رواية اوصيك بقلبي عشقا الفصل الثاني 2 - بقلم مريم محمد

الصفحة الرئيسية

  رواية اوصيك بقلبي عشقا كاملة بقلم مريم محمد عبر مدونة دليل الروايات 


 رواية اوصيك بقلبي عشقا الفصل الثاني 2

 “إنه لأمر مُحزن حقًا أنني لم أستطع التخلّص من إدماني عليك ؛ كنتُ سأعود لك كل مرة.. لأنّي… أحبك!”

_ إيمان عمران

تحت إلحاح خالته الشديد و كلمة “أدهم” التي قيّدته، أذعن لهما و قرر البقاء لبعض الوقت، عليه أن يقرّ، هو بالأساس بحاجة إلى الرفقة، و خاصةً إذا كانوا أهله …

و فجأة وجد نفسه و قد تجاوب مع الأجواء أسرع مِمّ توقّع، أحضرت له خالته من خزانة ابنها الاحتياطية بشِقتها بيجامة زرقاء ناسبته تمامًا و كأنها فُصّلت لأجله، ارتداها بعد أن أخذ حمامًا سريعًا ليزيل آثار السفر الطويل الذي خاضه ؛

خرج أخيرًا، ليجد أن “أدهم” قد استأذن قليلًا و صعد إلى شِقته على أن يهبط في موعد العشاء، كان يحمل في يده المنشفة، يجفف شعره بينما يسير بالرواق باحثًا عن خالته …

-أيّ مساعدة !؟

إلتفتت “أمينة” إلى هتافه الهادئ، تبسّمت في وجهه تلقائيًا و هي تشمله بنظرةٍ فاحصة :

-نعيمًا يا حبيبي.

– الله ينعم عليكي يا أجمل خالتو في الكون …

و أقبل عليها مادًا يده لكتفها، وضع كفّه عند مؤخرة رأسها و دنى منها ليقّلها على جبينها :

-باستك العافية يابن الغالية.


-قوليلي بقى محتاجة أساعدك في إيه ؟

-مش محتاجة تساعدني في أيّ حاجة يا حبيبي. انت تطلع تقعد برا لحد ما الأكل كله يجهز و يجي لك لحد عندك. يلا.

رفض “مراد” بشدة :

-يا سلام أقعد ماليش لازمة يعني. لأ طبعًا لازم أعمل معاكي أيّ حاجة.

قطبت “أمينة” :

-هاتعمل إيه بس يابني. الشغل ده ماينفعكش !

قال مصممًا : لأ ينفع ماينفعش ليه.. بصي أنا هاعمل السلطة.

و استدار نحو المنضدة التي حملت أطباق الخضروات، ترك المنشفة جانبًا، و بدون أن ينتظر أذنها بدأ بتقطيع أنواع الخضار المحتلفة بحرفيةٍ مُتقنة، هزت “أمينة” كتفيها بعجزٍ و انخرطت هي الأخرى في عملها …

-هاتدوقي أجمد طبق سلطة في حياتك !

ضحكت …

-طبعًا يا حبيبي. أمال.. انت بقى هاتدوق أكل أنا واثقة من ساعة ما سافرت مع أمك و أبوك ماشفتوش أصلًا.

أرهف حاسة الشم هنيهةً، ثم خمن :

-محشي !

ضحكت ثانيةً …

-صح.

صاح محتفلًا : الله عليكي بقى.

لم تمر دقيقة واحدة، إلا و سمع ذلك الهتاف الأنثوي، و قد ميّز الصوت الذي يحفظه عن ظهر قلب رغم مرور السنين …

-أنا جيت يا مامــا !!

جمدت أصابعه عن الحركة و رفع رأسه نحو باب المطبخ، إن هي إلا ثوانٍ و ظهرت “إيمان”.. ظهرت كما اعتاد أن يراها في الخلوات خلسةٍ، بدون حجاب رأسها !

