Ads by Google X

رواية منك وإليك اهتديت الفصل الثالث 3 بقلم زيزي محمد

الصفحة الرئيسية

   رواية منك وإليك اهتديت الفصل الثالث بقلم زيزي محمد

رواية منك وإليك اهتديت الفصل الثالث 

بعد مرور يومين...

توقفت "فرح" قبل أن تدخل لـغرفة "ماجد" لدقائق حاولت فيهم تنظيم وتيرة أنفاسها المتسارعة من فرط حالتها المضطربة، حيث شعرت وكأنها تقف على أعتاب طريق وعر لا تجيد العودة وتخشى التقدم خطوة للأمام، ولكن أيًا يكن مقدار المعاناة النفسية التي ستشعر بها بعد أن تُقدم ما حصلت عليه لـ "ماجد" سيكون أهون من فضيحة تلاحق شرفها وخاصةً مع اقتراب موعد زفافها.

أخرجت "هاتفها" من جيب سروالها ودققت النظر به، تمرر بأصابعها صور "مليكة" الخاصة والتي استطاعت الحصول عليها في سرية تامة.
للحظة انتابها الندم لِمَ ستفعله ولكنها تراجعت وفكرت بأنانية، لذا فعلت وضعية التسجيل ووضعت الهاتف بجيب سروالها مرة أخرى ودخلت للغرفة في ثبات تام.
**
رفع "ماجد" أنظاره بعيدًا عن الأوراق التي كان يطالعها بتركيز، وما أن رأى "فرح" تدخل للغرفة بهدوء، تجهمت ملامحه ونهض واقفًا في غيظ:

-لسه بدري يا دكتورة.

رمشت بأهدابها للحظات وقد داهمها القلق من رد فعله الهجومي، فقالت بصوت حاولت إخراجه طبيعي بقدر الإمكان:

-لما طلبتني جيت على طول.

رفع أحد حاجبيه من نبرتها الباردة، فدق بأصابعه فوق مكتبه عدة مرات قبل أن يعود قائلاً بنبرة تحمل بين طياتها التهديد:

-منفذتيش اتفاقنا ليه يا فرح؟

هزت رأسها بإيجاب وتحركت للأمام خطوتين في ثقة، بينما رفعت أصابعها تشير لرقم اثنين وابتسامة نصر تحلق فوق شفتيها:

-نفذته من يومين.

لمع وميض الشر بعينيه وثبت بصره عليها يطالعها من أعلاها لأسفلها في استهزاء:

-ومجتيش اديتيني الصور ليه زي ما أنا طلبت منك يا حلوة.

-هنغير تغير بسيط في الاتفاق قبل ما تاخد الصور.

قالتها في هدوء بينما كان الضجيج يغزو عقله، فهتف ساخرًا:

-اتفاق! اتفاق إيه، أنا طلبت منك حاجة ونفذتيها مفيش اتفاقات ما بينا.

جزت فوق أسنانها قبل أن تجيب بنبرة حاسمة:

-لا فيه، هتاخد الصور بمقابل.

عقد ذراعيه أمامه مستنكرًا قولها، ولكنه أشار إليها في استكمال حديثها، فاندفعت تتفوه بما تريده بكل جرأة:

-من بعد ما تاخد الصور متحاولش تقرب مني تاني أبدًا، وكمان تحولني أكون تحت إشراف دكتور تاني.

اقترب منها يختصر المسافة بينهما بغرور، تراجعت بخوف من لمساته التي باتت تتجرأ بوقاحة فوق منحنيات جسدها، فهمست بصوت خافت ترجوه ألا يستكمل ما يفعله:

-أرجوك سيبني بقى في حالي أنا تعبت.

همس أمام وجهها والحقد يتقاذف من عينيه:

-تعبتي مني أنا، ما أنتي كنتي بتسكتي والموضوع كان عاجبك.

صرخت بصوت مكتوم خوفًا ألا يسمعها أحد خارج الغرفة:

-عمره ما كان عاجبني، كنت بسكت غصب عني، ارحمني وابعد عني.

تراجع خطوة للخلف ومد يده صفعها عدة صفعات خفيفة فوق وجنتها كنوع من التحذير والتهديد:

-حاسبي على كلامك معايا عشان متزعليش، وبعد كده اوعي تفكري تساوميني.

احتدت نظراتها وقد رأى العناد يطغى على ملامحها، فتراجع سريعًا يقول بلامبالاة:

-أنا اللي زهقت منك ومبقتش عايزك خلاص، عشان كده موافق على كلامك.

