Ads by Google X

رواية نزيف الجدران الفصل السابع عشر والأخير 17 بقلم سيد داود المطعنى

الصفحة الرئيسية

   رواية نزيف الجدران الفصل  السابع عشر والأخير بقلم سيد داود المطعنى


رواية نزيف الجدران الفصل  السابع عشر والأخير

لم يأفل الليل حتي استطاع الرائد عبدالرحمن علام ومجموعته مداهمة أحد الأوكار الإرهابية و دمروها علي من فيها وقتلوا أكثر من عشرين شخصا, و قاموا بتمشيط مساحة تتجاوز الخمسين كيلو متر مربع للتأكد من طهارتها من تلك الآفات البشرية التي تفشت في سيناء.
كان عبدالرحمن يقاتل برغبة الانتقام, فقد تبدلت نيته التي أتي بها لمساعدة زملائه في تطهير سيناء من تلك العناصر الإرهابية, و ازدادت مهمته الأساسية برغبة الانتقام للشهيد عمار وزملائه, الانتقام من الأربعة عشر مجندا بريئا الذين طالتهم يد العابثين, لتقيم المأتم داخل بيوتهم, و تنشر الحزن في صدور أمهاتهم, وقلوب آبائهم, ووجوه أشقائهم, و حول المقربين منهم في تلك الحياة.
 وبعد منتصف الليل, وصلت الإشارة إلي عبدالرحمن علام, أن حركة مثيرة تدور بالقرب من الأكمنة العسكرية, و لا بد من خروج دورية للتعامل معها, فأصر علي الخروج معها, فشاهدوا تبادلا لإطلاق النار بين المجندين في ذلك الكمين, و عدد من العناصر الإرهابية كانت تحاول زرع عبوات ناسفة في ذلك المكان, و اندلعت المواجهات العنيفة بينهم و بين المجندين. 
استطاع عبدالرحمن و رفاقه أن يقضوا علي كافة العناصر المجرمة في محيط الكمين الأمني بعد تطويقهم و قنصهم باحترافية عالية, و اعادوا السيطرة علي الكمين, و كتب خطابا لقادته يطالبهم بدعم الأكمنة العسكرية ببعض العناصر القتالية القوية و العمل علي زيادة عدد المجندين في تلك الأماكن, و طلب من القوة المرافقة له العمل علي تمشيط عدد كيلو مترات من المنطقة لربما يكون لهؤلاء المجرمين معاونين ينتظرونهم بالقرب من المكان حتي ينتهوا من زرع العبواتالناسفة.
انطلقت سيارات الجيش في الاتجاه الغربي للمنطقة يستكشف المكان و تحقق تخوفه, فوجد بعض العناصر تقطع شوطا كبيرا في الصحراء وهي تستقل سيارة دفع الرباعي, و أسرع خلفها, وهو يناديهم بالتوقف, فأخرجوا أسلحتهم و تبادلوا إطلاق النار معهم حتي انفجرت سيارتهم, و اشتعلت فيها النيران.
جري الرائد عبدالرحمن ناحيتهم حتي يوقف تلك النيران المشتعلة في سيارات الإرهابيين, يتمني لو يلقي القبض علي أي منهم حتي يعرف منه معلومات عن تلك العناصر ومموليها وقادتها في سيناء, ولكن الأمر كان قد احتدم.
نظر في مقدمة السيارة بجوار السائق فوجد حقيبة صغيرة, فأخرجها و ابتعد عن السيارة التي تتسابق النيران علي الوصول لآخرها. 
و استقل سيارة الجيش و عاد إلي وحدته العسكرية و أبلغ اللواء حنفي السليماني بما حدث, و سلمه الحقيبة. 
                          ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مكث عصام في العزاء لمدة ثلاثة أيام, وهو في حالة من الحزن علي ذلك الشاب الذي فارق الحياة, و علي هذا الأب الذي يسند ظهره علي الحائط و هو يندب حظه و يبكي فراق ولده.
يبكي أشد البكاء علي إخوته الذين يتكلمون بطريقة جنونية أمام الحضور أنهم نادمون علي تجاهلهم لوجوده في حياتهم مسبقا.
يحترق فؤاده علي تلك الأم التي تلحفت السواد, و حملت فوق رأسها التراب, و اكتست الطين, و كحلت عينيها الآلام, و لا زالت تلطم الخدود تتمني لو أن تكون في حلم ليلي كأحلام أبيه.
