رواية منك وإليك اهتديت الفصل الثامن 8 بقلم زيزي محمد

الصفحة الرئيسية

   رواية منك وإليك اهتديت الفصل الثامن بقلم زيزي محمد

رواية منك وإليك اهتديت الفصل الثامن  

تمسكت "مليكة" بيد زوج والدتها السيد "مصطفى" حيث أصر على إيصالها للمشفى بنفسه بعدما شعر بشحوب ملامحها حتى أنه جادلها في الصباح بضرورة غيابها اليوم، فجسدها بدا ضعيفًا وعيناها يغزوها الارهاق، ولكنها أبت وتمسكت بضرورة ذهابها وبالمقابل تمسك برأيه وأصر على إيصالها بنفسه.
شعرت باحتوائه يحاوطها بهالة تقدرها جيدًا في ظروفها تلك، بل وأنها كانت تتوق لأبسط اللمسات الأبوية منه بعدما كانت تبتعد عنه بقدر ما يمكنها إخفاء عينيها عنه حتى لا تبوح بما يؤرق عقلها.
وصلت سيارة الأجرة أمام المشفى وترجلت معه بعد أن أعطى السائق حسابه، انتظرت انتهائه وعودته لها مبتسمًا ببشاشة بعثت الطمأنينة في قلبها:

-لسه مُصرة على رأيك.

مدت أناملها الرقيقة تتمسك بيده وهمست بلطف ونبرة تخلو منها الحياة:

-مينفعش يا بابا لازم احضر.

رفع كفه الأخر ومسد بيه فوق ذراعها يهتف بقلق حقيقي:

-بس أنتي تعبانة حتى لو بتتجاهلي دا، أنا لا يمكن اتجاهل أبدًا.

-شوية برد عادي وهيروح.

قالتها بخفوت وهي تبعد بصرها المضطرب بعيدًا عنه، فلم يكن جسدها مريض بقدر قلبها المنكسر بفعل خيبات الحياة.
انتبهت على صوته الأبوي اللطيف:

-طيب يا حبيبتي هروح اقابل صديق ليا، ولو تعبتي وعايزة تروحي كلميني.

-حاضر.

همست بكلمة واحدة، تخفي عيناها المتأججة بدموع لا حصر لها، واستدارت بخفة نحو باب المشفى الكبير تعبر البوابة الامنية، بينما هو ظل واقفًا يعاني من صمتها المفجر للقلق في صدره كلما يراها على هذا النحو.

مسحت دموعها بحرص ورسمت ملامح البرود وبعض من الشراسة المصطنعة وهي تدخل من باب المشفى تحسبًا لرؤية ذلك الفظ برؤيته القابضة لقلبها وكما توقعت رأته يهرول نحو الباب بخطوات سريعة للغاية يركز ببصره على هدفٍ ما وفمه يرسل الأحاديث الغاضبة عبر هاتفه.

توقفت في زاوية ما بعيدًا عنه تجنبًا لتقابلهما ولم تمنع فضولها من التفافة بسيطة للخلف تراه وهو يصعد لسيارته ثم غادر وكأن هناك كارثة، علت إمارات الكره الممزوج بالشراسة فوق تقاسيم وجهها الجميل وهمست لنفسها:

-كارثة تاخده وتخلصني منه.

أجفلت بذعر على يد "كوثر" المبتسمة بسعادة كأن راتبها زاد الضعف:

-في إيه يا كوثر؟

سألتها بصوت مضطرب، فردت الاخرى بابتسامة عميقة:

-معلش يا ست البنات، خضيتك.

بللت طرف شفتيها قبل أن تجيب بهدوء بعدما استعادت البعض منه عندما تأكدت أنها لم تسمع أي شيء قالته:

-لا عادي في حاجة، مبتسمة ليه كدا؟

سألتها وهي تخطو نحو المكاتب السفلية وتحديدًا نحو السيد "عطية" بابتسامته البشوشة الطيبة، كي توقع في دفتر الحضور والانصراف كما هو معتاد كل يوم.

