسها هترفضني اساسا، ولو عايزني ارجع معاك البلد هرجع عشان اثبتلك أن لا أنا ولا هي موافقين، وأنت اكيد يا حاج مش هتبدي كلام الناس على سعادة ابنك ”
سانده مرتضى بصدق :
” ابنك عنده حق يا سليمان، الموضوع مش بيجي بالعافية كده، البنت اللي ابنك مختارها شكلها محترم وبنت ناس، وبعدين أنت لو أجبرته على منال كل ما تبص لوشه هتلاقيه بيلومك ”
نظر لهم سليمان بحنق، هو نفسه ليس مقتنعًا بأمر إجبار ابنه على الزواج، هو فقط جاء لأنه شعر أن ابنه يتجاهله، أو أنه لا يهتم لكلمته ورأيه .
نظر سليمان صوب تسبيح التي كانت تحاول الركض بعيدًا عنهم في تلك اللحظة وقال وهو يشير لها :
” تعالى يا بنتي ”
نظرت تسبيح له بتردد فابتسم يشجعها على الاقتراب، وكذلك فعلت، وحينما أصبحت على مسافة صغيرة منه تنهد سليمان وهو يقول:
” انا يابنتي والله ما رافضك ولا حاجة، أنا بس بربي الأستاذ اللي جنبك عشان ميتعودش يمشي كل حاجة غصب وبالدراع ويتعود يتناقش في اللي عايزه ”
نظرت له تسبيح فابتسم قائلًا :
” بعدين أنا اساسا اول ما شوفتك وانا حسيت براحة كبيرة، امال فكرك أنا قولتلك تيجي معانا ليه ؟؟ عشان حسيت أنك ممكن تفهمي الموضوع غلط وتهربي من الواد ويمشي يلف عليكِ زي المجنون ”
نظر لها رائد بصدمة وكأنه يتساءل إن كانت ستفعل ذلك، وتسبيح اخفضت نظرها للأرض ترفع عينيها ببطء له، وهو فقط يحدق فيها بترقب أن تمن عليه بنظرة واحدة .
واخيرًا فعلت، ليمنحها أجمل بسمة قد تراها يومًا، بسمة جعلت قلبها ينتقض في مضجعها وهي تبتعد بنظرها عنه، لتتسع بسمة رائد ويشعر أن كل حظه الجيد تم ادخاره ووضعه في تلك الفتاة.
شعور أن تحظى بامرأة قوية وهشة في ذات الوقت كتسبيح، رقيقة وحنونه مثلها، يدغدغ رجولته بقوة .
فاق رائد من شروده بها على صوت والده وهو يقول :
” كتب الكتاب هيكون في البلد، خدي يابنتي لينا معاد مع ابوكِ ”
ابتلعت تسبيح ريقها وهي تفرك يديها بتوتر، ثم رفعت عيونها لهم والتي التمعت بطبقة صغيرة من الدموع جعلت رائد يسارع وهو يقول :
” هي موافقة يا حاج، وباذن الله عمي الله يرحمه يكون راضي عن الجوازة ”
سقطت دمعة من أعين تسبيح وشعور بالمرارة ملء حلقها، أين والدها من تلك اللحظات، اين من سيتلو على زوجها يوم الزفاف الوصايا، اين من ستركض لاحضانه حين يغضبها زوجها؟! حُرمت من كل ذلك، حُرمت حتى من شقيقها الصغير الذي تخيلت بكاءه يوم زفافها وهو يخبرها كم سيشتاق لها .
لاحظ رائد دموع تسبيح التي تحاول أن تخفيها عن الجميع ليقول معطيًا لها فرصة لإخراج كل حزنها براحة :
” معلش يا تسبيح تعبناكِ معانا وسهرناكِ اكتر من معاد نومك ”
ورغم أن تسبيح لم تفقه كلمة منه، أو ما يريد، إلا أنها أدركت ما يحاول فعله لأجلها لذلك نظرت له بامتنان، تنسحب من كل تلك الجلسة تاركة الجميع خلفها يرمقها بشفقة .
قبل أن يربت سليمان على كتف ابنه :
” البنت شكلها بنت حلال يا بني وكويسة، ربنا يتمملك على خير يارب ”
ولم يشأ رائد اخبار والده أنه حتى لم ينل ردًا من تسبيح، لكنه فقط ابتسم له وقال بحنان :
” يارب يا حاج يارب …”
____________________________
كانت تجلس في نافذة الشرفة الخاصة بها تتنهد بتعب بعد ساعات طويلة من التحقيق الذي انتهى بقولها أنها لا تعلم عن صالح سوى أنه جار خالتها، وتعرفت عليه حينما كانت تعمل معها في المخبز، كذبت على إخوتها نعم، لكنها لم تفعل مع والدها الذي جلست معه وقصت عليه كل شيء؛ لأنها تعلم أنه الوحيد الذي سيتفهمها حتى وإن غضب أو وبخها لما فعلت وتعريض حياتها للخطر وحديثها مع ذلك الشاب….
ابتسمت فجأة حينما تذكرت ما فعل صالح لأجل، ضمت الوسادة لصدرها وهي تكتم صرخة سعادة هربت من سجن شفتيها، يا الله هل تحلم ؟؟ صالح جاء لخطبتها، بل وحارب إخوتها لأجلها ؟؟
صمتت قليلًا وهي تفكر في سر سعادتها بشأن الأمر، أليس من المفترض أن صالح ذلك هو من كانت تعد الايام للتخلص منه والعودة ؟؟
والآن ماذا ؟؟ تعد الثواني لتلتقي به ؟؟
فجأة أفاقت على صوت رنين هاتفها لتحمله بسرعة ولهفة كبيرة وكأن صالح هو من يتصل، آمال خائبة واحلام سخيفة، من اين لصالح برقمها ؟؟
أبصرت رقم هاجر يتصل بها لتبتسم مفكرة، هل عاد صالح للقاهرة واتصل بها من رقم هاجر ؟!
فتحت الاتصال سريعًا تنتظر صوته لكن ما قابلها كان صوت هاجر المتوتر وهي تقول بنبرة هامسة وكأن أحدهم يراقبها :
” الو رانيا …التحقيق خلص؟!”