تأتِ المصائب للأثرياء في أحلامهم, و تطارد المطحونون في واقعهم ليستكملوا بها مسيرة المعاناة.
عاد عصام إلي البيت و هو نادم أشد الندم علي تنازله عن واجبه بتلك السهولة, أي جرم ارتكبه في حق نفسه حينما هرب من الموقعة التي راح ضحيتها فتي تلك الأسرة المكلومة, و أصبح بطلها صديقه ورفيق دربه عبدالرحمن علام.
لا يدري كيف يساعد ذلك الرجل المريض الذي تمزق قلبه علي فقدان ولده الأكثر حنانا عليه, بل كيف يخفف عن تلك الأم التي حرمتها الأيدي العابثة من رؤية فلذة كبدها مدي الحياة, و تلك الأخت الشقيقة التي تتنسم أنفاسه في جامعتها, يرافقها صدي صوته في شوارع القرية ذهابا و إيابا, و تحرسها عينه في كل خطوة تخطوها, بل وتسند علي وجوده في الحياة ظهرها وهي مطمئنة علي ذاك الجدار الذي لا يخذلها أبدا.
                                ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
علي مائدة الافطار في صباح اليوم التالي كان سعد ينظر إلي عصام الصامت يفكر من أين يبدأ معه الحديث.
ــ جهز نفسك يا عصام علشان تقابل المهندس عزت راضي رئيس مجلس ادارة شركة الذهب الأسود للبترول, الراجل منتظرك علشان يسلمك شغلك الجديد و بمرتب عمرك ما كنت تحلم بيه
ــ حاضر يا بابا هقابله, بس أخلص عزاء المجند ده 
ــ مجند ايه تاني اللي هتخلص عزاه
ــ هو نفسه يا بابا المجند الصعيدي اللي مات في رفح
ــ مش خلاص يا بني العزاء خلص وانت اخدت تلات ايام في الصعيد
ــ لا يا بابا, لسة أمه مجروحة و أبوه تايه عن الدنيا, لسة اخته مصدومة
ــ يا ابني قدرهم كده, و في 13 مجند غيره ماتوا هتعمل معاهم كده بردو
ــ ده بالذات ظروفه صعبة جدا و ظروف أهله صعبة, مش كفاية إن الشاب ده يموت, وأنا هربت من واجبي.
ــ يا دي واجبك اللي مش عايزة تنساه ده, ما انت عملت واجب لما رحت للولد, و هتقوم بواجبك بردو لما تروح شغل شركة البترول .
ــ مستحيل اللي هرب من الواجب الأكبر هيعمل واجب تاني في حياته يضاهيه يا بابا, وأنا بفكر أتجوز أخت المجند ده, حتي لو هستني سنة كاملة علي استشهاده.
ــ تبقي اتجننت يا عصام وعايز تطلع عين أهلي معاك, حرام عليك يا ابني اللي بتعمله فيا ده
     انفعلت راندا ونظرت لوالدها, تتمني أن يرفق قليلا حتي لا ينسي أمر خطبتها..
ــ بابا, ممكن نتكلم عن موضوعي النهاردة لو سمحت
ــ حاضر يا راندا حاضر... أختك خطوبتها بعد بكرة يا عصام
ــ ألف مبروك يا راندا
ــ الله يبارك فيك يا عصام
ــ طبعا لازم تكون موجود, علشان تكون مع أختك 
ــ حاضر يا بابا هكون موجود بإذن الله
ــ و النهاردة هتروح هي و سمر و رائف يشتروا لوازم اليوم ده, يا ريت تروح معاهم 
ــ حاضر يا بابا
ــ و بالليل توصلهم بيت زكريا شنودة 
ــ و ليه ده كمان
ــ علشان النهاردة الإكليل بتاع بنته مريانا, و اخواتك عايزين يحضروا
ــ بس الإكليل في الكنيسة مش في البيت
ــ خليهم يطلعوا معاهم من البيت
ــ حاضر يا بابا هوصلهم
ــ و الساعة 11 تتكرم و تروح تجيبهم
ــ حاضر يا بابا 
ــ عارفك متضايق من جواك من كتر الطلبات دي, بس دول اخواتك
ــ أنا معترضتش يا بابا, حاضر هعمل كل ده من عنيا
   خرج سعد إلي عمله, و قام عصام إلي غرفته ليستكمل نومه الذي فارقه منذ عودته من الصعيد.