-النهاردة اعتبري المستشفى كلها فرحانة.

توقفت لحظة وهي تنظر لها بتساؤل صامت، فلم تبخل الأخرى وفاضت بما تخفيه:

-دكتور ماجد سافر البلد لأبوه شكله تعبان اوي واخد اجازة كمان.

هل ابتسمت الدنيا لها أم أن عقلها المضني خيل لها ذلك، أيًا يكن الإجابة بما تحويها من صعاب، الأهم هو أنها شعرت بأن الأدعية التي لم ينقطع بها صوتها في الأيام الأخيرة عادت بنفع، وكأن ربها استمع لها ولمناجاتها اليومية.

اضمحلت ابتسامتها وهي تقول بصوت يعتمل فيه مشاعر جمة:

-أكيد اجازة مش طويلة يعني يومين ولا حاجة...

قطعتها "كوثر" وهي تؤكد بثقة:

-لا شكلها اجازة طويلة.

اكملت خطواتها نحو مكتب السيد "عطية" ودخلت تبحث بعينيها عنه، فوجدته يجالس موظف أخر ويضحك بصدر رحب، ابتسمت متهكمة يبدو أن اثر تلك الإجازة كان مفيدًا للجميع ليس لها فقط.

مضت بجانب اسمها وتركت كوثر تغدو نحو عملها بينما هي انطلقت لتلك الغرفة البسيطة التي تنزوي بها بعيدًا عن أنظار الجميع، تستجمع بها قواها قبل أن تخرج تباشر عملها.
وضعت هاتفها فوق المنضدة الصغيرة، ومدت يدها تلتقط ثوبها الطبي وقبل أن تخلع سترتها الجلدية القصيرة وصلتها رسالة عبر هاتفها، قرأتها بصوت مسموع بينما تخيل عقلها نبرته المدغدغة وهو يتفوه بها:

-حلوة الجيبة اللي أنتي لابساها، بس..

تقلصت ملامحها تمرر أناملها صعودًا وهبوطًا فوق شاشة هاتفها، ما هذا؟ هل اقتطع الرسالة هنا؟ هل يريد إرباكها؟ لكن مهلاً من أين له برقم هاتفها الجديد؟ عادت بسمتها الساخرة تعتلي ثغرها الباهت من سذاجتها المفرطة والاجابة تلوح لها بإمكانيته الحصول على شيء طالما يريد.

اهتز هاتفها برسالة أخرى وأكمل فيها كلمة واحدة كانت تعبس بسببها منذ قليل لعدم اكتمالها ضمن الرسالة الاولى...

-ضيقة.

أحست بالسعادة تغزو قلبها لغيرته عليها وكأن لحظة سُقيها بعاطفة الحب أتت الآن.

-زيدان.