أغمضت عينيها في راحة لم تكن كاملة، بسبب صوته الذي اخترق كيانها وبث الرعب بقلبها:

-اخلصي هاتي الصور، ويا ويلك متكنش زي ما أنا عايز.

أخرجت هاتفها بحذر وبدأت في إرسال الصور عبر تطبيق" الواتساب" وحينما تفحصهم بكل تركيز ورأت لمعة السعادة الممزوجة بالشر تضيء عدستيه، أدركت أن "مليكة" ستكون ضحيته التالية.

أبعد "ماجد" بصره عن الصور بصعوبة وأرسل لها قبلة في الهواء متمتمًا بنبرة قاسية:

-بالسلامة أنتي يا فرح.

خرجت "فرح" فورًا من غرفته وبدأت دموعها تنهمر بغزارة وضميرها يطرق أبواقه العالية في بدأ تعذيبها عما فعلته، فاتجهت نحو إحدى الغرفة تسمح لنفسها بالانهيار بعيدًا عن مرمى بصر بعض الاطباء والممرضات.

لم تلاحظ دخول "مليكة" خلفها محاولة تهدئتها بشتى الطرق، ومع كل كلمة كانت تتفوه بها "مليكة" كانت تزيد الوضع سوءًا لديها، ورغم بساطة كلماتها ورقة صوتها إلا أنه كان كالوقود المسكوب فوق نيرانها المستعرة.

-خلاص يا فرح، مالك بس عمل فيكي الزفت ده.

حاولت اختلاق كذبة تخرجها من تلك الورطة ولكنها فشلت وخرجت كلماتها مبعثرة لم تفهم منها "مليكة" أي شيء:

-أنا...مبقت..مش عارفة..

-يا حبيبتي طيب اهدي، أروح اتخانق معاه الكلب ده على اللي عمله فيكي.

كانت تتحدث باندفاع وحماس وكأنها هي من تعرضت للأذى، فصاح ضمير "فرح" بصراخ عما فعلته بإنسانة تريد الدفاع عنها وفي المقابل هي كانت تسعى لأذيتها.

-طيب اهدي خالص هروح اجبلك ميه.

نهضت "مليكة" وتوجهت للخارج، تحت أنظار" فرح" المصعوقة من طيبتها، وبالمقابل تعاملت هي بكل وقاحة وأنانية، فاندفعت خلفها في لحظة حماسية كانت ستعترف بها بكل شيء وقبل أن تحرك مقبض الباب استمعت لصوت "مليكة" مع "كوثر":

-سيبك منها يا ست البنات عصير إيه ده اللي اجيبه ليها، هي اللي رضيت بالمعاملة دي من الأول يبقى تشرب.

دافعت "مليكة" بقوة:

-لا يا كوثر متقوليش كده، فرح إنسانة محترمة و...

قاطعتها "كوثر" بسخرية:

-والله ما حد محترم إلا أنتي، ربنا يحفظك ويصونك يا حبيبتي، معلش أنا مش هتعاطف معاها أبدًا.

-ليه بس يا كوثر هزعل منك متتكلميش عليها كده.
زمت كوثر شفتيها وقالت بضيق:

-أحنا الممرضات بنشوف اللي محدش فيكوا انتوا الدكاترة بتشوفوه، وأنا كنت بشوفها بتهزر معاه وبيمسك إيدها، وحاجات تانية ربنا يستر على ولايانا.

للحظة سيطر الصمت على "مليكة" غير مصدقة حديث "كوثر" وبالأخص أن ميعاد زواجها اقترب فكيف لها أن تخون خطيبها وتسمح لنفسها بخوض أمور محرمة كهذه، انتشلتها من عمق تفكيرها حينما تابعت الأخرى حديثها:

-بلاش تتعاطفي معاها، وأحسنلك ابعدي عنها خالص.

بالداخل تيبست يد "فرح" فوق المقبض بكل عصبية وغضب وللحظات كانت ستخرج وتوبخ بها "كوثر" ولكنها تراجعت خوفًا من الفضيحة، والتزمت الصمت واستكمال نفس الطريق الذي خططت له لإبعاد تلك الشبهات عنها، فبالتأكيد ستكون "مليكة" هي حديث المشفى الفترة المقبلة بما سيفعله بها "ماجد" ولن تتعامل بعد الآن كالملكة المصون بل ستلوث بوحل لمسات "ماجد" مثلهن جميعًا.
***
تابعت "نهى" البخار المتصاعد من كوب القهوة الساخن الموضوع بين كفيها في حين كانت تستمع لأغاني رومانسية في أجواء هادئة لطيفة تبعث السكينة بقلبها، ابتسمت بدلال وهي تغلق عيناها تردد بعض المقاطع الواصفة لحالتها مع زيدان ومدى حبها له، كالعادة لم يتركها عقلها وعزز من حالة الحب المسيطرة عليها ببعض الصور لـزيدان التي حفظتها عن ظهر قلب.