                     ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طارت راندا إلي جامعتها كما تطير الفراشات بين زهور البساتين, تعد الدقائق والثواني علي تلك اللحظة التي تنتظرها منذ أن التقت بزياد أول مرة.
لم تدخل إلي مدرجات الكلية, حتي لا يراقب زملائها فرحتها فيحسدونها عليها.
و عادت إلي البيت و هي تفتح ذراعيها كالطفلة تحتضن الحياة, و كأن تلك اللحظات القادمة هي الأسعد في حياتها منذ أن ماتت أمها لتتركها لوحدتها تعاني ألم اليتم و شرود الفكر, رغم كل ما يقدمه لها أبوها.
حتي عصام الحزين, ابتسم لأول مرة منذ أيام, بعد أن خرج مع اخوته للتسوق, انشرح صدره عندما رأي الفرحة تملأ عيون راندا وهي تختار كل ما يحتاجه حفل الخطوبة, و سمر و رائف يبادلانها الرأي بل ويفرضان اقتراحاتهما في بعض الأشياء.
عصام يضع يده اليمني فوق اليسري علي صدره, و هو يراقبهم بابتسامته العريضة في كل محل يدخله معهم.
ــ و الله كنت خايف انك تكون متضايق يا عصام من خروجك معانا
ــ عيب يا راندا تقولي كده, انتي روحي يا بنت
ــ تسلم لي يا أغلي حد ليا في الدنيا دي كلها
ــ أغلي حد في الدنيا دي كلها, طاب عيني في عينك كده
    هربت راندا خجلا من نظرة عصام التي تعني أن زياد هو الأغلي عندها الآن
ــ ده لا زم تخليه أغلي حد عندك في الحياة يا راندا, لازم تحافظي عليه.
ــ أكيد طبعا يا عصام
   ابتسم لها عصام و احتضنها يربت علي كتفها لتلمس في قلبه تلك الفرحة التي تكسوه لخطبتها.
و في المساء رافقهم إلي منزل زكريا شنودة المحامي صديق والده, وأخبرهم بأنه سيعود إليهم بسيارته في الحادية عشرة حتي يكونوا علي استعداد بالقرب من مدخل الكنيسة.
                         ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت السعادة هي حليف سعد تلك الليلة, كان فرحا بقدرته علي حماية ولده من خطورة الذهاب إلي رفح, و كان أكثر سرورا باستطاعته اخراجه من حالة الحزن عندما خطط لوضعه وجها لوجه مع أخته يشاركها فرحتها في كل خطوتها تخطوها.
كان يشعر بنشوة النصر و هو يجلس جوار عصام يتناولان القهوة سويا أمام التلفاز.
ــ و الله يا عصام يا ابني وجودك بين اخواتك ده بالدنيا و ما فيها, تخيل لو حصل لك حاجة لا قدر الله في رفح, كانت أختك المسكينة دي هتفرح في حياتها.
ــ لكل أجل كتاب يا بابا
ــ بس انت شفت فرحتها عاملة ازاي النهاردة, حرام تنحرم من أمها السنين دي كلها, و تروح انت تخليها تعيش في كآبة باقي حياتها و هي داخلة علي مرحلة منتظراها من طفولتها.
ــ ربنا يسعدها في حياتها يا رب, و أنا أفدي ضحكتها بروحي.
التفت عصام إلي هاتفه المحمول فوجد اتصالا من صديقه الرائد عبدالرحمن علام 
ــ ألو .. ازيك يا عبدالرحمن, عامل ايه؟.
ــ تمام يا عصام, بقولك ايه!
ــ خير!
ــ مسمعتش أي أخبار عن جماعات مسلحة في المنطقة بتاعتكم أو المناطق المحيطة بيكم
ــ إطلاقا يا عبدالرحمن, هو في حاجة ولا ايه؟.
ــ امبارح اشتبكنا مع عناصر ارهابية وقتلناهم كلهم, و لقينا معاهم شنطة فيها فلوس وفيها ورق بأسماء ناس مرشحة للقيام بأعمال تخريبية في عواصم المحافظات الكبري, و التحريات أثبتت من شوية إن من ضمن الأسماء المرشحة في الورق شباب من منطقتكم, دلوقتي حالا و عرفنا إن أبرز مكان عندكم هو الكنيسة الكبيرة.