تخشّبا كلاهما في مواجهة الآخر، بينما أخذ يتأمّلها جاهدًا في السيطرة على انفعالاته، حبيبته السابقة، أول فتاة يدق لها قلبه، و التي تركها بمحض إرادته و رحل، و قد علم مصادفةً بخبر زواجها قبل بضعة سنوات …

إنها لا تبدو كامرأة متزوجة إطلاقًا، لقد حافظت على قوامها الرشيق، كتفان نحيلان يبرزان عظمتيّ ترقوتها بإثارة شديدة، خصر رفيع.. للأسف لم يستطع التحقق من ساقيها أو شكل ردفيها بسبب التنورة الفضفاضة التي ارتدتها

كم كان يعشق جسدها، و يحفظ كل شِبرٍ فيه، جسدها المُحرم عليه، كان هذا أول سبب جعله يسعى بشكلٍ مستميت إليها و يستغلّ أقل فرصة تواتيه، و قد كانت تستحق العناء ؛

كان وجهها لا يزال جميلًا، وجنتان بارزتان، أنف حاد و شفاة مكتنزة دقيقة و صغيرة جدًا، و شعرها… شعرها حالك السواد قد ازداد طولًا بشكلٍ لا يخطئه النظر

كانت هي “إيمان”.. كانت حبيبته التي كأنما لم يتركها يومًا واحدًا

و كأن تلك الليلة كانت بالأمس

و ليست منذ ثلاثة عشر عامًا …

-إيمان !

كسر صوت “أمينة” السكون الجاثم و الخانق، و كأنها تعويذة ربطت جسمها و الآن انحلّت، في لمح البصر كانت قد اختفت من أمامه، أجفل “مراد” مبهورًا من الذي حدث ؛

أحسّ بصوت خالته قريبًا منه هذه المرة و لكن لم يستطع النظر إليها :

-معلش يا مراد يا حبيبي. أظنك لاحظت إيمان ماكانتش تعرف إنك لسا هنا.. تلاقيها راحت تجهز عشان تيجي تسلم عليك.

رد “مراد” عابسًا و لا زال لم ينظر إليها :

-براحتها يا خالتي !

ألقت “أمينة” عبارتها الآن بكلماتٍ ذات مغزى :

-أصل إيمان مش متعودة يجيلنا ضيوف. انت طبعًا مش ضيف يا حبيبي انت صاحب بيت. لكن معلش بحكم العادة. يعني مابقتش ساكنة لوحدها.. من يوم موتة سيف جوزها و هي قاعدة معايا هنا هي و بنتها !!

و هنا أدار “مراد” رأسه فورًا و نظر إليها …

-جوز إيمان مات !!؟

كان مشدوهًا، و ليس مصدومًا.. كان شعوره غريب !

اومأت له خالته و قالت بصوتٍ خافت لا يسمعه سواه :

-أيوة.. بعيد عنك مات بجرعة زايدة من المخدرات. و إيمان يا قلب أمها حالفة لتصوم عن جنس الرجالة …

ثم لوت فمها مغمغمة :

-أنا عارفة إيه إللي خلّاها تتنيل تحبه بس. محدش كان موافقها على اختيارها ده. رغم إن المرحوم ابن عمتها. بس لا أنا و لا أدهم ابني كنا موافقين.. هي إللي صممت عليه. و أدي النتيجة. بقت أرملة في عز شبابها و بنتها يا حبيبتي إتيتّمت بدري.. يلا نحمده على كل حال !

كان “مراد” يستمع إليها جيدًا حتى فرغت، عاودت مباشرةً أعمالها، أما هو فشرد

المسكينة “إيمان”.. كم تعذّبت و عانت في حياتها …

*****

لاذت “إيمان” بغرفتها دون أن تسأل عن أيّ شيء، دون حتى أن تسأل عن صغيرتها.. إذ كانت كارثة

كارثة لم تعطها حق قدرها، فقد اتضح أن رؤية “مراد” مرةً أخرى ستتسبب لها في كل هذا الدمار، كل هذا الانهيار …

رباه !

لقد تغيّر كثيرًا، لكنه لا يزال هو، نعم ملامحه الوسيمة نضجت و صارت أكثر حدة، وجهه الحليق الناعم في زمن المراهقة، الآن تزييّنه لحيةً و شارب أضفيا عليه رجولة أكثر و هيبة، جسمه الرياضي النحيل الذي أفتُتنت به في الماضي، رأته اليوم مفتولًا و أضخم بكثير… مع ذلك كله

كان هو

كان هو نفسه “مراد” حبيبها.. بعينيه و إحساسه الذي تستشعره و لو لم تكن قريبةَ منه !