لم تستمر تلك الأجواء كثيرًا، حيث ظهرت والدتها من العدم، بصوتها الغاضب من هيام ابنتها المفرط، فقامت بإغلاق التلفاز واندفعت بكلماتها الحادة توبخ بها نهى المفزوعة من غضبها غير المبرر:

-يا اختي فوقي حرام عليكي الوهم اللي أنتي فيه ده.

تركت "نهى" الكوب وهتفت بتوتر ظهر جليًا بنبرة صوتها:
-وهم إيه يا ماما؟

حركت "ميرفت" ثغرها يمينًا ويسارًا وبدأت في تلويح يدها بغيظ شديد:

-الأغاني اللي بتسمعيها يا اختي دي وهم.

زفرت" نهى" بحنق طفيف ولم تبدي أي اعتراض لوالدتها التي تحفز جسدها وكأنها على وشك العراك معها، فقررت الصمت تمامًا معها، على أملٍ أن تتركها كعادتها بعد كل وصلة توبيخ تصفها بها بالهائمة، الحمقاء، الخرقاء.

كانت في بادئ الأمر تشعر بالحزن الشديد لنعتها بمثل تلك الألقاب، إلا أنها الآن وتحديدًا بعد خطبتها من زيدان، شعرت بلامبالاة تجاه والدتها، حتى أن أي تصرف سيء يخرج من والدتها يُمحى في ذات اللحظة.

ولكن المفاجأة أن والدتها لم تتحرك ساكنًا بل ظلت واقفة، تتخصر رافعة أحد حاجبيها في تحدِ، فنهضت "نهى" وهي تنظر لها باستفهام صامت، ولم تدم نظراتها طويلاً حتى أجابت "ميرفت" بصوت غليظ مشحون بالغضب:

-كلمتي زيدان في قضية أبوكي وأخوكي.

زمت شفتيها بضيق وردت بنفي كانت على علم بإثارة الغضب أكثر لدى والدتها:

-لا..ومش هكلمه يا ماما.

جزت "ميرفت" فوق شفتيها وسألتها بنبرة حادة:

-وليه يا حبيبتي مش هتكلميه.

-زيدان هيرفض، وبعدين ممكن كلامي معاه يأثر على علاقتنا.

انفجرت "ميرڤت" ضاحكة، والسخرية لوحت لـ "نهى" من ملامحها القاسية، فلم تصمت عند هذا الحد بل اندفعت تلكزها بيدها في ذراعها بقسوة:

-خايفة يا بت يسيبك، مش قادرة تتكلمي معاه يا خايبة، بس أنا اللي غلطانة، بكلم مين واحدة معدومة الشخصية.

وضعت" نهى" يدها فوق ذراعها الأخر بألم، تحاول السيطرة على نفسها المنكسرة من البكاء، حيث شعرت مؤخرًا أن والدتها تسعد لإذلالها.

-خليكي ساكتة، بس أنا اللي هتصرف.

دفعتها والدتها بعنف، فوقعت فوق الأريكة خلفها، باكية، متخوفة من إفساد خطبتها بسبب تصرفات والدتها السيئة.
***
خرج "زيدان" من الغرفة وهو يحمل هاتفه متذمرًا على المتصل، منتظرًا خروج شخص أخر من الغرفة، وحينما صدح صوته خلفه، التفت زيدان يأمره بصوت قوي:

-قفل المحضر وتعال ورايا وجيب معاك أبوه وعمه.

هز الضابط المسئول رأسه في صمت وعاد مرة أخرى للغرفة يستجوب المريض، بينما تحرك زيدان في الردهة خطوتين للأمام مستندًا على باب إحدى الغرف، وهو ينظر للهاتف المضيء أمامه باسم عمته وقد أعطاه الهاتف إشارة حول اتصال عمته ما يقرب للعشرين مرة، رفع حاجبه الأيسر بتحدٍ من إصرارها في الوصول إليه رغم رفضه للعديد من الاتصالات ولكنها لم تأبى وقد أعلنت ذلك بكثرة اتصالاتها فقرر أخيرًا الرد بنبرة حادة:

-في إيه، دي كلها اتصالات.

