Ads by Google X

رواية نوتفكيشن الفصل الخامس 5 - بقلم دينا ابراهيم

الصفحة الرئيسية

نوفيلا نوتفكيشن البارت الخامس بقلم دينا ابراهيم روكا

رواية نوتفكيشن كاملة بقلم دينا ابراهيم

نوفيلا نوتفكيشن الفصل الخامس 5

تحركت "ميرا" داخل غرفتها في خطوات سريعة تقذف بعض ملابسها في إهمال داخل حقيبة الظهر تستعد لقضاء بضع أيام في منزل والدها، حتى تعود والدتها من رحلة عملها التي ستستغرق أسبوع كامل أو هكذا تظن والدتها لأنها بالطبع ستعود إلى منزلهم ما أن تسافر متظاهرة بانها قضت أيامها مع والدها المنشغل سوى عن منافعه الشخصية، قطع عبثها بأغراضها أتصال "زيدان" المبكر عن المعتاد فاتسعت ابتسامتها سعيدة ببدء يومهما منذ طليعته ثم اجابته:

-صباح الخير.

-امممم .. صباح الورد، صوتك كان واحشني جدًا.

انتقلت لها مشاكسته في صوته الخشن المنخفض الدال على استيقاظه للتو، فعضت شفتيها قائلة:

-أنت لحقت، احنا لسه متكلمين بليل.

طغت ابتسامتها الواسعة على كلماتها فابتسم ابتسامه صغيرة وهو يتحرك داخل غرفته:

-والله العظيم وحشتيني.

-شكرًا.

همهمت في خجل وقد احمرت وجنتيها فخرجت منه ضحكة ساخرة ولم ترى اهتزاز رأسه المتعجب من ردودها الخجلة فتشدق متهكمًا وقد تحولت هالته الهادئة، كغيوم ضربت السماء الصافية فجأة:

-مش فاهمك وخايف تكوني بتلعبي عليا.

-العب عليك؟

- أقصد أقول على طبيعتك، عشان غريبة أوي تبقي عاملة متجوزة في السر وبتخجلي كوكتيل غريب جدًا الصراحة.

انعقد حاجبيها في ضيق كأنه صفعها فطوال الأيام الماضية كان يتعمد جرح مشاعرها بكلماته الغير متوقعه، ولن تنكر انها كلما سمعت تحليله لتصرفاتها في صوتٍ عالٍ، تشعر بغصة تمتلك جوارحها وكأنه ينعش بويصلة الصواب والخطأ داخل قلبها كالكهرباء، لكنها تداركت الموقف فأخبرته غاضبة:

-أنت قصدك أيه؟

تبدلت نبرته تمامًا وكأنه لم يحتقرها منذ لحظات وهو يردد في تلقائية:

-مش قصدي أزعلك، لكن أنا ملاحظ حاجة غريبة فيكي وأنتي مع أصحابك.

لعقت شفتيها في توتر وقد استرجع عقلها الكلمات العدائية المنبعثة من أبناء جيلها حول كونها مسخ اجتماعي يجب تقييده وعدم السماح له بمخالطة البشر، لكنها جلست على فراشها تشعر بالدوار متسائلة في نبره ظنتها حادة لكنها خرجت مهتزة:

-غريبة؟

-أنتي أكتر إنسانه خجولة وعلى طبيعتها شوفتها في حياتي.

أجابها في نبرة واثقة يعلم جيدًا إنه يربك دواخلها ويثير التساؤلات حول تصرفاتها، فمن قضائه الوقت الماضي معها تأكد إنها شخصية رقيقة هشة غير مكتملة الملامح، ف "ميرا" شبيهه بنسمة هواء عليل يتحكم بها الغلاف المحيط حولها فأن كانت السماء صافية ظلت تتخللك بعبير الطبيعة من حولها وأن احتلتها الغيوم تحولت لرياح شديدة محملة بالغبار تنتظر تخبط السحب حتى تهطل الأمطار وتتحرر متطهره.
هي فتاة حائرة تائهة في دوائر الزمن، ودرجات نضوجها الفكري متوقفًا نوعًا ما، ليس وكأنها مصابة بخلل عقلي بل هي مصابة بخلل اجتماعي وشخصي وهبوط حاد في الجانب التربوي.
خرج من أفكاره الغامضة بالنسبة لها على صوتها المستنكر:

-وده المفروض حاجة وحشة؟


جذب نفسًا عميقً يدري انها لا تملك من القوة والسيطرة كما تدعي، وفي بعض الأوقات يتملكه هذا الشعور بانها تتوهم قوتها وتهورها بمعنى أخر كأنها تتلبس شخصًا بصفات ليست هي، بدأ يتنقل في غرفته مردفًا في جدية ممزوجة بتهمك متعمد وكانه يتلذذ بإمكانية نفاذة داخل شرنقتها وبالتخبط المشع من نبرتها:

-وحش لما يبقى الوقت الوحيد اللي بتتصنعي فيه هو وقت وجودك مع أصحابك، طالما مش قادرة تندمجي وتتكيفي معاهم بشخصك متمسكة بيهم ليه دول حتى مش بيهتموا بوجودك معظم الوقت!

كان مدرك إنه يمزق مشاعرها الحساسة ولكنه غير قادر على تحمل غيرته المستجدة بشكل مرعب نحوها وكأنها تخصه وحده دونًا عن غيره ولا حق لهم برؤيتها، فهو غير قادر على كبح رجولته الثائرة داخلة كالبركان كلما تأكلت نظرات رامي المهتمة تلك الغافلة.
حاول "زيدان" محاربه مشاعره الحقيقة وإخمادها طوال الفترة الماضية إلا أنه لا يستطيع التحمل أكثر وصار على وشك الانفجار ونفث الحمم من فمه، ساد الصمت من طرفها أكثر مما ينبغي فاستطرد يسرقها من أفكارها:

-أنتي عارفة اتصلت بيكي ليه؟

-عشان تهزأني؟!

ردت متهكمة فكاد يبتسم ولكنه كبح ابتسامته مغيرًا تكتيكة الهجومي عليها مؤكدًا في نبرة خافتة خرجت حانية للغاية:

-المطعم خلص امبارح بليل، وعايزك أول واحدة تشوفيه في شكله النهائي.

أجل .. هذا الرجل قادر على قلب أفكارها وموازين مشاعرها في لحظة وقد انتقلت من غضب وحزن وجلد ذاتها إلى ذلك الشعور الدافئ الذي يسْكُن القلوب، كدفء السماء وقت غروب الشمس، وبدلًا من أن تصرخ ببعض الكلمات المجهزة داخل عقلها عن خطأ تحليله لقوة علاقتها هي وأصدقائها، وجدت لسانها يتحرك لا إراديا سائلًا في عدم تصديق:

-ليه أنا الأول؟

-السؤال الصح من امتى وازاي؟
بس في الحالتين مش محتاج أجاوب.

ضاقت جفونها مستشعرة نبرات غرورة وكأنه ملكً تتحرك الجاريات تحت ساقيه وقبل أن توبخه دلفت والدتها قاطعة حديثهم على عجلة:

-أنتي لسه ما جهزتيش لازم تتحركي لباباكي قبل الزحمة ده غير اني نازلة كمان ربع ساعة.

غطت الهاتف بكفها مجيبة في نبرة ثابتة:

-أقل من خمس دقايق وهبقى قدامك.

خرجت والدتها تاركة لها حرية التجهيز وحين أعادت الهاتف على أذنها قال زيدان في تعجب:

-أنتي رايحة لباباكي، أفهم من كده مش هينفع تيجي؟

-لا طبعا ساعة وهكون في المطعم، مش هروح لبابا اصلا.

ظهر التعجب والاستنكار جليًا من صوته المتسائل:

-مش فاهم؟

-لما اشوفك هفهمك، باي..

وبذلك انتهت المكالمة ثم ركضت ميرا تضع أغراضها دون اهتمام فكلها ساعات قليلة وتعود كل الأغراض إلى موضعها الأصلي.