-ليه !؟ .. تمتمت “إيمان” من بين دموعها التي فاجأتها و انهمرت كالشلال

و لأول مرة منذ تلك الليلة ترمق فراشها بنظراتٍ مصعوقة، لم تكن توليه اهتمام، و لكن الآن.. إنها مذعورة

و فورًا ابتلعتها دوّامة زمنية، نقلتها إلى الليلة و الساعة التي غيّرتها، بل و غيّرت حياتها كلها …

Flash Back

-بس انتي مش من حقك يا ايمان. و أنا خلاص.. مابقتش حبيبك. أنا قلت لك علاقتنا انتهت. و إللي بينا اصلًا ماكنش حب.

أُصيب رأسها بدوارٍ طفيف بفعل كلماته القاسية، فرددت بأنفاسٍ مخطوفة :

-ماكنش حب ! كل إللي عيشنا ده ماكنش حب يا مراد !!؟

رد منجرفًا وراء مشاعره المحبطة كليًا منها :

-أيوة يا ايمان ماكنش حب. مستغربة ليه ؟ احنا مش شبه بعض. و أنا لا يمكن أكمل في علاقة عقيمة زي دي.

ضربة أخرى أشدّ إيلامًا من النار …

-مسمومة !؟

-آه مسمومة. انتي بالنسبة لي ماينفعش تكوني أكتر من بنت خالتي و بس. لأني مقدرش أخون صلة القرابة يا ايمان.

-و انت مسمي وعدك ليا بالجواز خيانة لصلة القرابة !؟؟

-جواز إيه يا مجنونة انتي احنا لسا طلبة.. و بعدين في كل الأحوال إنتي ماتنفعنيش. أنا مقدرش أجّوز واحدة زيك. كل حاجة عندك حرام. قربي منك حرام. مسكة أيدينا دي بردو بالنسبة لك حرام. أنا البنت إللي هاجّوزها ماينفعش تقولي ابعد عني. ماينفعش أجي أمسك ايدها تقولي شيل ايدك.. ده مايبقاش اسمه حب و ماينفعش يتبني عليه علاقة. على الأقل بالنسبة لشخص زيي !

مع كل كلمة خرجت من فاهه كان يُسدد لها صدمة أقوى من التي قبلها، حتى منحها أخيرًا سببًا لتكفّ عن عويلها و بكائها.. سحبت يدها برفقٍ من قبضته و هذه المرة أفلتها

فرفعت رأسها و حدقت بقوة إلى عينيه و أعلنت :

-صح. انت صح يا مراد.. إللي بينا ماكنش حب. لأن انت أصلًا ماينفعش تتحب. و لا هاتعرف تحب !!

و جاءت لتغادر بكل غضبها الدفين و انفعالها، لكنه تحرّك من جديد و منعها بالقوة :

-قلت لك مش هاتمشي لوحدك يا إيمان.

سيطرت على نفسها بصعوبةٍ حتى لا تصرخ فيه ثانيةً، فغمغمت بحرقةٍ :

-إوعـى يا مراد. شيل إيدك عني و سيبني بقى. عايز مني إيه تاني !!؟

لم يرخي قبضته عن معصميها بوصةً واحدة، و قال بصرامة :

-هاوصلك.. أنا لسا لحد دلوقتي مش عارف إزاي خرجتي من بيتكوا في ساعة زي دي. مين سمح لك !!؟؟

لكنها لم تعطه ردًا

فأخذها في يده يجرجر خطواتها حتى وصلا عند درّاجته النارية السوداء ماركة “هارلي ديفيدسون”.. استقل فوق مقدمة القاعدة، لم يعتمر الخوزة الواقية و ناولها إيّاها بلا ترددٍ :

-خدي إلبسي دي !

أخذتها منه لغرضٍ واحد فقط، حتى لا يتعرّف عليها أحد و هي برفقته و خاصةً في وضع كهذا، ليست المرة الأولى التي تخرج معه على الدرّاجة، فعلتها مراتٍ عديدة في الخفاء، و كانت أسعد لحظاتها.. أن تكون قريبةً منه إلى الحد.. مجبرةً على التشبث به و احتضانه بقوة

في قرارة نفسها كانت تستمتع و تتنعّم بذلك كثيرًا، و تتمنّى ألا ينفصلا أبدًا، تمامًا كما تفعل الآن، لا تود أن ينتهي بهما الطريق ؛

لكن جاءت اللحظة، أوقف “مراد” الموتور أمام بناية المنزل الخلفية، بعيدًا عن مرآى البواب و الجيران …

-استني هاوصلك للبوابة ! .. قالها “مراد” و هو يطفئ درّاجته و يُعلّق الخوزة بمكانها

ردت بصوتٍ جاف دون أن تنظر إليه :

-مالوش لزوم أنا عارفة السكة.