-وأنت لسه فاكر ترد.

قالتها بحنق شديد، فرد عليها ببرود قاصدًا إغاظتها:

-اه، وبعد كده لو مردتش متتصليش تاني.

-لا هتصل تاني وتالت، عملت إيه في موضوع عمك إبراهيم وسمير.

خرجت حروفها المندفعة بعناد متأصل بنبرتها، فرد عليها بضيق:

-معملتش ومش هعمل، حاجة متخصنيش.

شهقت باستنكار:

-وده إزاي، مش أخوك هو السبب في القضية دي.

-السبب إزاي يعني، هو اللي قالهم روحوا اشتروا دهب مسروق!

أجابت بتبجح ووقاحة:

-لا بس هو اللي بلغ عليهم.

-يشربوا، عشان يمشوا شمال تاني.

انفلت لجام هدوئه، فتابع حديثه بتهديد لاذع:

-متفتحيش معايا الموضوع ده تاني، وإلا....

قاطعته بصوت هادئ ينافي ذلك القوي الغليظ الذي كانت تلوح به بكل ثقة:

-وإلا إيه يا حبيب قلبي، هتكسر بقلب البت اللي حيلتي.
تمتم بصوت خافت لم يصل إليها:

-يارب يتكسر قلبك أنتي يا شيخة.

حمحم بعدها بقوة وقال بنفاذ صبر:

-أنا هقفل ورايا شغل، واللي قولتيه ميتكررش.
***
تحركت" مليكة" في ردهة المشفى بخطوات بطيئة، وهي تتحدث بالهاتف مع والدها السيد" مصطفى":

-حاضر يا بابا مش هتأخر، دعواتك يا حبيبي.

استمعت لصوته المردد ببعض الأدعية فابتسمت برضا وهي تكمل سيرها للأمام وعندما وصلت للغرفة المنشودة توقفت على بعد خطوات بسيطة تغلق هاتفها وتضعه في جيب ثوبها الطبي، ومن بعدها استعادت شخصية الطبيبة الوقورة وعند هذا الحد كادت تنفجر ضاحكة على نفسها وعلى حماقتها التي تسيطر عليها حين تضطر للتعامل مع الغرباء في مواقف محرجة كهذه مثلاً:

-لو سمحت ممكن أعدي وأدخل الاوضة.

انتظرت ثوان كي يتحرك ولكنه يبدو أنه كان منشغلاً في أمر ما يجعله شاردًا لهذا الحد، فقررت أن تكرر جملتها بنبرة مرتفعة ولكنها باءت بالفشل، فاضطرت أن تستخدم القلم الخاص بها فوق كتف الشارد عله يستفق، وبالفعل التفت سريعًا بوجهه الجامد الخالي من أي مشاعر، وبطوله الفارع وعضلات جسده المتناسقة تمامًا مع طوله، أما عن ملامحه يا ليتها لم تراها، حتى أنها تمنت أن تنشق الأرض تبتلعها بعدما رأت من أرق العقل بالتفكير وعذب القلب بغيابه الطويل، وجمد المشاعر من أخر لقاء قيل فيه كلمة الوداع، ولكن لِمَ الآن تتحرك مشاعرها من معقلها وتذوب قطع الجليد في ظل انصهار عينيه بالسعادة وكأنه حصل أخيرًا على ترياق الحياة بعد رحلة طويلة وشاقة في غابة مظلمة.
عاندتها ساقيها، حتى وجهها تخلى عن أوامرها ورسم بسمة صغيرة فوق محياها عبرت عن مدى اضطرابها في وجوده المفاجئ، آه كم اشتاقت لملامحه الجامدة ولصوته الناقم دومًا، اشتاقت لأبسط عيوبه قبل مميزاته، اشتاقت لمزاح تافه كان يدخلها في نوبة ضحك لساعات معه، تتوقت للحظات لم ولن تتكرر بعدما اتخذا كلاً منهما قراره في الابتعاد.
***
أخيرًا قررت الحياة مكافأته بعد أيام تعسه قضاها متعذبًا في غيابها، ست سنوات غابت عن عينيه لم يراها ولو مرة واحدة، اختارت من البعاد طريقًا مريحًا لهما، أو لها بالأخص وتركته يصارع عناده وكبريائه وحده، لم تشفق عليه في مرة وتظهر أمامه يخطف منها نظرة أو بسمة تثلج صدره الملتاع بعد أخر لقاء بينهما، حتى منامه غابت عنه وكأنها تريد معاقبته!
ولكن أي عقاب هذا وأنا لم اقترف أي خطأ في حقك، بل أنتِ من كنتي السبب في الهجر يا حبيبة استوطنت القلب كمحتل لعين رافضًا التخلي عنه حتى بعد تدميره!