*****


جال "زيدان" أمام بوابة مطعمه وهو ينظر إلى ساعة يده للمرة المائة في تذمر، يعد الدقائق السابقة على وصول ملكة الحسن والجمال، ويتملكه حماسة كبيرة وفضول أكبر لمعرفة رأيها في "مطعمه" صحيح إنه ملك مشترك بينه وبين أصدقائه ولكن عقله وأفكاره هو الذي أوصلهم هنا لامتلاك مبنى يساوي الكثير.
هذا المكان يعد بئر الأماني وبداية حلم لطالما راوضه، ملئه بشقائه وعرقه الذي لم ينضب بعد والكثير الكثير من مدخراته.
عاد من أفكاره مجددًا نحو ميرا والتقدم الكبير الذي احرزه معها وكيف نجح في الشهور الماضية من سحبها تدريجيًا من حياة هؤلاء الحمقى، ابتسم في نصر فقد نجح في حصر لقائهم من ثلاث مرات أسبوعيًا إلى مرة كل أسبوع أو عشرة أيام، وفي مقابل تفويت تلك اللقاءات كان يصحبها للتجول والخروج معه بدلًا من قضائها الوقت معهم.
وهذا في قاموسه بداية النصر...

فرك شعيرات ذقنه النامية، مفكرًا أن عليه الذهاب لصالون الحلاقة اليوم، فلا يجوز لمالك مطعم أن يبدو كالمتسكعين، ضحك على مزحته الصامتة ثم التفت حوله في حرج خوفًا من أن يلاحظ جنونه أحدًا ويظنه هارب من المرستان.
زفر مغتاظًا بعد دقيقة وقد عاد غياب ميرا إلي ذهنه، اللعنة .. لما عليها التأخر اليوم بالذات؟
حرك رأسه في حركة يائسة محاولًا إدراك وتفسير تلك "الرغبة المُلحة" بضرورة حضورها وخوضها تلك الخطوة الهامة في حياته جواره، بلل شفتيه متوترًا فقد أحتلت "ميرا" معظم أفكاره وطبعت طابع مميز على أوقاته، طابع غريب هو غير مؤهل لتفسير غرابته.
فمنذ متى كان لها هذا التأثير وكيف توغلت محتله مكنونات قلبه؟
قطع تأمله وصول "ميرا" وبشكل تلقائي ارتسمت السعادة على محياه ليوازي ابتسامتها الواسعة، انتقلت عيناه فوق جسدها الذي بدأ يزداد امتلاءً مع كل يوم يقضياه معًا ليتأكد له ان سبب نحافتها المفرطة قديمًا كان مرتبط بانفعالاتها النفسية، راقب وجنتها الحمراء ووجهها المتوهج دون أدوات الزينة والتي لا حظ انها تفرط في استخدامها فقط وقت لقاء أصدقائها، نفض أفكاره عنهم لا يطيق تذكرهم، وتابعها تقترب منه قبل أن تصفق مرة في حرارة متفوهه في لهجتها الحماسية:

-أنت لسه واقف برا، أفتح الباب متحمسة أشوفه.

حافظ على ابتسامته الشبة متعجرفة رغم علو دقات قلبه المترقبة ثم استدار نحو الباب يفتحه في بطء، اندفعت هي قبله في صدمة وفم مفتوح تدور بعينيها حول المكان في انبهار جلي وسرور كبير، ضحكت وهي تصفق كفيها قافزة مرات متتالية معلنه:

-تحفة أوي، ذوقك خطير يا زيدان!

-مبسوط إنه عجبك.

أخبرها في صدق وسعادة وهو يمرر نظره حول المكان فخورًا بإنجازه، ثم خرجت منه ابتسامه ساخرة عندما ركضت ميرا نحو ركن الألعاب للأطفال مأخوذة بالألوان بينما تتمتم بكلمات حماسية لم تصله لكنه اتبعها قائلًا في مشاكسة:

-مش هينفع تدخلي غير بولي أمرك.

قلبت عيناها في استخفاف من كلماته المستفزة ثم وضعت يداها في خصرها قائلة:

-أنا كملت عشرين سنة بلاش تعيش الدور.

-ولو عندك تلاتين سنة، هتفضلي طفلة في نظري.

تسمرت "ميرا" تطالعه في هدوء يخالف الجنون داخلها ثم بللت شفتيها دون قدرة على فهم سبب ارتباكها اللحظي الذي احدثته كلماته داخل جوانب صدرها، لكنها نظرت بعيدًا عنه.
اقترب "زيدان" منها يتفحص طريقتها المضطربة في فرك خصلاتها الطويلة، ثم غير مجرى الحديث بقوله:

-فهميني أيه حكايتك مع مامتك وباباكي انهارده؟

أنهى جملته وهو يشير إلى إحدى الطاولات يحثها على الجلوس معه فاتبعته أثناء اجابتها:

-مفيش .. ماما عندها شغل ولازم تسافر أسبوع، وفي الحالات دي بكون مجبرة إني أروح أعيش مع بابا طول الأسبوع،
لحد ما ريناد اقترحت عليا حل جهنمي خلاني أقدر أهرب من الضغط ده كله.

