رواية حبيسة قلبه المظلم الفصل السابع و الاربعون 47 - بقلم سارة علي

الصفحة الرئيسية

  رواية حبيسة قلبه المظلم كاملة بقلم سارة علي عبر مدونة دليل الروايات 


 رواية حبيسة قلبه المظلم الفصل السابع و الاربعون 47

  
نطق عمار أخيرا بنبرة بدت عابثة وملامح فقدت جمودها فجأة :-
” مساء الخير ….”
تحرك ببصره على الجميع متسائلا بإستخفاف :-
” هل أتيت في وقت غير مناسب ..؟!”
أضاف يشير الى غالية :-
” هل هناك مناسبة ما وأنا لا أعلم ..؟!”
ردت غالية وهي تستعيد رباطة جأشها :-
” إنه يوم ميلادي لو كنت تتذكر …”
إدعى الدهشة وهو يردد بأسف مصطنع :-
” صحيح إنه يوم ميلادك … لقد نسيت ذلك تماما ..”
أكمل مرددا ببرود :-
” ربما لإننا توقفنا عن إقامة إحتفال ضخم بهذه المناسبة منذ سنوات … منذ وفاة والدي على ما أتذكر …”
تمتمت غالية بخفوت :-
” رحمة الله عليه …”
ثم أشارت له بدلوماسية :-
” تفضل يا عمار .. شاركنا الإحتفال …”
تجاهل عمار حديثها وهو يتجه ببصره نحو أخيه فتقابلت نظراته بنظرات نديم الجامدة … جمود يخفي خلفه الكثير …
بدت النظرات المتبادلة بينهما أشبه بحرب صامتة ..
كلاهما يتوعد الآخر ..
كلاهما ينتظر النهاية … نهاية تليق به .. كلاهما يريد الفوز …
نقلت غالية بصرها بينهما بقلق وكذلك كان كلا من حياة وشريف ومعهما نادر ونرمين وحتى أروى …
جميع من يعلم بتلك العداوة شعر بالقلق …
وعلى رأسهم صباح …
صباح التي كانت تنظر الى المشهد بخوف … ذعر حقيقي والأسوء بتأنيب … ضميرها يؤنبها لإنها تدرك إنها سبب هذه الحالة …
سبب هذا الدمار … سبب هذا الحقد والرغبة في الإنتقام …!
نهضت صباح من مكانها تهم بالمغادرة وهي تشعر إن كل شيء بات يفوق قدرتها على التحمل لتتفاجئ بعمار يتسائل بسخرية ظهرت في عينيه :-
” إلى أين ..؟!”
ردت صباح محاولة السيطرة على أعصابها :-
” سأتفقد بعض الأمور …”
لوى عمار شفتيه مرددا بعدم رضا :-
” تتركين ضيوفك لتتفقدين أمورًا لا أهمية لها …”
هتفت غالية بحدة خفية محاولة السيطرة على الموقف فلو كان أبناء عمومتها فقط موجودين لكان الأمر طبيعي قليلا كونهم يعرفون كل شيء ولكن وجود أصدقائها وترها كليا وهي لا تريد أن يحدث أي تصرف غير لائق أمامهم :-
” تفضل يا عمار وشاركنا الطعام …”
ثم أشارت الى والدتها بدورها :-
” وأنت أيضا يا ماما …”
تقدم عمار بخطوات متكاسلة نحو مائدة الطعام ليسحب له الكرسي المقابل للكرسي الذي كان نديم يجلس عليه ثم جلس عليه مرددا عن قصد وهو يرفع بصره نحو أخيه الواقف قبالته وزوجته جانبه :-
” هيا يا نديم … تفضل وأجلس … ما بالك واقف هكذا ..؟!”
نظرت غالية الى شقيقها بتوتر بينما كان نديم يقف جامدا تماما حتى شعر بكف حياة تقبض على ذراعه فنظر لها ليرى الرجاء الخالص في عينيها …
عاد يجلس فوق كرسيه على مضض لتتنفس غالية الصعداء وهي تصطنع الإبتسامة بينما تخبر البقية :-
” تفضلوا من جديد …”
ثم جلست على مقعدها وهي ما زالت محتفظة بإبتسامتها المرحبة بينما داخلها تدعو أن تمر الليلة بسلام …
بدأ عمار يتناول طعامه وهو ما زال يتبادل الأنظار بين الحين والآخر مع أخيه ..
شعرت حياة بمدى الضيق الذي سيطر على زوجها وتلك النظرات المتبادلة بينه وبين عمار لكنها لم تستطع أن تفعل شيئا …
تلاقت نظرات عمار هذه المرة بنظرات حياة ليمنحها إبتسامة خاصة غريبة تماما جعلت ملامح نديم تتشنج كليا وهو يرى تلك الإبتسامة التي يرسلها عمار لزوجته ..