ضحكت رانيا بصوت مرتفع وهي تنظر للسماء البديعة أمامها :
” أيوة يا خالتو، خلص واخدت افراج بضمان مكانتي عندي اخواتي، لكن مازلت تحت المراقبة ”
سمعت رانيا صوت هاجر يصل لها عبر الأسلاك ينقل صوتها واضحًا، وترددها :
” انا المفروض مكنتش عطيته عنوانك اساسا، اول ما شوفت اسم محمد على التليفون حسيت قلبي هيقف واني عملت مصيبة، ولما سألني عن صالح وقفت ثواني مش عارفة اقول ايه ”
ضحكت رانيا وهي تتذكر إصرار محمد على التحدث لهاجر حينما أخبرتهم أن صالح جارها، وقتها أخذ الهاتف وخرج يتحدث معها، وهي في الداخل بين باقي المحققين تتضرع لله ألا تقع هاجر بلسانها، للعجب لم يحدث إذ رجع محمد للغرفة بعد دقائق يصيح :
” انا قولت الجوازة دي مش هتحصل، والواد ده ميدخلش البيت بتاعنا ابدا ”
تنفست رانيا بخوف من صراخ محمد والذي سانده به جبريل مضيفًا :
” وانا ليا نفس الرأي، أنا اساسا مش عاجبني الولد ده ”
وافقه عبدالجواد بجدية :
” ولا عاجبني ”
وعبدالله شاركهم نفس الشعور :
” ولا عاجبني أنا كمان ”
في تلك اللحظة حدق بهم رؤوف في هدوء وقال مستفزًا إياهم وكأنه يختبر صبرهم وطاقة تحملهم :
” بس عاجبني انا”
استدارت له جميع الرؤوس، يحدقون فيه مصدومين، فوالدهم لم يسبق له وأن ناقشهم في تلك الأمور، أو تحدث معهم عن أي رجل يتقدم لخطبة اختهم، هو فقط كان يكتفي بتوبيخ لهم وأنه لا يعجبه ما يحدث .
تحدث جبريل بترقب :
” يعني ايه مش فاهم !؟”
” يعني الولد عاجبني ولو بنتي موافقة عليه، هقوله يجيب أهله ويجي ”
ومع انتهاء كلمات رؤوف تحولت جميع الأنظار في ثواني صوب رانيا التي نظرت لوالدها بلوم أن جعلهم ينتبهون لها بعدما ظنت أنها فلتت من بين أيديهم.
نظر محمد لوالده بغيظ مكبوت :
” حضرتك مش عاجبك الشاب، أنت عاجبك فكرة أننا متعصبين ”
ارتفعت ضحكات رؤوف يرى أن بِكره قد التقط وبسهولة شديدة هدفه وراء تلك الزيجة، يعجبه أن هناك من استطاع الوقوف في وجه أعاصير ابنائه، ينتشي من فكرة أن هناك أخيرًا من سيستطيع تخطي الوحوش وسلب الأميرة :
” أيوة فعلا عندك حق، اصل انا يا محمد لو ضيعت الشاب ده من ايدي، يا عالم امتى يجي واحد زيه ممكن يقف قصادكم الند بالند ويوقف التخلف اللي بتعملوه ”
اعترض عبدالجواد باستنكار شديد :
” تخلف ؟! حضرتك مسمي خوفنا على اختنا تخلف ؟؟”
ضرب رؤوف يد بالاخرى حانقًا:
” خوف ايه ؟؟ يابني ده دخل البيت من بابه، وطلب أيدها بالحلال. ”
اعترض عبدالله أخيرًا بتهكم :
” الجواز أذى يا والدي ”
هز رؤوف رأسه موافق :
” عندك حق، لو نتيجة الجواز عيال زيكم، فهو أذى فعلا ”
زفر محمد وقد استاء من ذلك النقاش بأكمله ورانيا ما تزال تجلس في ركن الغرفة وأعلى مقعد التحقيق تنتظر الاذن بالإفراج لتركض وتحتمي بغرفتها .
قال محمد بعدم اقتناع :
” أي واحد ممكن افكر فيه ماعدا الشاب ده، مش هو اللي هينفع رانيا ”
وكان الرد من والده جاهزًا إذ قال بحاجب مرفوع واستهجان :
” وحضرتك بقى اللي هتحدد مين اللي هينفع لرانيا ومين لا؟؟ وبعدين محدش ليه حق يختار ليها، زي ما انت هتختار مراتك وكل واحد من اللي حواليك هيختار شريكة حياته بنفسه، يبقى محدش يتدخل في اختيار اختكم ”
ومجددًا تسبب رؤوف في تحول الأنظار صوب رانيا التي رمقت والدها بحنق شديد وهي تتمتم بينها وبين نفسها :
” ايه يا بابا ما بصدق ينسوا اني معاهم في الاوضة ”
اقترب محمد منها بأعين ضيقة، بينما رانيا وكردة فعل طبيعية قفزت فوق ظهر المقعد بسرعة شديدة وسقطت خلفه وهي تصرخ بوجع لتتسع أعين الجميع بفزع ويركضون صوبها …
وصوت جبريل خرج مرتعبًا :
” ايه مالك ؟! اتجرحتي؟! وريني ضهرك ”
نظرت له رانيا بملامح منكمشة بألم طفيف :
” لا أنا بـ ”
وفجأة توقفت حينما رأت نظرات والدها يحذرها من نفي وجعها، وها هي تقوم باقدم حيلة في حياتها، حيلة اعتمدتها منذ صغرها لتحقيق كل شيء تريده، دون أي مقدمات انفجرت دموع رانيا بشكل محترف.
” مش قادرة، ضهري بيوجعني اوي، يابابا ”
ركض صوبها رؤوف بسرعة كبيرة يشاركها التمثيل ووجوه الأربعة شحبت حولها ليسارع عبدالجواد في إخراج هاتفه ليطلب لها الطبيب ورؤوف يضمها له بحنان :
” يا حبيبتي معلش، تعالي اطلعك اوضتك ”
لكن محمد كان الاسرع وهو يحملها بحنان شديد وحذر خوفًا أن يكون ظهرها قد تأذى من السقطة، يتحرك صوب الغرفة حاملًا إياها برقة :
” عبدالجواد اتصل بأي دكتور بسرعة وحد يجيب أي مسكن ”
وها هي الخطة تسير بنجاح كالمعتاد، رانيا تستغل وباسوء الطرق رعب اخوتها عليها، تستغل المبالغة في الحماية والتي ولدوا بها، فمنذ طفولتها وهم يحيطون بها بحماية تصيبها احيانًا بالاختناق وذلك بعدما شهد الأربعة اختطاف صديقة لها في نفس العمر، ليتعهدوا منذ تلك اللحظة أن تكون رانيا هي مركز حمايتهم .