و مشيت خطوتين، فلحق بها و أمسك بكتفيها، أدارها إليه صائحًا من بين أسنانه :

-إيمان ماتخرجنيش عن شعوري. انتي عايزة إيه يعني !!؟

حاول أن يحدق في عينيها عبر الظلام، لكنها كانت تشيح عنه.. و فجأة تطلعت إليه

كانت تبكي في صمتٍ و قد صدمته …

-مراد ! .. نطقت اسمه بلوعةٍ

-عشان خاطري.. ماتمشيش. خليك معايا هنا. كمل دراستك هنا. مش مهم تاخد الشهادة من برا. لو كان مهم أوي كده كان أدهم عملها و أهو دكتور.. عشان خاطري يا مراد ماتسبنيش و تمشي. أنا أموت منغيرك …

كان هذا لا يُطاق، أن يراها في قمّة الضعف و التذلل إليه، تحوّلت مئة و ثمانون درجة، بعد أن تظاهرت بالاعراض عن حبه و قررت أنه شخص لا يستحق الحب، ها هي تضرب بكلامها و كرامتها عرض الحائط

ها هي تتسوّل حبه !

رأت “إيمان” في عينيه صراعًا و اضطرابًا، كان يعبس بشدة و يكز على فكيه، كان كأنما يقبض على الجمر و لا يستطيع تركه …

-إيمان !!!

و أطلق نهدة محمّلة بكمّ ضيقه و همّه …

-تعالي طيب !

و أمسك بيدها و مشيا سويًا حتى بوابة المنزل، لم يجد “مراد” رجل الحراسة في مكانه فقطب مُعلقًا :

-أمال فين عم راضي ؟

كفكفت “إيمان” دموعها بطرف كمها و جاوبته :

-تيتة حليمة تعبت بعد العشا علطول. ماما ندهت له عشان يشيلها مع أدهم و يودوها المستشفى.

رفع “مراد” حاجبه :

-عشان كده.. و أنا بقول إزاي خرجتي الساعة 10 بالليل. على كده محدش فوق يعني !؟

هزت رأسها نفيًا :

-عائشة بس. بتذاكر في أوضتها عشان وراها امتحان مهم بكرة.. ماما و أدهم هايبيّتوا مع تيتة في المستشفى لحد ما نتيجة الفحوصات كلها تطلع الصبح.

تصرف بطبيعية و هو يشد على يدها قائلًا :

-طيب يلا هاطلع معاكي لحد فوق عشان أطمن عليكي.

اومأت له و قد لاحت طيف ابتسامة فوق ثغرها …

و بالفعل صعدا إلى شِقة خالته، و كانت الأضواء مقفلة، مِمّ يفسر خلود “عائشة” إلى فراشها بعد قضاء اليوم كله في التحصيل الدراسي ؛

-الظاهر عائشة نامت ! .. دمدمت “إيمان” و هي تمد يدها لتكبس زر إشعال الضوء

أضاءت الصالة كلها، و إلتفتت لتنظر إليه، بدت عليه الغرابة الآن و هو يسألها :

-و انتي بقى هاتعملي إيه دلوقتي !؟

هزت كتفيها …

-هادخل أقعد في أوضتي لغاية ما يجيلي نوم !

رد بنصف ابتسامة.. تلك التي تزيده جاذبية :

-تعرفي أمنيتي كانت إني أشوف أوضتك. ده طبعًا كان مستحيل !!

ضحكت لابتسامته و قالت :

-امم بس دلوقتي ممكن مش كده ؟ طيب هاحقق لك أمنيتك.. تعالى !

تلاشت ابتسامته و سألها غير مصدقًا :

-بجد !!؟

أكدت بجدية هامسة :

-بس امشي بالراحة. اوعى تعمل صوت أحسن عائشة تصحى.

