رواية سمال الحب الفصل الخامس 5 بقلم مريم محمد

الصفحة الرئيسية

     رواية سمال الحب الفصل الخامس بقلم مريم محمد 


رواية سمال الحب الفصل الخامس

_ خُلقت لك ! _ "٢"
بدا الأمر و كأن بضعة يرقات ترفرف فوق بشرته العارية، علاوةً على الشعاع المحرق الذي اخترق جفنيه المسدلين، كلها مضايقات ساهمت في إيقاظه من سباته العميق بسرعة تحث على الإزعاج 
يفتح "رزق" عينيه بتضاؤلٍ، ليبصر أولًا أشعة الشمس التي كادت تعميه، لولا أن رفع كفه ليغطي وجهه بالوقت المناسب و هو يصدر زفرة ضائقة 
مصادفة لاحظ ظل أنثاه يتراقص على الجدار مقابله، و في لحظة عادت إليه الذاكرة، أحداث الليلة الماضية كلها حتى قرر أن يُنهيها أخيرًا عند بزوغ الفجر 
تلقائيًا إرتفع رأسه ليحدق أمامه في زوجته.. زوجته بالمعنى الحرفي و الفعلي الآن 
كانت "ليلة" تقف عند الخزانة، و قد إرتدت أحد قمصانه و الذي تجاوز فخذها، بدت غريبة الأطوار كليًا، أو لعلها آثار النعاس ... 
-صباح الخير ! 
إبتسم تلقائيًا و هو يفرك عينيه الناعستين  ... 
-صباح الفل.. قمتي ليه ؟ الساعة كام ؟ 
جاوبته دون أن تلتفت نحوه : 
-صحي النوم يا روحي. احنا بقينا العصر ! 
-إن شالله لو العشا يعني.. إنتي ناسية إن دخلتنا كانت إمبارح. تعالي. تعالي جمبي هنا ... 
و ربت على الجانب الفارغ من الفراش بجواره 
تستدير "ليلة" في هذه اللحظة رامقة إياه بغموضٍ، بقى مكانه ينظر لها في سكون، ليجدها تظهر من خلف ظهرها ذاك الكأس المصنوع من الورق الأبيض المقوّى، ذاك الكأس الشهير، الموصوم بطبع شفاهها 
أشهرته أمام ناظريه الصامتين و هي تقول بمكرٍ : 
-و انت سايبني هنا لوحدي.. سمحت لنفسي أنبش في حاجتك... و Guess What.. لاقيت الفنجان ده. بصراحة أخدت شوية وقت لحد ما افتكرته. إلا بجد.. انت محتفظ بيه ليه يا رزق ؟ 
ربما كان من المفترض أن يغضب لاخبارها إياه بهذا، لكنه بدلًا من هذا غمز لها و قال : 
-قربي عليا و أنا أقولك ! 
زجرته بحنقٍ و هي تلقيه بوسادةٍ من فوق الأرض هاتفة : 
-انت إيـــه بس. مابتشبعش حرام عليك.. يلا قوم. قووووم فوّق كده على ما أخد شاور. محدش قالك إن أبوك عازمنا على العشا إنهاردة 
ينقلب محيا "رزق" بلحظة و هو يعترض بقسوة : 
-لأ طبعًا.. مش هايحصل و مش هانروح في حتة 
شددت "ليلة" على قرارها و كأنها لم تسمعه : 
-قوووم يا رزق. فوّق عشان نجهز للعزومة.. لازم نكون جمب نور و مانسبهاش لوحدها 
و وّلت متجهة خارج الغرفة ... 
هكذا تلقي الكرة بملعبه، تضغط عليه بأخته، كذلك يفعل أبيه أيضًا 
لماذا يفعلون به هذا ؟ ماذا يظنون به بحق الله !!! 
زفر "رزق" بنزقٍ هائج و هو ينقلب على وجهه ضاغطًا الوسادة التي ألقتها عليه زوجته فوق رأسه بقوة ...
______________ 
القطة المدللة 
حبة قلب أبيها كما دعاها منذ قليل.. ها هيتجلس متكوّمة عند قدمه و هو يلاطفها و يغدقها بحنانه 
بينما أمها قد نزلت خصيصًا لتعد للأميرة الجديدة فطورًا كاملًا 
حمدًا لله أن "فاطمة" طلبت إصطحابها للتسوق، إنها جاهزة الآن، أخيرًا ستخرج من المنزل و تبتعد عن رؤية كل هذا.. عذابًا نفسيًا لا تقوَ على تحمله بالمرة.. إذ بها ما يكفي ... 