ارتفع حاجبه في تشتت ثم سألها متعجبًا:

-ضغط عشان هتعيشي مع والدك كام يوم؟

-قصدك هعيش مع الحيطان كام يوم، بابا بينسى ان عنده بيت أصلًا ولو شوفته بيكون بالصدفة،
يبقى الأفضل أني أفضل بعيد عنه.

حرك رأسه متفهمًا مشاعرها سعيدًا إنها أصبحت أكثر تفتحًا وانسيابيه في الحديث عن مشاعرها الصادقة نحو أبويها، لكنه لم يمنع سؤاله الفضولي:

-وأيه هو اقتراح الهانم الجهنمي؟

لوت شفتيها في انزعاج وهي ترمقه محذرة، تدري انه لا يطيق "ريناد" بلا أي مبرر منطقي لكنها استمرت تخبره:

-أبدًا، بما ان بابا وماما منفصلين ومفيش تواصل بينهم بأي شكل من الأشكال ومقاطعين بعض من سنين،
فأنا أقدر بعد ما تسافر أرجع البيت وأفضل فيه لوحدي لحد ما ماما ترجع وتلاقيني مستنياها وكأني لسه راجعة من عند بابا، وكأن شيء لم يكن..

أنهت كلماتها بحركة طفيفة من كتفها وكأن ما يحدث هو مركز الاعتيادية، كبت داخله ألفاظ بذيئة يكاد يمطرها بها ويلعن فيها صديقتها الحقيرة ذات الأفكار الشيطانية، وجز على أسنانه يحاول تمزيق الغضب المتأجج داخله من أفعالها المتهورة ثم سألها في لهجه عنيفة:

-وافرضي حصلك حاجة أو دخل حرامي وانتي لوحدك هتتصرفي ازاي؟

-ساعات كتير، ريناد بتبات معايا.

قالت في سرعة مبررة ولكنه هتف في وجهها غير مراعي للهدوء الكامن من حولهما فرج صوته أنحاء المكان:

-الله يحرقها على اليوم اللي شوفتيها فيها هي البنت دي شيطان رجيم ولا عملالك عمل اسمه تمشي ورا كل كلامها حتى لو غلط!

-زيدان أنت بتتعصب ليه من غير سبب؟

همست منزعجة من تصرفاته الهوجاء ولكن جزء منها لا يزال يخشى غضبه ويربكها صوته العالي، فأكمل في حدة مؤكدًا:

-متعصب عشان أفعالك الغلط كترت، لو مش خايفه على نفسك خافي عليها عشان خاطر اللي حواليكي لو حصلك أي حاجة ريناد مش هتنفعك!

-أنت ليه محسسني ان الحرامية وقطاع الطريق مراقبني ما أنا بقالي شهور بعمل كده ومحصلش حاجة.

قالت مستنكرة وهي تعقد ذراعيها أمامها مغتاظة من انقلاب جلستهم الهنية الهادئة إلي أخرى مليئة بالصياح والشجار كالعادة.

حرك "زيدان" رأسه مرة للأعلى والأسفل ثم أردف:

-جميل أوي، أحنا نستنى المصيبة تحصل وبعدين نندم، صح كده؟
هو ده مبدأك ومنطقك في الحياة؟

حاولت الهرب من الاجابة فقالت ممازحة:

-أنت بس اللي بتخاف عليا.

لكن اجابته جاءت صريحة فاقدة لأي نوع من أنواع المرح:

-أيوه بخاف عليكي!

لمعت عيناه بلمعه ارتعش لها قلبها الأحمق فهمست كالمغيبة تسبح في لون عيناه الناعسة:

-ليه؟

-أنتي عارفة ليه!

-لا مش عارفة، قول ...

ابتسم في شقاوة بعد أن تذوق اللهفة في نبرتها مدرك تمامًا لما ترغب في سماعه لكنه قرر ملاعبتها أيضًا بقوله:

-طيب ما تقولي أنتي.