اقترب رؤوف من عبدالجواد يقطع اتصاله بالطبيب :
” خلاص يا عبدالجواد أنا بعت للدكتور صابر يجي يشوفها”
هز عبدالجواد رأسه، ثم ركض للأعلى يطمأن على رانيا بخوف أن تكون السقطة قوية وتأذت بشكل قوي، وكذلك فعل الجميع ليبتسم رؤوف بعدما انقذ ابنته من بين أيديهم، أخرج هاتفه يتصل بأحدهم :
” أيوة يا صابر، بقولك ايه تعالى اعمل نفسك بتكشف على رانيا ”
أفاقت رانيا من كل ذلك على صوت هاجر التي نسيت في غمرة شرودها أنها تحدثها :
” وأنتِ يا رانيا ؟؟ ”
” انا ايه يا هاجر ؟؟”
تنهدت هاجر تفضي لها ببعض المخاوف بخصوص ذلك الزواج :
” أنتِ ايه رأيك بخصوص الموضوع ؟؟ موافقة على صالح ؟؟ صالح اللي مكنتيش طايقة حتى تسمعي اسمه وبيركبك ميت عفريت لما تشوفيه؟!”
وها هي هاجر تواجهها باسئلة استمرت بطرحها على نفسها منذ علمت برغبة صالح للزواج منها، اسئلة استطاعت أن تخدع نفسها وتتهرب منها بحجج واهية كي لا تجد إجابة ربما تفسد تلك الفرحة الوليدة داخلها وذلك الشعور الذي ينمو على استحياء في قلبها .
” معرفش يا هاجر ”
” متعرفيش ايه يا رانيا ؟؟ اكيد مش هتعارضي اخواتك وتشني حرب في البيت، عشان واحد مش طيقاه ومش بتحبيه ”
صمتت رانيا ثواني قبل أن تقول بتردد :
” انا مقولتش اني مش طيقاه، بالعكس أنا …أنا …”
صمتت تحاول بلورة كلماتها :
” هاجر أنا يوم ما رجعت اسكندرية مع عبدالجواد وانا في الطريق فتحت الايميل بتاعي بالصدفة، لقيت أن…”
صمتت تتحدث يشرود :
” اترفضت في المنحة، للمرة التالتة يا هاجر، اترفضت في المنحة اللي عشانها سافرت وتعبت واتبهدلت، اترفضت في المنحة اللي عشت سنين الجامعة كلها احارب اخواتي عشانها ”
صمتت، ثم أكملت بعدم فهم لما ستقوله :
” لكن الغريب اني وقتها وفي اللحظة دي، كل اللي عملته اني قفلت التليفون ورميته من غير حتى ما اهتم، وبالي كله كان مشغول بحاجة تانية، كنت بفكر في صالح، ومش عارفة ازاي، بس شعوري وانا بتحرك من الموقف وشايفة صالح ونظراته ليا كان شاغل بالي اكتر”
ابتلعت ريقها وهي لا تعلم كيف أفضت لهاجر بما لم تعترف به لنفسها، لكنها الحقيقة، صالح خلال تلك الأسابيع حجز لنفسه مكانة في قلبها كبيرة، مكانة هي لم تعرف بعد تعريفها.
” انا مش عارفة اقول ايه ولا عارفة أنا حاسة بايه، أنا بس فرحت يا هاجر، فرحت لما شوفت إصرار صالح وهو جاي يحارب عشاني ”
صمتت وهاجر لم تعقب على حديثها، وبما تتحدث وهي نفسها لا تعلم ما أصاب ابنة اختها لكنها قالت التفسير الوحيد الذي تعلمه في تلك الحالة :
” هو ممكن …ممكن تكوني حبتيه ؟!”
” فكرت في الموضوع ده، بس هو ممكن، يعني اصل انتِ عارفة أنا وصالح كنا عاملين ازاي طول الوقت، مكانش فيه فرصة حتى نتكلم زي البشر ”
ضحكت هاجر تقول بهدوء :
” احيانًا الاستفزاز بيكون وسيلة للتعبير عن الاعجاب، معرفش هل هو كده في حالتكم أو لا، لكن باللي أنتِ قولتيه فأنا شايفة تقعدي مع صالح وتتكلموا براحة وتفهمي منه أسبابه للي بيعملوا وصلي استخارة وتوكلي على الله لو ارتحتي ”
صمتت رانيا ولم تجب على حديث هاجر، لكن ضربات قلبها الصاخبة أجابت ما تشعر به جيدًا، ابتسمت بسمة ساخرة تقول متهكمة :
” اقعد معاه ؟؟ ده لو رجع يا هاجر، أنتِ مشوفتيش اللي حصل لما جه ”
وصل لها صوت هاجر ملقية بقنبلة في وجهها :
” هيجي لأن هو أخد مني رقم والدك، فاستعدي عشان الحرب اللي بجد هتبدأ …..”
___________________________
يقف أمام غرفة أخيه يضم ذراعيه لصدره مستندًا على باب الغرفة يراقب ما يفعل صالح .
فقد كان صالح يتراقص في الغرفة وهو يجمع كل ما يمكن أن يحتاجه لتلك الزيارة، كمشط لشعره ولم يكن يعلم حقًا أن صالح يمتلك مشطًا .
وايضًا قميص ابيض وبنطال من خامة الجينز الاسود، ومن ثم ألقى زجاجات عطور مختلفة، كل ذلك وهو يغني بانسجام شديد أصاب صلاح بحسرة حول ماهية المشاعر التي تدور داخل صالح الآن، كيف يبدو بهذه السعادة للزواج من فتاة كاد يقتلها منذ اسابيع؟؟
ثواني وسمع الاثنان صوت والدهم في الخارج يستدعيهم، استدار صلاح صوب والده ليرى بطرف عيونه جسد صالح يتحرك للخارج وهو يرقص ويغني بسعادة كبيرة …
خرج الاثنان ليتحدث مرتضى بسعادة كبيرة :
” ها هناخد ايه للناس واحنا رايحين ؟!”