-أنا نازلة يا ماما ! .. قالتها "سلمى" و هي تضع حقيبتها على كتفها 
أدارت "هانم" رأسها لتراها جيدًا بينما إنشغلت يدها بخفق البيض المطبوخ ... 
-قولتي لابوكي إنك خارجة ؟ 
قلبت الفتاة المراهقة عينيها مغمغمة : 
-هاطلع أقوله أهو.. هايقول إيه يعني ! 
-هو إيه هايقول إيه دي ؟ لازم تقولي له و تستأذني منه 
تأففت "سلمى" بضيقٍ ... 
-خلاص يا أمي خلاص. هو أنا قلت هاخرج منغير أذنه.. أديني رايحة استأذنه ! 
و خرجت للصالة ؛ حيث لا يزال أبيها يكيل المحبة لأميرته الصغيرة، يسقيها لها كما لو بملعقةٍ ... 
-بابا ! .. نادت "سلمى" بجفافٍ واضح 
نظر لها "سالم" من فوره، يخصها بنظرة الحب المعهودة قائلًا : 
-قلب أبوكي. فينك يا سلمى ؟ مش سامعة صوتي و لا إيه ماطلعتيش تشوفيني ... 
و شملها بنظرةٍ فاحصة مستطردًا : 
-و لابسة كده ليه ؟ 
عبست "سلمى" و هي تخبره بايجازٍ متحاشية النظر لمنافستها الجميلة : 
-بعد أذنك هاخرج مع بطة في مشوار للسوق 
-قصدك فاطمة مرات أخوكي ؟ 
-أيوة.. مصطفى كلمني إمبارح بليل و طلب مني أروح معاها عشان في حاجات ناقصاها و عايزة تنزل تشتريها من وسط البلد 
اومأ "سالم" متفهمًا، ثم حانت منه إلتفاتة نحو "نور".. مسد على شعرها متمتمًا : 
-تحبي تنزلي معاهم يا نور ؟ 
لم تتوتر ملامح "نور".. لكنها رفضت بتهذيبٍ لإدراكها وجود مشكلةٍ ما بينها و بين أختها : 
-لأ يا بابا. أنا عاوزة أقعد معاك.. انت واحشني أوي 
إبتسم "سالم" و هو يقبلها على خدها برقةٍ ... 
ينفتح باب إحدى الغرف الآن، و تخرج "نسمة" حاملة رضيعتها على ذراعيها، أظهرت بعض التردد و هي تقبل على الأسرة قائلة بخفوتٍ : 
-صباح الخير ! 
رد عليها الجميع عدا "سالم" 
إلا أنه ظل ينظر لها بعينيها دون أن يطرف له جفن ... 
و قبل أن تجلس "نسمة" لتستريح، أستوقفها "سالم" بجمودٍ : 
-هاتي البت عندي ! 
أجفلت "نسمة" من زعقته الآمرة، لكنها أذعنت له في الحال و مشيت صوبه، وضعت الرضيعة النائمة بين ذراعيه الممدوتين، أبتعدت عنه بسرعة و ذهبت لتجلس بالقرب منهم 
ينشغلا كلًا من "سالم" و "نور" بمراقبة الرضيعة "كاميليا" و الاهتمام بها ... 
جرس الباب ينقذ "سلمى" هذه المرة، فتركض لتفتح، و إذا به "علي".. يلقي عليها بتحيته : 
-إزيك يا سلمى ! 
-الحمدلله يا علي كويسة. تسلم 
-جاهزة ؟ فاطمة مستنية تحت في عربيتي 
-هو انت إللي هاتوصلنا ؟ 
-و أنا إللي هارجعكم كمان ! .. و صوّب ناظريه تجاه الداخل حيث يجلس عمه و صاح : 
-سلام يا عمي 
يرد "سالم" بصوتٍ عالٍ دون أن يتحرك قيد أنملة : 
-أهلًا يا علي.. تعالى خش 
و كأنها مغناطيس إجتذب عينبه فورًا، رآها تجلس بجوار أبيها، إشتبكت نظراتيهما للحظاتٍ معدودات، ثم قطعها "علي" بأسرع ما أمكنه ليرد على عمه : 
-الله يخليك يا عمي. مستعجل بس عشان ألحق أرجع البنات قبل الليل 
-ماشي يابني. خلي بالك منهم.. و سلمى زي عينيك يا علي 
قال "علي" و هو ينظر بالأرض احترامًا : 
-ماتقلقش.. هارجعها لك زي ما خدتها ! 