اومأ لها موافقًا و قد اتقدت الحماسة بداخله، أغلق باب الشقة أولًا بهدوءٍ و حرص شديدين، ثم مشى وراءها على أطراف أصابعه وصولًا إلى غرفتها، أدخلته أولًا، ثم استدارت خطوتين نحو غرفة شقيقتها لتتفقّدها، فتحت الباب و ورابته قليلًا، أطلّت برأسها، فوجدت الغرفة غارقة في الظلام، و “عائشة” نفسها تعزف لحن النوم الشهير خاصتها …

اطمأنت لذلك و عادت إليه، ولجت إلى غرفتها و أغلقت الباب من خلفها، كان هو يجول هنا و هناك مستكشفًا بحماسة، يفتّش في أغراضها فوق مكتب الدراسة، و بين الأركان و كومات الدُمى و العرائس التي أوردها الكثير منهم ليُشبع هوسها بهم، فقد كان حريصًا على ارضائها و اسعادها طوال فترة المواعدة ؛

وصل “مراد” عند الخزانة، فتحها بلا تردد و أخذ يُقلّب فيها، حتى رأته “إيمان” يعبث في درج الملابس الداخلية، هرعت إليه و حاولت إغلاق الخزانة كلها، لكنه حجزها بقدمه مستلًّا حمالة صدر زهرية اللون

راح يلّوح بها أمام عينيها مغمغمًا بخبث :

-إيه ده إيمي.. لطيف أوي البرا ده. ماكنتش أعرف إن ذوقك حلو في الحاجات دي.

حاولت “إيمان” أخذه من يده :

-مراد ماتهزرش في الحاجات دي.. سيب يا مراد !

أمسكها “مراد” بيد، و بالأخرى قرب القماش الناعم من أنفه و تمتم محدقًا في عينيها الواسعتين سِعة أعين الغُزلان :

-الله.. ريحتك فيهم يا إيمي… ريحتك حلوة أوي !

أجفلت “إيمان” مرتبكة منه، من كلماته، من نظرته.. من قرب …

عثرت في عينيه على تلك الشعلة التي لطالما أوقدتها فيه، و هي الرغبة، الرغبة الخالصة فيها.. عيناه الجميلتين، إنهما مزيجًا من الخضرة و الزرقة تتآلقان سواء النور أو حتى الظلام، لا تستطيع مقاومتهما أبدًا !!

ارتجفت حين ارتفعت يده و أزاحت الحجاب عن رأسها، ليتحرر شعرها من عقاله و يحيط بوجهها كهالةٍ سوداء فاحمة.. و كان هذا بمثابة الإذن له ليمضي كما يهوى

لأنها تحبه

لم تستطع أن تقول لا.. و هو يلتصق بها و يطوّقها مانحًا إيّاها تلك القبلة الأولى بحياتها

لأنها تحبه

لم تستطع أن تقول لا.. و هو يستكشف بكفوفه معالم و دهاليز أنوثتها بجرأة صِرف

لأنها تحبه

لم تستطع أن تقول لا.. و هو يسحبها إلى الفراش دون أن يتوقف عن تقبيلها مجرّدًا كليهما من أيّ ملابس

فعلت كل شيء لأنها تحبه، لم تفتح فمها و لم تعترض أبدًا، و كانت مُدركة وخامة فعلتها، لكن لذّة الثواني الأولى في العلاقة أنستها كل مخاوفها، استسلمت للحظة الراهنة… حتى حانت تلك اللحظة التي صفعتها.. لحظة تأكدها من الخسارة التي طالتها بقسوة، و قد كانت هذه نقطة اللا عودة بالنسبة إليه

أما هي، فقد كان كل همّها ألا يطلع صوتها إلى أن ينتهي… حتى لا توقظ شقيقتها التي لا يفصلهما عنها سوى حائط و يفتضح أمرها !

*****

رحل “مراد” …

رحل بعد الانتهاء من فعلته مباشرةً، رحل دون أن يقول كلمة، أو حتى وداع

انتهت النزوة، احترقت اللذة و فنت، و ذهب هو تاركًا إيّاها مُجللة بالخسائر

خسارة نفسها، خسارة مبادئها و تربيتها القويمة، و الأهم من كل هذا.. خسارة الميثاق الإلهي، لقد ارتكبت الكبائر، لقد زنت، لا تصدق أنها وقعت بخطيئة كهذه

ما العمل الآن.. ماذا يتوّجب عليها أن تفعل لتتطهر من ذاك الإثم ؟

لا يمكن أن تموت قبل أن تُكفر عنه

لا يمكن أن تلقى الله به… لا يمكن !!!