لم يستطع السيطرة على مشاعره المتأججة وظهرت ابتسامته كوضوح الشمس، وكأنه كان ينتظر تلك اللحظة في أي وقت لذا عند رؤيتها قابلها بكل مشاعر صافية، عكسها هي تحركت من أمامه كالسراب، واختفت بين الأشخاص المتحركين في الردهة، فرك عينيه وقد ظن أنه وهم واختفى، تحرك سريعًا يبعد الأشخاص عنه طريقه حتى أخيرًا رآها تقف مع إحدى الطبيبات تتحدث معها، هنا شعر بحقيقة وجودها، فابتسم أكثر كالأحمق وهو يجلس على أحد المقاعد يتابعها في صمت وهي تباشر عملها، يدقق بأصغر تفصيلية بها، ما الجديد الذي طرق عليها؟ سوى أنها أصبحت أكثر أنوثة وجمالاً ورقة داعبت قلبه في حنين لذكريات ماضية تمسك بها رافضًا دفنها في بئر النسيان كمعظم ذكرياته.
فمرت ذكرى لقائهما الأول في ومضة سريعة جذبته لأفضل أيام حياته...
***
هبطت"مليكة" من سيارة الأجرة وهي تحمل كتب كثيرة وكبيرة بين كفيها، إلى جانب حملها لحقيبة فوق ظهرها، فبدت وكأنها تحمل ثقلاً لا يناسب حجمها ووزنها.
تحركت بخطوات ثابتة رغم الهواء المشتد من حولها، فصارعته وهي تتجاهل نظرات أفراد الأمن لها، حيث تمركز العساكر بطول سور الجامعة، بينما بجانب البوابة الكبيرة يجلس دومًا ضابط وسيم كلما يراها يرسل لها بسمة صغيرة تربكها، حتى عند مرورها بالحاجز الأمني يركز ببصره عليها فيصيبها بالتوتر الشديد وأحيانًا تصبح كالخرقاء أمامه.
اشتد الهواء ورفع تنورتها الواسعة قليلاً، فهبطت بجذعها العلوي تعدل من وضعية تنورتها للأسفل، والحرج يكسو ملامحها، فتلونت وجنتيها بحمرة طفيفة وهي تخرج كلماتها الحانقة:

-ما تتعدلي بقى، ده أنتي جيبة كلبة بصحيح.

أخيرًا اعتدلت التنورة، فرفعت نفسها للأعلى بسرعة كبيرة كادت تفقد بها توازنها بسبب رؤيته أمامها مباشرةً، واقف كالجبل شامخ الرأس، يطالعها بصمت وملامح وجهه جامدة، يمرر بصره فوق ملامحها بحرية، مما جعلها تهمس بصوت قلق:

-في إيه؟

استمرت نظراته لها وشعرت وكأنه يستكشف أمرًا ما من خلال ملامحها، ولوهلة شكت أنها مجرمة وقد أمسك بها في الجرم المشهود، فهمست مجددًا:

-نعم؟

-بطاقتك.

كلمة واحدة خرجت من فمه بجدية صارمة، فأشارت نحو نفسها بتوتر جلي:

-بطاقتي أنا.

هز رأسه في صمت وتركها تلفتت حول نفسها، حتى عادت تنظر له في صمت، ومن بعدها أشارت بالكتب نحوه، فخصها بتساؤل ممزوج بالتعجب:

-نعم أعمل إيه؟!

أجابت بخجل:

-شيلهم عشان أطلع البطاقة.

تناول منها الكتب بعد ثوان من التحديق بها، والدهشة تغزو عينيه من بساطتها معه، أخرجت بطاقتها أخيرًا بعد عناء مع حقيبتها الكبيرة، ومدت يدها له، فالتقطها ينظر بها في صمت مريب، تركت حينها لعينيها حرية التجول فوق ملامحه لمراقبة ردود أفعاله علها تستشف أمر طلبه هذا، فشلت في إيجاد إجابة تريح بها عقلها المضطرب، فسألته بنبرة متلعثمة خفيفة:

-في حاجة حضرتك؟

-إجراءات أمنية.