سارعت "سلمى" بالمضي للخارج و تبعها "علي" بعد أن طلب الرخصة، بينما تحدق "نور" في إثرهما الفارغ متحسّرة، إنها بلسانها رفضت الذهاب معاهم 
فقط لو كانت تعرف أن "علي" سيكون ضمن الخطة، لكانت وافقت بلا ترددٍ.. يا للحظ ! 
______________
تثاءب بصوتٍ رخو و هو يمشي بكسلٍ إلى غاية دورة المياه، وقف عاري الجزع أمام المرآة، فقام أولًا بتحضير فرشاة الأسنان و ملء كأسًا باردًا من الماء لتأدية روتين الصباح الأول 
ما كان ليتوقع أيّ شيء غريب، لكنه إذ ألقى بنظرةٍ عابرة على إنعكاسه بالمرآة فزع بادئ الأمر و قرب وجهه أكثر بينما عيناه تتفحصان صدره العريض الذي تم وسمه بأحمر شفاه، أو تدقيقًا.. شفاة زوجته نفسها قد تمت طباعتها على جلده البرونزي الفاتح، و أيضًا تلك الكتابة باللون الزهري "aşkım ben seviyorum".. "حبيبي أنا أعشقك" 
أشرق وجهه بابتسامته الجذّابة لحظة وقوع بصره على تلك الجملة التي فهمها من أول وهلة، و كيف لا يفهمها ؟ 
و هي اللغة الأم لوالدته العزيزة، و إحدى اللغات التي حرص جده الباشا على تعليمه إياها نسبة لأصولهم التركية.. و لكن من أين عرفت ؟ حقًا.. النساء ... 
-عرفتي منين ؟ .. هتف "رزق" و هو على وضعه دون أن تهتز منه شعره 
كان قد أحس باقترابها، في الوقت الحاضر لم يكن ينظر إلا لإنعاكسه، بينما تقبل "ليلة" ناحيته بتبخترٍ ملفوفة في رداء الاستحمام، و منشفة معقودة فوق رأسها 
تمتمت و هي تستقر خلفه مطوّقة خصره الصلب بذراعيها النحيلين : 
-عيب لما تسأل ست سؤال زي ده. خصوصًا كمان لو كانت الست دي أنا.. مسألتش نفسك أنا عملت إيه طول 6 شهور إللي غيبت فيهم ؟ حبيبي.. أنا حفظت تاريخ حياتك كله !! 
كانا يتبادلان النظرات فيما بينهما بالمرآة، و لم تخفَ عنه لمعة الخبث المعهودة بعينيها، ليرد عليها بايماءة خفيفة من رأسه : 
-و اللوحة الجميلة إللي رسمتيها على رقبتي و صدري دي كانت من ضمن الدراسة ؟ بتستغفليني و أنا نايم يا ليلة ؟! 
إنتفضت قافزة للخلف بلحظة، حين أحست بتحفز جسمه أسفل لمساتها، أدركت نواياه في الحال 
يلتفت "رزق" صوبها الآن، يتقدم منها و ابتسامة شريرة تزين ثغره، تتقهقر هي بدورها مبادلة إياه الابتسامة نفسها ... 
-أفردي مثلًا كنت صحيت على مصيبة و نزلت وسط الخلق و شافوني كده. يبقى شكلي إيه ساعتها ؟ أقولك أنا.. هابقى راجل هُــــــززززززؤ. تــــعالـيلي ... 
كانت قد إستدارت في طرفة عينٍ و أطلقت لساقاها الريح راكضة منه بأرجاء الشقة و هي تصرخ و تضحك في آنٍ 
وقفت أمامه عند أقصى طاولة السفرة، أما هو يناورها من الجهة الأخرى مهددًا بخشونة : 
-ليلة. تعالي بالذوق.. لو مسكتك إنتي حرة ! 
هزت رأسها بقوة طفولية : 
-لأ.. مش جاية. وريني هاتعمل إيه !! 
رفع حاجبه : بقى كده.. طــــــيب ... 