تلفظت باسمه في همس شديد تزامنًا مع خفق ضربات قلبها بقوة، ما زال له تلك الهيبة في فرض سيطرته عليها، وكأنه يملك خيوط الجاذبية في يده حتى في أبسط كلماته وردود أفعاله، يسلب إرادتها دومًا حتى في ظل ابتعادهما فتبقى أسيرة لظله، ظنت أن البُعاد يجمد من عاطفتها ويمدها بالصبر لتحظى بحياة أفضل دونه، ولكنها كانت خاطئة، عاشت تلك السنين في جفاف وكأنها أرض بور، تروي أحيانًا ظمأها ببعض بالذكريات المتعطشة، تطبطب على قلبها ببعض من كلماته ذات الدفء المميز، لقد خلع فؤادها من مكانه حين شقت كلمة الوداع بينهما لتجد لنفسها مكانًا بسبب عدم قدرته في مجاراته أبسط أمانيها كفتاة..نشطت ذاكرتها بأخر لقاء بينهما ورغم أنه كان موجع وقاس إلا أنها لا زالت تتذكر ملامحه..ملابسه..نوع سيارته..أبسط واتفه الامور عنه..تنهدت باستسلام وارتمت بجسدها نحو مقعد صغير تستند برأسها على حافة مكتب صغير، متذكرة ما حدث بينهما...
**
تقلبت "مليكة" في فراشها الصغير يمينًا ويسارًا تحاول السبات بسلام دون أن تقع فريسة لصراع شرس قائم ما بين قلبها المتلهف لسماع صوته وعقلها العاصي عندما فرض هيمنته ودفعها لخصامه لمدة يومين كاملين لا تسمع فيهم صوته ولا تعرف عنه شيء..لن تنكر أن صوت داخلها دفعها للإغلاق في وجهه متأكدة أنه سيحاول الوصول إليها لعودة وضعهما كما كان عليه ولكنه فاجأها ببرود صقيعي أصابها برجفة الخوف مما هو قادم، انتهى اتصالهما ببساطة لم تعتمل في حروفهما النارية، لقد تركا نفسهما للضياع وكلاً منهما تشبث برأيه.
هبت فوق فراشها تعقد ساقيها في وضعية الجلوس، وعيناها تحتد شراسة وضيق، هامسة من بين شفتيها:

-ماشي يا زيدان.

أمسكت الهاتف وقررت كسر قرارها المنيع بعدم الاتصال به، ولكنها تراجعت مفكرة كعادتها وماذا بعد؟ هل سترسم نهايتهما كما تتمناها؟ هل سيفرق الزمن بينهما؟ تدفقت الاسئلة كتدفق حبات المطر الفجائية، حاولت الهرب منها مرارًا وتكرارًا ولكنها تعود إليها والعجز يحيط بها، يحزنها اتهامه لها ببرود المشاعر حتى لو لم ينطقها صراحةً ولكن عينيه دومًا تبوح بها بطريقة فجة تضايقها، لا يفهم مقدار ما تعانيه من آلام وهي تحاول أن تخفي عاطفتها نحوه، هي تخشى أن تظهرها كاملة فيصبح التمادي طريقًا سهلاً بينهما، تحافظ على علاقتهما من أي شوائب قد تعكرها في يومٍ ما وفي المقابل هو يفيض بغزارة بعاطفته الجياشة وهي لا تملك سوى الصمت القاتل لمشاعره، بل وأحيانًا كانت تتجاهل عاطفته تلك بكلمات باردة مصطنعة، هي لا تعلم سبب ما تفعله معه، ربما شعورها الدائم بالخطأ يلتف حولها فيخنقها، ربما ثقة زوج والدتها السيد "مصطفى" تحوم حولها فتخشى كسرها، ربما هي لم تتعود بعد على طبيعة علاقتهما المستمرة نحو سبعة شهور، تاهت بين الاجابات المنصبة حول شيء واحد هو أنها لم تعتاد أن تفعل أمور كهذه في الخفاء تحتاج فقط للنور كي يضيء حياتهما، يزين مجرى قصتهما برابط رسمي وبالتأكيد هو لن يمانع طالما الحب بينهما.
عزمت على تنفيذ ما تؤل إليه نفسها في الأيام الأخيرة، واقسمت على تنفيذ مطالب عقلها الراجح بأن رابط الخطبة سيكون هو نهاية آلامها النفسية وحينها سيعرف "زيدان" كم تحبه؟ بل كم تعشقه بجنون؟..
أمسكت هاتفها وكتبت رسالة نصية سريعة تخبره بضرورة لقائهما.

"لازم اشوفك ضروري لو سمحت هنزل استناك في *** لو فاضي رد عليا".

وضعت الهاتف وعيناها تزداد حدة وشراسة حينما أضاء برسالة مرسلة منه.

"اوك هشوفك".