أجابها ببساطة، فاستدارت يمينًا ويسارًا تتابع دخول زملائها بكل يسر عدا هي تقف أمامه كالمذنبة:

-إجراءات أمنية عليا أنا بس؟

رمقها بنظرة خبيثة ساءت من حالتها المضطربة ورد بنبرة ذات مغزى:

-عشان أكيد أنتي حد مش عادي.

-نعم، مفهمتش!

ضيق عينيه وهو يتجاهل حديثها، مردفًا بنبرة لاذعة:

-مشكوك في أمرك.

فسر لها ببساطة جعلت من وتيرة الخوف لديها تتسارع، فسألته بصوت متهدج:

-مشكوك في أمري ليه؟

-من امتى الشعب بيسأل الشرطة عادي كده.

رفعت أنفها وردت بثقة:

-هي الشرطة مش في خدمة الشعب بردو.

ابتسم ساخرًا وهو يقول:

-شكلك بتتفرجي على أفلام كتير.

أجابت بثقة وحدة من سخريته:

-حضرتك أنا الوحيدة اللي واقفه بتشوف بطاقتها.

-انت شكلك متوترة، اوعي تكوني...

ضيق عينيه وهو ينظر داخل عينيها فارتبكت وهي تردف:

-لا لغاية واوعي تكوني وتقف، أنا طالبة جامعية لا بيا ولا عليا..
بترت حديثها وهي تمد يدها نحوه في جدية، نظر لها لثوان بسيطة ومن بعدها مد يده هو الأخر وصافحها ببسمة واسعة، سحقت الدهشة من خلالها ملامحها واحمرت وجنتيها لملمس كفه القابض فوق كفها بقوة وكأن الفرصة أتت على طبق من ذهب، حاولت سحب يدها ولكنه أبى وتمسك بها أكثر، فقالت بنبرة يخالطها الخجل:

-انت بتعمل إيه؟

-بسلم عليكي.

قالها ببراءة زائفة زحفت لعدستيه المضيئة بلمعة غامضة، فهتفت باستنكار:

-هو أنت ابن خالتي وراجع من الحج، ايدي لو سمحت.

ترك يدها على مضض وحمحم بصوت عالي، عادت كالبلهاء تضع يدها أمامه، مما جعله يضحك بخفة:

-هنسلم تاني.

وقبل أن يمد يده أبعدت يدها وأردفت بغيظ:

-عايزة البطاقة حضرتك.

-بطاقة إيه؟

خرجت حروفه في ذهول مصطنع، فردت بضيق:

-بطاقتي حضرتك اللي بين ايديك دي.

صاح متذكرًا وهو يشير بها أمامه في ذات الوقت مبتسمًا:

-اه بطاقتك.

وقبل أن يكمل حديثه، سألها بعبوس استطاع رسمه ببراعة فوق وجهه:

- استني يعني ده كله مكنتيش بتسلمي عليا.

-لا خالص تصور، كنت عايزة البطاقة.

استنكرت حديثه بنبرتها المتعجبة الحانقة، وراقبته وهو يضع بطاقتها في جيب سرواله بكل استفزاز، ملوحًا لها بيده الأخرى:

-بكرة ابقي خديها لما أكشف عليكي الأول.

-بس أنا مش تعبانة؟

سيطر المزاح الساخر على كلماتها، فنهرها بصوت قوي ثقيل:

-أحنا هنهزر ولا إيه، يلا يا أنسة على محاضراتك.

تركها وعاد لموقعه مرة أخرى وسط زملائه محاولاً كتم ابتسامته وسعادته بالحديث معها، أما هي ظلت واقفة مكانها كالحمقاء تتعجب من موقفه، واستحواذه على بطاقتها بكل سهولة.
***
عاد من شروده على صوت رجولي قطع عليه أفضل ذكرياته والذي إن استمر في تكرار استرجاعها لن يصيبه الملل إطلاقًا:

-يلا يا زيدان باشا على القسم.

رمقه "زيدان" بنصف عين وتحرك خلفه بصعوبة حيث رفضت ساقيه التحرك، وتمنى في الاستمرار مكانه يراقبها ليعوض قلبه عن أعوام مضت حاوطه الجفاء بسبب ابتعادهما مما جعله متعطشًا كمحارب ضل طريقه في صحراء جدباء.
وقبل أن يخرج نهائيًا من المشفى عاد مرة أخرى بعد أن ترك زميله وتحجج بإنهاء بعض الأمور، مقررًا العودة لها والتحدث معها، ربما كان خطئًا منذ البداية بتركها، بحث عنها بلهفة شقت قلبه لرؤيتها مرة أخرى وحين وجدها تقف بجانب نافذة ما تراقب شيء، اختصر المسافة بينهما بسرعة وعندما اقترب استعاد شخصيته الحازمة وتوقف خلفها يناديها بصوت حاول أن يكون ثابتًا ورغم عنه خالطت نبرته رجفة قوية عندما نطق لسانه مرة أخرى أسمها بعد غياب طال لست سنوات:

-مليكة.