شعرت غالية بتوتر الأجواء فسألت عمار بخفة :-
” لماذا لم تجلب شيرين معك يا عمار …؟!”
أخفى عمار تجهم ملامحه بمهارة على ذكر سيرة زوجته وهو يجيب ببرود :-
” لم تستطع أن تأتي … متعبة قليلا …”
سألته غالية مجددا بقلق :-
” سلامتها .. هل هي مريضة ..؟!”
رد عمار بإقتضاب :-
” كلا لكنها حامل … ”
ثم منح نديم نظرة قوية ثابته عندما هتف نادر مباركا له :-
” مبارك يا عمار .. ”
بارك بعدها كلا من شريف وأروى ونرمين ليرد عمار مباركتهم وهو يرسم إبتسامة كاذبة على وجهه عندما قالت غالية بصدق :-
” مبارك يا عمار …”
رد عمار بنفس الإقتضاب :-
” شكرا غالية …”
ثم أشار نحو صباح الواجمة متسائلا :-
” ماذا عنك يا زوجة والدي ..؟! ألن تباركي لي أنت الأخرى ..؟! مهما حدث سيبقى الطفل القادم أول حفيد لوالدي … زوجك العزيز رحمة الله عليه ..”
تلاقت نظرات صباح بنظرات غالية التي منحتها نظرة مترجية لتهتف صباح بجمود :-
” مبارك يا عمار …عسى أن يرزقك الله ولدا صالحا يخاف ربه …”
ثم أكملت بنفس الثبات :-
” ولتسميه حسين .. على إسم والدك رحمة الله عليه …”
ابتسم عمار بخفة قائلا :-
” ربما سأفعل .. مع إنه والدي لم يوصني بهذا … فقط أوصاني إذا أتت فتاة أن أسميها ديانا على إسم والدتي … فهو يعتز بهذا الاسم كثيرا ودائما ما كان يتمنى إقتران إسم ديانا بإسمه ….”
وهو كان صادقا في حديثه ..
تجهمت ملامح نديم وهو يستمع الى حديث عمار بينما بهتت ملامح صباح كليا ليضيف عمار وهو ينظر في عيني صباح بقوة :-
” لقد أراد تسمية غالية بإسم والدتي حسب ما قال لكنكِ رفضتِ ذلك بتعنت ..”
تجمدت ملامح غالية مما سمعته بينما انتفض نديم من مكانه يصيح به وقد فقد أعصابه كليا :-
” يكفي .. توقف عن هذا الهراء … ”
أكمل ساخرا :-
” أنت تخدع من بالضبط …؟! تخدع نفسك فقط ….”
تطلعت صباح الى ولدها بقلق بينما إسترخى عمار في جلسته أكثر مرددا :-
” أنا لا أكذب .. هذه الحقيقة … هذا ما قاله والدك .. يمكنك أن تسأل السيدة الوالدة إذا أردت …”
أشار الى صباح مرددا بثقة :-
” إسألها هيا … لتخبرك هي بالحقيقة …”
انتفضت غالية من مكانها تصرخ به :-
” يكفي يا عمار .. يكفي حقا …”
نهض شريف من مكانه مرددا بجدية وهو يشير الى جميع الموجودين :-
” من الأفضل أن نغادر … ”
همست غالية بخفوت :-
” أنا حقا أعتذر ..”
لكن شريف أوقفها بجدية محاولا التخفيف عنها :-
” لا بأس .. تحدث هكذا أمور دائما …”
إرتجفت ملامح حياة بوجل بينما غادر الموجودين حاليا وعمار ما زال جالسا بنفس الطريقة يتأمل نديم الواقف قباله بتحفز بنظرات باردة لكنها متحدية …
أدمعت عينا غالية من هول الموقف ولم تعرف علام تحزن بالضبط ..؟!
هل تحزن بسبب الإحراج الذي تعرضت له بسبب أخويها أم تحزن على حالهما بل حالهم جميعا ..؟!
كل ما تعرفه إن هذا اليوم المميز تدمر تماما …
وبسبب أخيها المبجل كالعادة …
كلا ليس بسببه فقط ..
بل بسبب والدتها أيضا ووالدها الراحل ..
فلولا ضعف والدها وأنانية والدتها ما كان ليحدث كل هذا ..