ـــ الكنيسة؟! 
  تغير وجه عصام و اصطكت أسنانه, و انتبه له والده عندما سمع كلمة الكنيسة.
ــ دي في الاحتمالات, و احنا بلغنا القيادة دلوقتي, و الداخلية هتقوم باللازم.
ــ أنا اخواتي التلاتة في الكنيسة يا عبدالرحمن, معلش هستأذنك 
   عصام يسرع ناحية باب الخروج من المنزل ..
ــ حصل إيه يا عصام يا ابني؟
ــ في احتمالية لتفجير الكنيسة اللي ورا شارع زكريا شنودة يا بابا
ــ ولادي!!! 
    خرج الاثنان وهما في قمة التوتر, وقاد عصام السيارة بجواره و سعد يلطم كالنساء المكلومات, وهو يتصل علي تليفون راندا, ولكنها لا تجيب.
ــ دوس بنزين يا عصام, دوس بنزين, ولادي هيروحوا مني يا عصام
ــ الشوارع زحمة يا بابا, اتصل بيها تاني الغبية دي يمكن ترد
ــ دوس أي حد قدامك يا عصام., ولادي هيروحوا مني, دوس يا عصااام
  اخترق عصام كافة الأكمنة المرورية, و كسر اشارات المرور, وبالغ في السرعة بطريقة جنونية.
سعد يبكي وهو يرى يشعر بالعجز عن الطيران فوق كل تلك السيارات، يعجز عن إجبار الهاتف على إحضار راندا وإخوتها.
هل حقا ما تشعر به يا سعد؟
هل تكاد تفقد كل فلذات أكبادك في لحظة واحدة هكذا؟
راندا هناك .. راندا الأم والابنة والأخت الزوجة هناك يا سعد..
راندا تحت ركام الكنيسة .. ستموت بعد قليل يا سعد .. هل ينقذها طمعك في احتكار الرفاهية لك ولأولادك؟
راندا الابتسامة التي يطمئن لها قلبك، وتركن إليها روحك هناك .. على بعد أمتار من العبوة الناسفة التي وضعها الإرهابيون يا سعد.
أين دهاؤك الذي أثرا به على قرار سمر فتراجعت عن رحلة جبل الطور؟ أين قوتك التي هددت بها مدير مدرسة رائف ليمنحه تصريحا بالغياب حتى نهاية العام؟
أين القوة التي امتزجت بالمكر التي سخرتها في إخضاع عصام لسلطتك لينفذ رغبتك فيستقيل من عمله؟ ليتراجع عن أداء واجبه؟
أين أنت يا سعد؟ 
هل تسمع طرقات القدر؟
سمر هناك بين ألسنة النيران، وصراخ المحاصرين، ومشاهد المستغيثين ومحاولات المسعفين.
سمر هناك يا سعد .. قد تموت .. قد تلقى بين أصوات الانفجارات أشد ألوان العذاب.
سمر التي حرمتها الحنان في حياة امها .. والآن تحرمها الحماية .. بل يحرمها جشعك وأنانيتك من الحياة.
أين أنت يا سعد من أولادك؟
أراك لا تخبرني .. ألا تعلم أني صوت ضميرك؟ فهل تجيبني؟
لم يكن همك في الحياة سوى جمع المال وحماية النفس والأولاد، ولو على حساب دماء المعذبين من ذلك الشعب المكلوم.
لم يكن يهمك للحظة واحدة موت ذلك المجند الصعيدي الفقير، وقلت أنه ذهب لمصيره، أما أنت كانت لديك القوة لتحمي ولدك من لقاء هذا المصير.
لم يكن الوطن بالنسبة لك سوى ذلك المرتع الذي تفرح فيه وتمرح أنت وأولادك، تحاول أن تشتري فيه السعادة بالمال، والقوة، ولو على حساب الآخرين.
لم يشكل لك الوطن أمرا هاما، كي تدفع بنفسك أو أحد أولادك لحمايته، بل كان لسان حالك دوما أن يذهب الوطن إلى الجميع.