استيقظت على صوت أمها في الصباح :

-إيمان.. إصحي يا حبيبتي بقينا الضهر. إيه النوم ده كله !

باعدت “إيمان” بين جفنيها بصعوبةٍ، شعرت سلفًا بشعاع الشمس النافذ عبر الستائر التي فتحتها أمها على مصراعيها، فتحت عينيها الآن و قد ضايقتها حدة الضوء، فغطت وجهها بكفّيها :

-جيتوا يا ماما !؟

-من بدري يا حبيبتي بس لاقيتك نايمة ماحبتش اصحيكي.

-تيتة عاملة إيه ؟

-بقت أحسن الحمدلله. و التحاليل كلها تمام.. هي بس تقّلت في العشا و الحلو إمبارح ف ده إللي تعبها.

كانت سترد عليها بتلقائية، لولا أن ضربتها ذكريات الليلة الماضية، تزامن ذلك مع صياح أمها الهلوع :

-إيـه ده يا إيمـان !!؟؟؟

انتفضت “إيمان” عندما شعرت بالملاءة تُسحب من أسفلها و قامت نصف جالسة فورًا، تطلعت إلى أمها بتشوّش، خافت من تعبير “أمينة” المصدوم، إذ حملت بين يديها ملاءة ملوثة بالدماء الغزيرة …

-أصل أنا نمت معدتي بتوجعني أوي إمبارح يا ماما ! .. قالت “إيمان” ما خطر على بالها حالًا فقط لتتخلّص من هذ التعبير على وجه أمها

-شكل الضيفة المزعجة دي جت !!

عبست “أمينة” بدهشة :

-الله ! انتي مش لسا خالصة منها الاسبوع إللي فات.. لحقت !؟

حاولت “إيمان” إقناعها بشتّى الطرق :

-عادي يا ماما بتحصل. و حصلت قبل كده.. مش فاكرة ؟

سكتت “أمينة” و هي تمعن النظر بما تمسك، ثم قالت بتعجبٍ :

-تقوم تيجي بالشكل ده..أعوذ بالله. لأ بصي طالما اتكررت كده نروح نكشف أحسن يكون عندك حاجة يابنتي !

رفضت “إيمان” في الحال و قد اعتراها التوتر الآن :

-لأ يا أمي نكشف إيه.. أنا مابحبش الدكاترة و انتي عارفة. لأ مالهاش لازمة صدقيني.

-إزاي مالهاش لازمة بس. دي حاجة مهمة أوي يا إيمان. لأ مش هطاوعك.

قامت “إيمان” من سريرها متجاهلة آلامها المُبرحة و وقفت أمام أمها :

-يا أمي يا حبيبتي صدقيني أنا. أنا حاسة إني كويسة.. و بعدين أنا بقولك معدتي وجعتني قبل ما أنام يعني ماكنتش عاملة حسابي.. بصي نعديها المرة دي. لو حصلت تاني هانعمل إللي انتي عايزاه. خلاص ؟

اقتنعت الأم بعد عناء، لم تقتنع في الحقيقة، لكنها أذعنت فرادة ابنتها، إذ تعلم كم إنها بالفعل تخشى الأطباء و المشافي منذ طفولتها، لم تشأ ترويعها و فضّلت الانتظار حتى الموعد التالي …

*****

و مرّت سنوات على رحيله

سنوات بعد الحادث المخزي، سنوات من الرفض غير المُبرر لأفضل الرجال المتقدمون لخطبتها، سنوات من الضغط عليها لمعرفة السبب

و هي لا تنطق، قضت كل أيامها بعد تلك الليلة تائبة، منيبة، محاولة التكفير عن ذنبها، تصلي و تصوم فوق المفروض عليها أضعافًا مضاعفة.. لكنها لا تزال تشعر بأنه لم يُغفر لها بعد… لأنها لا تزال تتعذّب

لا تزال لا تشعر بالراحة و السكينة !