ما كان ليصبح عمار هكذا وما كانت لتتدمر علاقة الأخوة بسبب ماضي لا ذنب لهم فيه …
………………………………………
ما إن غادر الجميع حتى صاح نديم بعصبية :-
” والآن توقف عن هذه التمثيلية السخيفة .. لقد غادر الجميع ولم يتبق سوانا … ”
بقي عمار على وضعيته المستفزة مرددا ببرود :-
” أي تمثيلية ..؟! أنا لم أقل سوى الحقيقة …”
أكمل وهو ينظر نحوه بقوة :-
” أخبرني يا نديم ، هل سألت يوما والدتك عن طبيعة علاقتها بوالدك ..؟! هل سألتها يوما لمَ تزوجها …؟! أو لمَ تزوج والدتي قبلها …؟!”
تجهمت ملامح نديم مرددا بجدية :-
” ولم سأسأل عن شيء أعلم جوابه مسبقا …؟! ”
سأله عمار بدوره بنبرة مستخفة :-
” ومالذي تعلمه يا عزيزي ..؟!”
أجاب نديم ببرود :-
” أبي تزوج والدتك أولا ثم طلقها لإنهما لم يتفقان ليعود ويتزوج والدتي .. هذا ما أعلمه ولا يهمني أن أعلم بقية التفاصيل لإنها أمور خاصة بهما على ما أعتقد …”
” إذًا أنت محظوظ …”
قالها عمار بجمود وهو يضيف :-
” أنت محظوظ لإنك لا تعرف سوى القليل .. بينما هناك الكثير مما تجهله … الكثير جدا يا نديم …”
هدر نديم من بين أسنانه :-
” إلام تريد أن تصل ..؟! ما دخل والدك ووالدتي الآن …؟! ما دخلهما بكل ما يحدث ..؟!”
انتفض عمار من مكانه يصيح بعدما نفض عنه رداء الجمود :-
” بل لهما كل الدخل … هما سبب ما يحدث .. هما سبب كل شيء …”
صاحت صباح بتوسل :-
” يكفي يا عمار ..”
نظر نديم الى والدته بحيرة بينما صاح عمار بها :-
” كلا ، لا يكفي يا صباح هانم .. يجب أن يعلم إبنك الوحيد كل شيء … يجب أن يعرف حقيقتك أنت أيضا … عليه أن يعلم إنني لست الشيطان الوحيد هنا … إن والدته المبجلة لا تختلف عني …”
” إخرس …”
صاح بها نديم وهو يهم بالإنقضاض عليه لتقف غالية في وجهه وتقبض حياة على قميصه من الخلف ترجوه ألا يفعل …
هتف عمار متشدقا :-
” هل تريد أن تعلم الحقيقة ..؟! سأخبرك إذا … والدك تزوج والدتك مجبرا بسبب جدتك … هي من أجبرته على الزواج بإبنة شقيقتها بعدما إدعت المرض … والدك خشي من غضب والدته فتزوج والدتك وهو الذي لم يكن يريدها يوما فهو كان يعشق والدتي … عاش ومات وهو لم يحب آحدا غيرها …”
إنتقلت نظرات نديم نحو والدته التي تنظر نحوه بتشبث وهناك داخل عينيها إعتذار غير مفهوم عندما أكمل عمار يخبره بالحقيقة الكاملة :-
” والدتي إمرأة ذات كبرياء عالي … لم تتحمل وضع كهذا فأرادت الطلاق وبالفعل رفعت دعوة طلاق ضد حسين الخولي فقرر والدك العزيز أن يطلق إبنة خالته فقط لإجلها ولكن كل شيء تحطم عندما حملت والدتك بك فلم يستطع والدك حينها أن يطلق والدتك ليضطر الى البقاء معها بينما هجرته والدتي دون رجعة …”
” هل هذا صحيح ..؟!”
سأل نديم والدته لتهز رأسها بصمت فيستدير ناحية عمار يسأله بثبات كاذب وهو يرى عالمه كله يتحطم نصب عينيه :-
” لهذا تنتقم مني .. لإنني السبب في إنفصال والديك بشكل نهائي …”
التوى فم عمار بتهكم قائلا :-
” ليت الأمر توقف الى هنا … صدقني ما كان ليحدث كل هذا .. ما كنا لنصل الى هنا …”
أكمل وهو يشير نحو صباح :-
” والدتك تلك لم تتوقف عن إيذاء والدتي .. سيطرت غيرتها عليها وهي ترى تعلق أبي السافر بطليقته رغم مرور السنوات خاصة وهي تدرك إنه يحاول إعادتها الى عصمته بأي طريقة .. ”
أضاف وهو ينظر نحوها بحقد دفين :-
” لقد تسببت بالعديد من المشاكل لوالدتي … وفي النهاية تسببت بفضيحة لها كادت أن تموت والدتي بسببها ولكن إبراهيم الهاشمي أنقذها وتزوج بها … تزوجته أمي مرغمة لأجل الفضيحة التي تسببت بها والدتك العزيزة وفي النهاية ماتت .. ماتت بعدما عاشت لسنوات تعاني القهر والألم والعذاب مع زوجها الآخر … هل تعرف كيف ماتت ..؟!”