راقب أصابع يدها وهي تقبض فوق حديد النافذة وكأنها تجاهد مقابلته، يبدو أن مشاعرهما متبادلة ولا زال الحب مرتبط بأوتار قلبيهما، وبعد فترة من الصمت التفتت ببطء تنظر له بعيون صرخت بالحنين.

-عاملة إيه؟

أخيرًا قررت الأفراج عن صوتها الأسير بين حلقها وخرجت نبرتها مهتزة ضعيفة:

-الحمد لله بخير.

توقف الزمن من حولهما بعدما استمع لصوتها الذي جذبه لذكريات دافئة أيقظت مشاعر الحب والغرام بصدره وذلك بعد هجره، لم يبعد بصره بل ثبته عليها يحاول استكشاف هل جديد طرق عليها في غيابه، هل يوجد حلقة تتوسط إصبعها؟، لِمَ تخفيه بين كفها، هل تريد عذابه أكثر، ألم يكفي ما مر به بعد فراقهما؟ وللعجيب أن لسانه لم يتجرأ في التحدث معها، يخشى أن يتفوه بكلمة تدمر لحظتهما رغم الارتباك المسيطر عليهما.
انسلت من أمامه في لمح البصر، فرفع صوته يسألها والحزن يتوغل صوته:

-ماشيه ليه؟

لم تلتفت، ردت دون أن تنظر له وهذا أكثر ما أوجعه:

-ورايا شغل عن أذنك.

لقد اشتكت عيناه من مراقبتها السريعة، ورفع قلبه صياحه عاليًا يتمنى بقائها، لِمَ تزيد من أوجاعه، وتضغط فوق ندباته رغم مرور كل هذا الزمن.
***
بعيدًا عن مصر وتحديدًا في الولايات المتحدة الامريكية، خرج سليم من المطبخ الصغير يحمل أكواب العصير متجهًا إلى صالة صغيرة تجلس بها شمس وطفله أنس، وقد قرر المكوث في شقة صغيرة لمدة ثلاثة أشهر على الأقل حتى يطمئن على "شمس" وإنجاب طفلهما في سلامة، فلن يترك نفسه للأحاديث القلقة وخاصة بعدما جرب معها قبل ذلك فقدان جنينهما في الشهر الخامس، ومر حينها بحالة نفسية حزينة، قضى الحزن بها على سعادتهما، والسبب في ذلك حالة شمس المرضية والتي تفاجأ بها بعد وفاة الجنين في بطنها، لن ينسى قط مشاعرها الحزينة وعيناها الباكية الرافضة للتخلي عن طفليهما، حيث لم تصدق الاطباء وقد شعرت بالخزي من نفسها حين قررت التمسك بالعناد والعمل بالمحل والمنزل معًا وكان ذلك إجهادًا كبيرًا عليها رغم تحذيرات الاطباء وزوجها.
حارب "سليم" معها الأيام وبث السعادة لقلبها بشتى الطرق، ولكنها كانت دومًا تشعر بالندم، فقررت أن تكافئه بطفل أخر رغم تحذيرات الاطباء، وقد سعت لذلك كثيرًا، حتى أتمت مرادها بعد خمسة أشهر فقط من فقدانها لجنينها في رحمها، وها هي الآن في الشهر الثامن تنتظر قدوم طفلتهما على أحر من الجمر، على عكس "سليم" الذي كان يعيش قلقًا جعله غير قادر على التركيز مع أي شيء سواها.
بعد جلوسه بجانبها، مد لها كوب العصير في صمت، فأخذته منه وقبلت كفه في حب وامتنان على كل لحظة أثبت بها مقدار حبه لها.

-تسلم إيدك.

ربت فوق يدها بحنو وخصها بنظرة حنونه، قبل أن تتجه عيناه على أنس الغارق في حاسوبه لمدة ساعة كاملة، يلعب بها بعد أن سمح له "سليم" بذلك.

-أنا شايفة أن الساعة عدت يا سليم.