كان والده يتحدث بحماس شديد، ليشاركه ذلك الحماس سليمان رفيقه القديم وصديق طفولته الذي بدأ يقترح عليه أخذ العديد من الأشياء، لكن صلاح تحدث بمنطقية شديدة :
” يا والدي العزيز دي قاعدة تعارف واتفاق مش اكتر يعني ناخد جاتوه… شوكولاتة، أي حاجة خفيفة كده، وبعدين بقى قبل الفرح باذن الله ابقى خد ليهم قفص وز وبط وقفصين فاكهة زي ما انت حابب ”
نظر له سليمان ومرتضى بملامح مستنكرة وكأنه قال شيئًا خاطئًا ومن ثم بدأ الاثنان يعترضان على ما قال وهو يجادلهما بقوة :
” يا حاج الله يكرمك، الناس يدوبك وافقوا مبدئيًا يعني لسه فيه اتفاق وحوارات كتير على فتحة الصدر دي ”
اقترب صالح من صلاح ببطء وهو يهمس له بشيء في أذنه، ليفتح صلاح عيونه بصدمة وهو يصرخ بجنون :
” نعم يا خويا ؟؟؟؟”
انتبه الجميع لصراخ صلاح الذي قاطع نقاش سليمان ومرتضى حول عدد السيارات التي يحتاجونها لحمل ما سيحضرونه، لكن صالح جذب يد صلاح وهو يقول ببسمة غبية :
” متاخدوش في بالكم، شوفوا هنحتاج كام جمل عشان الحنة ”
أنهى حديثه يجذب صلاح بعيدًا عنهم والأخير ينظر له بأعين متسعة وصدمة واضحة على ملامحه، وقد نأى به صالح بعيدًا، وبمجرد أن أصبح الاثنان بعيدان عن الرجال حتى صاح صلاح بجنون :
” يعني ايه مفيش موافقة مبدئية ؟؟ امال أنت جايب ابوك ليه ؟؟”
لوى صالح فمه وقد بدا عليه الانزعاج واضحًا من صراخ صلاح :
” يعني اللي سمعته يا صلاح، العيلة ولا عطتني موافقة مبدئية ولا حتى بصوا لوشي”
نظر له صلاح بعدم فهم :
” امال ايه اللي حصل وعلى أي أساس هنروح للناس ؟؟”
” على اساس اني عايز اتجوز بنتهم ”
هتف صلاح في وجهه بحنق :
” أيوة ما أنت عشان تتنيل تتجوز بنتهم على الأقل محتاج موافقة مبدئية عشان تاخد ابوك، يعني تاخد ابوك على آخر العمر تبهدله وتنطردوا؟”
سارع صالح بالحديث وهو ينظر خلفه لوالده وسليمان اللذان وصلا في حوارهما لعدد المواشي التي سيتم ذبحها احتفالًا بالمولود الاول :
” وايه اللي هيبدل ابوك بس، الناس عندهم تكييف هناك والكنب مريح ”
عض صلاح يده بجنون، ثم حاول أن يهدأ فصالح لن يرضخ للصراخ أو الجنون :
” طب يا حبيبي احكيلي براحة كده ايه اللي حصل هناك ؟؟ يعني هما قالوا ايه ؟! قالوا مثلا هنفكر ؟! نديهم وقتهم براحتهم، رأيهم فيك ايه؟!”
” اني متربتش ”
مسح صلاح وجهه وقد اقتنع بتلك الإجابة :
” عندهم حق والله، طب احنا هنعمل ايه دلوقتي ؟؟”
” نعمل ايه في ايه ؟؟ أنا هتصل بابوها هو الوحيد اللي عاقل في البيت ده واخد منه معاد نروح ليهم ”
نظر له صلاح باستنكار شديد، لكن صالح قال دون تفكير :
” اساسا اللي عرفته من هاجر أن الموضوع مش شخصي معايا، هما الأربع تيران على طول بيعملوا كده ”
نظر له صلاح بعدم فهم :
” اربع تيران ؟؟”
لوح صالح بيده في عدم اهتمام وهو يقول :
” اخوات رانيا، المهم انا قولت اقولك أنت عشان لما نروح هناك تحاول تتدارك الأمر ولو حصل حاجة تنقذ الموقف ”
كان صالح يتحدث بكلماته في رجاء شديد ونظرات متوسلة يعلم جيدًا أنها ستُضعف صلاح، وقد كان، حيث لانت ملامح صلاح وهو يقول :
” يعني أنت يا صالح حابب تتجوز رانيا ومتأكد من قرارك ؟؟”
هز صالح رأسه وهو يقترب منه أكثر :
” أيوة يا صلاح، أنا عمري ما كنت عايز حاجة ولا مستعد احارب عشانها قد رانيا ”
مسح صلاح وجهه يتنهد بصوت مرتفع، يحاول التفكير في حل لكل ذلك، لكن صالح لم يدع له فرصة التفكير، وهو يلقي نفسه بين احضان صلاح، يضمه بقوة مستغلًا حب صلاح له، ونزعة المسؤولية داخله، فالأمر لم يكن دقيقتين فقط، بل صلاح كان أشبه بأبٍ ثاني لصالح، يعامله كطفله المدلل، يوبخه وينصحه ويراضيه.
ابتسم صالح حينما شعر بيد صلاح تضمه مربتًا أعلى ظهره بحنان شديد :
” متقلقش يا حبيبي باذن الله تكون من نصيبك يا صالح، أنا معاك في أي حاجة ”
وتلك الكلمات ربما لا يعلم صلاح ما تفعلها، لكنها قادرة على إذابة جبال قلق وحزن وغضب داخل صالح، صلاح كان ومازال وسيظل طوال الحياة الركن الدافئ في حياة صالح، من يركض له حينما يصيبه أي سوء .
قبّل صلاح رأس صالح وهو يشرد في الأمر محاولًا التفكير فيما سيحدث، إن كانت رانيا ستسعد أخاه، فهو على أتم الاستعداد للمحاربة في حرب لا تخصه، طالما أن أخاه أحد أطراف تلك الحرب فهو أصبح كذلك …
وفي تلك اللحظة انتفض الاثنان من احضان بعضهما البعض على صوت مرتفع صاخب مبتهج يغني بسعادة كبيرة :
” يا نجف بنور يا سيد العرسان ….يا قمر ومنور على الخلان، اه يا نجف ”
كانت تلك الكلمات تخرج من فم محمود الذي يحمل بين يديه حامل ثياب يتراقص به في المكان وهو ينظر لصالح بسعادة كبيرة، لينطلق له صالح وهو يشاركه الغناء والرقص .