نظر له نديم بعينين مصعوقتين مما يسمعه ليهمس عمار :-
” إنتحرت ..”
شهقت حياة بصدمة بينما تساقطت دموع غالية رغما عنها ..
اما نديم فشعر بطعنة في قلبه ..
الحقائق بدأت تظهر أخيرا ويا ليتها لم تظهر …
همس نديم بصوت متحشرج :-
” مستحيل … ”
قاطعه عمار ببرود :-
” والدتك أمامك .. يمكنك أن تسألها …”
التفت نديم ينظر الى والدته التي جلست على كرسيها مجددا بتعب ليسألها بترجي :-
” لماذا لا تتحدثين ..؟! لماذا لا تدافعين عن نفسك ..؟!”
أخفضت صباح وجهها أرضا بينما هتف عمار ببرود :-
” لا يمكنها أن تقول شيئا ..ماذا ستقول ..؟! جميع ما قلته حقيقة .. حقيقة تدركها جيدا … حقيقة مهما حاولت الهرب منها ستظل تلاحقها دائما وأبدا ..”
انتفضت صباح من مكانها تصيح به :-
” أنت ماذا تريد مني ومن أولادي ..؟! ألم يكفيك ما فعلته حتى الآن ..؟؟ لقد دمرت مستقبل إبني … دمرت حياتنا كلها .. مالذي تريده بعد ..؟!”
أجاب عمار بقوة :-
” أريد حق والدتي .. وحقي أنا أيضا …”
اندفعت صباح نحوه تصيح له وهي تقف أمامه :-
” ها أنا أمامك .. خذ حقك وحق والدتك مني .. خذه يا عمار .. إقتلني هيا .. إقتلني وأنا أعدك إن لا أحد سيحاسبك .. سيتنازل ولديّ عن حقي عندك … إذا كان هذا سينهي كل هذا العبث الذي نحيا به منذ أعوام بسببك فإقتلني كي ترتح أنت ووالدتك …”
ضحك عمار بقوة ثم قال وهو يتوقف عن ضحكاته فجأة :-
” الموت راحة لا تستحقينها …. لو كان موتك غايتي لكنت فعلتها منذ سنوات .. لكن ليس هذا ما أريده … ليس موتك ما أريده … ”
أضاف وهو ينظر نحو نديم بقسوة :-
” ما فعلته أصعب من الموت … أليس كذلك يا صباح..؟!”
أكمل وهو ينظر لها بتوعد لا آخر له :-
” أنا كنت وما زلت كابوسك … راحتي ليست في موتك .. راحتي عندما أراك تتمنين الموت في اليوم ألف مرة ولا تنالينه :..”
صاحت غالية وقد فقدت أعصابها كليا :-
” يكفي ..”
ثم اندفعت نحوه تصرخ به :-
” يكفي يا عمار … لقد حدث ما أردته … لقد حطمتنا جميعا …. ماذا تريد أكثر ..؟!”
أكملت وهي تضربه وتدفعه :-
” مالذي تريده أكثر أخبرني ..؟! تحدث يا عمار …”
صاح عمار بصوت جهوري :-
” أريد كل شيء .. وأبشع شيء … وسأنال ما أريده …”
توقفت غالية للحظات تنظر له بعدم إستيعاب قبل أن تنطق بخفوت :-
” أنت مريض … أنت لا يمكن أن تكون طبيعي … أنت مريض وبحاجة الى علاج …”
هتف عمار ببرود :-
” جميعنا مرضى يا عزيزتي … جميعنا مرضى بشكل او بآخر …”
أضاف بعدما عدل هندامه :-
” والآن إنتهت مهمتي اليوم …”
أكمل وهو يشمل الموجودين بنظراته :-
” سأترككم الآن .. هنيئا لكم بما سمعتوه .. ليحترق جميعكم بتلك الحقائق المخزية لعائلتنا المبجلة ..”
ثم غادر المكان ..
غادر وهو يدرك إنه ترك خلفه إعصارا لا نهاية له ..
………………………………………..
تأملت حياة جمود زوجها بقلق …
لمست كتفه بأنامل لتشعر بإنتفاضه جسده أسفل لمستها عندما همست صباح أخيرا وهي تنظر الى بتوسل :-
” نديم بني …”
استدارت غالية نحو أخيها تتأمل ملامحه الجامدة وثباته الزائف ..
لقد تلقى نديم اليوم صدمة عمره .. صدمة قلبت كيانه .. صدمة جعلته تائها كليا غير مدركا لأي شيء..
من الظالم في هذه الحكاية ..؟! ومن المظلوم فيها ..؟!