نهضت بعزم وارتدت ثيابها ثم خرجت للطريق بعد أن اقنعت زوج والدتها بأنها تذكرت أشياء بسيطة تساعدها في دراستها بالكلية، عبرت الطرق المختصرة لتصل للمكان المنشود وعندما خطت فيه رأت سيارته تقف في أحد جوانبه، فسارعت في خطاها رغم مخاوفها وخجلها المتمثل في عدم رؤيته ليومين..رباه كم اشتاقت له بجنون، حاولت رسم العبوس إلا أنها فشلت فاكتفت بملامحها الهادئة وهي تدخل لسيارة تجلس بالمقعد المجاور له.

-ازيك؟

سألته بهمس اخترق حواسه وهو ينظر أمامه يتجاهل دخولها الهادئ المحبب لقلبه، كاد أن يعصي قراره ويحول بصره نحوها يغدقها بمشاعر فياضة كانت سجينة قلبه ليومين ولكنه تراجع حينما ساد الصمت بينهما لفترة بسيطة وجاء بعدها رده الصلد:

-الحمد لله.

أجاب ببساطة أشعلت فتيل غضبها عندما لوح لها بالبرود وهي لم تعتاد منه على ذلك، وما يغيظها هو علمها بأن ذلك البرود ليس سوى ادعاء منه كعقاب لها! ولكن بحق حبهما ما الذي أخطأت فيه كي تنال عقابه، فاندفعت تسأله بفظاظة:

-مالكش أي حق تعاملني كدا، أنت أصلا زعلان ليه؟

ثانية..بل دقيقة ولم يلتفت نحوها فهدرت فيه بضيق عارم:

-زيدان بصلي ورد عليا؟

هنا التفت ورمقها بجمود أقلقها متلفظًا ببعض الكلمات الحانقة:

-ارد على إيه وأنتي مش شايفة نفسك غلطانة!

زفرت بحنق وعادت تعقد ذراعيها في ضجر شديد قائلة من بين أسنانها:

-عايز تطلعني غلطانة بأي شكل، وأنا قولتلك مكنتش اقصد أنا رجعت تعبانة ونمت وتليفوني فصل، ولما اتصلت مرة واحدة كنت هتصل تاني بس بابا مصطفى نادى عليا فخرجتله.

انتهت من كلماتها المندفعة بحرقة تمتزج بالتوسل كي يصدقها فيما تقصه عليه، حتى أنها واصلت بصدق:

-الموضوع مكنش إهمال مني أبدًا.

ضرب المقود بقبضتيه في غيظ شديد مردفّا:

-لا أنتي مهملة...مهملة فيا جدًا، بس في المقابل أنا بعمل كل حاجة علشانك.

تجمعت الدموع في مقلتيها وهي ترى غضبه يتفاقم، فحاولت امتصاصه بهمس خافت خرج من معقله سهوًا:

-والله بحبك.

استدار إليها بنصف جسده وهو يطالع اعترافها المدغدغ لمشاعره وقد أطرب أذنيه وكأنه سيمفونية رومانسية كان يتتوق لسماعها:

-وليه بتعامليني كدا؟ هو أنتي مش حاسة بحبي؟

سألها والحزن يغزو حروفه، فحركت رأسها بإيجاب وهي تقول بحسرة غصت في قلبها:

-حاسة بس...بس في حاجة منعناني.

انتابه الاضطراب وهو يسألها بهدوء زائف:

-إيه هي؟

رفعت وجهها المبلل بالدموع وهي تجيب عليه في نبرة مهتزة:

-علاقتي بيك غلط ومينفعش تحصل.

-وأنتي لسة عارفة انها غلط بعد سبع شهور!

كم تكره كلماته الجارحة حين تتمكن منه قسوته، لم تشفق دموعها عنده، بل ظل على نفس الصلابة وهو يحادثها:

-مليكة قولي في إيه بصراحة ومن غير لف ودوران.

أغاظها طريقته الفجة في التعبيرعنها، فردت بعنفوان شرس يناقض تمامًا دموع الضعف المتسلقة فوق وجهها:

-اللف والدوران هو اللي احنا فيه بقالنا سبع شهور يا زيدان..