هل تسمعني يا سعد؟ هل تعرف أن رائف هو الآخر هناك؟
نعم .. رائف تحت سقف الكنيسة، وبين جدرانها، وتحت وطأة تلك العصابات المجرمة التي تنشر الفساد في الأرض.
هل تدري من تلك العصابات يا سعد؟
هي أنت .. نعم أنت .. أنت الذي تمد يدك بالغدر لكل مؤسسات هذا البلد، تقتل فيه الفقير والصالح، لتحمي نفسك، وتتمتع بالنعيم وحدك بين أولادك.
عندما تقسو عليك الحياة، تسرع إلى قبر وردة تستغيث بها، وقد أضحت رفاتا، ماذا تنتظر أن تقدم لك زوجتك وقد فارقت الحياة؟
هل ستسمع لها تلك المرة إن أسدت إليك النصيحة؟
هل تنفذ ما تأمرك بها؟
أم أنك كعادتك معها تجعلها تفضي إليك بأعظم الحلول، فتنأى عنها، ولا تسمع سوى صوت عقلك، وإن أخطأ عشرات المرات؟.
عجبت لك يا سعد .. عجبت لك وقد عهدتك دائما متخاذلا في حقوق من حولك .. إلا حق نفسك  الذي تهلك لاقتناصه كل من حولك.
فلتسرع به يا عصام .. أسرع به يا ولدي .. فأنا أراك أحد ضحاياه.
أنت ضحيته الثانية بعد زوجته وردة التي قتلها عشرات المرات بجشعه وهو يظن أنه يحبها، ولم يكن يحبها، بل كانت سندا له، ومن منا لا يهوى خلود السند؟
أسرع يا عصام لتنقذ جيرانك من فلذات كبد أمك .. ولتغفر لأبيك عن تلك الطعنات التي تركها في صدرك بعد أن استغل عشقهم لك، وخوفهم عليك، ليكونوا ورقة الضغط على ضميرك، فتخالفه لأول مرة في حياتك.
نعم يا عصام .. أنا ضمير أبيك وألتمس لك ألف عذر .. لكني أنا الشاهد الوحيد على خضوعك لتأثير قوة أعظم من تلك الحجة التي قدمتها لقادتك حتى يقبلوا استقالتك.
أسرع يا عصام .. سأتركك الآن لأبيك وللطريق المفتوح أمامك .. أما أنا فلا يهمني إن كانت راندا على قيد الحياة أم فارقته، ولا تهمني حياة سمر، ولا بقاء رائف من عدمه.
وصل سعد وعصام إلى الشارع المستهدف، وتوقفت السيارة لشدة الزحام، فقد تكدس الشارع بسيارات الإطفاء والإسعاف والشرطة.
نزل سعد و هو يتصل علي راندا ولكن أصوات الناس في الكنيسة أعلي من صوت رنات هاتفها.
تقدم سعد يسمك بيد عصام ناحية الكنيسة ولكنها انفجرت في تلك اللحظة, و اشتعلت فيها النيران, و علا صوت الصراخ.
حمل عصام والده و جري به بعيدا عن موقع الانفجار حتي وصلا إلي مكان السيارة.
نظر سعد إلي الانفجار وحاول أن يجري ناحية الكنيسة وهو يصرخ, و عصام يمسك به وهو يبكي:
ــ يا راندا, يا سمر, يا رااااااائف
ــ استني هنا رايح فين, سيبني أتصرف أنا
ــ ولادي راحوا يا عصام, ولادي راحوووووووووا 
ــ خليك جنب العربية هنا و أنا هدخل لهم يا بابا, أرجوك متتحركش
   اجتمع الأهالي المحيطيين بالكنيسة, واخترق عصام الكنيسة رغم اشتعال النيران, والأهالي يحاولوا اثناؤه عن الدخول, ولكنه صرخ في وجوههم واقتحم الكنيسة وهو يصرخ.