لقد عاش طوال حياته في كذبة …
كل شيء حوله كان كذبه …
والدته الحبيبة كانت كذبة …
الآن وبعد هذه السنوات يكتشف الحقيقة المرة …
يكتشف إن ما فعله عمار به ليس سوى جزء من دين ..
دين قديم كان يجب على والدته أن تدفعه وكان هو الوسيلة لتسديد هذا الدين ..
نطق أخيرًا وهو ما زال محتفظا بجموده :-
” كيف إستطعت فعل هذا …؟! كيف يمكنك أن تتسببي بكل هذا الأذى لمن حولك ..؟!”
هتفت صباح ترجوه :-
” إسمعني أولا بالله عليك ..”
صاح بها :-
” ماذا حدث ..؟! هل انا مخطئ …؟! هل ستكذبين مجددا ..؟! ستخترعين قصة لا وجود لها ..؟! تبحثين عن مبرر لكل هذه الفوضى والدمار الذي ألحقتهِ بنا ..؟!!”
” نديم ..!!”
تجاهل نداء شقيقته المتوسل عندما أكمل وعيناه تلمعان بقسوة تراها لأول مرة :-
” أنت السبب .. أنتِ سبب كل ما أصابنا وما زال يصيبنا … دمرتنا جميعا .. ”
أردف وهو بالكاد يبتلع غصته :-
” أنت تدركين كم شخص تدمر بسببكِ ..!! كم شخص دفع ثمن اخطاؤك وأنانيتك .. ”
ثم أخذ يعد على أصابعه وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة :-
” ديانا ، ليلى ، غالية ، والدي و …”
إبتلع غصته مجددا وهو يهمس بنبرة متحسرة :-
” وأنا يا ماما … انا دفعت ثمن أخطائك ..”
ثم أنهى حديثه ناطقا بإسم غريمه مرغما فالحقيقة أصبحت أمر واقع لا مفر منه :-
” حتى عمار .. عمار أيضا عاش ما عاشه ووصل إلى هنا بسببك ِ …”
شهقت والدته برفض وهي تصيح :-
” كلا ، عمار شيطان .. نعم هو شيطان .. مهما بلغ حجم خطئي فهذا لا يعني أن يفعل بك ما فعله .. أن يدمر حياتك ومستقبلك بهذا الشكل …”
صاح بدوره غير مستوعبا ما تتفوه به وكيف تبرر اخطاؤها :-
” لقد كنت سببا في فقدانه لوالدته … والدته إنتحرت بسببك … هل تستوعبين هذا ..؟!”
أكمل وهو يلتقط أنفاسه اللاهثة :-
” هناك إمرأة ماتت بسببك .. هل تدركين حجم ذنبك ..؟! هل تستوعبين ما حدث بسببك ..؟! أنت لم تدمري عائلة كاملة فقط .. أنت تسببتِ بوفاة إمرأة لا ذنب لها سوى إنها إمتلكت قلب زوجها …”
أكمل بتهكم مرير :-
” بل من كان زوجها وسرقته منها بالقوة ..”
إنهارت صباح باكية بينما همس نديم بقسوة :-
” أنت دمرت حياتي كما فعل عمار … أنت مسؤولة مثله عما أصابني ..”
تحشرجت نبرته وهو يضيف :-
” لكنك أمي … للأسف الشديد إنك كذلك ..”
همست صباح برجاء من بين دموعها :-
” نديم … بني ..”
قاطعها بحزم :-
” لا تقولي بني .. لا تتحدثي معي … لا تنطقي اسمي بعد الآن …”
أكمل بثبات :-
” منذ الآن أنت خارج حياتي .. لا أريدك في حياتي … يكفي ما أصابني من دمار بسببك حتى اليوم …”
أشار الى حياة بجمود عاد يكسو ملامحه :-
” هيا بنا يا حياة …”
تطلعت حياة نحو صباح بقلة حيلة ثم تحركت خلف زوجها وعقلها لم يعد يستوعب ما سمعه بعد ..
…………………………………………….
كانت تتأمل الشارع الخارجي بشرود بينما هو ينهي مكالمة طارئة تخص العمل على ما يبدو …
شردت بأفكارها بعيدا ورغما عنها تشعر مجددا بذات الشعور الذي شعرت به لمرات عديدة سابقا ..
الضياع لا غير …
عادت تنظر نحوه … تتأمل الجدية التي كست ملامحه وهو يتحدث بالإنجليزية مع موظف لديه … يملي أوامره عليه بنبرة مليئة بالسلطة والنفوذ رغم خفوتها …
هو رجل عملي جدا وربما هذا سبب نجاحه في عمله …
رجل هادئ جدا وقوي جدا …
وماكر جدا …
هكذا فكرت وهي تتذكر بداية الليلة وتعامله معه …
تلك القبلة الخافتة التي طبعها فوق وجنتها والتي على ما يبدو ستصبح عادة لديه كلما قابلها او قام بتوديعها …
أخبرها إنها تبدو رائعة كعادته ونظراته نحوها تثبت صدق كلماته ..