عضت شفتيها في توتر تهرب من عيناه الثاقبة وأنقذها رنين هاتفها فأسرعت تخرجه من حقيبتها إلا أن ملامحها اهتزت وهي تقرأ أسم "ريناد" فوق الشاشة، فوقفت متوترة تبتعد في صمت عن مرمى عيناه المتسائلة، وعندما تأكدت من ابتعادها عن الغاضب خلفها أجابت مسرعة:

-ألو يا ريناد...

-ميرا، هنتقابل انهارده ساعة بدري.

-اه okay هقول لزيدان ....

قاطعها صوت ريناد المنزعج:

-لا احنا عايزين نقعد معاكي لوحدك بلاش تجيبي سي زيدان معاكي المرة دي.

-ليه مش فاهمة؟

-الصراحة كده لما بيكون موجود كل اهتمامك بيبقى عليه واحنا مش بنقدر نشبع منك نهائي.

-لكن أنا قولتله من بدري اننا جايين ومش هينفع أقوله ما يجيش.

-اتصرفي يا ميرا، أنا مضطرة أقفل عشان رائف ييناديني، سلام...

أغلقت الهاتف وهي تشعر بالحيرة والتخبط عن سبب رفض أصدقائها لتواجد زيدان؟
لماذا بدأت تشعر بالضغوطات تتجمع فوق كاهلها ومنذ متى وهم يهتمون؟
عادت بها ذكرياتها إلى أول يوم التقت فيه بجمعها المجنون من الأصدقاء.

***

كانت "ميرا" جالسه في النادي بجوار "تالا" المسكينة أبنه صديقة والدتها والتي أجبرتها والدتها على الخروج معها شفقة منها أو تلبيه لتحايل "أماني" التي تريدها أن تخرج وتنشئ بعض الصداقات، فهي تبلغ من العمر الثامنة عشر ولا تزال منطوية ساكنة كطفل فطمته أمه عن الرضاعة حديثًا.
ابتلعت ريقها في توتر والقت نظرة جديدة على تالا التي تبتسم وتشير للجميع من حولها في سلاسة واعتيادية متمنيه لو تستطيع الخروج من جلدها ولبس شخص أخر ك "تالا" كي تجرب هذا الشعور بالطبيعية ولو لثواني معدودة.
تنهدت مغمضة عيناها تحاول استحضار تلك الفيديوهات النفسية والقراءات الكثيرة التي تتعلم منها محض الخجل، والتصرف كأنها شخصًا أخر أكثر ثقة، شخصًا سعيدًا عاديًا، شخصًا ليست هي.
شيئًا ما تحرك داخلها في تحدي ففتحت جفونها في إصرار تحاول هدم أسوار عالية تحكمها ثم أخذت تحدق في تالا المبتسمة للمارة واتسعت عيناها وهي تتابع كيف لاحت من "تالا" نظرة لعوب نحو شاب مارًا جوارهم تلتها ابتسامة مغوية وراقبت كيف كاد يتعثر الشاب أرضًا.
قطع ذهولها صوت ضحكات "تالا" المتسلية قبل أن تستأذن ذاهبة للمرحاض هاربة من ملل تواجدهما سويًا.
وجدت "ميرا" نفسها تطالع المكان من حولها وشيطانها يدفعها للخروج من قوقعتها وملاحقة شبابها الضائع في الخجل والصمت.
كان عقلها يسبح في تصورات غريبة وكأنها في بلد أخر وحولها إنسً أخرون ووسط جنون انفعالاتها تفاجأت بأن عيونها معلقة ومستقرة فوق عيون سوداء شقيه تتابعها في فضول.
اتسعت عيناه السوداء المرتعبة وابعدت انظارها سريعًا، ثم مدت أصابعها المرتعشة تحتضن كوب العصير ترتشف منه منقذه حلقها الجاف ورغمً عنها حانت منها نظرة نحو الشاب الذي غمز لها في وقاحة ما أن التقت عيناهما.
عضت شفتيها واستسلمت لشيطان أفكارها وهي تجبر ذاتها على الاختباء في بؤرة سوداء بعيدًا عن تلك الحياة الغريبة التي تستهويها.
علت انفاسها وكادت تقسك انها شعرت برجفه كفيفه في جسدها إلان أنها اجبرت ابتسامة فوق ثغرها في محاولة فاشلة لتقليد سحر "تالا" ومحاولة الابتسام تجاه الشاب الذي تفاجأت به ينتصب من مكانه ويتجه نحوها في خطوات ثابتة، شهقت في صدرها وكادت تركض هاربة ولكن كل عضلة في جسدها كانت مخدرة بنشوة فعلتها الخاطئة، فظلت مكانها حتى وقف الشاب أمامها مباشرة قبل أن يمد يده لمصافحتها قائلًا في ثقة:

-أنا رامي التهامي، ودول أصحابي شافوكي لوحدك ومصرين انك تيجي تقعدي معانا ونتعرف على بعض أكتر.