صمت لبرهة تحدج فيه بقوة رغم خجلها المتواري خلف قوتها التي تنظر بها إليه:

-زيدان لازم علاقتنا تظهر للنور.

-يعني إيه؟

جذبت أنفاس عميقة تهدأ بيه ثوران مشاعرها وقالت ببساطة جعلت من حاجبيه تنعقد:

-يعني تخطبني وتتقدم رسمي.

انعقاد حاجبيه استفزها لدرجة أنها أخرجت ما تكنه طول فترة سبعة أشهر دفعة واحدة:

-أنا مش عارفة اكمل معاك وأنا حاسة ان بعمل حاجة غلط، اللي بينا حرام وكمان مينفعش، أنا بهز ثقة بابا مصطفى فيا.

-جوز امك.

هتف باستنكار فهدرت بعنف:

-زيدان دا ابويا مينفعش أبدًا تقلل من شأنه عندي لمجرد انك مش مقتنع باللي بقوله.

هز رأسه بعنف هو الأخر:

-ايوا مش مقتنع، هو إيه اللي بينا غلط وميصحش أنا حتى مبقدرش امسك ايدك، وبعدين خطوبة إيه واحنا لسه مش عارفين هنكمل مع بعض ولا لا.

رمشت بأهدابها غير مصدقة فكررت حديثه بنبرة يملأها الغل والغضب:

-مش عارفين نكمل مع بعض ولا لا، على أساس ان اللي بينا كان تحت تجربة سيادتك.

عاود لنفس التبجح وهو يجيب بحماقة وقد أعماه غضبه أو ربما قناعاته الشخصية أثرت فيه ومنعته من تفهم موقفها:

-اه تحت التجربة، أصحابي وبيحبوا بالسنة واتنين وبعدين...

همست بغضب ناري:

-وبعدين كل شيء قسمة ونصيب وربنا اكيد هيبعتلك حد أحسن مني صح، وأنا بقى خسرت نفسي وقلبي وكل حاجة.

-أنتي ليه عايزة تضغطي عليا، أنا لسه مش جاهز، لسه حتى مش متأكد ان كان حبنا دا...

بتر حديثه بعدما فشل في إيجاد كلمات مناسبة يعبر بها عن حاله المختلج بأفكار لا زالت تترسخ داخله بل وشكلت هيكل رئيسي لتصوره عن الحب ومراحل تطوره، فتردد داخل أذنيه كلمات أصدقائه المعبرة عن الزواج بأنه ليس إلا مقبرة الحياة، وتعقيدات الخطبة التي لا حصر لها، هو لم يكن جاهزًا بالمرة لخوض تلك الأمور، ما زال في ريعان شبابه يريد أن يحظى بكامل عنفوانه بطريقته هو ليست مفروضة عليه كما تفعل.
أجفل من شروده اللحظي على صوت أنينها وجسدها المتشنج لتقول بحزن:

-مكنتش عايزة كدا من الاول.

-كنتي عايزاني اقولك يلا هخطبك يبقى بضحك عليكي، أنا لسه في بداية شبابي يا مليكة، هروح اقول لابويا واخويا الكبير إيه، اتعرفت على واحدة من سبع شهور..

اخرسته بصوتها الهادر بينما ارتفع صدرها وهبط في وتيرة سريعة:

-أنا أسفة على كل لحظة كنت بتخيل انك بتحبني فيها، أسفة على غبائي عشان اتوهم حبك.

هدر بها بالمقابل وجسده ينتفض بغضب:

-انتي ليه بتحكمي عليا، حاولي تفهميني.

جففت دموعها بهدوء أربكه، وقالت بتحدٍ ضاري وعيناها تثبتها بقوة فوق عينيه المحاولة لفهم تغيرها السريع:

-مبقاش في وقت عشان افهمك، زيدان هتخطبني ولا كل واحد يروح لحاله.