ــ يا راندا, يا رااااائف, راندااا
صيحات الموجودين بالداخل تتعالي, وكانت النيران تحاصر غرفة الإكليل, وسمع أصوات من دائرة النيران تناديه
ــ إلحقنا يا عصام, يا عصاااااااااام
ــ في صندوق مطافي علي شمالك يا أستاذ عصام, أرجوك إكسره و اعمل أي حاجة
 التفت عصام حوله, وكسر صندوق الإطفاء و فتح المياه التي اندفعت صوب النيران المشتعلة وكأنها تتزايد مع كل قطرة ماء تنزل عليها, فجعل عصام هدفه السيطرة علي متر واحد من النيران حتي يستطيع المحاصرون الخروج من خلاله, و بالفعل نجح عصام في اخماده, فانطلق المحاصرون منه يخرجون, ودخل عصام بين النيران, فوجد راندا في حالة إغماء تغيب عن الوعي, و حوله سمر ورائف يصرخان, فحملها عصام وخرج بها مسرعا إلي الشارع وخلفه اخواته, وحوله نساء ورجال الكنيسة يسرعون الخطي نحو باب الخروج.
وصلوا جميعا إلي الخارج, وكانت سيارات الاطفاء والإسعاف تملأ المكان, فوضع عصام أخته راندا داخل الإسعاف, للإسراع بها إلي المستشفي, وركب معها, وتبعه سعد  ومعه سمر ورائف.
وقبل أن تصل الإسعاف إلي المستشفي كانت راندا قد فارقت الحياة, والطبيب الشاب ينظر لعصام و هو في حالة من التردد.
ــ اللهم لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
ــ في ايه يا دكتور؟
ــ الأنسة في ذمة الله.
ــ انت بتقول ايه؟
ــ لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
ــ انت تخرس خالص متتكلمش, دوس بنزين يا اسطااااااااااااااا
  أخذ عصام يربت علي خدها يحاول افاقتها
ــ راندا, يا راندا, قومي يا راندا, أنا عصام, قومي يا بابا ما تموتيش دلوقتي, يا راندا, راندا
ــ استهدي بالله يا أستاذ.
      صرخ عصام صرخة مدوية واعتصر اخته في حضنه وهو يبكي بنحيب
ـــ متموتيش يا راندااااااااااااا, يا بنتيييييييي, والله بنتي مش اختي, يا بنتي, يا رانداااا
   وصلت الاسعاف إلي المستشفي, وفتح الباب و نزل عصام يبكي ويحمل الناقلة مع المسعفين, ونزل سعد من سيارته يري تغير ملامح وجه عصام.
ــ بنتي مالها يا عصام؟ أختك مالها؟.
ــ راندا ماتت يا بابا, راندا ماتت, انت قتلت راندا يا بابا, قتلتها ليه يا بابا
  فقدت سمر الوعي و سقطت علي الأرض مغشيا عليها, وجري سعد إلي المستشفي خلف ناقلة راندا, وعصام يحمل أخته الصغري ويجري بها إلي الداخل, ورائف يتبعهم صامتا بلا بكاء, بلا دموع, بلا التفاتة, دون أن تتغير ملامح وجهه؟.
  ماتت راندا بسكتة قلبية, و أصيب سعد بصدمة عصبية, وجاءت سيارات الاسعاف من محيط الكنيسة وهي تحمل ماريانا عروس الليلة وهي جثة هامدة قد خطفها الموت لتلحق بصديقتها راندا, وعشرات الجرحي يملأون غرف المستشفي.
صرخ عصام في وجه والده و هو في حالة من الغضب:
ــ فضلت تحبس فيهم و تخليهم جنبك علشان حلم, وحرمتني من واجبي علشان حلم, فاكرنا هنبقي في الأمان لما نتخلي عن واجبنا, فاكرنا هنبقي في الأمان جنبك, آدي الارهابيين قتلوا المجندين في سيناء, وجوم لحد عندك علشان يخطفوا زهرة بيتنا, لو أنا في رفح يا بابا كنت منعت العناصر دي تيجي لحد هنا, حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا بابا, حسبي الله ونعم الوكيل فيك.
لم يستطع سعد الكلام، ولم يتمالك عصام نفسه وهو يصرخ في وجه والده. 
بدا واجما ينظر في وجوه من حوله كالمجنون، يبحث في الوجوه عن راندا، يتمنى لو كان هو المصاب بين جدران الكنيسة، وما كانت راندا.
ليته مات قبل أن يدمر كل شيء، ماتت راندا قبل أن تسعد بذلك الحب الذي وهبتها له الحياة .. قبل أن تزف بفستانها الأبيض الذي طالما حلمت به .. قبل ان ترى والد زياد الذي رحب بها قبل أن يراها.