وصلاح يراقبهما ببلاهة، أي عريس هذا؟! يا ناس هم حتى لم ينالوا أي بادرة قبول من الطرف الآخر.
لكن محمود والذي أخرج بدلة سوداء اشتراها خصيصًا في طريقه وهو قادم لم يكن يضع أي اعتبار لذلك، طالما أن صالح فكّر في الزواج إذن هو أصبح عريسًا وليذهب رأي وقبول الطرف الآخر للجحيم .
ضم محمود صالح وهو يمنحه البدلة التي وعده بها قديمًا، حينما أخبره أن ثياب زواجه ستكون على حسابه الشخصي، وهو من سيكون له شرف المشاركة في تلك المعجزة، حينما يقرر الزواج، حتى في الفترة التي خطب بها صلاح سجدة، لم يكن الأمر كهذا بل تم سريعًا دون أي بهجة أو احتفال .
لكن ولأن محمود يعلم جيدًا ميل صالح لرانيا قرر أن يفي بوعده .
ألقى محمود البدلة على الأريكة جوار سليمان ومرتضى اللذان كانا يشاهدان ما يحدث بسعادة كبيرة .
ومن ثم أمسك يد صالح وهو يقفز معه ويغني له ويراقصه ويقبله سعيدًا :
” مبارك يا صاحبي عقبال يارب اول عيل كده ”
ابتسم صالح يبادله العناق :
” الله يبارك فيك يا محمود عقبال يارب ما تاخد الخطوة أنت كمان وتتجوز أنت وهاجر ”
غمزه محمود بخبث :
” قريب اوي ”
وصلاح يشاهد كل ذلك وهو يضرب كف بالآخر، كل هذا لأن شقيقه فكر فقط في الزواج، ماذا إن تزوج بالفعل ؟! هل سيقيمان احتفالًا على مستوى الجمهورية؟؟
قاطع أفكاره تلك صوت رنين هاتفه، أخرجه ليبتسم دون إرادة حينما أبصر رقم ميمو، وضع الهاتف أعلى أذنه :
” مساء الخير يا ميمو ”
لكن فجأة انكمشت ملامحه بعدم فهم وهو يسمع صوت ميمو غاضبًا عاصفًا :
” صلاح أنا دلوقتي في حتة مهجورة ومش عارفة اروح …”
________________________
قبل ذلك بساعات قليلة …
كانت السيارة تنهب الطريق أسفلها بشكل مرعب حتى كادت إطارتها تعلو عن الأرضية أسفلها وصوت صراخ ميمو يعلو في السيارة :
” ما تسرع الزفتة دي يا سعيد، بسرعة أو تنزل وانا هسوق”
ازداد غضب سعيد الذي كان مشتعلًا بالفعل منذ مكالمة مسؤول الرحلة الذي أخبره بأصابه شقيقته ووجودها في المشفى، ضرب المقود وهو يصرخ :
” دي عربية وده آخرها، ده مش الحصان بتاعك عشان اطير بيها، يا اما تسكتي وإلا والله انزل اسيبك هنا للدياب تنهش فيكِ، ده لو قبلت تقرب منك ”
رمقته ميمو بشر ليتجاهلها سعيد وهو يتنفس بصوت مرتفع ورنين هاتفه يعلو باسم أحد رجاله، لكنه يتجاهله، فهو في تلك اللحظة لا عقل له ليفكر في أمور عمله ..
استدارت ميمو تنظر للطريق وهي تحمل هاتفها تراسل به مختار لتطمأن منه على ما حدث وسعيد جوارها يقود باسرع ما يستطيع ليصل إلى صغيرته ..
دقائق أخرى مرت لتقف السيارة _ وبعد رحلة استمرت ساعات_ أمام أحد المشافي الواقعة على الطرق المهجورة وعلى أطراف إحدى المدن الساحلية ..
هبط سعيد بسرعة كبيرة من السيارة وخلفه ميمو التي لا تعلم كيف ركضت خلفه واقتحمت السيارة مخبرة إياه أنها سترافقه .
دخل الاثنان وبعد السؤال عن مكان الغرفة تحركا صوبها في شكل مخيف، وبمجرد أن وصلا للغرفة فتح سعيد الغرفة بشكل مخيف تسبب في انتفاضة نيرمينا في الداخل .
لكن سعيد لم يهتم وهو يهرول صوبها بخوف :
” نيمو حبيبتي أنتِ كويسة؟”
دخلت ميمو وهي تنظر صوب مختار الذي نظر لها نظرة مطمأنة، ورامي الذي كان يتحدث بهدوء :
” أهدى يا استاذ سعيد هي كويسة و….”
قاطعه سعيد بنظرات مرعبة وهو يصرخ في وجهه مشيرًا للضمادة التي تعلو وجه شقيقته :
” بخير ؟! ولما هي بخير ايه اللي على رأسها ده ؟! ازاي ده يحصل؟!”
نظر له رامي يتحدث بهدوء مقدرًا خوفه على شقيقته :
” انا الحقيقة معرفش اللي تسبب في الأمر ده، لكن أنا بمجرد عودتي للمخيم هعرف السبب بالضبط وصدقني مش هسكت عليه ”
اشتعلت عين ميمو بقوة وهي تقول بعدما أدركت ما يقصد :
” اللي تسبب ؟؟ يعني الموضوع مش حادثة ؟؟”
التفت رامي صوب ميمو التي ادرك وجودها فقط في تلك اللحظة، ليتوقف ثواني متأملًا ملامحها الشرسة والحادة، يجيب بهدوء :
” انا لسه معرفش بس الآنسة نيرمينا بتقول أنها حست بجد بيزقها، أنا هرجع المخيم افهم اللي حصل وابلغكم ”
كان سعيد في تلك اللحظة لا يهتم بما يقول تاركًا أمر التحقيق معه لميمو، وهو حينما يطمأن على صغيرته، سوف يعود ليتولى التحقيق مكانها .
ضم سعيد ميمو له وهو يقبل رأسها موضع الجرح :
” بيوجعك ؟؟”
هزت ميمو رأسها برفض :
” لا مش بيوجعني دلوقتي، الدكتور عطاني بنج ”
زاد سعيد من ضمها بحب :
” الف سلامة عليكِ يا نيمو، الحمدلله أنك كويسة يا عيوني”
في تلك اللحظة كانت ميمو تنظر للمعلم بشر وهي تزيد من تحقيقها ليزداد حنق رامي وهو يستأذن منهم للعودة إلى المخيم بعدما أخبرته ميمو أنهم سيأخذون نيرمينا للمنزل .