وقبل أن يجيب عادت تهمس بتوعد أيقظ خلايا العناد الاحمق داخله:

-اختيارك وانت حر فيه، بس تأكد ان لو كان قرارك بالرفض صدقني مش هتشوف وشي تاني طول حياتك.

حارب حروفه المتقدة بلهيب مستعر بعد أن اتسعت الفجوة بينهما وذلك بعد أن تشبثت برأيها في ظل محاولاته بالتزام الهدوء إلا أنه انفجر بتحدٍ مماثل متمسك بقناعاته ولاح أمامه شعورًا أن ما بينهما ما هو إلا حب وهمي كالسراب الذي يلاحق ضال في ليلة مظلمة بأحدي الصحاري القاحلة:

-وأنا مقتنع برأي وكلامي..

-اللي هو؟

سألته بصرامة بددت من قوته أمام ارتجاف شفتيها فتمسك بالصمت كحل أخير ولكنها رفضت حين رفعت ذقنها وقالت بخفوت امتزج ببحة حزينة مجروحة:

-أنت اللي اختارت، مع السلامة.

ظل يتابع طيفها بندم أكله وكاد يدفعه بالركض خلفها منفذًا لرغبتها، وأفكار أخرى تقسو عليه بالعناد لتعمدها في إجباره على شيء لم يريده حاليًا، يسعى لتحقيق حياة مليئة بتجارب الحب في ظل محاولاته لتحقيق مراكز أعلى في عمله، الزواج سيعيق كل هذا ولن يقع مجبور لأحلامها.
أما هي بعد مغادرتها له ورغم كل البكاء المتحجر في عينيها إلا أنها شعرت باعتدال مسارها في طريقها الصحيح، لقد جُرح قلبها أضعاف مما هي تخيلت وكانت حمقاء حينما ظنت أن تلك العاطفة المتأججة نابعة من قلبه، ولكنها اكتشفت بأنها عاطفة مغلفة بتمرد شبابي لإيقاع بها في شباكه، والخسارة كانت من حقها وحدها لتتحمل أوجاعها وتعتاد على ذنبها مما اقترفته بحقها.

-مش هتشوف وشي أبدًا يا زيدان.
**
عادت من ذكرى فراقهما وهي تقول بتهكم صريح:

-اهو شافك تاني يا هبلة.

زفرت بضيق ونهضت بشموخ ينافي ما تشعر به بكل ما تحمله من ضجيج بعتلي أفكارها واشتياق يغلف أحاسيسها تجاهه.
خرجت من غرفتها تستقبل طلبات المرضى بصدر رحب في محاولة منها للهرب من كل شيء والأهم الهرب من طيفه المرافق لها في كل مكان.
***
في المساء..
أخذت مليكة الملفات من الممرضة العابسة وكأن طاقتها اوشكت على النفاذ في تحمل الساعات المتبقية في اليوم، وضعت إمضائها بسلاسة داخل الملفات ثم أغلقتها وأعطتها إياها بابتسامة واسعة تقلصت حين قالت الممرضة ذات الوجه العابس:

-في واحد مُصر انك تكشفي عليه، بيقول انك عالجتيه كويس قبل كدا.

أومأت مليكة بتفهم وأشارت نحو الغرف الموجودة في الممر بتساؤل:

-في انهي اوضة.

-في أخر واحدة، عايزني اجي معاكي.