و أطاح بأحد مقاعد الطاولة بعنفٍ ليندفع نحوها، لم تكاد تبتعد خطوتين، إلا و أمسك بها، فصرخت برعبٍ و هو يطرحها فوق اللوح الخشبي للطاولة الكبيرة، شلّ حركتها بجسمه الضخم و ضغط معصميها معًا في يدٍ واحدة فوق رأسها 
تلهث "ليلة" مرحًا و هي تتحداه بنظراتها، بينما يرنو إليها مبتسمًا بانتصارٍ و قد نجح أن يكون بالقمة محطمًا إرادتها 
المنشفة التي كانت تلف رأسها الآن سقطت، ليتبعثر شعرها الرطب حول وجهها معطيًا إياها مظهر صبياني مثير ... 
-مفكراني بجد مش هقدر عليكي زي ما قولتي إمبارح ؟! .. غمغم "رزق" و لم يكن يبعد وجهه عن وجهه سوى بضعة سنتمترات قليلة 
و من جديد و هو يستعمل يده الحرة، أطبق على عنقها بأصابعه الغليظة و هو يتسطرد بنعومةٍ : 
-إنتي لسا ماتعرفنيش كويس.. أنا رزق الجزار ! 
-إنت حبيبي ! .. همست بهيامٍ قبل أن تضع قبلة فوق ذقنه 
أقرب نقطة تمكنت من الوصول إليها ... 
رفرفت جفونه و قد أربكته كلمتها و تحريف مسار النقاش كله، هذه المرة هو من تقهقهر عن دفاعاته، إذ حرر معصميها و أخذ يمسح على شعرها و يداعب خصيلاتها دون أن يقطع إتصالهما البصري 
كذلك هي حافظت على ذلك الترابط، حتى و هي تميل رأسها قليلًا حيث يدها الممسكة برسغه القوي، طبعت قبلة عميقة في باطن راحته و هي تنظر في عينيه 
عبست فجأة عندما لامست أنامله مادة غريبة، و هنا حوّلت ناظريها، لترى ذاك السوار الغريب الذي أحاط برسغه، ذهبي اللون، دبق، و كأنه خصلة من الشعر !!! 
-إيه الإسورة الغريبة دي يا رزق ؟!! .. سألته بفضولٍ حقيقي و هي تتفحصها عن كثب 
-دي مش إسورة ! .. جاوبها بجفافٍ مفاجئ 
عاودت النظر إليه، لكنه إرتد عنها محاوطًا على رسغه المعني بيده الأخرى و كأنه يكنف شيء ثمين ... 
اعتدلت جالسة فوق حافة المائدة و هي ترمقه بتساؤل.. ليفصح لها بعد برهة صمت : 
-دي خصلة شعر 
أكفهرت ملامحها و هي تستوضحه بغيرة بَيّنه بنفس اللحظة : 
-خصلة شعر ؟ خصلة مين بقى إن شاء الله ؟؟؟! 
كست المرارة وجهه و لهجته و هو يخبرها : 
-أمي.. خصلة شعر أمي ! 
بهتت "ليلة" من المفاجأ غير المتوقعة، تزحلقت من على المائدة، تقربت منه وئيدًا، وضعت يد خلف رقبته، و أخرى على صدره.. أسندت جبينها فوق جبينه و همست بصوتٍ ملؤه التعاطف : 
-تعيش و تفتكرها.. ماكنتش أعرف إنك بتحبها أوي كده. عارفة إنك إتصدمت صدمة عمرك بسببها.. مقدرة كويس أوي إللي مرّيت بيه يا رزق 
رأته يهز رأسه بقوةٍ و هو يغمغم بلهجةٍ معذّبة : 
-محدش ممكن يحس باللي حاسس بيه.. محدش !! 
هاودته و وافقت على كلامه مهدئة إياه، بقيت على هذا المنوال لبرهةٍ.. ثم حاولت أن تسأله برفقٍ : 
-إنت قريت الجواب إللي سابته ليك ؟ 
أبعد وجهه عنها قليلًا لينظر جيدًا إلى وجهها 
إستوضحها : منين عرفتي إنها سايبة جواب ؟؟ 
أجابت واثقة : يوم ما مشيت. قبل ما تخرج من الأوضة لما كنت بتتخانق مع أبوك صوتكوا كلن عالي.. كلنا سمعنا كل حاجة 
لم تنفك عقدة جبينه، رغم هذا أرضى فضولها : 
-لأ لسا ما قريتش حاجة 
واصلت بجرأة : ليه ؟ 
صمت لهنيهة، ثم قال بصراحة مخيفة : 
-خايف ! خايف من كلامها.. حاسس إني ممكن أشوفها و أنا بقراه. أو أسمع صوتها.. أنا خايف أواجهها يا ليلة 
كررت نفس الاستجواب لمعنى آخر : 
-ليه ؟ 
كانت قبضتها تشد على يده الآن و هو يخبرها طواعيةً : 
-لأني فشلت. فشلت في حاجات كتير أوي.. فشلت أحميها. و فشلت أكون زي ما هي كانت عايزة.. و فشلت أحمي أختي من سالم الجزار. هما الاتنين.. ماقدرتش أحميهم منه ! 