لكن وبمجرد خروج رامي حتى نظر مختار لميمو نظرة فهمتها لتأذن له بالرحيل، وهو خرج يلحق برامي، فالأمر لم ينتهي بالنسبة له .
اقتربت ميمو من نيرمينا تربت أعلى شعرها بلطف شديد :
” الف سلامة يا نيمو إن شاء الله سعيد وأنتِ لا ”
وسعيد لم يعلق أو يناقشها كالمعتاد، فهو يُفضل أن يصيبه كل السوء ولا يصيب صغيرته خدش واحد .
دخل الطبيب في تلك اللحظة وهو يقول ببسمة :
” ازيك دلوقتي يا آنسة نيرمينا ؟!”
ابتسمت له نيرمينا ترد بهدوء :
” الحمدلله أنا بخير شكرا لحضرتك ”
ضحك الطبيب والذي كان يبدو في الاربعين من عمره وهو يكتب بعض الأدوية في ورقة أمامه :
” الانسة غبلتنا لغاية ما اخدت البنج ولغاية ما خيطنا الجرح، ولولا الشاب اللي كان معاها كان زمان محدش عرف يلمسها ”
احمر وجه نيرمينا بخجل حينما جاء الطبيب على ذكر تلك اللحظات التي تتمنى أن تختفي، أغمضت عينها والإخراج يعود لها متذكرة صراخها العالي الذي أجبر مختار على التدخل والإمساك بها لمنح الطبيب فرصة رؤية الجرح، وهي تبكي بصوت مرتفع :
” لا يا مختار والله انا كويسة، هحط لازقة وهكون كويسة”
لكن مختار ما استطاع طمأنتها سوى بنظرات حنونة وهو يشير لها أن تنظر لها، مكتفًا يديها حتى بدأ الطبيب العمل.
انتبهت نيرمينا لصوت الطبيب وهو يتحدث مع سعيد :
” عادي يا فندم تقدر تاخدها بس الافضل تغير على الجرح بتاعها ويتعقم باستمرار ”
هز سعيد رأسه وهو ينظر لنيرمينا، ثم أخبرها أن تتحرك معه، وتحرك الثلاثة للخارج ونيرمينا كانت تشعر بتعب، النوم يداعب جفونها، ساعدها سعيد لتتوسط المقعد المجاور للسائق، ومن ثم وقف وهو يتحدث بجدية :
” ايه اللي رجع مختار تاني ؟؟ هو مش المفروض يروح مع الاستاذ ده ؟؟”
نظرت ميمو خلفها بتعجب، ليبتسم سعيد بخبث وهو يركض صوب السيارة وصعد لها وتحرك بها في سرعة مخيفة في الوقت الذي استدارت ميمو وهي تقول :
” أنت اتعميت ؟؟ مختـ ”
وقبل أن تكمل جملتها ما أبصرت سوى بعض الرمال التي تناثرت بسبب سرعة السيارة، فتحت عيونها بصدمة وهي تصرخ بصوت مرتفع :
” سعيد يا حيــــــــوان”
ضربت الأرض أسفل قدمها بعنف شديد وهي تصيح بجنون :
” والله لاوريــــــك يا سعيد ”
تنفست بصوت مرتفع تنظر حولها للمنطقة الفارغة وخاصة في ذلك الوقت المتأخر، أخرجت هاتفها تحاول طلب سيارة لكن لا شيء، مسحت وجهها بغضب مخيف وهي تلجأ للشخص الوحيد الذي تعلم أنه قد يأتي لمساعدتها في ذلك الوقت عدا مختار …
” صلاح أنا دلوقتي في حتة مهجورة ومش عارفة اروح، تعالى خدني لو سمحت …”
وفي سيارة سعيد كان يصفر باستمتاع وهو يقود السيارة ومعه نيرمينا التي انتبهت من بين جفونها الناعسة أن ميمو ليست موجودة :
” سعيد…ميمو فين ؟؟”
أجابها سعيد بهدوء وحنان كاذبًا :
” ميمو رجعت مع مختار المخيم عشان تلم حاجتك وهتيجي معاه ”
هزت نيرمينا رأسها تسقط في غفوتها، بينما سعيد ابتسم بانتشاء، انتصار صغير يحققه على ميمو، لا بأس إن كان انتصارًا طفوليًا، الأهم أنه نجح في إثارة شياطينها .
ابتسم بسعادة كبيرة لكن فجأة قطع سعادته تلك اتصالًا آخر من رجاله، زفر بحنق وقد ملّ تلك الاتصالات المتتالية، أجاب بصوت حاد من اتصاله في تلك الساعة المتأخرة من الليل حتى وإن لم يكن نائمًا :
” فيه إيه ؟! ”
اجابه الرجل بصوت ملهوف :
” بحاول اكلمك من بدري ياباشا وأنت مش بترد، الدكتورة زهرة دخلت من ساعة مع راجل لمكتب مأذون ……”
________________________
كانت تنظر ليده الممدودة أمامه بتعجب، وعيونها ما تزال تحمل بعضًا من الاحمرار الذي يشي بتلك اللحظات التي مرت بها .