انفرج فم "ميرا" على وسعه ورفعت أصابعها تلامس صدرها في صدمة متسائلة:

-أنا؟

-اه أنتي، لو مستنيه حد تقدري تجيبي معاكي، احنا حبينا نكون اصدقاء جديدة مش أكتر.

قفزت من مكانها حين طال صمتها وكاد أن يغادرها ظنًا انها ترفض عرضه، لكها أوقفته في حماسه متلعثمة:

-لا أنا لوحدي ومش مستنيه حد.

ابتسمت في بطء حين اتسعت ابتسامة الشاب المشرقة واشار لها بالتحرك خلفه، شعرت ميرا بقلبها يدق في عنف وكأنه يحارب كي ينخلع من بين ضلوعها، لا تصدق أنها على وشك إقامة صداقات للمرة الأولى في حياتها، أصدقاء حقيقين، أثارت هي انتباههم وليست مكانه والدها أو شفقة بسبب تحايل والدتها لمرافقتها بعض الوقت.
تجربة جديدة متلهفه لتذوق حلاوتها والشعور بالأدمية من جديد، مستعدة التضحية بعمرها كله في سبيل نجاحها أمله بأن يستقر بها السبيل، نظر جميع الجالسون حول الطاولة نحو "رامي" المبتسم في غرابة وغموض ما ان انضموا إليهم لكنهم بدأوا في التعريف عن أنفسهم بشكل بطيء ما أن أخبرهم "رامي" بنبرته اللطيفة بينما هي كانت تطالعهم في سعادة كبيرة وكأنها ربحت اليناصيب وتركت نفسها تنساق وراء شخصية وهمية رسمتها لنفسها كي تحذوا حذوها ... ومن هنا كانت بداية اللعبة.

***

عادت من ذكريات الماضي وكادت تصرخ في خضه عندما شعرت بزيدان على بعد خطوة واحدة منها ونظراته الغامضة لا تؤشر بالخير خاصة عندما فتح فاهه قائلًا:

-كانت بتقولك أيه؟

-أبدًا كانت ....

صمتت عندما رفع أصبعه بينهما يوقف حديثها محذرًا:

-إياكي تكدبي عليا.

نظرت للأسفل في صمت وأصابعها تعبث بشاشة هاتفها السوداء لكنها رفعت عيناها الحزينة نحوه عندما أخبرها:

-مش حابين أجي معاكي مش كده؟

كان صمتها يؤكد كلماته، فضاقت عيناه الناعسة بتهديد وأستمر منفعلًا:

-وأنتي هتروحي من غيري؟

أصرت على صمتها فأبتعد عنها للخلف خطوة واتبعته عيناها الحائرة قبل أن يعلن في نبرة ثابتة رغم غليان دمائه:

-لو روحتي من غيري، هيبقى فيها زعل كبير يا ميرا،
ردي عليا هتروحي من غيري؟

عضت "ميرا" شفتيها تكاد رأسها تنفجر من كثرة التفكير لكنها حسمت أمرها عندما ثبتت عيناها فوق عيناه الساحرة وحركت رأسها في نفي هامسة:

-لا مش هروح من غيرك.

تبًا فالحياة غير عادلة..

فكرت في هلع عندما ازدادت ضربات قلبها بشكل درامي عنيف ما أن أرسل لها ابتسامته الحانية والراضية شاعره بدفء يغمر صدرها وكل ذرة في جسدها بسبب هذا الرضا المنبثق منه نحوها.
اقترب تلك الخطوة الفاصلة بينهما ثم مد كفه يلتقط إحدى خصلاتها المستلقية فوق كتفها يدلكها في دلال ورقة بين أطراف أنامله هامسًا في نبرته الهادئة التي ترعش أطرافها:

-شطوره، عارفة ده معناه أيه؟

-أيه؟

خرج صوتها بأعجوبة مع ضيق حنجرتها بسبب قربه الحار منها، ثم مررت لسانها فوق شفاها الجافة متوترة عندما بدأ يحرك إبهامه على جانب وجهها من أسفل أذنها حتى ذقنها المدبب الصغير، قبل أن يستطرد مؤكدًا:

-معناه أننا هنخرج مع بعض طول اليوم، ودلوقتي مطلوب منك تروحي تجهزي وخلال ساعتين هاجي أخدك، اتفقنا؟

اشرقت تفاصيل وجهها في سعادة فلطالما كان مشغولًا غير قادر على سرقة أكثر من ساعة او اثنتان من يومه لها، صحيح انها ليست المرة الأولى لخروجهما بعيدًا عن أصدقائها فقد فوتت العديد من لقاءات ليالي الأصدقاء كي تلتقي به للعشاء في الخارج أو التسكع في السيارة كالأحبة، معترفة لنفسها انها تستمنع بتلك اللقاءات الصغيرة أكثر من أي شيء طرأ عليها طيلة حياتها.

-اتفقنا.

وبالفعل بعد ساعتين ألتقى الأثنان وبدئا تسليتهم المفضلة ألا وهي التجول داخل السيارة ولكنها اليوم سيارتها الوردية، رفع "زيدان" الموسيقى عاليًا وكأنه يُرضي في صمت رغباتها المراهقة التي باتت تنعكس على أفعاله قبلها وكأنه يقرأ كتاب من تأليفه حاك فيه سرده وحواره، ثم غمز لها حين لاحظ لمعة السرور والرضا في عيونها الرائعة ما أن سمعت الموسيقى الصاخبة.
تنهد معيدًا تركيزه نحو الطريق قبل أن يترك نفسه ليغرق في حلاوة أنهارها العذبة.
هدر صوت هاتفها فرفعت اصابعها بتلقائية تخفض صوت المذياع عندما انتبهت لأسم "رامي" المكتوب فوق للشاشة وأجابت سريعًا:

-ألو يا رامي عامل إيه؟

لم تنتبه إلى "زيدان" الذي يكاد يحطم فكه من الضغط فوق أسنانه وكيف ارتفعت شفاه العليا للأعلى في اشمئزاز عندما استمرت قائلة:

-أنا مع زيدان مش هقدر أجي.

-وفيها أيه هاتي وتعالي.

وصل اليه صوت "رامي" المتطلب فالتفت يرمقها بطرف عينيه في حدة، لكنها كالعادة كانت منغمسة في حديثها:

-أصل ريناد قالت مش هينفع انهارده.

-ريناد أيه وكلام فارغ أيه، هاتي وتعالوا احنا مستنينكم.

-حاضر مع السلامة.

أوقف "زيدان" السيارة واستدار يطالعها في صمت، فتنفست "ميرا" على مهل لا تعلم لما سيطر التوتر على خلايا عقلها أو ربما تعلم فقد أصبحت تستشعر نبضات غضبه من نظراته، سعلت قليلًا وهي تعبث بخصلاتها قبل أن تمسك بنظراته اخيرًا قائلة:

-الشله مستنيانا، رامي قالي منتأخرش وأن ريناد مش مهم رأيها من الأساس.

نظر لها بعدم تصديق ثم حانت منه نظره للخارج ترافقها ضحكة خالية من المرح، مردفًا في نبرة حانقه:

-يعني هنلغي يومنا عشان نروحلهم؟

-وفيها ايه يا زيدان ما انا كذا مرة الغي يومهم عشان نبقى مع بعض،
ثم ده يومهم أصلًا يعني يعتبر احنا اللي لغيناهم مش العكس.

-يا سلام مش هما اللي مش عاجبهم ابقى معاكي ولا أنتي موافقة على كده؟

صدح صوته في اتهام نحوها، فأجابته سريعًا مبررة:

-ده سوء تفاهم صدقني.

-يعني مصره تروحي يا ميرا.

كانت لهجته غامضة يخفي خلفها صراع ونيران مشتعلة توازي في حرارتها الحرائق حين تشتعل في غابات الأمازون.

-ايوه بدون زعل.

قالت أثناء مدها ليدها كي تلامس يده لكنه ابعد كفها عنها في حدة قائلًا بلا أي مشاعر واضحة:

-تمام اللي يريحك.. يتبع الفصل السادس اضغط هنا
google-playkhamsatmostaqltradent