هزت رأسها برفض واتجهت صوب الغرفة على الفور، ممتنة لصلابتها في استكمال يوم طويل كهذا دون أن تخر واقعة أرضًا من شدة الارهاق والتعب الجسدي.
طرقت الباب بخفة ثم دخلت تجتاز الممر الصغير ومنه إلى غرفة واسعة بها سرير يستخدم في الكشف وأجهزة طبية، رفعت أنظارها نحو السرير ووجدت عليه..
***
حرك "زيدان" الخاتم الفضي في إصبعه بتفكير عميق بينما كان جالسًا بأريحية فوق سرير يستخدمه الاطباء للكشف ينتظر قدومها وذلك بعد أن فر هاربًا من عمله، تاركًا مخاوفه على جنب مقررًا الاستماع لقواعد يزن حينما فاضت به محاولاته في التحدث معها بالتجاهل المرير من ناحيتها ولم تدرك أنها تضاعف من عذابه، حاول كثيرًا إلهاء نفسه ولكنه فشل فقرر اللجوء لأخيه الأصغر لقدرته الفائقة في سلب لب الفتيات دون عناء منه، وللحظة بدا حاقدًا عليه بينما يلهو بين الفتيات يستمتع بحبهن هو يتذوق مرارة العذاب بسبب حب ظنه أنه سيموت مع الزمن، ولكن ما مات هو ظنونه الحمقاء.
تقلبت عيناه في ملل يرفض خوض ذكريات ظلت سجينة عقله لتذكره دومًا أنها بداخله، فمع ظهورها من جديد لن يظل تابع لماضيهما ويترك الحاضر والمستقبل كالأحمق دون تدخل منه لاسترجاعها من جديد، ولكن كيف؟ وهي تغلق جميع الابواب في وجهه، يأمل بأن الاعيب يزن تعود بفائدة بدلاً من قتله، فلم يكن صبورّا قط مثلما كان صبورًا معه وهو يستمع لبعض الخطط الخبيثة في إيقاعها من جديد، شعر بغصة في حلقه وهو يود الاعتراف لأخيه بأن علاقتهما ليست بهذا اللؤم، وانما كانت واضحة وجميلة إلا أن الحظ أعاقه وعرقله في استكمالها ففقد حبال الوصل بينهما.
ولكن ما بيده سوى الاستماع له وتنفيذ خطته الخبيثة كي يعود ينبوع الحب ويضخ في أوردتهما من جديد، أغلق عيناه مفكرًا بهدوء عن الخطوة التالية بعد أن امتهن الألم بسهولة في استقبال المشفى وطلبها خصيصًا تطمئنه على حالته ولسلطته نفذت أوامره فورًا دون عناء مزيد منه.
وفي ظل تفكيره العميق دخلت وهي تتهادى في خطواتها، فحول بصره نحوها يستمتع بالصدمة المرسومة فوق وجهها من فكرة وجوده:

-زيدان؟

هل تلك النظرة كانت قلقة أم أنها مجرد صدمة عابرة لوجوده؟ لا يجد إجابة مريحة له طالما كانت بارعة في إخفاء باطنها، حيث اسبلت أهدابها للحظات وبعدها رفعت عيناها تسأله بجمود استفزه:

-مالك، خير؟

اعتدل في جلسته وهو يجيب بغيظ:

-زي ما أنتي شايفة تعبان.

اقتربت وهي تضع يدها في جيب ثوبها الطبي، فحانت منه نظرة لتنورتها مررًا بصره عليها بإعجاب سافر، ولكنها أفاقته بوحشية عندما طرقت بعنف فوق المكتب سائلة إياها بوجوم:

-تعبان مالك، بتشتكي من إيه؟

خصها بنظرة حاقدة بسبب ثباتها الانفعالي أمامه وقال بحنق:

-ما تكشفي، هو انتي مش دكتورة؟

اقتربت منه خطوة وأشارت بيدها في استهزاء كانت تتعمد اظهاره لاستفزازه كي يتركها ويفل دون تعذيب أكثر لها:

-إيه اللي بتشتكي منه بالظبط؟

-قلبي.