ماتت راندا وهي تحمل بين يديها أباريق السعادة التي كانت تصب منها كل صباح، كأسا لأبيها قبل أن يخرج إلى عمله، وكؤوسا لسمر ورائف في كل لحظة تجلس إليهم.
ماتت راندا التي ورثت الأمومة عن أمها التي تركتها طفلة في رداء أم حنون، توزع العطف على كل من حولها.
ذبلت تلك الزهرة بين ألسنة النيران، ولم يتحمل ذلك القلب اللين أصوات الانفجار، بل تتحمل أن ترى اخوتها في هذا المشهد المخيف.
ماتت راندا التي حاكت بأصابعها ثياب الأمان لكل أبنائها.
ابنها الأكبر سعد تجاوز الخمسين من عمره، يرتدي ملابسه من ذلك النسيج الذي أخرجته راندا.
وابنها الأصغر منه قليلا عصام، الذي كان أشدهم احتياجا لأمه رغم شدة سواعده، فرأى في راندا كل ما يتمناه.
أما الأيتام الصغار، سمر ورائف، لم يمكثا طويلا في مرحلة الشعور باليتم، فسرعان ما تلقفتهم أكف الحنان راندا لتحملهم بعيدا عن هذا الكيان المظلم.
ماتت راندا ضحية ذلك الضمير الغائب عن أبيها .. ماتت راندا تلك البلد الآمنة المطمئنة التي طالما حاولت أن تبعث الطمأنينة في نفوس أبناءها.
ماتت راندا .. ضحية امبراطور الجشع من أبنائها.
ماتت راندا .. لتصدأ بعدها كؤوس الأمان .. ولتثقب لرحيلها أواني الحنان .. وليبلى مثل عظامها عمود المجد في الأركان.
تبا لتلك الأيادي الآثمة التي تقتل منا أعز ما فينا .. تبا لتلك النفوس الطامعة والمستفيدة من هذا الخراب .. تبا لكل من تآمر علينا لتذوق ألسنتنا كل ألوان الهوان.
خرجت راندا من المستشفى إلى المشرحة وسط تهليل المتكدسين أمامها .. ولم يسمحوا لأحد بالدخول عليها سوى أبيها.
ظنت المكفنات أن سعد هو أخلص الناس لها .. لم يدر أحد أن سعد هو قاتلها.
ضم عصام إليه سمر التي فاقت منذ قليل، ورائف الذي اسودت الدنيا أمام عينيه.
ودخل سعد إلى المشرحة، ليجد راندا تنام على ظهرها، مغمضة العينين لا تنظر إليه.
تعرض عنه لأول مرة في حياتها .. يستنير وجهها بنور البراءة، وتتلحف كفن البؤس الذي عاشته في كنف أبيها .. ذلك الكفن الذي طالما ظن سعد أنه كفن الأمان الذي يكفلها لها.
وقف يخاطبها باكيا.
_ سامحيني يا راندا .. كان لازم أمنعك انك تحضري الفرح ده يا بنتي .. كان لازم أمنعك انك تروحي الكنيسة .. أيوة يا بابا سامحيني .. مش عارف ازاي نسيت إن الكنيسة هدف من أهداف الارهاب .. ازاي نسيت انك حيطان بيتي.
كنت مغفل يا راندا .. كنت مغفل.
حيطان بتنزف جوة بيت في الحلم يبقى انتي .. لأنك زي أمك بالظبط يا راندا.
ليه يا راندا ما قلتليش انك هتموتي النهاردة .. كنت منعتك بالقوة من الفرح ده؟
ليه يا بنتي .. ما انتي المفروض عارفة انك هتموتي..
أيوة يا راندا! كل الطيبين بيعرفوا إنهم هيموتوا يا بابا. 
ينفع كده يا راندا؟ ينفع كده يا بنتي تسيبيني أبكي البكا دي وانتي عارفة اني راجل كبير وليا هيبة؟
ازاي أبكي قدامك وانتي مصممة انك تكملي في اللي انتي عايزاه .. يلا يا بابا كفاية كده .. قومي يا راندا ... قومي يا بابا .. أنا عارف انك بتحبي بابا وهتسمعي الكلام .. قومي يا راندا.
  نظر سعد لإحدى المكفنات الواقفة بعيدا يكلمها بكل هدوء.
_ لو سمحتي.
_ أيوة يا فندم.