ثم قادها نحو سيارته وفتح الباب لها برقيه المعتاد …
ركبت سيارته وفعل هو ذلك ايضا وغادرا نحو المطعم …
تحدث قليلا يسألها عن أحوالها وعن أحوال العائلة …
كلمات وإن بدت رسمية لكنها تحمل حميمية مختلفة عن المعتاد .. حميمية رجل أدرك إنه بات له موقعا في حياتها …
تحدثا قليلا بسلاسة قبل أن يفتح إحدى أنواع الموسيقى الهادئة التي تفضلها فتنصت لها وهو كذلك ..
مر الوقت بسرعة ووصلا الى المطعم أخيرا لتتفاجئ به وهو يمد ذراعه نحوها كي تتبأطها ففعلت ما أراد وحينها شعرت بشيء من الرهبة ..
نعم رهبة الإنتماء له فهي عندما تأبطت ذراعه منحته حق الملكية التي تحدث عنه ..
هي باتت خطيبته … وقريبا زوجته …
لم تفهم سبب شعور الرهبة الذي سيطر عليها في تلك اللحظة …
رهبة تجاهلتها وهي تسايره في حديثه بعدها …
حديثه الذي قطعه ذلك الإتصال …
أفاقت من أفكارها على صوته يخبرها معتذرا :-
” أعتذر يا ليلى ولكن المكالمة كانت ضرورية للغاية ..”
تمتمت بخفوت :-
” لا عليك …”
أشار الى النادل وهو يسألها :-
” ماذا تشربين ..؟!”
أخبرته عما تريد فطلب لها ما تريده وطلب له عصير البرتقال المنعش عندما سألته بعدما غادر النادل :-
” أنت تتعمد عدم شرب النبيذ بوجودي .. أليس كذلك ..؟!”
ابتسم مرددا بجدية :-
” نعم ، لقد أخبرتني بعدم رغبتك في ذلك … هل تتذكرين ..؟!”
هزت رأسها مجيبة :-
” أتذكر بالطبع …”
ثم أضاف بهدوء :-
” ولكن أنا أرفض هذه المشروبات بشكل عام .. ”
قال بنفس الهدوء :-
” أنا لا أتناولها بإستمرار .. فقط في المناسبات و…”
قاطعته بنفس الجدية :-
” ستتوقف عنها تماما يا كنان .. هذه المشروبات تغصب الله وأنا لن أتزوج من رجل لا يخاف ربه …”
حل الصمت مطبقا بينهما …
صمت قطعته وهي تضيف عن قصد :-
” أتمنى ألا يكون هناك المزيد من الإختلافات بيننا …!!”
رمقها بنظراته وهو يردد :-
” أيا كانت الإختلافات فجميعها بسيطة يمكننا تجاوزها …”
هتفت بثبات :-
” موضوع المشروب مفروغ منه يا كنان … انت لا تتوقع مني أن أتقبل شيء كهذا وأتصرف معه بطبيعية أو أتجاهله حتى ..”
أضافت بقوة :-
” انا لن أتزوج من رجل يتناول المشروبات الكحولية حتى لو فقط في المناسبات .. كما إنني يستحيل أن أقبل بدخول هذه المشروبات الى منزلي ..”
قاطعها بوجوم :-
” أخبرتك إنني لا أتناوله سوى في المناسبات .. منزلي لا يحوي على هذه المشروبات يا ليلى … اطمئني …”
كتمت بقية حديثها داخلها فما زال الوقت أمامها للخوض في المزيد من هذه الأحاديث …
سألها بدوره محاولا تغيير الموضوع :-
” هل نشتري الخاتم غدا ..؟!”
أجابت بخفوت :-
” كما تريد …”
قال بجدية :-
” سأكون عندك في تمام الساعة الحادية عشر صباحا إذا …”
هزت رأسها بصمت عندما تقدم النادل نحويهما يضع المشروب لكلا منهما …
جذبت ليلى كأسها ترتشف منه القليل عندما سألها كنان وهو يحمل كأسه :-
” ما أخبار الشركة ..؟؟”
أجابته بجدية :-
” بابا عاد إليها اليوم .. غالبا هو سيكمل الصفقة معك ..”
كان قرار والدها مفاجئا بعودته الى العمل لكنها فهمت إنه يمنحها الفرصة للتفرغ لحياتها قليلا والتفكير في مستقبلها بعيدا عن ضوضاء العمل في الشركة والذي يأخذ معظم وقتها …
سألها كنان بإهتمام :-
” هل ستتركين العمل إذا ..؟!”