” أنا قولت اكيد ملحقتيش تعملي اكل، فجبت ليكِ اكل معايا ”
ابتلعت تسبيح غصتها بصعوبة :
” أنا…أنا عندي اكل جوا و”
قاطعها رائد بحنان شديد :
” خدي الاكل يا تسبيح وبطلي عناد، أنا عارف أنك مأكلتيش حاجة من الصبح ”
وقد كان، فتسبيح منذ الصباح كانت تعاني قلقًا منعها الأكل وهي تفكر في أمر رائد وترقيته، ومن بعدها حدثت زيارة والده والآن هي حتى لم تُعد أي طعام قد يسد جوعها، لكن خجلها الشديد منعها قبول الطعام من رائد وهي تتمنع بإباء :
” بجد شكرا يا رائد، بس انا مش …”
ومجددًا قاطعها رائد :
” تسبيح ارجوكِ مترفضيش، أنتِ مأكلتيش حاجة، أنا عارف انك دلوقتي جواكِ ميت فكرة وفكرة، واحزان وتراكمات ممكن تمنعك تأكلي، لكن صدقيني والدك عمره ما كان هيبقى مبسوط لو عذبتي نفسك بالشكل ده ”
وكأنه ضغط بكلماته على جرح متقيح لم تعقمه بعد، ولا تملك السبيل لذلك، فبمجرد سماعها لكلمات رائد حتى خرجت شهقات بكاء من فم تسبيح وهي تقول بوجع :
” مش …مش هاين عليا، مش قادرة افرح وهما مش جنبي، عمري ما تخليت إني اعيش اللحظة دي لوحدي، حاسة اني هفضل طول عمري محبوسة في اللحظة اللي شوفت موتهم قدامي ”
قدّر رائد مقدار الحزن الكامن فوق صدرها، فما عاشته ليس هينًا على أحد فما بالك بشخص رقيق حنون كتسبيح؟؟
” انا مش هعمل فرح دلوقتي خالص يا تسبيح، احترامًا لوفاة والدك وعبدالعظيم، لكن أنا بس حابب ان يكون فيه رابط يديني الحق اخد بالي منك بدون ما احس أني متقيد، حابب اكون جنبك واشاركك حزنك، بس انا متكتف ومش قادر، فعشان كده بطلب نكتب الكتاب وبعدها براحتك نعمل الفرح وقت ما تحبي والله مش هضغط عليكِ ”
رفعت تسبيح عيونها المبتلة بالدموع له، ترى ملامح الرجاء تعلو وجهه، لتشعر أنها بالفعل قد حملت رائد فوق طاقته كثيرًا:
” رائد هو أنت عايز تتجوزني عشان تشيل همي ؟؟”
هز رائد رأسه يجيبها ببسمة بسيطة :
” لا عشان اشاركك همومك ”
ارتجفت شفاه تسبيح لترفع يدها يلهفة تتحس النقاب وكأنها تتأكد أنه يخفي ضعفها الآن عن اعينه المتفحصة ..
تلك الجملة التي روت عطشها لحنان وعطف تشتاقه منذ ارتفعت يد والدها عن رأسها، منذ فقدت احضان شقيقها .
” انا بس…بس خايفة في يوم تيجي وتزهق من كل ده، خايفة في يوم تحس أنك شيلت حمل غيرك، حاسة اني غير صالحة لأني اعيش حياة زي دي، حاسة إني مبقتش قادرة اعمل كده ”
قال رائد بحنان شديد :
” طب ما تجربي؟ ليه تحكمي على حاجة متعرفيهاش ؟! بعدين مين قالك أن الحِمل مش حِملي، تسبيح أنا حاليًا واحد مشرد، وعارف اني مش هلاقي سكني غير عندك أنتِ ”
نظرت له تسبيح بتردد ليمنحها بسمة واسعة وهو يضع الاكياس المليئة بالطعام أمامها وقال بجدية وحنان :
” اجهزي عشان الحاج هياخدنا نروح نشوف امي وهناك هيعلن في البلد خطوبتنا ؟؟”
اتسعت اعين تسبيح بصدمة من سرعة الأحداث، هي حتى لو تستوعب بعد أنها ستصبح زوجة لرائد، ابتلعت ريقها وهي تراه يودعها، ثم تحرك صوب المنزل الخاص به، لكنه توقف فجأة وقال بتذكر :
” تسبيح هو أنتِ صحيح وافقتي على الجواز ؟؟”
رفع تسبيح حاجبها متشنجة، ماذا هل تذكر الآن أنها حتى لن تخبره موافقتها ؟؟
ورائد وقف يحاول التذكر قبل أن يقول ببسمة صغيرة :
” مقولتيش صح ؟؟”
هزت رأسها بنعم ليقول بهدوء :
” طب ايه نعيد الموضوع من الأول ولا نتخطى حوار الموافقة ده ونعتبرك قولتي ؟!”
رمقته تسبيح بتهكم دون أن تتحدث بكلمة ليبتسم هو قائلًا :
” تمام هنعمل skip وندخل على الخطوة اللي بعدها، اساسا أنا مكنتش هقبل برفض، عارفة ليه ؟!”
قالت تسبيح بتساءل وهي تبتسم بسمة ظهرت واضحة في عيونها :
” يا ترى ليه ؟؟”
أخرج رائد المدونة الصغيرة الخاصة به من جيب بنطاله الخلفي يلوح بها في الهواء بمزاح واضح وصوت مهدد باصطناع :
” عشان أنا مسجل هنا كل جرايمك”
لوح بالدفتر لها وهو ينسحب بظهره صوب المنزل يردد بصوت أجش خافت كصوت الاشباح في التلفاز :
” افتكري يا تسبيح، الدفتر معايا …”
ولم تستطع تسبيح أن تكبت ضحكاتها وهي تدخل منزلها تتنهد بصوت مرتفع تترحم على والدها وشقيقها ووالدتها الحبيبة، وتدعو الله أن يزيح كل تلك الاحزان من قلبها، علّها يومًا تستطيع أن تضحك ملء فاهها ومن اعماق قلبها ….
________________________
توقف بالسيارة بعد قيادة ساعات أمام المشفى التي أخبرته عنها ميمو، بحث بعينه في المكان حوله يحاول معرفة أين هي لينتفض فجأة حينما وجدها تدس جسدها على المقعد المجاور له مرددة بصوت غاضب حاد :
” يلا ”
وبالفعل تحرك صلاح بالسيارة وهو ينظر لها متعجبًا :
” ايه اللي جابك هنا في الوقت ده ؟؟ ومن غير عربية كمان ؟؟”
وكأنها كانت تنتظر أن يسأل لتمنحه إجابته على هيئة انفجار غاضب وصراخ وحنق لم يكن موجه له، بل كان موجه لذلك الحقير الذي تركها في مثل هذا الطريق المهجور في ذلك الوقت :
” الزبالة اللي اسمه سعيد جيت معاه عشان اشوف نيرمينا في المستشفى قام سابني ومشي”
صمتت وهي تتنفس بعنف وبشكل مخيف جعل صلاح يتلاشى التحدث معها كي لا يغضبها أكثر ويثير حنقها، ابتسم وهو يراها تزفر محاولة أن تهدأ وتمرير ما حدث الان فقط حتى تعود .