حتى أتاها يومًا ما و حاول معها :

-إيه بقى يا أنسة إيمان.. هاتفضلي عايشة راهبة كده ؟ على فكرة الرجالة على قفا مين يشيل !

ألقى “سيف” دعابته ضاحكًا، ابتسمت مجاملة له و قالت :

-لسا ماجاش يا سيف.

-طيب ده مين أعمى النظر ده ؟ قوليلي بصراحة انتي حاطة عينك على حد !؟

-لأ طبعًا ! .. هتفت بحدة مفاجئة

لكنها عدلت عنها مسرعة و قالت و هي تباشر سقي مزروعات الشرفة :

-قصدي مافيش حد. أنا من ساعة خلصت الثانوي قاعدة في البيت يا سيف.. هاشوف مين في البيت ؟

تنهد بحبورٍ و قال :

-طمنتيني يا شيخة.

نظرت له باستغرابٍ، فابتسم قائلًا :

-ماتبصليش كده.. بصي يا إيمان منغير لف و لا دوران. أنا بحبك. و انتي عارفة كده من زمان أنا حاطط عيني عليكي.. بس رفضك للعرسان كان مخاوفني أجي أفاتحك تقومي ترفضيني أنا كمان. لكن الحمدلله. طلع مافيش سبب معين …

حاول أن يقبض على نظراتها، لكن كانت عيناها تائهتين، تنظران في الفراغ، و بدت فجأة و كأنها استسلمت لقدرها.. لا يمكن أن تهرب منه طوال عمرها :

-قولتي إيه يا إيمان !؟؟

نظرت له ثانيةً :

-قلت إيه في إيه ؟

قطب “سيف” قائلًا بتوتر عصبيّ :

-أنا بحبك و عايزك. عايز أتجوزك.. موافقة و لا لأ !؟؟

و لأنها كانت واثقة من أنه هو الذي سيرفض لاحقًا، و سيذيع سرها أيضًا، و هو المطلوب تمامًا، يكفي أنها سترتاح من عبء الافصاح لأقرب الناس إليها …

-موافقة !

أشرق وجهه حين نطقت بذلك، لكنها أردفت :

-بس في حاجة لازم تعرفها الأول …

حثها بحذرٍ : قولي.. سامعك !

بدون أدنى تردد أو تراجع، مضت تحكي له كل شيء، و بالتفاصيل …

لم يكن ينظر إليها عندما فرغت، كان تعبيره يخلط بين الصدمة و الغضب، و كانت جاهزة لأيّ ردة فعل.. لكن ما أدهشها هو رده، إذ قال باقتضابٍ :

-بكرة هاجيب أبويا و أمي عشان نطلبك. أدي خبر لطنط أمينة و بلّغيها بموافقتك.. آخر الشهر ده هانكون مجّوزين !!

و اختفى من أمامها

تركها هكذا على ذهولها و عدم تصديقها.. لقد تم الأمر… بهذه البساطة

ستتزوج كأيّ فتاة عادية !

Back

أفاقت “إيمان” من استغراقها، كم كانت ساذجة و غرّها حب زوجها الراحل إليها ؛

لقد ظنّت أنه بسبب حبه لها يمكنه أن يتنسى أو يتناسى ما فعلت، و لكن لا.. لم تسير الأمور على هذا المنوال اليسير

فهو لم يفوّت فرصة، أو عراكٍ أو حتى مشادّة كلامية بينهما إلا و عمد إلى التلميح لجريرتها، كان يعايّرها و يضغط على الجرح كلما سنحت له الفرصة، و كان يخونها و يفسق و يرتكب كل الموبقات، بينما هي مكممة الفاه، تحفظ له صنيعه الطيب معها بأن ارتضى أن تكون زوجته، تقر بشاهمته على الأقل أسرارها لا تبلغ جدار غرفة نومها، و كان من المستحيل أن يفضحها “سيف”.. لأنه حقًا أحبها !

سالت دمعة من عينها و هي تقف بمنتصف غرفتها، أمام فراشها الذي دارت دورتها و عادت إليهن و خلفها الباب الذي إن فتحته تلتقي بماضيها الأليم

إنه يحاصرها

لماذا عاد ؟

ماذا ينوي أن يفعل بها هذه المرة ؟

ماذا يريد منها ذاك النذل بحق الله ! ………………………………………………………………………..

google-playkhamsatmostaqltradent