-بس إنت ماكنتش تعرف حاجة. و ماينفعش تفضل عايش مع الأفكار دي.. لازم تخرج منها يا رزق 
-إزاي ؟!!! .. توسلها بيأس لتقدم له نصحًا بهذا الشان 
رقت نظرات "ليلة" و هي تحيط وجهه بكفيها قائلة : 
-بالمواجهة.. لازم تواجه شياطينك دي كلها. لازم تاخد الصدمة الأخيرة إللي مش مخلياك قادر تتوازن لسا أو تاخد قرار.. لو عاوز تشفا. لازم تواجه يا رزق... ده كان علاجي. و دلوقتي أنا بقدمه ليك يا حبيبي ! 
___________________
على عكس الليلة الماضية التي أفاضت بزوابعها و أمطارها التي عصفت بجدران المنزل و الحي كله ... 
بدت هذه الليلة صافية، رائقة، تنذر بموّدة و حميمية، و تعد بالكثير 
بينما هو جاهل تمامًا بما ينتظره، ولج "مصطفى" إاى شقته بعد يوم عملٍ شاق و قضاء النهار كله بمشاوير عدة، كان منهكًا إلى أقصى حد و جل طموحه أن يجد ما يسد رمق جوعه ثم أحد يدله على الفراش 
لكنه أيضًا كان يعلم بأنه و زوجته مدعوين إلى طعام العشاء بشقة أبيه، لذا كبح تأملاته و وأد تثاؤبًا و هو يلقي بمفاتيحه جانبًا ... 
-بطـــة ! .. صاح مناديًا حين جذبته الروائح الشهية صوب حجرة الطعام 
إندهش لما شاهد كل هذه الصنوف المعدّة تحت اضواء الشموع العطرة، و امتلأ رأسه بالتساؤلات !!! 
استدار خلفه عندما سمع وقع خطواتها الخفيفة، لكنه صعق، كاد يُقسم أن التي يؤاها ليست بزوجته.. امرأة تشبيها، لكن قطعًا ليست هي 
فمنذ متى رآها تتزين و تتجمل في وجوده ؟؟؟؟ 
كانت قد تجمدت مكانها لحظة إلتفاته الكامل نحوها، لم تبدي خوفها، لكن ارتباكها كان جليًا له، ما لم يمنعه عن سؤالها : 
-هو في إيه بالظبط ؟ 
هزت كتفيها ببلاهةٍ : 
-إيه يا مصطفى.. مش فاهماك !! 
-إيه إللي إنتي عاملاه في نفسك ده ؟ و إيه الأكل ده.. إحنا مش معزومين عند أبويا ؟ 
الإتيان على سيرة هذا الرجل كان يصيبها بالجنون، لكنها تمالكت أعصابها جيدًا لتقول له بقليلٍ من الانفعال : 
-لأ مش هانروح في حتة لا أنا و لا انت 
قطب حاجبيه منزعجًا من اسلوبها، لتصلح الوضع فورًا قائلة : 
-قصدي إن الليلة دي مش حابة نقضيها برا شقتنا ! 
و عضت على شفتها بقوة مقسرة نفسها على الاكمال و كأنه تبتلع دواءً مُرًّا : 
-أنا عايزة أكون معاك. و مش عايزة حد يقاطعنا.. إنت ممكن تتصل بيه و تستأذنه. ممكن تقوله إني تعبانة مثلًا و إنك قاعد جمبي. أو العكس ! 
-و ليه كل ده ؟؟!!! 
و هي متدثرة بروبًا من الحرير وردي اللون، أقبلت عليه تحت الإنارة الخافتة لحجرة الطعام، رأسها المنكس ينم عن خجلٍ خاصةً و أنها قد تركت شعرها ينسدل فوق وجهها من الجانبين ؛ 
أخذت تتقرب منه طواعيةً على غير العادة، الأمر الذي أذهله و جعله يقف كالحجر لا يأتِ بأيّ حركة، فقط يترقب خطوتها التالية، و التي بدرت منها أسرع مِمّا توقع، حيث مدت يدها و قبضت على كفه الضخم، ثم أظهرت يدها الأخرى إذ كانت تُخبئها خلف ظهرها 
وضعت في كفه تلك العلبة الصغيرة المُغلفة بأوراق الكورشيه و هي تقول بصوتٍ يرتجف كورقة شجر آيلة للسقوط : 
-كل سنة و إنت طيب يا مصطفى.. إنهاردة عيد ميلادك ! 