ليتحدث صلاح حينما أبصر أنها أخيرًا أصبحت بخير :
” احسن ؟؟”
هزت رأسها رافضة :
” لا، مش هبقى احسن غير لما اشوفه مسحول قدام عيني كده ”
صمتت ثواني قبل أن تستدير له فجأة بشكل جعله يجفل لثواني وهي تقول بجدية :
” بقولك ايه ما تنزل خبر في الجريدة اللي بتشتغل فيها عن سعيد إنه اتقفش في بيت دعارة ؟؟”
فتح صلاح عيونه بصدمة مرددًا بعدم فهم :
” بيت دعارة ايه ؟؟ هو فعلا اتمسك في بيت دعارة ؟؟”
ابتسمت ميمو بسمة مخيفة تقول بجدية مرعبة :
” لا بس هيتمسك ”
هز صلاح رأسه بيأس منها :
” طب لما يحصل يبقى ننشر باذن الله واطفيلك نارك، اتفقنا ؟؟”
” اتفقنا يا لذوذ ”
ضحك صلاح بصوت مرتفع وهو ينظر لها بطرف عينه أثناء القيادة :
” تعرفي بقالك قد ايه مقولتيش ليا لذوذ دي؟؟”
منحته ميمو بسمة خبيثة ذكرته بتلك الفتاة التي صُدم بها اول مرة حينما سحبت المقعد وجلست أمامه تتحدث معه بخبث وغموض، ومازال الغموض قائمًا .
” تعرف انت أنك كنت اول شخص اقول ليه لذوذ دي ؟؟”
نظر لها بعدم فهم، أليست تلك الكلمة ملازمة لها ؟؟ ما الذي تقصده بأنه اول من نادته بهذه الطريقة .
ضحكت ميمو بصوت مرتفع على ملامح الحيرة التي استقرت أعلى وجهه، وأعطته ما يدور حوله وهي تقول بهدوء شديد :
” انا منكرش أن أنا في العادة بتكلم مع بعض الناس بالشكل ده، اللي هو كلمات من عمق الحواري المصرية زي ما بتقول، بس كلمة لذوذ دي كانت حصري ليك ”
سخر منها صلاح بغيظ شديد :
” ولصالح، ولا نسيتي أنك كنتِ بتقولي لصالح لذوذ ؟؟”
أطلقت ميمو قهقهات عالية عليه :
” بس هو نفس الشكل، فبرضو مبعدناش كتير، كأني مقولتش لحد غيرك ”
قال صلاح بهدوء يسترجع ذكرى أول لقاء لهم مبتسمًا :
” فاكر اليوم ده كنت رايح على أساس اقابل نيمو،لكن مصطفى قالي مفيش نيمو تاخد ميمو، وبعدها لقيتك وشديتك عشان اتكلم معاكِ ومكنتش عارف أن الموضوع هيتطور كده ”
ضحكت ميمو أكثر وهي تستمتع لما يقوله وقالت من بين ضحكاتها ببساطة شديدة وكأنها تتلو عليه حالتها لليوم :
” قصدك أنا اللي لقيتك وشديتك ..”
نظر لها صلاح بعدم فهم لتمنحه هي بسمة انبأته بأن ما سيسمعه الآن سيساهم في ازدياد إعجابه بتلك المرأة، وهذا ما حدث حين هزت ميمو كتفيها لأعلى وأسفل بكل هدوء تصف له ما حدث :
” انا اللي خليت مصطفى يقولك إن نيرمينا مش هناك وأن مفيش غيري، عشان اجبرك تطلبني واقنعك أنك أنت اللي عايزني وبتدور عليا مش العكس يا حبوب ”
اتسعت عين صلاح بشدة لا يفهم ما تقول، لتبتسم له ميمو بسمة جانبية تهمس بخفوت شديد :
” أنا اعرفك من قبل ده كله يا صلاح، اعرفك من اول مقال ليك وأنت بتجيب في سيرة سعودي
، وعشان كده رميت الطعم وجبتك لغاية عندي، فاكر محمد اللي قالك أن نيرمينا في النادي وبعتك لهناك؟! محمد ده تبعي اساسا ”
كانت الصدمة تعلو وجه صلاح وهو ينظر لها بأعين متسعة، وسرعان ما ضاقت عينيه وتلاشت صدمته شيئًا فشيء وعلىٰ المكر وجه صلاح يردد بأريحية شديدة :
” ومين قالك أنك أنتِ اللي رميتي الطعم يا لذوذة؟!”
حدقت به ميمو دون أي ملامح وبوجه جامد، تحاول أن تخترق عقله لمعرفة ما يفكر به، لكن صلاح وكأنه قرأ أفكارها فكان دوره هو ليضحك بصوت مرتفع وهو يقول :
” متحاوليش لاني طالما مش عايز، مش هخليكِ تفهمي أنا بفكر في ايه، بس انا هجاوبك عشان فضولك ده ومتهونيش عليا ”
صمت ثم أضاف ما يخفيه بين طيات نفسه :
” محمد اللي بتقولي أنه تبعك، أنا اللي رميته عليكِ يا ميمو عشان يقنعك أنه هو معاكِ وهيخدمك، وخليته يقنعك أنه سحبني للنادي بأمر منك ”
ما هذه اللعبة التي وقعت بها، ظنت أنها تلعب به، والحقيقة هي أنه هو من يتلاعب بخيوطها، أم أنه خُيّل له الأمر ؟!
صفقت له ميمو والإعجاب كلل نظراتها، وقالت بهدوء :
” برافو عليك والله، كان عندي حق يوم ما اخترتك تكون معايا في اللعبة دي، لكن يا لذوذ فيه حاجة فاتتك”
نظر لها صلاح بترقب لتهمس له :
” انا عارفة من الاول اساسا إن أنت اللي زقيت محمد عليا، وأنه معاك، بس انا قولت طالما هيخدم مصالحي، فليه لا، خليني اعيش دور الاستعباط واخليه يفهمك أنه نجح يدخل دايرتي ”
ارتفعت ضحكات صلاح أكثر وأكثر وهو يقول :
” يعني في الآخر طلعنا احنا الاتنين بنلعب ببعض ”
” تقدر تقول كده و….”
وقبل أن تكمل حديثها شعر الاثنان باصطدام عنيف جعل جسد ميمو يرتد للإمام بسرعة كبيرة لدرجة أن رأسها كادت تخترق الزجاج، لكن يد صلاح كانت الحائل لها، قبل أن يتوقف بالسيارة في سرعة كبيرة وينظر لها ليطمأن على حالتها، وبعدها نظر بفزع للشيء الذي تسبب في إيقافه بهذه السرعة …….
____________________
اخبرتكم أن المتعة بدأت وستزداد ….
يتبع…
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية ما بين الالف وكوز الذرة ) اسم الرواية