_ بعد إذنك تروحي تجيبي لي الهدوم بتاعنها .. أنا هلبسها هدومها وهي هترجع معايا البيت.
_ أفندم!
_ اسمعي اللي بقولك عليه .. هاتي لي هدومها.
_ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .. استهدى بالله يا فندم وشد حيلك.
_ استهدى بالله؟ هو انتي شايفاني متعصب .. دي بنتي .. أنا هغير لها هدومها وهي هترجع البيت .. دي مش هتعرف تعيش دقيقة بعيد عني.
   بكتب المكفنة وهي تطلب من الأمن اخراجه من المشرحة.
_ انتوا بتعملوا ايه؟ دي بنتي .. دي راندا .. لما أبكي لها بتسمع كلامي .. بتفتح لي باب أوضتها .. وبتنفذ أوامري .. سيبوني أكلمها .. أكيد هترجع زي عادتها.
  خرج سعد من المشرحة وخر مغشيا عليه..
حضرت كاميرات التلفزيون لتغطية الإصابات بالمستشفي, وأصر أحد مراسلي القنوات أن يسأله عن رأيه في الحادثة، ليصرخ عصام في وجهه مرارا وتكرارا حتى لا يؤثر على إخواته.
ولكنه سمع الناس يتخبطون في حديثهم عن الإرهاب، يدلي كل ذي رأي برأيه ولم يصب أحدهم كبد الحقيقة، فنادى عصام على مراسل القناة، وصرخ في وجهه، وصرخ في وجوه كل المحيطين به يقول لهم:
ــ احنا اللي صنعنا الارهاب ده بخوفنا, بتخاذلنا عن أداء واجباتنا كاملة, كل واحد فينا بيقول يا رب روحي وفي ستين داهية البلد و اللي فيها, كل واحد همه علي بيته وولاده بس وكإننا مش في مركب واحد, كلنا مقصرين وأنا أجرمت في حق البلد, وبابا أجرم في حق البلد, علشان يحميني ويحمي اخواتي, بابا منعني أروح للارهاب في سيناء, راح الإرهاب جه لحد عندنا وخطف زهرة حياتنا وسندنا, قتلوا أختي اللي هي بنتي وأمي وكل حاجة ليا في الحياة.
لم يستطع عصام استكمال حديثه وانفجر في البكاء, لم يصدق أنه استطاع أن يقف تلك الدقيقة يتكلم أمام الكاميرات رغم حالته العصيبة.
تأثر مراسل القناة بكلماته وذرفت عينه دموعا لم يستطع السيطرة عليها, وتحدث لجمهور القناة قائلا
ــ لو تحلينا بالتضحية سنكون أول من ينجو, ولو فكرنا في ذاتنا فقط سنغرق جميعا.
الأجهزة الأمنية  بعنصريها الجيش والشرطة قادرة علي  التصدي لكافة الأخطار التي تهدد البلاد من خارجها, ولكن تلك العناصر المجهولة التي تنشأ بشكل مباغت وبدون سابق إنذار,  و في مناطق متفرقة, يصعب علي الدولة مواجهتها بمفردها, فلا بد أن تتكاتف كل العناصر الشعبية بالدولة لمقاومتها, لا بد أن يقوم الجميع بالدور الذي يستطيع تقديمه للتصدي لتلك الظاهرة, رجال الأعمال قادرون علي تقديم العون للدولة بإنشاء المشروعات العملاقة في أماكن تمركز العناصر الاجرامية, و الدعاة قادرون علي القيام بدورهم بين أهالي تلك المناطق, لا بد من تحويل تلك المساحات إلي أماكن عمرانية, زراعية و صناعية, تجارية.
الذباب يعشق المستنقعات, و العقارب تسكن الجحور, و الثعابين تتراكم في الكهوف, و الإرهابيون يعشقون الأوكار و المناطق الخربة, و يكرهون العمران, ليتنا نحاربهم بالبناء والتعمير, لا ندع لهم مستنقعا و لا بؤرة مهجورة يستوطنوها كالجن و الشياطين, فسلاح العمران أقوي من سلاح القذائف و الصواريخ, و هذا لن يتحقق إلا بتكاتف جميع الأطياف مع أجهزة الدولة للقضاء علي تلك الشراذم المجرمة

تمت رواية كاملة عبر مدونة  دليل الروايات
google-playkhamsatmostaqltradent