ردت بصدق :-
” لا أعلم … ”
أكملت تتساؤل :-
” هل يهمك ذلك ..؟!”
هتف بجدية :-
” يهمني جميع ما يخصك …”
أضاف مكملا :-
” كما يهمني أن أعلم إذا ما ستتركين العمل بعد الآن أو سوف تستمرين به … سؤالي بدافع المعرفة ليس إلا .. يعني كي لا تفكري إنني لا أريد عملك …”
تأملته لوهلة فهو مجددا يقرأ أفكارها …
تنحنحت تخبره :-
” لم أفكر بعد … ”
سألته بجدية :-
” ما رأيك …؟! ما هو الأفضل من وجهة نظرك ..؟!”
إندهش من سؤالها لكنه أجاب برزانة :-
” بالنسبة لي عملك يخصك … إذا كنت لا ترغبين العمل فأنت حرة … أنت أساسا لا تحتاجين الى العمل ولن تفعلي ولكن إذا كنت تريدين العمل وترغبين في ذلك فأنا سأشجعك بل وأدعمك أيضا إذا إحتجت …”
نظرت له بحيرة قبل أن تقول :-
” أنا لم أعمل منذ تخرجي من الجامعة .. ولولا ما حدث مع بابا ما كنت لأعود إليه … ”
إنخفضت نظراتها وهي اكمل :-
” في الحقيقة لم يكن لدي الوقت للتفكير في ذلك … كانت هناك أشياء أهم من وجهة نظري .. ”
هتف بجدية متجاهلا الخيبة في نبرتها :-
” ما زال الوقت أمامك بل العمر كله أمامك .. يمكنك البدء في العمل مجددا .. ”
أضاف يمنحها إبتسامة واثقة :-
” انت ذكية ويمكنك أن تحققي كيانا في مجال التجارة إذا أردت … ”
سألته بتردد :-
” هل تعني ذلك حقا ..؟!”
كان يهمها حقا رأيه … فهو رجل أعمال محنك للغاية …
أجابها بجدية :-
” أخبرتك مسبقا إنني لا أجيد المجاملة … بناء على تعاملي المبدئي معك أرى ذلك .. أنت تستطعين أن تثبتي نفسك في مجال العمل إذا أردتِ ذلك حقا …”
شردت لوهلة تفكر في حديثه ..
ورغما عنها تخيلت نفسها تعمل وتصنع إسما لها ..
تبني عملا خاصا به وتنجح ..
أعجبتها الفكرة وتحمست لها ولاحظ هو ذلك من خلال نظراتها التي أخبرت بما يعتمل داخلها فقال بجدية :-
” يمكنني مساعدتك إذا ما قررتِ ذلك …”
منحته إبتسامة هادئة وهي تردد :-
” ان شاءالله .. تسعدني مساعدتك حقا ..”
ابتسم بدوره مرددا :-
” على الرحب والسعة …”
…………………………………..
إنتهت شيرين من تجهيز حقيبتها التي تحوي على جزء من ملابسها وأغراضها …
تأملت غرفة نومها التي لم تقضِ بها سوى أشهر قليلة بوجع …
لم تكن تعلم إن الحكاية ستنتهي بهذه السرعة ..
أسرع مما تخيلت بكثير …
هي ظنت إن كل شيء سيتغير ….
إنها سوف تستطيع إخراجه من ظلماته ..
تطهيره من ذنوبه وحقده الذي يستولي عليه كليا ..
لكنها فشلت وخرجت من معركتها مهزومة …
خسرت معركتها بأسرع مما تخيلت …
امتدت كفها نحو بطنها تلمسها برفق وهي تخبر نفسها إنها رغم كل شيء ربحت طفلا ..
طفلا ينمو داخل أحشائها ..
طفلا تاقت إليه بكل ذرة من كيانها بعدما حملت طفلين قبله وخسرتهما …
طفلا لأجله قررت إعلان هزيمتها ومغادرة حياة الرجل الذي أحبته …
لأجل طفلها قررت ذلك ..
لأجل حمايته ..
لأجل إبعاده عن أبيه …
لأجل ألا يكون ضحية أفعاله …
قاومت الدموع التي ملأت عينيها وهي تتجه نحو سريرها تأخذ قطعتي الملابس التي وضعتها عليه لترتديها ثم سارعت تخلع ملابسها عنها وترتديها ….
مسحت وجهها بكفها وهي تمنع نفسها من البكاء ..