عقد "سليم" ما بين حاجبيه متسائلاً بذهول زائف:

-بجد، امال أنا حاسس ليه عدى نص ساعة بس.

زمت شفتيها بضيق وهتفت بإصرار على اتفاقهما:

-سليم احنا اتفاقنا على إيه؟

-وترجعي تزعلي، لما اخليه يعمل كل اللي نفسه فيه من وراكي.

أردف كلماته في عدم رضا جعلها تندهش منه فارتفع صوتها رغمًا عنها:

-ودي حاجة صح؟

مرر بصره عليها لثوان واندفع بعدها يقول في أمر:

-متعليش صوتك عشان متتعبيش.

-أيوا يعني خايف عليا، ولا مضايق مني عشان صوتي العالي.

-وهتفرق في إيه؟

سألها متوجسًا، فقالت بحنق يحمل التهديد:

-هتفرق طبعًا، عشان لو خايف هسكت وهحبك، لكن بقى لو مضايق مني هتخانق معاك.

حمحم بصوت قوي قبل أن يختصر المسافة بينهما، محتضنًا إياها بقوة، هامسًا بجانب أذنها في حب:

-أكيد عشان خايف عليكي طبعًا.

ابتسمت في دلال ورفعت وجهها تطالعه بحب وهيام بعد تغيره الجذري معها، فأكمل حديثه بنبرة قوية رغم ابتسامته المحلقة فوق شفتيه:

-متعليش صوتك تاني عليا، عشان مزعلش يا حبيبتي وأنتي عارفة زعلي وحش ازاي.

اختفت البسمة من فوق ثغرها وضمته في ضيق بينما توهجت عيناها بوميض العراك معه، فقاطعه وهو يرفع يديه لأعلى:

-أنا قولت حبيبتي.

عارضت بصوت متذمر:

- بعد إيه...

التفت بوجه نحو "أنس" يأمره بجدية:
-على اوضتك يلا بسرعة، معاد الشاور بتاعك.
نهض سليم يحمله، تاركًا إياها تنظر في أثره بصدمة حيث تجاهلها وكأنها لم تكن على مشارف الحديث معه.
***

مساءًا...
جلس زيدان برفقة يزن ووالدته أمام التلفاز بعد أن أنهستوا اتصالاً ممتلئ بالعاطفة والحنين لسليم وعائلته الصغيرة..
انتهى الاتصال بالعديد من الأدعية لشمس الحامل في شهرها الثامن حيث لا زالت تعاني من بعض المضعفات الشديدة، وقد توقع بعض الأطباء سوء حالتها أكثر بسبب إجهاد الرحم الذي يهدد بحدوث نزيف حاد أثناء ولادتها، لذا قرر سليم السفر بها إلى الولايات المتحدة بعد اختياره لطبيب مختص في حالتها، ورغم رفضها الشديد لقراره إلا أنه أصر وسافر بها هي وأنس خوفًا عليها من أقل الإصابات.
ورغم أنهما تركا البيت لمدة شهر إلا أنه مر بطيئًا ممل عليهم جميعًا.
ارتفع رنين هاتف والدة زيدان باتصال من "ميرڤت" تحفز جسدها وتجهمت ملامحها مردفة:

-وهي العقربة دي عايزة مني إيه!

رفع يزن عينيه متسائلاً:

-مين دي؟

-عمتك الحرباية.

قالتها بغيظ وانفعال شق قلب زيدان وأصابه بهلع رغم مقدرته في إظهار عكس ذلك، تابع يد والدته وهي تضغط على زر الرد وأصبح متمنيًا من عدم ردها فقال بلهفة:

-مترديش عليها أفضل.

-ده من وقت وفاة ابوك متصلتش، ردي شوفي عايزة إيه.
ود أن يصرخ بوجه يزن وإسكاته بعد أن لمح التحفز يرتسم فوق ملامح والدته التي قالت:

-لا هرد هتفتكر ان خايفة ارد عليها.

جف حلقه وهو يفكر في سبب اتصال "ميرڤت" المفاجئ وراح عقله ينير له سوء نيتها، والإشارة في ذلك هو صوت والدته الحانق:

-خير إيه يا حبيبتي اللي متصلة عليا فيه، هو أنتي بيجي منك الخير أصلاً.

أغمض جفونه في قلق وتخيل رد فعل عائلته على خطبته السرية، حتمًا ستصيبهم صاعقة من فرط حماقته.


يتبع الفصل التالي اضغط هنا
google-playkhamsatmostaqltradent