قالها ببساطة جعلتها تندهش وهي تقول:

-نعم؟

-مبتعرفيش تكشفي عليه؟

سألها بتهكم واضح، فاكتفت بالاقتراب منه وجديتها امتزجت بالعناد في ظل اتابعها لعملها حيث وضعت سماعتها الطبية فوق قميصه إلا أنه فاجأها بوقاحة حين أبعدها وفك أزرار قميصه العلوية، فظهر صدره العريض أمامها وبكل وقاحة اعاد موضوع السماعة فوق قلبه ولمست أصابعه أناملها الرقيقة دون قصد منه فسرت رجفة قوية في جسدها وكأن هبات هواء بارد اجتاحتها في ليلة شتاء قارس.

-المفروض تكشفي كدا يا دكتورة.

هل تقتله أم تقتل نفسها، ماذا يريد أن يفعل بها وهو نائمًا بهذا الشكل وابتسامته الوقحة تزين ثغره وكأنه نجح في إثارة مشاعرها، هل ذابت قرارتها المنيعة في الابتعاد؟ هل انصهار أحاسيسهما المتقابلة وخاصةً وهو ينظر لها بهذا الشكل لها أثر على تسمرها أمامه دون حراك، فقد أطلقت الحرية لعينيها للعبث بملامحه كما يحلو لها، ولكنها استفاقت من غفوتها الرقيقة بعد لحظات كانت الاجمل بينهما على الاطلاق، جذبت السماعة بعنف زائف بينما كانت تحارب لإخراج جمل واضحة وقوية:

-أنا هبعتلك دكتور تاني.

وقبل أن تدير مقبض الباب كانت يده تعيق حركتها قابضًا فوق كفها الرقيق بقوة وبذات الوقت كان يخشى عليها فكانت قبضته قوية بها قدر كافي من الحنو اللطيف، ولكن..ولكن تخبط تفكيرها بخجل وهو يقف خلفها مباشرةً يحتجزها بينه وبين الباب، ونبرته الملتاعة تهدم أخر أسوارها:

-رايحة فين وسيباني تاني.

كان صوته معذب لقلبها فقد لاح لها اتهامه بتركها له من جديد، فهمست بضعف تحاول السيطرة على مشاعرها:

-سيبني اخرج.

لان قلبه لصوتها المبحوح حيث اختلطت حروفها بالتوسل الطفيف، فهمس بجانب أذنها سائلاً إياها ولوعة العشق تتملك من صوته:

-لسه بتحبيني؟

همست باسمه في توسل أكبر:

-زيدان.

خارت قواه وهو يستمع لاسمه تلفظه بهذا الضعف، فكاد الشوق يدفعه بجنون لاعتصارها بين يديه، او أبسط امانيه التهام شفتيها الوردية المتلفظة باسمه بتلك الطريقة، هل خيل لها أنه قديس كي يتحمل ذلك العذاب دون أن يروى قلبه النابض بعنف وهي قريبة منه بهذا الشكل، غامت عيناه بعاطفة ملتهبة وهمس بتروي جعلها تغلق عيناها بقوة وصوت أنفاسها يتسارع وكأنها تقبل على الموت:

-مليكة.

شعر برجفتها..أحس بقوتها تتصدع بين يديه، وبدأت تخيلاته عن أول قبلة بينهما تدفعه بحرص نحوها، فمال بجانب وجهه وأنفاسه الساخنة تلفح بشرتها الرقيقة، أغمضت عيناها بقوة أكبر وهمست باستعطاف:

-عشان خاطري بلاش.

تراجع عما كان يريد فعله في أخر لحظة بهدوء عجيب، كاسرًا قواعد يزن بل ضاربًا إياها بعرض الحائط، همس بحنق اختلجت فيه مشاعره الثائرة:

-الله يخربيتك يا يزن.

فتح عينيه على برود يحاوطه عقب مغادرتها بعدما كان ينصهر اثر اقتراب بسيط حدث بينهما، فماذا سيحدث إن تزوجها مثلاً وهو يحمل كل تلك العواطف الفياضة، ابتسم ببلاهة مردفًا:

-بلاش افكر أحسن.


يتبع الفصل التاسع اضغط هنا
google-playkhamsatmostaqltradent