و الحق يكاد يُقسم بجميع المقدسات بأنه فعلًا لا يصدق أيًّا من هذا !!!! 
وجد أصابعه من تلقائها تحل الأربطة عن العلبة، ليفتح غطائها بسهولةٍ و يرى بداخلها ساعةٍ رقمية باهظة الثمن تحتضن القاعدة الاسفنحية السوداء 
رفع وجهه محملقًا بها بغير تصديقٍ ... 
-إنتي نزلتي عشان تشتريلي هدية عيد ميلادي ؟ 
اومأت له بصمتٍ، فتابع : 
-و طابخة لابسة و متزوقة كده.. كل ده عشاني أنا ؟ 
اومأت مرةً أخرى، لتختلج أنفاسه بعنفٍ داخل صدره للحظة قبل أن يقول بنشاطٍ متأثر و قد طار كل التعب و الانهاك الذي حلّ به : 
-يـااااااااااه يا فاطمة... أخيرًا.. أخيرًا داب جبل التلج إللي ما بينا. أنا مش مصدق.. يعني. يعني أنا بجد.. ممكن.. أقدر ألمسك دلوقتي حالًا. تسمحي لي ؟!! 
للمرة الثالثة، أومأت له دون أن ترفع عينيها إليه، فلم يضيع لحظة، ترك هديتها جانبًا و عبر المسافة القليلة بينهما ليأخذها بأحضانه و يضمها بانفعالٍ و شوقٍ عارم و هو يتأوّه و يهمس لها بعشقٍ : 
-أنا كنت مستنيكي. طول عمري مستنيكي.. لما رجعتيلي تاني مايأستش.. كل يوم و كل ليلة كنت على أمل إنك هاتحني عليا.. هاتحسي بيا ... 
كانت ترتجف بين ذراعيه و تذرف الدمع في هدوء، مع تعاقب الكلمات التي راح يدلي بها قرب أذنها، و هي تتنفس الهواء ممتزجًا برائحته التي لا تثير فيها إلا الخوف و كل المشاعر المرعبة التي عاشتها على يديه بتلك الليلة المشؤومة 
بدون أن تشعر وجدت لسانها المتلجلج ينطق بالحقيقة : 
-آ. أنا خايفة يا مصطفى ! 
إنقباضة كادت تسحق فؤاده لدى سماعه تصريحها، غمر وجهه بشعرها المصفف مستنشقًا عبيرها بأقسى ما أمكنه و غمغم : 
-ماتخافيش يا حبيبتي.. بشروطك.. و على راحتك. طالما جيتي برجليكي يا فاطمة إوعي تخافي. أنا هاعمل أي حاجة عشان أسعدك و أريحك و أرجع ثقتك فيا من تاني... أنا بحبك. و عمري ما فكرت أوجعك. و لا هفكر أبدًا وحياة غلاوتك عندي.. مافيش أغلى منك ليا يا فاطمة. إنتي.. إنتي و بس ! 
لعل كلماته لم تؤتى أكلها، لكن حرصها على هدفها المنشود جعلها تسير على الخطة بدفعٍ قسري من داخلها.. و إذ تمكنت من أبعاده قليلًا حيث استجاب لها فورًا 
رآها تفك عقدة الروب و ترخي الحزام، لينزلق الحرير عن كتفيها الناعمين، و يبدو أمام عينيه رداء نومها الاسود الجريئ بقماشه المخرم ... 
بذل "مصطفى" جهدًا لا يُستهان به ليضبط نفسه مراعاة لنفسيتها، همس و هو يثبت ناظريه بعينيه الشاخصتين بترقبٍ : 
-بحبك ! 
واهنًا، حنى رأسه ممسكًا برأسها و ألصق شفاهه بشفاهها في قبلة عميقة.. جائعة.. سرعان ما فعل بها سحرًا خفيًا فعلته، فذابا معًا في غياهب الحميمية المفخخة 
تهدد بحرائق و انفجارات بأيّ لحظة ! .


يتبع الفصل السادس   اضغط هنا 
google-playkhamsatmostaqltradent