اتجهت نحو المرآة وأخذت تسرح شعرها سريعا قبل أن ترفعه بشكل ذيل حصان …
ارادت حذائها المسطح ثم وضعت هاتفها داخل تلك الحقيبة الصغيرة قبل أن تنادي الخادمة لتحمل حقيبتها وتخرج بها …
أتت الخادمة وسحبت حقيبتها خلفها بينما ألقت هي نظرة طويلة على المكان …
تأملت كل جزء منه بنظرة مودعة …
هي لن تعود الى هنا مجددا ..
شعورها يخبرها بذلك …
تأملت خاتم زواجها ….
تأملته لثواني …
ثواني عاد قلبها ينبض بنفس الحب ونفس الألم …
تحبه بكل أسف وبقدر ما تحبه بقدر ما تألمت منه …
خلعت الخاتم ووضعته على الطاولة المجاورة لسريرها ثم جلست على سريرها بوهن تكتم دموع الوجع …
تتذكر يوم دخلت هذا المنزل ..
يومها قررت أن تصنع من هذا المكان جنة له ولها …
حلمت بالكثير وخططت للكثير …
لكن جميع محاولاتها بائت بالفشل الذريع …
ربما تسرعت .. ربما كان يجب أن تنتظر أكثر …
لكنها لم تعد لوحدها ..
بات هناك طفلا مسؤولة عنه ..
طفلا لن تسمح بأن يكون ضحية والده …
طفلا ستحميه من شر والده قبل أي شيء آخر …
وضعت كفها مجددا فوق بطنها تخبر جنينها بخفوت :-
” أنا تركته لأجلك … لأجل حمايتك .. أنا أحب بابا كثيرا لكنني أحبك أنت أكثر وأخشى عليك منه .. بابا لا يستوعب ما يفعله بنفسه وبمن حوله … لا يستوعب كم الأذى التي يتسبب به الجميع .. نحن يجب أن نغادر حياته … لا حل آخر أمامنا يا صغيري …”
تساقطت دموعها على وجنتيها لتهمس بعدها :-
” سامحني لإنني حملت بك في وضع كهذا .. سامحني لإنك ستلد في ظروف صعبة كهذه ولكنني أحبك كثيرا وأريدك كثيرا … سامحني حتى لو كنت أنانية في حبك ورغبتي بأمومتك …”
مسحت دموعها وهي تنهض من مكانها تحمل حقيبتها وتغادر المكان …
غادرت الفيلا وركبت سيارتها لتسحب منديلا تمسح به عينيها الباكيتين…
قادت سيارتها بعدها متجهة الى منزل عائلتها ..
لم يكن لديها مكان آخر تذهب إليه …
رغم كل شيء هم سيبقون عائلتها وهي ستبقى تحتاجهم …
لكن كل أفكارها تبخرت وهي تجد نفسها واقفة أمام باب منزل عائلتها تطالعه بقلق وتردد ..
تحاول أن تتخيل موقفهم عندما يرونها …
كيف ستكون ردة فعلهم ..؟!
كيف سيتعاملون معها …؟!
مهما فعلوا بها ستعذرهم …
هي من جلبت هذا لنفسها ..
لقد تمردت عليهم وراهنت على شخص لا يستحق ..
شخص باعها دون تردد …
أغمضت عينيها وهي تأخذ أنفاسها عدة مرات …
تخبر نفسها إن عليها أن تصبر وتتحمل أيا ما سيقوله شقيقها وحتى والدتها ..
لا بأس مهما فعلوا ومهما قالوا ..
وأخيرا ضغطت على جرس الباب فأخذ قلبها ينبض بعنف عندما فتحت الخادمة الباب لها تطالعها بدهشة ..
سمعت صوت شقيقها يتسائل عن هوية القادم في هذا الوقت المتأخر عندما تجمد مكانه للحظات يطالعها بعدم تصديق ..
سرعان ما إنحدرت عينيه نحو تلك الحقيبة متوسطة الحجم المجاورة لها …
إنتظرت أن يمنحها نظرة قاسية او لائمة …
انتظرت قسوة او سخرية …
أي تعبير يؤلمها لكنه بقي صامتا يتطلع إليه بهدوء عندما همست بتلعثم :-
” وليد أنا …”
” إدخلي يا شيرين …”
نظرت له بضعف وتردد ليكمل بقوة :-
” هذا منزلك أيضا يا شيرين … إدخلي هيا …”
تحركت بخطوات آلية نحوه لتقف أمامه فترفع وجهها نحوه بملامح شديدة الإنكسار ودموع تراكمت داخل عينيها ..
لحظات ولم تشعر بنفسها إلا وهي تندفع داخل أحضانه تبكي بين ذراعيه ليعانقها هو بدوره ولم يبخل عليها بدعمه الذي تحتاجه أكثر من أي شيء في تلك اللحظة …!

google-playkhamsatmostaqltradent